التوازن والاعتدال في حياة المسلم


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى فطر الناس على فطرته التي ارتضاها، وهي العبودية لله سبحانه وتعالى والقيام بحقه والسعي لما فيه النفع والحرص على اجتناب ما فيه الضرر، وهذه الفطرة هي حال الإنسان المستقيم السليم وما عداها لا بد أن يكون حائداً عن هذا الطريق فيميل يميناً أو شمالاً، وهذا الميل هو الذي يسمى بالانحراف، وهو الذي يسمى بالتطرف عن طريق الحق، أي: بالميل عن طريق الحق يميناً أو شمالاً.

وهذا الحق الذي ارتضاه الله تعالى لعباده أرسل به رسله، وبينه أكمل البيان وأنزل به كتبه، وأقام عليه الحجج والبراهين، وهو معصوم ثابت، وأكثره وأمه أمور بينات لا يختلف فيها اثنان، وما سوى ذلك منه أمور اجتهادية يتعبد الله تعالى الناس بطلب الحق فيها، فيوفق من شاء للحق عنده، لكن الجميع إذا طلبوا الحق فأخلصوا لله سبحانه وتعالى معذورون من أصاب منهم ومن أخطأ، المصيب منهم له أجران والمخطئ له أجر، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا اجتهد الحاكم فأصاب كان له أجران، وإذا اجتهد فأخطأ كان له أجر )، فكل من طلب الحق وابتغى وجه الله سبحانه وتعالى في الأمور الاجتهادية، التي هي غير محسومة بالنص فهو معذور أصاب الحق أو أخطأه، وإنما تتبين إصابته للحق بموافقته للدليل والبرهان الآتي من عند الله سبحانه وتعالى، الذي قد يخفى على الإنسان في ذاته فلا يصل إليه علم به؛ لأن كثيراً من الأدلة والبراهين غير قطعية الورود كأخبار الآحاد ونحوها، أو قد تخفى عليه دلالته كقطعي الورود من النصوص كما هو في القرآن، ولا يكون قطعي الدلالة؛ فيكون حينئذ الإنسان معذوراً إذا لم يستوعبه ولم يفهمه على وجهه الصحيح؛ لأن الله تعالى قادر على بيانه غاية البيان كما بين غيره من الأحكام، وإنما جعل فيه ذلك الخفاء والإجمال لحكمة يعلمها الله سبحانه وتعالى.

ومن حكمته في ذلك أن يمتحن عباده بالتماس الحق وطلبه، وإعمال العقول والآلات التي أعدهم بها لفهم كتابه وللتلقي عنه سبحانه وتعالى، ولا يمكن أن يجعل الله تعالى من القرآن متشابهاً ومنه مجملاً ومنه مشكلاً ومنه خفي الدلالة، فيتعبد الجميع بالوصول إلى طريق واحد وهو الصواب، بل لا بد أن يترتب على ذلك الخفاء أن يرزق الله سبحانه وتعالى فهمه من شاء من خواصه من خلقه، وأن يعذر من لم يصل إلى ذلك لأن الخفاء الذي فيه كاف في الإعذار وكاف في التماس الحق وطلبه، وإذا بذل الإنسان جهده فإن الله سبحانه وتعالى لا يكلفه ما زاد على جهده، وقد صرح بذلك في كتابه في عدد من الآيات؛ فقال تعالى: لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا[البقرة:286]، وقال تعالى: لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا[الطلاق:7].

حال المجتهدين في البحث عن الحق

على الإنسان أن يبذل جهده في الوصول إلى الصواب؛ فإذا وصل إليه فبها ونعمت؛ فإن حصلت لديه القناعة بأن هذا هو مراد الله وعرف دليله فتعين عليه حينئذ، وإذا لم يصل إلى الصواب وإنما وصل إلى ما اقتنع هو بأنه أقرب الأمور إلى مرضاة الله، وأقمنها بالحق مع أنه قابل لأن يكون غلطاً؛ فهو حينئذ معذور كحال الأئمة المجتهدين، وقد كان الإمام مالك رحمه الله يقول في هذا النوع من المسائل الاستنباطية: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ[الجاثية:32]، وكان الشافعي رحمه الله يقول فيه: (رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب) وكان كثير من الأعلام في مثل هذه الأمور الاجتهادية يبذلون جهودهم، ثم يصلون الاستخارة ويسألون الله تعالى أن يختار لهم الخير، ويبرأون إلى الله من حولهم وقوتهم اعتماداً وتوكلاً على الله وحده.

وهذا الجانب من الربانية لا بد منه لدى المتأخرين، وهو مفقود لدى كثير منهم إلا من رحم الله، فكثير من الذين يتناقشون في المسائل لا يرجعون إلى الله سبحانه وتعالى في أن يبين لهم الصواب، وقد كان كثير من الأئمة الأعلام من ذوي الذكاء والعلم والخبرة إذا عرضت عليهم النازلة وغشيهم الرحضاء، كحال مالك رحمه الله كان إذا سئل عن المسألة سكت، ووجم كثيراً وأطرق إلى الأرض، وتحدر العرق من وجهه لشدة الهول؛ لأنه يعلم أنه موقع عن رب العالمين، وأنه سيجيب بسؤال سيعرض عليه بين يدي الملك الديان، فيقال: أنت أفتيت بكذا.

فلذلك كانوا يجتهدون في الربانية واللجأ إلى الله، ومن الأذكياء المشاهير أحمد بن عبد الحليم بن تيمية شيخ الإسلام، فقد كان إذا عرضت عليه المسألة يصلي ركعتين، فيجلس في مصلاه وهو مكب على ركبتيه يقول: (يا معلم داود علمني ويا مفهم سليمان فهمني) فهم يلجئون إلى الله تعالى في أن يفهمهم الحق، وهذا بعيد جداً من التعصب وبعيد جداً من أن يحتكر الإنسان الحق، ويرى أن الحق هو ما لديه فقط وأن ما سواه هو عين الباطل.

فلذلك لا بد أن نتخلق جميعاً بخلق العلماء وهديهم، وأن نعلم أن ما أخفاه الله تعالى من المسائل إنما هو أرزاق يرزقها من شاء من عباده، وهي مثل غيرها من الأمور التي تحتاج إلى اللجأ إلى الله والتوكل عليه والاعتماد عليه في الشأن كله.

إدراك ضعف الإنسان وعلمه

وكذلك لا بد أن يدرك الإنسان أنه ضعيف، فكما أن قواه ضعيفة عن القيام بحق الله في عباداته، ولا يرضى أحد منا عن أية عبادة قام بها؛ هل يرضى أحد منكم عن صلاته التي صلاها الآن، وهي صلاة العصر المشهودة التي قال كثير من أهل العلم هي الصلاة الوسطى؟ لا يستطيع أحد منكم أن يرضى عن عمله، فلذلك ينبغي أن يدرك أن فهمه واجتهاده وعلمه هو من عمله؛ فلا يكون مرضياً عنه، فالرضا عنه من علامات النفاق، وإذا رضي الإنسان عن علمه وفهمه فهذا من علامات النفاق؛ ولذلك لا بد أن يدرك أن علمه هو من عمله، كما أن عمله قاصر في كل الأمور كذلك علمه وفهمه؛ وبهذا يتواضع لله سبحانه وتعالى ويصلح للتلقي عنه وفهم كلامه؛ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ[العنكبوت:43].

على الإنسان أن يبذل جهده في الوصول إلى الصواب؛ فإذا وصل إليه فبها ونعمت؛ فإن حصلت لديه القناعة بأن هذا هو مراد الله وعرف دليله فتعين عليه حينئذ، وإذا لم يصل إلى الصواب وإنما وصل إلى ما اقتنع هو بأنه أقرب الأمور إلى مرضاة الله، وأقمنها بالحق مع أنه قابل لأن يكون غلطاً؛ فهو حينئذ معذور كحال الأئمة المجتهدين، وقد كان الإمام مالك رحمه الله يقول في هذا النوع من المسائل الاستنباطية: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ[الجاثية:32]، وكان الشافعي رحمه الله يقول فيه: (رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب) وكان كثير من الأعلام في مثل هذه الأمور الاجتهادية يبذلون جهودهم، ثم يصلون الاستخارة ويسألون الله تعالى أن يختار لهم الخير، ويبرأون إلى الله من حولهم وقوتهم اعتماداً وتوكلاً على الله وحده.

وهذا الجانب من الربانية لا بد منه لدى المتأخرين، وهو مفقود لدى كثير منهم إلا من رحم الله، فكثير من الذين يتناقشون في المسائل لا يرجعون إلى الله سبحانه وتعالى في أن يبين لهم الصواب، وقد كان كثير من الأئمة الأعلام من ذوي الذكاء والعلم والخبرة إذا عرضت عليهم النازلة وغشيهم الرحضاء، كحال مالك رحمه الله كان إذا سئل عن المسألة سكت، ووجم كثيراً وأطرق إلى الأرض، وتحدر العرق من وجهه لشدة الهول؛ لأنه يعلم أنه موقع عن رب العالمين، وأنه سيجيب بسؤال سيعرض عليه بين يدي الملك الديان، فيقال: أنت أفتيت بكذا.

فلذلك كانوا يجتهدون في الربانية واللجأ إلى الله، ومن الأذكياء المشاهير أحمد بن عبد الحليم بن تيمية شيخ الإسلام، فقد كان إذا عرضت عليه المسألة يصلي ركعتين، فيجلس في مصلاه وهو مكب على ركبتيه يقول: (يا معلم داود علمني ويا مفهم سليمان فهمني) فهم يلجئون إلى الله تعالى في أن يفهمهم الحق، وهذا بعيد جداً من التعصب وبعيد جداً من أن يحتكر الإنسان الحق، ويرى أن الحق هو ما لديه فقط وأن ما سواه هو عين الباطل.

فلذلك لا بد أن نتخلق جميعاً بخلق العلماء وهديهم، وأن نعلم أن ما أخفاه الله تعالى من المسائل إنما هو أرزاق يرزقها من شاء من عباده، وهي مثل غيرها من الأمور التي تحتاج إلى اللجأ إلى الله والتوكل عليه والاعتماد عليه في الشأن كله.

وكذلك لا بد أن يدرك الإنسان أنه ضعيف، فكما أن قواه ضعيفة عن القيام بحق الله في عباداته، ولا يرضى أحد منا عن أية عبادة قام بها؛ هل يرضى أحد منكم عن صلاته التي صلاها الآن، وهي صلاة العصر المشهودة التي قال كثير من أهل العلم هي الصلاة الوسطى؟ لا يستطيع أحد منكم أن يرضى عن عمله، فلذلك ينبغي أن يدرك أن فهمه واجتهاده وعلمه هو من عمله؛ فلا يكون مرضياً عنه، فالرضا عنه من علامات النفاق، وإذا رضي الإنسان عن علمه وفهمه فهذا من علامات النفاق؛ ولذلك لا بد أن يدرك أن علمه هو من عمله، كما أن عمله قاصر في كل الأمور كذلك علمه وفهمه؛ وبهذا يتواضع لله سبحانه وتعالى ويصلح للتلقي عنه وفهم كلامه؛ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ[العنكبوت:43].

ثم إن علينا أن نفهم أن الله سبحانه وتعالى شرع الاعتدال في الشأن كله، في جميع المعاملات: في معاملة النفس ومعاملة الله ومعاملة الناس، وشرع الله تعالى الاعتدال والتوازن بين الإفراط والتفريط وهو المنهج الإسلامي القويم، الذي يقتضي من الإنسان في التعامل مع الله سبحانه وتعالى ألا يستغرق وقته كله بالعبادة، فيهمل حقوق نفسه وحقوق الناس؛ فهذا غير مرضي شرعاً ولا يرضاه الله لعباده، ولم يكلف البشر أن يكونوا ملائكة أبداً، بل البشر يأكلون ويشربون ويفترون وينامون ويمرضون، وهذه العوارض التي تعتريهم رتب عليها الشارع أحكاماً؛ ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا مرض العبد أو سافر قال الله لملائكته: انظروا ما كان يعمل عبدي في صحته وإقامته فاكتبوه له )؛ فهذا يقتضي أن الله سبحانه وتعالى خفف عن المسافر والمريض، وأعلم ملائكته بذلك؛ فلهذا على الإنسان أن يعلم أن هذه العوارض التي تعرض له، والأحوال التي تعتريه مؤثرة في ذاته، ومن هنا فلا يمكن أن يستغرق وقته كله في جانب التعبد، كما أنه لا يمكن أيضاً أن يستغرق وقته كله في أمور الدنيا وإهمال شئون الآخرة؛ فهذا شأن عبدة الدنيا وأهلها، الذين حياتهم كحياة البهائم والأنعام؛ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهمْ[محمد:12].

فإذا كان الإنسان يعلم أن له دارين: الدار الآخرة والدار الدنيا، فيؤثر الآخرة على الدنيا، ويقدم حقوقها لكن مع ذلك لا يهمل نصيبه من الدنيا، ويعلم أنه مكلف بتكليف لم يشاور عليه ولم يؤخذ رأيه فيه، والذي كلفه هو العليم الخبير، وقد شرع له الأحكام المتعلقة بالدنيا والأحكام المتعلقة بالآخرة، لا بد أن يعتدل في طلبهما معاً، وأن تكون حياته منظمة على هذا الأساس؛ فوقت الصلاة أهم خطاب يتجه إلى الإنسان فيه هو هذا الخطاب بأداء الصلاة المفروضة المكتوبة، ولا يمكن أن يعارضها إلا الضرورات التي يحتاج إليها الإنسان حاجة ضرورية، وما سوى ذلك لا يمكن أن يبدأ على الصلاة؛ ولهذا كتب عمر رضي الله عنه إلى عماله: إن أهم أموركم عندي الصلاة، فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع وأضيع.

وكذلك لا بد أن يدرك الإنسان أن أمور الآخرة أيضاً ليست على درجة واحدة في الخطاب؛ فمنها الفرائض ومنها السنن ومنها المندوبات، والفرائض منها عينية وكفائية، والعينيات منها مضيق في الوقت وموسع؛ فيبدأ الإنسان بالفرض العيني المضيق فهو مقدم على غيره، ثم بعده بالفرض العيني الموسع، ثم بفرض الكفاية.. وهكذا، فيرتب هذه الأحكام بفقه وعلى حسب مراتبها التي وضعها الشارع فيها؛ فلا يمكن أن يبدأ الإنسان بالسنة قبل الواجب، وإذا كان عليه فرائض حال وقتها، فكيف يتشاغل بما دونها من السنن والمندوبات؟! وإذا كان لديه فرائض مضيقة وفرائض موسعة - وقتها واسع - فلا بد أن يبدأ بالتي ضيق الشارع وقتها؛ لأن تضييق وقتها يقتضي المبادرة إليها وعدم إرجائها وتأخيرها.

في أمور الدنيا لا بد أن يدرك الإنسان أن معاملته في هذه الحياة الدنيا حتى في حقوق نفسه، في معاملته مع نفسه منوعة أنواعاً كثيرة؛ فمنها حقوق ترجع إلى الروح والأمور الروحانية، ومن ذلك توبته وإنابته إلى الله سبحانه وتعالى وإخلاصه في عمله؛ فهذا من حقوق نفسه، وإذا فرط فيه وأهمله فسيبقى جانب من جوانب تركيبه أشل، ولا يستطيع الحراك ولا ينوء به غيره من سائر بدنه؛ فالإنسان الذي روحه لا تدرك شيئاً من طعم العبادة، ولا تتذوقه ولا تتذوق حلاوة الإيمان فإن جانباً من جوانبه مشلول، والإنسان الذي يبالغ في الروحانيات على حساب البدنيات، فوقته مشغول بالتفكير لكنه مع ذلك مهمل لعمل الجوارح؛ أيضاً سيكون مهوساً مملوءاً بالوساوس والظنون، ولا يستطيع القيام بفروضه وواجباته.

وكذلك فإن حقوق البدن أنواع منوعة؛ فللبدن حق في التغذية وحق في النوم وحق في الراحة وحق في الستر.. وهكذا، ومنافع الإنسان أصولها الأربع التي يتعهد الله بها لـآدم في الجنة، فقال: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى[طه:118-119]، ومعنى (تضحى) تبرز للشمس، أي: السكن؛ فالطعام والشراب واللباس والسكن هذه أصول المنافع التي هي حقوق بدن الإنسان في خاصة نفسه، ولا بد من التوازن بينها؛ فكيف يكون الإنسان مثلاً يلبس أحسن الملابس لكنه جائع مع ذلك؟! هل هو عاقل أن يشتري أحسن الملابس ويموت جوعاً؟! هذا من غير المستقيم، بل هو من غير التوازن ومن غير الاعتدال، وكذلك الحال إذا كان يتغالى في أنواع المطاعم، وهو يلبس الأسمال والرثوث من الملابس؛ هل هذا معتدل أيضاً؟! أبداً. هذا غير مستقيم الهدي؛ فلذلك لا بد أن يراعي الإنسان التوازن بين حقوق نفسه، وهكذا إذا كان الإنسان يأخذ جل وقته للنوم والراحة، ويترك اليسير منه والهامش القليل للعمل؛ هل هو معتدل متوازن؟! أبداً؛ لأنه صرف إلى النوم أكثر من نصيبه.

فنعم الله تعالى ينبغي أن ينظر إليها بنظرة اعتدال على هيئة الميزانيات؛ فهذه الوزارة ميزانيتها كذا وكذا، وهي مقسمة إلى بنود، البند الفلاني للإسكان والبند الفلاني لرواتب الموظفين، والبند الفلاني للتسيير والبند الفلاني لصيانة المنشآت، فهذه البنود لا يمكن أن يقضي بعضها على بعض ولا أن يقع فيها الخلل، وإذا حصل فيها عدم تساوي فإنما هو ناشئ إلى عدم التساوي في التكاليف كذلك؛ فيكون عدلاً لا جوراً حينئذ.

أولاً: مع الوالدين

لا بد أن يكون الإنسان في تعامله مع أهله؛ فمن له والدان، كيف يكون براً مثلاً بأبيه عقاً بأمه أو براً بأمه عقاً بأبيه! هذا غير متوازن ولا معتدل، ولا يمكن أن يقبل بوجه من الوجوه، بل لا بد من أن يؤدي إلى كل ذي حق حقه؛ فيبدأ بحق الأم عند الضيق إذا لم يجد إلا حق أحدهما؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بها، لكن لا بد في حال الاتساع أن يراعي حقوقهما معاً وأن يكون براً بهما معاً، وقد جمع الله حقوقهما في كتابه في عدد من الآيات، كقوله تعالى: وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا[النساء:36]، وكقوله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا[الإسراء:23]، وكقوله تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا[الأحقاف:15]؛ فكل هذا يقتضي التوازن بين مراعاة حقوقهما معاً.

ثانياً: مع الأولاد

وكذلك الأولاد؛ فلا بد من مراعاة حقوقهم بالسوية، وقد صح في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما في الصحيح ( أن أباه بشير بن سعد وهبه حديقة بالمدينة، فأصرت عليه عمرة بنت رواحة وهي أم النعمان أن يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، قال: فذهب بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! اشهد أني وهبت ابني هذا النعمان حديقتي؛ فقال: أكل نحلت ولدك مثلها؟ قال: لا، قال: أشهد على هذا غيري؛ فإني لا أشهد على زور، اتقوا الله وساووا بين أولادكم )، وفي رواية: ( واعدلوا بين أولادكم )؛ فهنا لا بد من العدل بين الأولاد في العطية وفي التربية وفي القيام بالمصالح كلها؛ من النصيحة والإرشاد وغير ذلك من حقوقهم الكثيرة، التي يهمل كثير من الناس ما يتعلق بالنصح والتعليم والتربية منها، وكثير من الناس إذا سمع الحقوق انصرف ذهنه إلى الحقوق المادية فقط؛ فيظن أن الأولاد حقوقهم النفقة والسكنى، ويهمل ما سوى ذلك من حقوقهم من التربية والدعاء والنصح والتعليم، وغير ذلك من الأمور التي هي آكد وأعظم من حقوقهم في النفقة والسكنى.

ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم هنا حين أنكر على بشير بن سعد عدم عدله بين أولاده لم يقل: إن جميع الأحوال ستكون كذلك، بل لا شك أن الأولاد أيضاً قد يقع التفاوت بينهم؛ فمن كان منهم ذا تكاليف، لديه بيت وأولاد وهو فقير لا شك أنه يمكن أن يخصصه والده بما لم يخصص به غيره ممن ليست عليه تلك المئونة، ومن كان أفضل وأبر أيضاً لا شك أنه يستحق مكافأة أكبر من التي يستحقها من دونه؛ ولذلك صح عن عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر رضي الله عنه قال لها في مرض موته: قد كنت وهبتك جذاذ خمسين وسقاً من نخلي الذي بالعالية؛ فلو كنت أخذتيه لملكتيه، وأما اليوم فإنما هو مال وارث. فـأبو بكر الصديق رضي الله عنه خص عائشة رضي الله عنها لما ميزها الله به من الفضل والبر وغير ذلك؛ فهي قطعاً أفضل ولده؛ فقد ميزها وخصها بهذه العطية، بجذاذ خمسين وسقاً من نخله الذي بالعالية، لكنه علمها الحكم عند موته قال: فلو كنت أخذتيه - أي حزتيه - لملكتيه، أي: لملكته، وأما اليوم - أي بعد أن وصل هو إلى جد السياق والموت - فإنما هو مال وارث، أي: ( لا وصية لوارث )، فـعائشة لم تحزه فأصبح بمثابة الوصية، فهبة المريض بمثابة الوصية، ولا وصية لوارث؛ فلذلك قال: فلو كنت أخذتيه لملكتيه، وأما اليوم فإنما هو مال وارث؛ فهذا النوع لا ينافي هذا الاعتدال بين الأولاد في مراعاة حقوقهم.

ثالثاً: مع البنات

وأيضاً لا بد أن نعلم أن الشارع إذا ميز الذكور من البنين في الميراث على البنات فليس معنى ذلك الجور على البنات في حقوقهن، فيجب على الوالدين مراعاة حقوق البنات كمراعاة حقوق الأولاد ولا فرق؛ فما عليهم من النفقة والسكنى والتربية والدعاء والنصح والتعليم من الحقوق يستوي فيه الذكور والإناث من أولادهم، وإنما خص الله تعالى الذكران في الميراث بالتضعيف بناءً على أمور أخرى، ومنها ما كلفهم به من التكاليف فالتشريف على قدر التكليف؛ لأن الله تعالى جعل على الأولاد الذكور الدية ولم يجعل ذلك على البنات، وجعل على الرجال المهور ولم يجعل على النساء من ذلك شيئاً، وجعل على الرجال النفقات ولم يجعل على النساء من ذلك شيئاً؛ فالمرأة لا يجب عليها نفقة زوجها ولو كانت غنية وكان فقيراً، ولا يجب عليها نفقة أخيها ولو كان فقيراً وهي غنية، ولا يجب عليها نفقة ولدها ولو كانت غنية وهو فقير، وهذه أمور مما ميز الله بها الرجال من التكاليف، كذلك في مقابلها زاد نصيبهم في الميراث، وهذا من عدل الله سبحانه وتعالى، لكنه مع ذلك في الوصية وفي الوقف وغير ذلك ساوى بينهم، والإخوة لأم ساوى أيضاً ذكرهم وأنثاهم في الميراث؛ فهذا كله يقتضي الاعتدال والتوازن في التعامل.

لا بد أن يكون الإنسان في تعامله مع أهله؛ فمن له والدان، كيف يكون براً مثلاً بأبيه عقاً بأمه أو براً بأمه عقاً بأبيه! هذا غير متوازن ولا معتدل، ولا يمكن أن يقبل بوجه من الوجوه، بل لا بد من أن يؤدي إلى كل ذي حق حقه؛ فيبدأ بحق الأم عند الضيق إذا لم يجد إلا حق أحدهما؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بها، لكن لا بد في حال الاتساع أن يراعي حقوقهما معاً وأن يكون براً بهما معاً، وقد جمع الله حقوقهما في كتابه في عدد من الآيات، كقوله تعالى: وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا[النساء:36]، وكقوله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا[الإسراء:23]، وكقوله تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا[الأحقاف:15]؛ فكل هذا يقتضي التوازن بين مراعاة حقوقهما معاً.

وكذلك الأولاد؛ فلا بد من مراعاة حقوقهم بالسوية، وقد صح في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما في الصحيح ( أن أباه بشير بن سعد وهبه حديقة بالمدينة، فأصرت عليه عمرة بنت رواحة وهي أم النعمان أن يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، قال: فذهب بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! اشهد أني وهبت ابني هذا النعمان حديقتي؛ فقال: أكل نحلت ولدك مثلها؟ قال: لا، قال: أشهد على هذا غيري؛ فإني لا أشهد على زور، اتقوا الله وساووا بين أولادكم )، وفي رواية: ( واعدلوا بين أولادكم )؛ فهنا لا بد من العدل بين الأولاد في العطية وفي التربية وفي القيام بالمصالح كلها؛ من النصيحة والإرشاد وغير ذلك من حقوقهم الكثيرة، التي يهمل كثير من الناس ما يتعلق بالنصح والتعليم والتربية منها، وكثير من الناس إذا سمع الحقوق انصرف ذهنه إلى الحقوق المادية فقط؛ فيظن أن الأولاد حقوقهم النفقة والسكنى، ويهمل ما سوى ذلك من حقوقهم من التربية والدعاء والنصح والتعليم، وغير ذلك من الأمور التي هي آكد وأعظم من حقوقهم في النفقة والسكنى.

ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم هنا حين أنكر على بشير بن سعد عدم عدله بين أولاده لم يقل: إن جميع الأحوال ستكون كذلك، بل لا شك أن الأولاد أيضاً قد يقع التفاوت بينهم؛ فمن كان منهم ذا تكاليف، لديه بيت وأولاد وهو فقير لا شك أنه يمكن أن يخصصه والده بما لم يخصص به غيره ممن ليست عليه تلك المئونة، ومن كان أفضل وأبر أيضاً لا شك أنه يستحق مكافأة أكبر من التي يستحقها من دونه؛ ولذلك صح عن عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر رضي الله عنه قال لها في مرض موته: قد كنت وهبتك جذاذ خمسين وسقاً من نخلي الذي بالعالية؛ فلو كنت أخذتيه لملكتيه، وأما اليوم فإنما هو مال وارث. فـأبو بكر الصديق رضي الله عنه خص عائشة رضي الله عنها لما ميزها الله به من الفضل والبر وغير ذلك؛ فهي قطعاً أفضل ولده؛ فقد ميزها وخصها بهذه العطية، بجذاذ خمسين وسقاً من نخله الذي بالعالية، لكنه علمها الحكم عند موته قال: فلو كنت أخذتيه - أي حزتيه - لملكتيه، أي: لملكته، وأما اليوم - أي بعد أن وصل هو إلى جد السياق والموت - فإنما هو مال وارث، أي: ( لا وصية لوارث )، فـعائشة لم تحزه فأصبح بمثابة الوصية، فهبة المريض بمثابة الوصية، ولا وصية لوارث؛ فلذلك قال: فلو كنت أخذتيه لملكتيه، وأما اليوم فإنما هو مال وارث؛ فهذا النوع لا ينافي هذا الاعتدال بين الأولاد في مراعاة حقوقهم.

وأيضاً لا بد أن نعلم أن الشارع إذا ميز الذكور من البنين في الميراث على البنات فليس معنى ذلك الجور على البنات في حقوقهن، فيجب على الوالدين مراعاة حقوق البنات كمراعاة حقوق الأولاد ولا فرق؛ فما عليهم من النفقة والسكنى والتربية والدعاء والنصح والتعليم من الحقوق يستوي فيه الذكور والإناث من أولادهم، وإنما خص الله تعالى الذكران في الميراث بالتضعيف بناءً على أمور أخرى، ومنها ما كلفهم به من التكاليف فالتشريف على قدر التكليف؛ لأن الله تعالى جعل على الأولاد الذكور الدية ولم يجعل ذلك على البنات، وجعل على الرجال المهور ولم يجعل على النساء من ذلك شيئاً، وجعل على الرجال النفقات ولم يجعل على النساء من ذلك شيئاً؛ فالمرأة لا يجب عليها نفقة زوجها ولو كانت غنية وكان فقيراً، ولا يجب عليها نفقة أخيها ولو كان فقيراً وهي غنية، ولا يجب عليها نفقة ولدها ولو كانت غنية وهو فقير، وهذه أمور مما ميز الله بها الرجال من التكاليف، كذلك في مقابلها زاد نصيبهم في الميراث، وهذا من عدل الله سبحانه وتعالى، لكنه مع ذلك في الوصية وفي الوقف وغير ذلك ساوى بينهم، والإخوة لأم ساوى أيضاً ذكرهم وأنثاهم في الميراث؛ فهذا كله يقتضي الاعتدال والتوازن في التعامل.

كذلك التعامل مع الجيران؛ فلا بد أن يدرك الإنسان أن إحسانه إلى بعضهم لا يبرر إساءته إلى بعض، وأن عليه أن يحسن إلى الجميع، وأن يكون خيره متعدياً، وأن يعلم أن للجار حقاً عظيماً حض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ( ما زال جبريل يحثني على الجار حتى ظننت أنه سيورثه )، ومع ذلك فأقرب الجيران باباً إلى البيت أولاهم بالصلة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( الجار أحق بصقبه )، وفي رواية في صحيح البخاري : ( الجار أحق بسقبه )، و (الصقب) و(السقب): القرب؛ فالمقصود بذلك: من كان أقرب فهو أحق بحقوق الجار، وعندما: ( سأل أبو ذر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حقوق الجيران بأيهم يبدأ قال: أقربهم بيتاً )، أي: أقربهم داراً إليك؛ فهذا تبدأ به قبل غيره؛ لأن الجوار علاقته ناشئة عن القرب المكاني، فمن كان أولى بهذه العلاقة التي هي أصل الحق المترتب شرعاً كان أقدم من غيره.

ثم إن حقوق الجار أيضاً منها ما يتعلق بالجانب السلبي، أي: بكف الضرر، ومنها ما يتعلق بالإحسان، والجانب السلبي مقدم على الجانب الإيجابي دائماً في التكاليف، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم )، فكف الأذى مقدم على الإحسان، فلو كان الإنسان يحسن ويتصدق على الفقراء، ولكنه في مقابل ذلك يمن ويؤذي؛ فما فائدة صدقته وصلته؟! فإنه يبطلها بالمن والأذى، وهذا ما نهى الله عنه في كتابه، وبين أن مجرد القول بالمعروف خير من الصدقة التي يتبعها الأذى؛ فقال: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى[البقرة:263].




استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4779 استماع
بشائر النصر 4275 استماع
أسئلة عامة [2] 4118 استماع
المسؤولية في الإسلام 4042 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 3981 استماع
نواقض الإيمان [2] 3937 استماع
اللغة العربية 3919 استماع
عداوة الشيطان 3919 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3892 استماع
القضاء في الإسلام 3882 استماع