الدعوة في موريتانيا رجال ومواقف [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فإن ما ذكرناه سابقاً من الدعوات المختلفة لعلماء موريتانيا لم تشهد وقتاً كانت آكد فيه من وقت مجيء المستعمر الكافر، عندما جاءت فرنسا بأساطيلها تجوب الأرض، وتريد استعمارها في وقت وصفها فيها أحد العلماء في مقدمة كتاب له وهو عبد الله الأسيطي حيث قال:

وجنادع الروم تجوس وراءنا الأغفال وروعاتها تبين الحواصل الأحبال

وهذا وصف دقيق لجيوش الروم في بداية غزوها لهذه البلاد، وإقامتها لمؤسساتها، واستعمارها لهذه الأرض، فلما جاء المستعمر أراد أولاً أن يتصل بأمراء القبائل، فدعوا بعض الأمراء منهم: أحمد سالم اللألي والمحب الحبيب وغيره، فقالوا: نحن نريد أن تتفقوا معنا على الحماية، وعلى أن تكونوا خاضعين للدولة الفرنسية، ونحن نقيم بينكم العدل، ونحمي لكم دينكم، ونمنع أي فساد يقع، فقال: إني لا أجرؤ على هذا، أخاف أن يكفرني الزوايا، فقالوا: ومن يجرؤ عليه؟ قال: لا يجرؤ عليه إلا رجلان لا يستطيع الزوايا تكفيرهم، فأشار عليهم بالشيخ بابا بن الشيخ سديه ، والشيخ سعدبوه بن الشيخ محمد فاضل بن الشيخ بن مامي .

فالتقى المستعمر بهذين الإمامين، فكان رأيهما قد اتفق على أن أي إصلاح يراد في هذه الأرض لا يمكن أن يتم تحت تلك الظروف وتلك الوضعية التي تشهد فيها القبائل إغارات بعضها على بعض، والظلم سافر بين الناس، وأيضاً قد تخلص الناس فيها من كل وسائل النظام، فلم يعد هناك رمز للنظام يمكن الالتفاف حوله.

وكان الشيخ بابا بن الشيخ سديا من قبل هذا يريد أن يسعى لأجل لم شتات الناس، وإقامة دولة، ولكنه لم يستطع؛ لكثرة الحروب الأهلية، وكثرة الإغارات بين الناس، فاجتهد هذان الرجلان اجتهاداً قد يكون مصيباً، وقد يكون خاطئاً، وقد يكون وسطاً له حظ من الصواب، وله حظ من الخطأ، فاتفقا على أن يأذنا للمستعمر في دخول هذه البلاد، وشرطا عليه اثني عشر شرطاً، واتفقا على هذا، ومع ذلك كان جمهور العلماء مخالفين لهذين الرجلين، وأعلنوا الجهاد حتى من غير إمام، ومن غير أمير، ومن غير خليفة، فجاهدوا النصارى جهاداً مستميتاً، وسعوا لإيجاب الهجرة على الناس، وكان اختلافهم في ذلك خلافاً فقهياً مبنياً على القواعد، فالشيخ بابا بن الشيخ سديا وكذلك الشيخ سعدبوه يريان أن ارتكاب أخف الضررين والحرامين أولى، وأن التغيير والإصلاح الذي يريدانه لا يمكن أن يتم تحت الظروف العصرية، وأن المستعمر لا طاقة لهم بقتاله، وهم متفرقون متناحرون، وأنه إذا أقام لهم الهياكل استطاعوا أن يطردوه عن طريق السياسة والرأي، وذلك أن هذين الرجلين كانا قد اطلعا على أخبار الدول الأخرى، وكانت تصل إليهم الجرائد فيطلعان على أوضاع الناس، وعلى تشوف بعض الدول للحرية في ذلك الوقت، ورأيا أن المستعمر ليس له مستقبل في استعمار البلاد والبقاء فيها، أما غيرهما من العلماء فقد رأوا أن هذا المستعمر الكافر يجب جهاده بكل ما يملك أهل هذه البلاد من قوة، وأنه لا يمكن أن يصمد أمام قوة لا إله إلا الله محمد رسول الله.

وقوف الشيخ محمد العاقب في وجه المستعمر

ودعا إلى ذلك الشيخ بلعينين، وكذلك الشيخ محمد العاقب بن مايابي ، وقام الجهاد في سبيل الله تعالى، وهذا الجهاد وإن كانت عدته بسيطةً جداً، وكان عدد أهله قليلاً جداً، إلا أنه مع هذا وقف في وجه المستعمر وقفات عجيبة، وأنال الله تعالى به الذين سعوا إليه عزاً عجيباً، وهذا يدلنا على أن الرأي والصواب كان مع هؤلاء؛ ولذلك فإن محمد العاقب بن مايابي لما أرسل أرجوزته لأهل البلاد التي خضعت للمستعمر، أوجب فيها عليهم أحد أمرين: قال: أنتم بين قوي وضعيف، الضعيف تجب عليه الهجرة، والقوي يجب عليه الجهاد، ولا عذر لكم في غير هذين الأمرين، وهي التي يقول في مقدمتها: مني إلى من في حمى المكبل.

والمكبل يقصد به في ذلك الوقت كابولاني ، وهو القائد النصراني في ذلك الوقت، يقول:

مني إلى من في حمى المكبل من دربلٍ لما وراء العقل

أعيذكم بالله من فضيحة الدنيا ومن رأيكم المفيل

إلى أن يقول فيها في وصف النصارى يقول:

خيبتهم لخوباً والكبت لكابتين والتكبيل للمكبل

ودعاهم فيها للجهاد في سبيل الله، فقاموا بغارات شهدت توفيقاً عجيباً، وانتصروا فيها وغنموا، مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر الذي أخرجه أبو داود و أحمد في المسند، و الحاكم في المستدرك، و البيهقي وغيرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، وأخذتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم )، والمقصود بدينكم هنا: الذي يطلب منكم الرجوع إليه الجهاد في سبيل الله؛ لأنه لم يقل: إنهم تركوا إلا الجهاد في سبيل الله. قال: ( إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، وأخذتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد )، انظروا إلى قوله: ( وتركتم الجهاد )، هذا هو الدين المتروك، ( سلط الله عليكم ذلاً، لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم )، معناه: حتى ترجعوا إلى الجهاد في سبيل الله.

والجهاد وحده هو الذي تكفل الله تعالى لمن قام به بالهداية في آيتين من كتابه، فالله تعالى يقول في خواتيم سورة العنكبوت:

وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69]، ويقول في سورة محمد: وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ [محمد:4-6].

فهذا ضمان من رب العزة والجلال القادر المقتدر على نصرة من جاهد في سبيله، وعلى هدايته إلى سواء الطريق.

المهم انتصر الشيخ محمد .. بن الشيخ بلعينين على الإسباني والإنكليزي والفرنسيين في وقت واحد، ثلاث دول، انتصر عليها في عدوان ثلاثي يختلف عن العدوان الذي حصل في مصر، أي: اعتدوا عليه عدواناً ثلاثياً فانتصر عليهم، وطردهم من الرباط، ومن مراكش، ومن كثير من مدن المغرب، ثم إنهم كادوا له، فأخرجوا له بعض المغاربة الموالين للمستعمر، واستطاعوا التغلب على جيش الفاتحين، فخبت جذوة هذا الجهاد، وبقي علمه موضوعاً في الأرض ينتظر منكم معاشر المسلمين أن ترفعوه، ويناديكم صباح مساء: يا خيل الله اركبي.

بعد هذا تغلب المستعمر على البلاد كلها، ونشر سطوته، ولم يزل أهل هذه البلاد يحاولون التخلص منه، والجهاد بكل ما يملكون، وبكل ما يستطيعون.

انظروا إلى المغامرة الشريفة التي قام بها سيدي مولاي زين حينما قام بالمغامرة العجيبة، حيث رأى في النوم ليلة الجمعة رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره أن يقتل هذا النصراني الكافر، فقال: قد قامت علي الحجة، وليس لي عذر أمام الله تعالى، فالله أمرني بالجهاد في سبيله في القرآن، والرسول صلى الله عليه وسلم أمرني به في السنة الثابتة، وأمرني به في النوم من باب العاطفة، فإذاً لا بد أن أقوم بهذا العمل، فدعا ولده وابن عمه، وقام بهذه المحاولة الجريئة، وقتل هذا القائد النصراني الذي كان ابنه قد وطأ بفرسه على قبر صلاح الدين الأيوبي في سوريا، وقال: يا صلاح الدين ها نحن عدنا، فقتل سيدي مولاي زين ابنه انتصاراً لـصلاح الدين ، وإعلاء لكلمة الله تعالى، وإعزازاً لدينه، ولم يخسر سيدي مولاي زين أي شيء، بل نصره الله تعالى وأيده وأعز به الحق، ولم يخسر هو أي شيء، مع أن هذه المغامرة في ذلك الوقت كانت عزيزة جداً.

وقفة البكار بن سويد في وجه المستعمر

وكذلك البكار بن سويد أحمد الذي جاء المستعمر فدخل عليه تجانس وهو قد جاوز مائة سنة من عمره، وهو كبير السن، ومع ذلك لم يرد أبداً أن يتضعضع للعدو الكافر، بل قال: إنه لم يبق من عمري إلا ضلع حمار، وأنا أنذره لله تعالى، وأريد أن أموت في سبيل الله، فخالفه بعض أولاده، وبعض أقاربه فلم يعبأ بهم، وخرج في ثلة معه قليلة، ووقف في وجه المستعمر وقاتلهم حتى قتل شهيداً بعد أن زاد على المائة من السنوات.

ولذلك تجدون أن بابا بن لما ترجم له في كتابه إمارتي ..... لم يرد إلا أن يبين للنصارى أن بكار لم يخسر شيئاً، فقال: فقتل بكار في هذا اليوم، وذلك ما كان يتمناه، ومعناه: أنه لم يخسر شيئاً، هو إنما يريد الشهادة في سبيل الله وقد نالها، فالنصارى لم يربحوا أي شيء، وبكار قد تجاوز المائة، وقد ذاق كل ما في الدنيا حتى يمكن أن يتمثل بقول قيس بن الخطيم :

متى يأت هذا الموت لم تبق حاجة لنفسي إلا قد قضيت قضاءها

ومع ذلك نال الشهادة في سبيل الله مقبلاً غير مدبر.

مواقف لبعض العلماء في وجه المستعمر

وكذلك أحمد بن محمد بن أحمد بن عيدة الذي قاتل المستعمر ووقف في وجهه، وأراد ألا تبقى الإمارة في ولاية أدراد إمارة روتينية، بل رتب مجلساً من الأعيان جعلهم أهل الشورى، وجعل فيهم بعض العلماء، وكان يستشيرهم في كل الأمور، ولذلك بسط العدل بين الناس، ونصره الله تعالى بالعدل، حتى إن أحد الشعراء يقول فيه من الشعر الشعبي، يقول:

من عافيتك من لمحمد ولا أحمد ما .....

حد الحد لا يعطي حد الحد في .....

وغيره من الذين وقفوا هذه المواقف المشرفة كثير.

وكذلك من العلماء الذين سعوا لتأليب الناس على هذا الأمر، ومنهم على سبيل المثال: عبد العزير بن شيخ محدر مامي الذي حين مر عليه ركب من أهل الشمال يقصدون جهة الجنوب، قال: ما بينكم وبين دخول الجنة إلا أن تخرقكم رصاص النصارى، وموعدي وموعدكم تحت ساق العرش عندما تهبون أرواحكم لله تعالى، فخرجوا فجاهدوا يوم متوسي هنا شمال نحو مائة كيلو، فجاهدوا فانهزم أمامهم المستعمر، وتركوا وراءهم ثلاثين قتيلاً، وخرجوا يجرون خسائرهم على آثارهم، ولم يقتل من المجاهدين إلا سبعة.

ويحدثني بعض كبار السن أنه جاء بعد المعركة بأيام، فوجد الذين قتلوا مع النصارى قد تغيرت أجسادهم، وتغيرت ألوانهم، فأصبحوا كلهم سوداً، حالكي السواد، والمجاهدون السبعة الذين قتلوا وجدهم كهيئتهم، يقول: كأنهم نيام يغطون في نوم هادئ.

وكذلك الذين قاموا مع أحمد بن زيد في مدوشيشي وهو قريب، هنا في الجنوب، أيضاً جاهدوا المستعمر فانتصروا عليه نصراً عزيزاً، فـأحمد يقول للثلة الذين معه، وهم قلة، يقول: هذا البحر المحيط وراءكم، وهذه قبعات النصارى أمامكم، فإذا لم تنجكم أفواه بندقياتكم فإنه لن ينجيكم الهروب، فهذه الكلمة التي قالها أحمد بن زيد في ذلك اليوم كان لها أثر بالغ في انتصاره على النصارى، وهزيمتهم، فهزم الله النصارى ورجعوا أيضاً على آثارهم يجرون الخسائر، ونجا أحمد ومن كان معه، ولم يقتل منهم إلا رجل واحد، وكسر كعب رجل واحد من المجاهدين.

وهكذا سنة الله تعالى وعادته في خلقه أن كل من أراد إعلاء كلمته وإعزاز دينه من المجاهدين في سبيل الله ينصره الله تعالى ويثبته إذا علم منه الإخلاص في قلبه، ولو كانت عدته وعدده لا يمكن أن يساوي في الميزان المادي شيئاً في مقابل عدة وعدد العدو.

ما فعل المستعمر في بلاد موريتانيا وبعض المحاولات لاستعادة الحكم الإسلامي

جاء الاستعمار فبسط نفوذه، وبدأ في اختيار نخبة من أولاد الناس يعلمهم في مدارسه، ويربيهم على الانبهار بالحضارة الغربية، فجاءوا وقد انسلخوا مما كان عليه هذا المجتمع، ومما تربى عليه أسلافهم، وهم الذين رأيتموهم، وتلقونهم، وتسمعون كلامهم، وما زالوا بين ظهرانيكم، والناس يسمونهم: النخبة، والنخبة من انتخبهم المستعمر الكافر، فهو الذي انتخب هؤلاء، وهو الذي رباهم على غير ما كان عليه أسلافنا، وعلى غير ديننا، وعلى غير حضارتنا، وانتخبهم لهذه المهمة.

ولذلك لما خرج المستعمر قال أحد الحكماء من أهل هذه البلاد، قال: إن النصارى قد خرجوا ولكن المسلمين لم يأتوا، وهذه كلمة بليغة وهي الواقع، فالواقع أن الدولة النصرانية قد خرجت، ولكن الدولة الإسلامية لم تقم، فجاء هذا الاستقلال الذي يحتفل به الناس، ويخلدونه، وليس استقلالاً في الواقع؛ لأنه لم يعد فيه الناس إلى ما كان عليه أسلافهم، ولم يرجعوا إلى المحجة البيضاء التي تركهم عليها الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كان قد حصل بعض المحاولات، ففي السنة الثانية من الاستقلال اجتمع العلماء هنا في نواكشوط، واجتمع منهم في ذلك العصر أربعمائة وستون عالماً من مختلف أنحاء البلاد، يمثلون ولايات البلاد في ذلك الوقت، وعقدوا مؤتمراً هنا في هذا المكان، الذي يسمى بقصر العدالة القديم، الذي فيه اليوم وزارة العدل، وبنوا خياماً في هذا المكان اجتمعوا فيها، وترأس المؤتمر رجلان كانا يتناوبان رئاسته هما: الشيخ المحفوظ بن بيه ومحمد ولد محمد فال الملقب بـ .....

فاجتمع العلماء ليعرض عليهم قانون هذه البلاد، وينظرون ما فيه مما يخالف الصواب فينفوه، فلما عرض عليهم القانون وقرئ عليهم، والرجل الذي قرأه عليهم مازال حياً إلى اليوم، وهو يشهد بهذه الشهادة، ولو سألتموه لأقر بهذا الشيء، قرأ عليهم هذا القانون فرفضوه جميعاً، وقالوا: لا يمكن أن نقبل هذا إلا أن نغيب في الأرض في قبورنا، ثار العلماء وخرجوا فاستقبلهم رئيس الدولة في ذلك الوقت، ووزير العدل، ووزير الداخلية، واسترضوهم، وقالوا: سنغير كل ما لا يرضيكم من هذا القانون، وسنقيم قانوناً إسلامياً صحيحاً، والموعد في مثل هذا الوقت من السنة المقبلة.

مضت سنوات ولم يجتمع العلماء، ولا زالوا يطالبون بتطبيق الشريعة، ولم تزل هذه المنابر كهذا المنبر وغيره من منابر هذه البلاد، تنادي في كل يوم جمعة، وفي كل مناسبة بتطبيق الشريعة، وإقامة الحدود، وتعلمون ما اتخذ من القرارات في هذا المجال، وما حصل فيه، حتى سعى بعض القضاة مشكوراً مأجوراً، وفقهم الله تعالى وثبتهم، سعوا من أجل إيجاد البديل، قالوا: إن الدولة تتذرع دائماً بأنه لا يوجد بديل للموازين القانونية التي قننها نابليون مثل القانون الفرنسي، فانتدب بعض العلماء من القضاة فوضعوا قانوناً كاملاً متكاملاً موافقاً للشرع، وقالوا: أنتم تعتذرون بهذا، فهذا القانون أصلح من قانونكم، وهو موافق لشرع الله تعالى، فأسكتوهم، وأقاموا عليهم الحجة.

ثم اتخذ قرار تطبيق الشريعة، وإن كان في الأصل قراراً جزئياً؛ لأنه لم تفهم فيه الشريعة على هيئتها، ولكنه على الأقل مكسب للإسلام والمسلمين، وبه تخلص هذا الشعب من أعباء قانون وضعي فرض عليه لم يرضه، ولم يألفه، وكذلك تحقق بعض المكاسب في ذلك الوقت، بسبب عمل بعض العلماء الذين كانوا موظفين في الدولة، في بعض الوظائف الكبرى، سعوا من أجل طمس القانون الوضعي، وتكوين قانون شرعي، وتوحيد القضاء الإسلامي، وأيضاً من أجل تغيير بعض المظاهر مثل عطلة الأسبوع، جعلوها يوم الجمعة، حصلوا على بعض المكاسب من هذا القبيل.

وما زال المسلمون يطالبون بهذا، وأذكر أننا في سنة ثمانين ميلادية خرجنا من هذا المسجد في مسيرة مطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية، يقودها بعض الدعاة المخلصين، الذين قد لقي بعضهم الرفيق الأعلى، وذهب إلى الله تعالى، نسأل الله أن يغفر له، وأن يتقبله، وما زال بعضهم ينتظر ذلك فما غيروا، وما بدلوا، وقد خرجنا من هذا المسجد، ومن مساجد أخرى مطالبين بتطبيق الشريعة الإسلامية في ذلك الوقت، وتلك المسيرة التي لعل كثيراً منكم قد شهدها، وخرج فيها، وما زالت أمثالها تخرج، ونسأل الله تعالى أن يعجل بتطبيق شرعه، وإقامة الخلافة الراشدة التي لا تخاف في الله لومة لائم.

ودعا إلى ذلك الشيخ بلعينين، وكذلك الشيخ محمد العاقب بن مايابي ، وقام الجهاد في سبيل الله تعالى، وهذا الجهاد وإن كانت عدته بسيطةً جداً، وكان عدد أهله قليلاً جداً، إلا أنه مع هذا وقف في وجه المستعمر وقفات عجيبة، وأنال الله تعالى به الذين سعوا إليه عزاً عجيباً، وهذا يدلنا على أن الرأي والصواب كان مع هؤلاء؛ ولذلك فإن محمد العاقب بن مايابي لما أرسل أرجوزته لأهل البلاد التي خضعت للمستعمر، أوجب فيها عليهم أحد أمرين: قال: أنتم بين قوي وضعيف، الضعيف تجب عليه الهجرة، والقوي يجب عليه الجهاد، ولا عذر لكم في غير هذين الأمرين، وهي التي يقول في مقدمتها: مني إلى من في حمى المكبل.

والمكبل يقصد به في ذلك الوقت كابولاني ، وهو القائد النصراني في ذلك الوقت، يقول:

مني إلى من في حمى المكبل من دربلٍ لما وراء العقل

أعيذكم بالله من فضيحة الدنيا ومن رأيكم المفيل

إلى أن يقول فيها في وصف النصارى يقول:

خيبتهم لخوباً والكبت لكابتين والتكبيل للمكبل

ودعاهم فيها للجهاد في سبيل الله، فقاموا بغارات شهدت توفيقاً عجيباً، وانتصروا فيها وغنموا، مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر الذي أخرجه أبو داود و أحمد في المسند، و الحاكم في المستدرك، و البيهقي وغيرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، وأخذتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم )، والمقصود بدينكم هنا: الذي يطلب منكم الرجوع إليه الجهاد في سبيل الله؛ لأنه لم يقل: إنهم تركوا إلا الجهاد في سبيل الله. قال: ( إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، وأخذتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد )، انظروا إلى قوله: ( وتركتم الجهاد )، هذا هو الدين المتروك، ( سلط الله عليكم ذلاً، لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم )، معناه: حتى ترجعوا إلى الجهاد في سبيل الله.

والجهاد وحده هو الذي تكفل الله تعالى لمن قام به بالهداية في آيتين من كتابه، فالله تعالى يقول في خواتيم سورة العنكبوت:

وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69]، ويقول في سورة محمد: وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ [محمد:4-6].

فهذا ضمان من رب العزة والجلال القادر المقتدر على نصرة من جاهد في سبيله، وعلى هدايته إلى سواء الطريق.

المهم انتصر الشيخ محمد .. بن الشيخ بلعينين على الإسباني والإنكليزي والفرنسيين في وقت واحد، ثلاث دول، انتصر عليها في عدوان ثلاثي يختلف عن العدوان الذي حصل في مصر، أي: اعتدوا عليه عدواناً ثلاثياً فانتصر عليهم، وطردهم من الرباط، ومن مراكش، ومن كثير من مدن المغرب، ثم إنهم كادوا له، فأخرجوا له بعض المغاربة الموالين للمستعمر، واستطاعوا التغلب على جيش الفاتحين، فخبت جذوة هذا الجهاد، وبقي علمه موضوعاً في الأرض ينتظر منكم معاشر المسلمين أن ترفعوه، ويناديكم صباح مساء: يا خيل الله اركبي.

بعد هذا تغلب المستعمر على البلاد كلها، ونشر سطوته، ولم يزل أهل هذه البلاد يحاولون التخلص منه، والجهاد بكل ما يملكون، وبكل ما يستطيعون.

انظروا إلى المغامرة الشريفة التي قام بها سيدي مولاي زين حينما قام بالمغامرة العجيبة، حيث رأى في النوم ليلة الجمعة رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره أن يقتل هذا النصراني الكافر، فقال: قد قامت علي الحجة، وليس لي عذر أمام الله تعالى، فالله أمرني بالجهاد في سبيله في القرآن، والرسول صلى الله عليه وسلم أمرني به في السنة الثابتة، وأمرني به في النوم من باب العاطفة، فإذاً لا بد أن أقوم بهذا العمل، فدعا ولده وابن عمه، وقام بهذه المحاولة الجريئة، وقتل هذا القائد النصراني الذي كان ابنه قد وطأ بفرسه على قبر صلاح الدين الأيوبي في سوريا، وقال: يا صلاح الدين ها نحن عدنا، فقتل سيدي مولاي زين ابنه انتصاراً لـصلاح الدين ، وإعلاء لكلمة الله تعالى، وإعزازاً لدينه، ولم يخسر سيدي مولاي زين أي شيء، بل نصره الله تعالى وأيده وأعز به الحق، ولم يخسر هو أي شيء، مع أن هذه المغامرة في ذلك الوقت كانت عزيزة جداً.

وكذلك البكار بن سويد أحمد الذي جاء المستعمر فدخل عليه تجانس وهو قد جاوز مائة سنة من عمره، وهو كبير السن، ومع ذلك لم يرد أبداً أن يتضعضع للعدو الكافر، بل قال: إنه لم يبق من عمري إلا ضلع حمار، وأنا أنذره لله تعالى، وأريد أن أموت في سبيل الله، فخالفه بعض أولاده، وبعض أقاربه فلم يعبأ بهم، وخرج في ثلة معه قليلة، ووقف في وجه المستعمر وقاتلهم حتى قتل شهيداً بعد أن زاد على المائة من السنوات.

ولذلك تجدون أن بابا بن لما ترجم له في كتابه إمارتي ..... لم يرد إلا أن يبين للنصارى أن بكار لم يخسر شيئاً، فقال: فقتل بكار في هذا اليوم، وذلك ما كان يتمناه، ومعناه: أنه لم يخسر شيئاً، هو إنما يريد الشهادة في سبيل الله وقد نالها، فالنصارى لم يربحوا أي شيء، وبكار قد تجاوز المائة، وقد ذاق كل ما في الدنيا حتى يمكن أن يتمثل بقول قيس بن الخطيم :

متى يأت هذا الموت لم تبق حاجة لنفسي إلا قد قضيت قضاءها

ومع ذلك نال الشهادة في سبيل الله مقبلاً غير مدبر.

وكذلك أحمد بن محمد بن أحمد بن عيدة الذي قاتل المستعمر ووقف في وجهه، وأراد ألا تبقى الإمارة في ولاية أدراد إمارة روتينية، بل رتب مجلساً من الأعيان جعلهم أهل الشورى، وجعل فيهم بعض العلماء، وكان يستشيرهم في كل الأمور، ولذلك بسط العدل بين الناس، ونصره الله تعالى بالعدل، حتى إن أحد الشعراء يقول فيه من الشعر الشعبي، يقول:

من عافيتك من لمحمد ولا أحمد ما .....

حد الحد لا يعطي حد الحد في .....

وغيره من الذين وقفوا هذه المواقف المشرفة كثير.

وكذلك من العلماء الذين سعوا لتأليب الناس على هذا الأمر، ومنهم على سبيل المثال: عبد العزير بن شيخ محدر مامي الذي حين مر عليه ركب من أهل الشمال يقصدون جهة الجنوب، قال: ما بينكم وبين دخول الجنة إلا أن تخرقكم رصاص النصارى، وموعدي وموعدكم تحت ساق العرش عندما تهبون أرواحكم لله تعالى، فخرجوا فجاهدوا يوم متوسي هنا شمال نحو مائة كيلو، فجاهدوا فانهزم أمامهم المستعمر، وتركوا وراءهم ثلاثين قتيلاً، وخرجوا يجرون خسائرهم على آثارهم، ولم يقتل من المجاهدين إلا سبعة.

ويحدثني بعض كبار السن أنه جاء بعد المعركة بأيام، فوجد الذين قتلوا مع النصارى قد تغيرت أجسادهم، وتغيرت ألوانهم، فأصبحوا كلهم سوداً، حالكي السواد، والمجاهدون السبعة الذين قتلوا وجدهم كهيئتهم، يقول: كأنهم نيام يغطون في نوم هادئ.

وكذلك الذين قاموا مع أحمد بن زيد في مدوشيشي وهو قريب، هنا في الجنوب، أيضاً جاهدوا المستعمر فانتصروا عليه نصراً عزيزاً، فـأحمد يقول للثلة الذين معه، وهم قلة، يقول: هذا البحر المحيط وراءكم، وهذه قبعات النصارى أمامكم، فإذا لم تنجكم أفواه بندقياتكم فإنه لن ينجيكم الهروب، فهذه الكلمة التي قالها أحمد بن زيد في ذلك اليوم كان لها أثر بالغ في انتصاره على النصارى، وهزيمتهم، فهزم الله النصارى ورجعوا أيضاً على آثارهم يجرون الخسائر، ونجا أحمد ومن كان معه، ولم يقتل منهم إلا رجل واحد، وكسر كعب رجل واحد من المجاهدين.

وهكذا سنة الله تعالى وعادته في خلقه أن كل من أراد إعلاء كلمته وإعزاز دينه من المجاهدين في سبيل الله ينصره الله تعالى ويثبته إذا علم منه الإخلاص في قلبه، ولو كانت عدته وعدده لا يمكن أن يساوي في الميزان المادي شيئاً في مقابل عدة وعدد العدو.