الدعوة في موريتانيا رجال ومواقف [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.

أما بعد:

فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها الإخوة المؤمنون! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

إن هذا الدين دين الله ليس دين الناس، فالله عز وجل ناصر دينه، ومظهره، ومعزه، بذل ذليل أو بعز عزيز، ولذلك ثبت عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أنه كان مرتفقاً في ظل الكعبة، فأتاه خباب بن الأرت رضي الله عنه فقال: ( يا رسول الله! ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتفقاً على برده، فرفع يده وجلس وقال: إنه كان فيمن قبلكم يؤتى بالرجل فيوضع المنشار على مفرقه، فيفرق ما دون عظمه ولحمه، لا يرده ذلك عن دينه، فو الذي نفس محمد بيده ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، ولكنكم قوم تستعجلون ).

إن هذا الدين دين الله عز وجل، وهو ناصره ومؤيده، وهو الذي امتحن عباده بنصرته ونشره، وهو غني عنهم، وسيعزه سواءً تقدموا بحمل مسئوليتهم، أو تأخروا وتقاعسوا، فإن الله عز وجل لا يعجزه البدل، ولا يعجزه الخلف، وهو القائل في محكم كتابه: ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4].

وإن هذه الأمة أمة واحدة، قال تعالى: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92]، وإن العاملين لدين الله عز وجل الداعين إليه في مختلف العصور سلسلة واحدة؛ ولذلك قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ( إنا معاشر الأنبياء، ديننا واحد، أبناء علات )، فالأنبياء كلهم على سلسلة واحدة ومنهج واحد، وإنما يختلفون فيما ينزل إليهم من الشرائع والأحكام، لا في أصل التوحيد والعقائد؛ ولذلك قال الله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى:13].

فالدين إذاً واحد، والعاملون له في مختلف العصور سلسلة واحدة، والتجربة فيه تجربة واحدة، فهذا الأثر وهذا المهيع هو المسلوك من لدن نوح عليه السلام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولكن الناس يتفاوتون في تحمل مسئولياتهم، وفي القيام بها، وكذلك بعض البيئات، والواقع الذي يعيشه الناس يختلف تارات اختلافاً ليس عائداً إلى نفس المنهج، وإنما هو عائد إلى حياة الناس وما هم فيه.

لذلك فكلامنا عن الدعوة إلى الإسلام في بقعة من أرض الله تعالى لا يعني أن هذه البقعة لا تتميز عن غيرها من بقاع الأرض كلها، بل الأرض كلها لله، وكل من فوقها عباد لله تعالى، قال تعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً [مريم:93]، فجميعهم سيأتون يوم القيامة فرادى، مقرون بتوحيد الله سبحانه وتعالى، وكلهم مكلفون بما بلغهم من دين الله عز وجل الذي أرسل به الرسل، وأقام به الحجة.

لكن كلامنا اليوم عن بقعة معينة من هذه البقاع، وعن رجالها الذين حملوا هذه الأمانة فأدوها، وهو تثبيت للقائمين على آثارهم، والقائمين على صراط الله تعالى، والداعين إليه، وأيضاً: إقامة للحجة على ذويهم وأتباعهم وذرياتهم الذين لم يسلكوا مسلكهم، ولم ينهجوا منهجهم؛ لذلك فإن كلامنا عن رجال حملوا هذه الأمانة في هذه البلاد إنما هو من باب قول الله تعالى: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ [الحج:78]، فإن الله عز وجل لا يريد ترويجاً لدينه بأن يجعله منسوباً إلى رجل من البشر، فالدين دين الله، وهو الذي اختاره لعباده، ولا يرضى سواه، ولكنه أراد شحذ الهمم، وإثارة العواطف، وجعل إبراهيم أباً لكل المؤمنين، سواءً منهم من كان من ذريته، كذرية إسماعيل وذرية إسحاق، أو من لم يكن كذلك، فكلهم على ملة إبراهيم بالمعنى الديني، فهم ذريته وهو أبوهم، والأبوة هنا أبوة دينية لا أبوة طينية، فـإبراهيم أب لكل المؤمنين الموحدين ممن جاء بعده إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ ولذلك جعل الله تعالى الرسل من بعده من ذريته، فأكثر من بعث من الرسل كانوا من ذرية إبراهيم.

وكذلك من باب قول الله تعالى حكايةً عن يوسف الكريم ابن الكريم ابن الكريم لصاحبي السجن: وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي [يوسف:38]، فالملة هو يقتنع بها ديانةً وفطرةً ووحياً وعقلاً، ولكنه مع ذلك يقول: مِلَّةَ آبَائِي [يوسف:38] ليبين ارتباط هذه الملة بالعاطفة، وأن محبتها راسخة في مكان المحبة من الإنسان؛ فلذلك ذكر أن هذه الملة هي التي سار عليها آباؤه من قبله، فليس بدعاً من الرسل.

لذلك فإن هذه البقعة من الأرض وسموها ما شئتم فلها أسماء متعددة، فقد اشتهرت في القديم بأرض المرابطين الملثمين، واشتهرت قبل ذلك ببحر الرمال، واشتهرت بعد ذلك ببلاد التكرور، واشتهرت أيضاً بعد هذا ببلاد غانة، واشتهرت في فترة من الفترات ببلاد أوداجست، واشتهرت أيضاً ببلاد مالي، ثم سماها المستعمر بلاد موريتانيا، وهذه كلمة رومانية، وهي مركب إضافي أصلها مورأيتاه، معناها: أرض السمر أو أرض المسلمين، و (المورو) هذه الكلمة تطلق في اللغات الأوروبية كلها على المسلمين، وهي مشتقة من السحنة العربية؛ لأنهم عرفوا أن العرب هم الذين نقلوا هذا الإسلام إلى بلاد أوروبا، فسموا كل المسلمين بهذا الاسم؛ ولذلك تسمعون الآن (المورو) في أسبانيا، وهم بقايا المسلمين الذين نجوا من محاكمات التفتيش التي كانت تقام عندما خرج المسلمون من بلاد الأندلس، وتسمعون جبهة (المورو) في جنوب الفلبين في مشارق الأرض، وهم المسلمون الموحدون الذين يخلصون العبادة لله تعالى ويجاهدون في سبيله، وكذلك أنتم سموكم بهذه التسمية ولم يريدوا بها إعزازكم، ولكنها وافقت أن هذه التسمية لا تطلق إلا على المسلمين، وأنتم سماكم الله المسلمين على لسان إبراهيم، ثم من بعده سماكم بهذا الاسم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، ويكفيكم الاسم الذي سماكم الله تعالى، ولكن مع ذلك من باب التعارف.

ثم إن هذه البقعة لم تعرف الحضارة قديماً، وإنما كانت بدواً يعيش أهلها على نتاج حيواناتهم، وبعض الثروات السمكية، وأيضاً على بعض الزراعة القليلة في الجنوب وفي بعض السهول في بعض هذه المناطق.

وحدودها ليست بالحدود الجغرافية المعروفة الآن في تاريخنا هذا، بل كان يدخل فيها بعض المناطق الأخرى، فمثلاً لم يكن جنوب الجزائر في وقت من الأوقات مثل (توات) وما حولها إلا منضماً لهذه الأرض؛ ولذلك لما هاجر سيدي أحمد المغيلي إلى هذه البلاد، جاء من (توات) وذهب إلى (ولاته)، وكانت (ولاته) قديماً تسمى بولاتن، وكذلك لما جاء السيوطي من مصر إلى هذه البلاد مر بجنوب الجزائر.

وكذلك أرض (جاوا)، و(أزواد) وما حولها هي من هذه البلاد بمسماها الأول، وكذلك بعض ما كان من البلاد جنوب النهر فهو أيضاً من هذه البلاد، وهذا النهر سماه البرتغاليون: نهر صنهاجة، وصنهاجة قبيلة كانت في هذه الأرض، وسموا النهر بها ثم حرفوها، ففي لغة البرتغال إذا نطقوا صنهاجة يقولون: صنج؛ ولذلك سميت (سنجال) أصل هذه الكلمة صنج، وصنج معناه: صنهاجاً، فهي في الأصل منسوبة إلى هذه القبيلة المعروفة التي كانت سكان هذه الأرض، والتي تعود إليها قبيلتان: إحداهما: (لمتونة)، والأخرى: (مسوفة) من سكان هذه البلاد، وفيها يقول الداني وهو شاعر أندلسي قديم:

قوم لهم شرف العلى من حمير وإذا انتموا صنهاجة فهم هم

لما حووا علياء كل فضيلة غلب الحياء عليهم فتلثموا

وصنهاجة قرية من اليمن معروفة إلى وقتنا هذا، وربما تكون النسبة إليها؛ لأن هؤلاء من النازحين المنطلقين من تلك البلاد.

وكانت هذه البلاد سائبةً همجاً، حتى دخلها الفاتحون الأولون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين اتبعوهم بإحسان، وكان ذلك في أواخر خلافة الوليد بن عبد الملك ، وكان القائد الذي افتتحها هو عقبة بن نافع الفهري من بني الحارث بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، وقد فتح هذه البلاد ولم يتوسع في فتحها إلى الجنوب، وإنما فتحها شريطاً حتى وصل إلى المحيط فغرز رمحه فيه، وكان المحيط في ذلك الوقت يسمى بحر الظلمات، وهو المسمى اليوم بالمحيط الأطلنطي، فلما غرز فيه رمحه أشهد الله تعالى أنه لو كان يعلم أن خلف هذا البحر ذا نفس منفوسة لقطع البحر إليه حتى يبلغه دعوة محمد صلى الله عليه وسلم.

فـعقبة لو كان يعلم أن خلف هذا البحر أمريكا والعالم الجديد -كما يسمونها- لخاض البحر إليها حتى يفتحها، وحتى يبلغها دعوة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد جاء أحفاده فحملوا هذه الرسالة؛ ولذلك تسمع اليوم حاضرة في بلاد العالم الجديد في أمريكا إلا وتسمع الأذان فيها مدوياً في الأوقات الخمسة.

وقد رجع عقبة من هذه البلاد ولم يدوخها تمام التدويخ؛ لأن أهلها كما ذكرت كانوا بدواً يصعب دخولهم تحت يد الحضارة والإمارة، ولما رجع غدر به كسيلة البربري فقتله فلقي الله شهيداً، نسأل الله تعالى أن يتقبله، وأن يتقبل أصحابه الذين قتلوا معه.

ثم استمرت العلاقة الإدارية في هذا البلد تابعةً للخلافة عن طريق الإمارة التي كانت في بداية أمرها في القيروان في تونس، ومنها انطلقت الفتوحات التي فتحت أيضاً أرض الشمال كالمغرب، ثم توسعت إلى الأندلس، وقاد حملتها موسى بن نصير ، وهو مولى سليمان بن عبد الملك ، ثم تابع الحملات طارق بن زياد حتى فتح الأندلس.

وبقيت هذه البلاد تنتسب إلى الإسلام، ويتسمى أهلها بأسمائه محرفةً على اللغة البربرية، فمثلاً كانوا يسمون محمداً يسمونه (مهمد)، ويسمون أحمد (همد)، وأيضاً أحمد يسمونه (هند) كما في بعض البلدان، وكل هذا من التحريف البربري في الأعلام.

واستمرت الحالة هكذا إلى أن خرج أحد أمراء هذه البلاد وهو يحيى بن إبراهيم الجدالي من قبيلة (جدالة)، وهي بطن من بطون (مسوفة) التي هي من قبائل (صنهاجة)، فرحل إلى المشرق طالباً الزيادة في الدين والحج، فلما وصل إلى القيروان -وكانت أكبر حواضر المغرب في ذلك الوقت- لقي أبا عمران الفاسي وكان من علماء المالكية الكبار وذلك في طريق عودته من الحج، فسأله أن يرسل معه من خيرة طلابه لينشر العلم والدين في هذه البلاد، فرأى أبو عمران أن الذين عنده لا يصلحون للبادية وأهلها، وهم من أهل الحاضرة ومن أهل القيروان المتعودين على حياة الرفاهة وسعة العيش، فكتب له كتاباً إلى تلميذه وهو وجَّاج بن زِلُّو وهو من المغاربة، كتب إليه كتاباً أن يرسل معه من خيرة طلابه من ينشر العلم والدين في هذه البلاد، فلما جاء الكتاب إلى وجاج وجد من بين طلابه عبد الله بن ياسين السجلماسي ، وهذا الرجل في الأصل من (جزيلة)؛ ولذلك تجدون نسبته عبد الله بن ياسين الجزيلي في بعض الكتب، وكان حاد الذكاء، مفرطاً في الفهم، وكان عالماً عملاقاً، ومع ذلك كان أيضاً صاحب سياسة وتدبير، فاختاره وجاج لتحمل هذه المسئولية، فكان عند حسن ظنه، فلما جاء إلى هذه البلاد ورأى حال أهلها، علم أن الدعوة الفردية لا يمكن أن تؤثر فيهم.

وهذه سنة عجيبة أن هذا الرجل رأى أن الدعوة الفردية، والاتصال بالأشخاص مباشرةً ليس ذا أثر بالغ يمكن أن يقيم دولةً في هذه الأرض، فأراد عبد الله بن ياسين أن يخرج نخبةً من هذا المجتمع يربيها تربيةً خاصة حتى تتكون على تحمل هذه الرسالة، وحتى تستطيع تحمل أعبائها، فانفرد بهم في جزيرة (تيدرا) هذه القريبة من نواكشوط، ثلاث سنين يربيهم، حتى وصلت أعدادهم إلى ثلاثة آلاف، وكان يأخذهم بالشدة والقسوة، ولذلك كان من سياسته أنه يضرب من تخلف عن ركعة من الصلاة عشرة أسواط، ومن تخلف عن ركعتين عشرين سوطاً، ومن تخلف عن ثلاث ركعات ثلاثين سوطاً، ومن تخلف عن الصلاة الرباعية كلها جلده أربعين سوطاً، حتى إنه كان يجلد أمراء القبائل ورؤساءها للتخلف عن بعض الصلاة، أو التقصير في بعض العبادات، وبهذا أخذهم بالشدة والقسوة حتى أخرج منهم جيلاً صالحاً لتحمل هذه المسئولية، وللتضحية في سبيل الله.

فلما بلغوا إلى هذا العدد وهو ثلاثة آلاف مجند من الذين أخلصوا دينهم لله تعالى، وتربوا تربيةً صالحة، والتزموا بهذا الدين ظاهراً وباطناً، وخضعت رقابهم له، وجعلوه فوق أهوائهم وفوق انتماءاتهم كلها، وجعلوا هذا الدين هو مصيرهم، وهو الذي يرتبط به مستقبلهم، وربطوا به آمالهم وآلامهم، علم ابن ياسين أنهم أهل لأن ينصرهم الله، فالنصر جائزة الله، ولا يمكن أن تعطى إلا لمن يستحقها؛ لذلك لم يغتر ابن ياسين بكثرة الأتباع والأشياع، ولم ينظر إليهم في بادئ الرأي وبادئ الأمر على أنهم رجال أقوياء، وأهل حرب وقوة، وإنما نظر إلى أن القلوب هي محط التكليف، فبدأ أولاً بتربية النفوس وتكوينها، حتى إذا علم أنهم قد استووا إلى هذا المستوى خرج بهم على المجتمع، فلما رآهم الناس أيقنوا فيهم هدي الأنبياء وسلوكهم.

فهؤلاء قد تربوا على منهج نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فكانوا من ورثة الأنبياء حقاً؛ لذلك استجاب لهم الناس، ودخلوا في دين الله أفواجاً، ورضوا بما رضي به المرابطون، وأقاموا الأربطة في كل مكان، وسعوا لأجل إعزاز هذا الدين ونشره ونصره، فبعثوا القوافل، وجيشوا الجيوش، وأرسلوا السرايا والبعوث، فنشرت هذا الدين حتى عاد أهل كل هذه البلاد إلى الدين حقاً، وحتى فهموه واستجابوا لدعوته وقاموا بواجبه.

المراحل التي سارت عليها دعوة الشيخ عبد الله بن ياسين في دولة المرابطين

حينئذ رأى عبد الله بن ياسين أن المراحل التي يمكن أن تمر بها هذه الدعوة خمس في البداية:

المرحلة الأولى: هي تكوين جماعة مقتنعة بهذا المنهج الصحيح، ملتزمة به، تجعله أمامها، وتسعى من أجل الجهاد بالأنفس والأموال والألسنة دونه، وهذه المرحلة الأولى تحققت في جزيرة (تيدرا).

المرحلة الثانية: تكوين دولة تستطيع حماية البيضة، ورفع لواء الإسلام عالياً مدوياً مرفرفاً فوق بلاد الله تعالى، فأقام الدولة، وبايع أميراً، ولم يشأ أن ينصب نفسه خليفةً؛ ليتغلب أيضاً على حظوظ النفس، ولأجل ألا يكون هو صاحب كل المسئوليات، فتقاسم المسئوليات هدف رائع من الأهداف التي دعا إليها الإسلام.

المرحلة الثالثة: هي إقامة الحجة على الناس بإبلاغ عدل الله إليهم، وهذه المرحلة هي التي سعى إليها الأمير بعد أن نصبه عبد الله بن ياسين .

المرحلة الرابعة: هي بث الأمن، وإقامة هياكل اجتماعية تكفل للناس استمرار دعوتهم وحياتهم، وتكفل لهم وسائل عيشهم باستمرار، وهذا ما سعى له ابن ياسين ، وهو من حظ الدنيا: وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا [القصص:77].

المرحلة الخامسة: هي أستاذية العالم، أن يبث نفوذه فيما حوله من الأرض حتى يجعلها كلها خاضعةً لدين الله، إما أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتلتزم بدين الله، أو أن تمد الرقاب خاضعةً وتمد الأيدي منبسطةً بالجزية، وهذا ما فعله أهل تلك البلاد فخضعوا لهذه الدولة، وبايع عبد الله بن ياسين يحيى بن عمر اللمتوني فقام بالأمر خير قيام، ولكنه كان شجاعاً أكثر من اللازم، فكان إذا التقى الصفان في الجهاد في سبيل الله كان أمام الجيش، فلذلك كان عبد الله بن ياسين يعاقبه إذا رجع من غزوة، ويجلده خمسين سوطاً؛ لأنه تقدم عن صفه، والله تعالى يقول: يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ [الصف:4]، فكان الأمير إذا رجع منتصراً يخاف من سطوة القائد الأعلى وهو عبد الله بن ياسين فيأمر به فيجلد خمسين سوطاً؛ لأنه خالف النظام، وتقدم على الصف.

ثم لما نشر عبد الله جيوشه وسراياه، وفتح كثيراً من البلاد، كان من سياسته أنه ينصب في كل بلد يفتحه قائداً عسكرياً وقائداً دينياً يربي الناس؛ وأخذ هذا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أرسل إلى اليمن معاذ بن جبل قائداً دينياً، و أبا موسى الأشعري قائداً عسكرياً، وجعل كل واحد منهما أميراً، فقال: ( بشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا، وتطاوعا ولا تختلفا )، وكان لكل واحد منهما فسطاط يزوره فيه صاحبه، فأخذ عبد الله بن ياسين من هذا الحديث الصحيح الذي في الصحيحين وغيرهما أن المسئولية أعظم من أن يتولاها واحد، فكان يرتب لكل قوم قائداً عسكرياً، وقائداً دينياً يربيهم على نفس المنهج.

ظهور الرجل المتنبي في المغرب وتأمير يوسف بن تاشفين لقتاله

ثم لما استمرت الدولة قتل يحيى بن عمر اللمتوني شهيداً في سبيل الله، فبايع عبد الله بن ياسين أخاه أبا بكر بن عمر الذي يشتهر بين الناس (العوام) اليوم بـابن عامر ، وهو ابن عمر أبو بكر ، فبايعه عبد الله بن ياسين والمرابطون معه، وتضلع بما كان يتضلع به أخوه من قبله، فقام بالأمر خير قيام، ولكنه فوجئ بظهور رجل في المغرب في وادي مراكش ادعى النبوة، فأرسل إليه جيشاً من المرابطين، وكان قائد هذا الجيش يوسف بن تاشفين ، فلما وصل يوسف إلى تلك البلاد رأى البون الشاسع بين ما يعيشه أهلها الذين هم أهل العلم من قبل، وجاء العلم من قبلهم، وجاء عبد الله بن ياسين من قبلهم، وبين ما يعيشه المرابطون الذين تربوا على ذلك المنهج، فأراد أن يقيم فيهم دولة الإسلام من جديد، فلما قتل هذا المتنبئ الذي ادعى النبوة، وقتل أصحابه ومزقهم شر ممزق؛ بنى مدينة مراكش، وجعلها عاصمةً لدولة الإسلام في تلك البلاد.

توسع دولة يوسف بن تاشفين في المغرب وتسمية نفسه بأمير المسلمين

ثم سير الجيوش والبعوث حتى خضع له أهل تلك الأرض كلها، وسمى نفسه أمير المسلمين؛ تأدباً مع الخلافة العباسية في المشرق التي كان الخليفة فيها يسمى أمير المؤمنين، فلم يرد يوسف أن يأخذ هذا اللقب، بل تسمى بأمير المسلمين، ولا يعرف في تاريخنا الإسلامي رجل تلقب بأمير المسلمين إلا يوسف بن تاشفين وابنه علي ، أما من سواهما فإنما يتلقب بلقب الخلافة: أمير المؤمنين، وهو لقب عمر بن الخطاب ومن بعده من الخلفاء.

فأراد يوسف التأدب مع الخلافة في بغداد، فلقب نفسه أمير المسلمين، ولما قويت شوكته وتغلب على المغرب، ورأى أن الرجوع إلى هذه البلاد من الصعوبة بمكان، وأن حياة الناس متفاوتة بين الحضارة في الشمال والبداوة في الجنوب، أرسل الرسل إلى ابن عمه أبي بكر بن عمر ليتقابل معه، فالتقيا، فنصبه على ما تحت يده من الأرض، ورجع أبو بكر إلى هذه البلاد، وقد أتحفه يوسف بالمال والرجال، وساعده بما يريد من المساعدات.

استنجاد أهل الأندلس بيوسف بن تاشفين ووقعة الزلاقة بين المسلمين والنصارى

ثم وسع يوسف نفوذه حين استنجده أهل الأندلس الذين هم من المسلمين المستضعفين، وإنما وقع استضعافهم من قبل تخالفهم وتقاتلهم وتناحرهم فيما بينهم، فقطع إليه المعتمد بن عباد المنذري اللخمي قطع إليه البحر مستنجداً به، فخرج يوسف في ثلاثين ألف مسلح من المؤمنين المجاهدين، فقطعوا البحر وجاهدوا الأسبان في شهر رمضان، وكان التقاء الصفين في يوم الجمعة، وكان يوسف يخطب في أسفاره كما يخطب في إقامته؛ لأنه يرى نفسه خليفةً إماماً، فهو في كل بلد الإمام، فوقف على المنبر خطيباً يوم الجمعة في رمضان، فثارت الخيل في وجهه خيل الأسبان، فنزل عن المنبر، واخترط سيفه، وأمر المجاهدين فقال: يا خيل الله! اركبي، فانطلقت المعركة، وكان بين يدي يوسف و المعتمد بن عباد وتناثر القطن من فوق رأسه عندما لعبت السيوف في طاقيته على رأسه، ولم تزل الدماء تسيل حتى انهزم الأسبان بعون الله، وكان ذلك اليوم مشهوداً، وهو يوم (الزلاقة) الذي نصر الله فيه المؤمنين، وأعز فيه دينه وجنده.

قتل في ذلك اليوم مائة وعشرون ألفاً من الأسبان الصليبيين، وكان المسلمون يعرفون هؤلاء الأسبان بتعليق الصلبان في رقابهم، فاستحر فيهم القتل حتى لم ينج منهم إلا فئة يسيرة هربت مع الأدفنش ، وهو ملك الأسبان في ذلك الوقت.

ثم أراد يوسف أن يضم الأندلس إلى المغرب حتى يوحد دولته؛ لأنه رأى أن الحضارة متناسبة، فضم الولايات الأندلسية وأخضعها لسلطانه، ومن ذلك الوقت هابه المستعمر الكافر الصليبي، ولم يستطع الجرأة على ما كان يغير عليه من كور الإسلام وثغوره، حتى مات يوسف بن تاشفين بعد أن مكث سبعين سنةً يدعى أمير المسلمين، وتولى بعده ابنه علي ، واستمر على نفس نهجه حتى توفي سنة خمسمائة وأربعة عشر، وبقيت الولاية الجنوبية وهي إمارة أبي بكر وأبنائه في هذه البلاد، حتى سرى إليها داء الدول، وحصل فيها خلاف، فسقطت، ثم قامت على أنقاضها دولة (الدوكل) التي قامت في شمال هذه البلاد، وإن كانت لم تصل إلى مستوى دولة المرابطين من ناحية القوة والانتشار، وهي التي تربى فيها سيدي محمد الكونتي الذي نشأ في هذه القبيلة، وتربى في هذه الدولة، ثم جددوا دعوة الإسلام في هذه البلاد، وأقاموا علمه بارزاً، ولكنهم لم يستطيعوا زيادة الفتوح، ولم يستطيعوا أن يتجاوزوا ما وصل إليه المرابطون الأولون.

هنا تأتي غفوة في التاريخ لا نعرف كثيراً من أبعادها، ولكننا موقنون أن الدعوة الإسلامية فيها كانت مستمرة، وأن المجاهدين فيها كانوا يضحون بما كان يضحي به أسلافهم في سبيل الله، ولكننا لا نجد كثيراً من المعلومات عنها.

حينئذ رأى عبد الله بن ياسين أن المراحل التي يمكن أن تمر بها هذه الدعوة خمس في البداية:

المرحلة الأولى: هي تكوين جماعة مقتنعة بهذا المنهج الصحيح، ملتزمة به، تجعله أمامها، وتسعى من أجل الجهاد بالأنفس والأموال والألسنة دونه، وهذه المرحلة الأولى تحققت في جزيرة (تيدرا).

المرحلة الثانية: تكوين دولة تستطيع حماية البيضة، ورفع لواء الإسلام عالياً مدوياً مرفرفاً فوق بلاد الله تعالى، فأقام الدولة، وبايع أميراً، ولم يشأ أن ينصب نفسه خليفةً؛ ليتغلب أيضاً على حظوظ النفس، ولأجل ألا يكون هو صاحب كل المسئوليات، فتقاسم المسئوليات هدف رائع من الأهداف التي دعا إليها الإسلام.

المرحلة الثالثة: هي إقامة الحجة على الناس بإبلاغ عدل الله إليهم، وهذه المرحلة هي التي سعى إليها الأمير بعد أن نصبه عبد الله بن ياسين .

المرحلة الرابعة: هي بث الأمن، وإقامة هياكل اجتماعية تكفل للناس استمرار دعوتهم وحياتهم، وتكفل لهم وسائل عيشهم باستمرار، وهذا ما سعى له ابن ياسين ، وهو من حظ الدنيا: وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا [القصص:77].

المرحلة الخامسة: هي أستاذية العالم، أن يبث نفوذه فيما حوله من الأرض حتى يجعلها كلها خاضعةً لدين الله، إما أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتلتزم بدين الله، أو أن تمد الرقاب خاضعةً وتمد الأيدي منبسطةً بالجزية، وهذا ما فعله أهل تلك البلاد فخضعوا لهذه الدولة، وبايع عبد الله بن ياسين يحيى بن عمر اللمتوني فقام بالأمر خير قيام، ولكنه كان شجاعاً أكثر من اللازم، فكان إذا التقى الصفان في الجهاد في سبيل الله كان أمام الجيش، فلذلك كان عبد الله بن ياسين يعاقبه إذا رجع من غزوة، ويجلده خمسين سوطاً؛ لأنه تقدم عن صفه، والله تعالى يقول: يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ [الصف:4]، فكان الأمير إذا رجع منتصراً يخاف من سطوة القائد الأعلى وهو عبد الله بن ياسين فيأمر به فيجلد خمسين سوطاً؛ لأنه خالف النظام، وتقدم على الصف.

ثم لما نشر عبد الله جيوشه وسراياه، وفتح كثيراً من البلاد، كان من سياسته أنه ينصب في كل بلد يفتحه قائداً عسكرياً وقائداً دينياً يربي الناس؛ وأخذ هذا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أرسل إلى اليمن معاذ بن جبل قائداً دينياً، و أبا موسى الأشعري قائداً عسكرياً، وجعل كل واحد منهما أميراً، فقال: ( بشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا، وتطاوعا ولا تختلفا )، وكان لكل واحد منهما فسطاط يزوره فيه صاحبه، فأخذ عبد الله بن ياسين من هذا الحديث الصحيح الذي في الصحيحين وغيرهما أن المسئولية أعظم من أن يتولاها واحد، فكان يرتب لكل قوم قائداً عسكرياً، وقائداً دينياً يربيهم على نفس المنهج.

ثم لما استمرت الدولة قتل يحيى بن عمر اللمتوني شهيداً في سبيل الله، فبايع عبد الله بن ياسين أخاه أبا بكر بن عمر الذي يشتهر بين الناس (العوام) اليوم بـابن عامر ، وهو ابن عمر أبو بكر ، فبايعه عبد الله بن ياسين والمرابطون معه، وتضلع بما كان يتضلع به أخوه من قبله، فقام بالأمر خير قيام، ولكنه فوجئ بظهور رجل في المغرب في وادي مراكش ادعى النبوة، فأرسل إليه جيشاً من المرابطين، وكان قائد هذا الجيش يوسف بن تاشفين ، فلما وصل يوسف إلى تلك البلاد رأى البون الشاسع بين ما يعيشه أهلها الذين هم أهل العلم من قبل، وجاء العلم من قبلهم، وجاء عبد الله بن ياسين من قبلهم، وبين ما يعيشه المرابطون الذين تربوا على ذلك المنهج، فأراد أن يقيم فيهم دولة الإسلام من جديد، فلما قتل هذا المتنبئ الذي ادعى النبوة، وقتل أصحابه ومزقهم شر ممزق؛ بنى مدينة مراكش، وجعلها عاصمةً لدولة الإسلام في تلك البلاد.

ثم سير الجيوش والبعوث حتى خضع له أهل تلك الأرض كلها، وسمى نفسه أمير المسلمين؛ تأدباً مع الخلافة العباسية في المشرق التي كان الخليفة فيها يسمى أمير المؤمنين، فلم يرد يوسف أن يأخذ هذا اللقب، بل تسمى بأمير المسلمين، ولا يعرف في تاريخنا الإسلامي رجل تلقب بأمير المسلمين إلا يوسف بن تاشفين وابنه علي ، أما من سواهما فإنما يتلقب بلقب الخلافة: أمير المؤمنين، وهو لقب عمر بن الخطاب ومن بعده من الخلفاء.

فأراد يوسف التأدب مع الخلافة في بغداد، فلقب نفسه أمير المسلمين، ولما قويت شوكته وتغلب على المغرب، ورأى أن الرجوع إلى هذه البلاد من الصعوبة بمكان، وأن حياة الناس متفاوتة بين الحضارة في الشمال والبداوة في الجنوب، أرسل الرسل إلى ابن عمه أبي بكر بن عمر ليتقابل معه، فالتقيا، فنصبه على ما تحت يده من الأرض، ورجع أبو بكر إلى هذه البلاد، وقد أتحفه يوسف بالمال والرجال، وساعده بما يريد من المساعدات.




استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4779 استماع
بشائر النصر 4275 استماع
أسئلة عامة [2] 4118 استماع
المسؤولية في الإسلام 4042 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 3981 استماع
نواقض الإيمان [2] 3937 استماع
اللغة العربية 3919 استماع
عداوة الشيطان 3919 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3892 استماع
القضاء في الإسلام 3882 استماع