الإخلاص


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بُعث رحمه للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:

فإنكم تعلمون أن صلاح الإنسان مرتبط بصلاح قلبه، وقد أخرج البخاري و مسلم في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملكٍ حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).

وهذه العناية بالقلب وارتباط الجوارح به، وارتباط صلاح الإنسان بصلاحه، كلها تقتضي أن عمل القلب أفضل من عمل الجوارح، فلا مقارنة بين عمل قلب الإنسان وعمل جوارحه؛ لأن عمل القلب هو شرط دخول الجنة، فلا يمكن أن يدخل أحد الجنة إلا بإيمانه.

درجات أعمال القلب

وعمل القلب ثلاث درجات:

الدرجة الأولى: هي النية، وهي الإرادة، وهي شرط لجميع الأعمال؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى)، فلا يمكن أن يقبل عمل، سواء كان بدنياً أو مالياً، وسواء كان من الواجبات أو من المندوبات إلا بهذه النية.

والدرجة الثانية من أعمال القلب: هي الإخلاص لله تعالى أي قصد وجهه الكريم بالعمل، وهي من الاعتقاد، وهي كذلك شرط لقبول العمل، فكل عمل لم يخلص فيه صاحبه لله فهو مردود عليه، فقد أخرج مسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه عز وجل: ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه).

والدرجة الثالثة من عمل القلب: هي حضور الإنسان له، وهي بإحسانه كالخشوع في الصلاة والخشوع في العبادات كلها، فهي نماء وزيادة، وإن كانت مشروطة في بعض العبادات، فقد لا تكون مشروطة في غيرها.

الخشوع وحضور القلب في الأعمال

فالخشوع مثلاً واجب في الصلاة على الراجح، لكن لا يجب في كل ركنٍ من أركانها، بل يكفي إذا وقع في ركنٍ واحد، كما قال محمد مولود رحمه الله: وأي الأركان به كان كفى.

لكن الخشوع مطلوب أيضاً في الدروس، ومطلوب في طلب العلم، وحتى في مجرد المشي في الطريق يُطلب من الإنسان أن يكون خاشعاً، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وعليكم السكينة والوقار، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا)، وفي رواية: (وعليكم السكينة والوقار).

أما رواية: (وعليكم السكينة والوقار)، فالجملة حالية معناها: حال مشيكم عليكم السكينة والوقار، فالسكينة والوقار مبتدأ، والخبر عليكم جار ومجرور سد مسد الخبر، فالخبر متعلق بالمحذوف، أي: عليكم تستقر السكينة والوقار، وأما رواية النصب وهي: (وعليكم السكينة والوقار)، أي: والزموا السكينة والوقار، وهذه جملة معطوفة على الجملة السابقة التي هي: (إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون)، فعطف الأمر على النهي، فالنهي لا تأتوها وأنتم تسعون، والأمر وأتوها وعليكم السكينة والوقار، أي: والزموا السكينة والوقار، وعليكم هنا ليس جار ومجرور، وإنما هي اسم فعل بمعنى: الزموا.

وكل ذلك يقتضي أن الإنسان في مشيه إلى الصلاة ينبغي أن يلزم هذا الخشوع الذي يتضمن أمرين:

أحدهما: السكينة، وهي التأني وعدم العجلة، والوقار: وهو غض البصر، وخفض الصوت.

أما السكينة فهي بالتأني وعدم الفعل الذي لا يعني

وخفض صوت ثم غض البصر هو الوقار عندهم في الأشهر

فيطالب الإنسان بجمع هذا، وهذا هو الاقتصاد في المشي الذي أمر الله به في قوله: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ [لقمان:19]، فالقصد في المشي أن يظهر على الإنسان الخشوع بالتأني والوقار.

وبهذا يعلم أن الإخلاص لله سبحانه وتعالى من عمل القلب، وهو أشرف من عمل الجوارح كلها، وأنه من مقاصد الشرع المهمة، ولذلك رُبط به الثواب وبه أرسل الأنبياء، فالأنبياء جميعاً إنما أُرسلوا بالإخلاص لله، كما قال الله تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5]، وما أمروا: أي ما أمر الناس جميعاً، إلا ليعبدوا الله، أي: إلا بعبادته، (مخلصين له الدين): أي في حال إخلاصهم له الدين كله، وكذلك قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ [الزمر:11]، فهذا يقتضي أن العبادة مربوطة بالإخلاص لله تعالى، ولا يمكن أن تتم إلا بذلك.

وعمل القلب ثلاث درجات:

الدرجة الأولى: هي النية، وهي الإرادة، وهي شرط لجميع الأعمال؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى)، فلا يمكن أن يقبل عمل، سواء كان بدنياً أو مالياً، وسواء كان من الواجبات أو من المندوبات إلا بهذه النية.

والدرجة الثانية من أعمال القلب: هي الإخلاص لله تعالى أي قصد وجهه الكريم بالعمل، وهي من الاعتقاد، وهي كذلك شرط لقبول العمل، فكل عمل لم يخلص فيه صاحبه لله فهو مردود عليه، فقد أخرج مسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه عز وجل: ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه).

والدرجة الثالثة من عمل القلب: هي حضور الإنسان له، وهي بإحسانه كالخشوع في الصلاة والخشوع في العبادات كلها، فهي نماء وزيادة، وإن كانت مشروطة في بعض العبادات، فقد لا تكون مشروطة في غيرها.

فالخشوع مثلاً واجب في الصلاة على الراجح، لكن لا يجب في كل ركنٍ من أركانها، بل يكفي إذا وقع في ركنٍ واحد، كما قال محمد مولود رحمه الله: وأي الأركان به كان كفى.

لكن الخشوع مطلوب أيضاً في الدروس، ومطلوب في طلب العلم، وحتى في مجرد المشي في الطريق يُطلب من الإنسان أن يكون خاشعاً، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وعليكم السكينة والوقار، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا)، وفي رواية: (وعليكم السكينة والوقار).

أما رواية: (وعليكم السكينة والوقار)، فالجملة حالية معناها: حال مشيكم عليكم السكينة والوقار، فالسكينة والوقار مبتدأ، والخبر عليكم جار ومجرور سد مسد الخبر، فالخبر متعلق بالمحذوف، أي: عليكم تستقر السكينة والوقار، وأما رواية النصب وهي: (وعليكم السكينة والوقار)، أي: والزموا السكينة والوقار، وهذه جملة معطوفة على الجملة السابقة التي هي: (إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون)، فعطف الأمر على النهي، فالنهي لا تأتوها وأنتم تسعون، والأمر وأتوها وعليكم السكينة والوقار، أي: والزموا السكينة والوقار، وعليكم هنا ليس جار ومجرور، وإنما هي اسم فعل بمعنى: الزموا.

وكل ذلك يقتضي أن الإنسان في مشيه إلى الصلاة ينبغي أن يلزم هذا الخشوع الذي يتضمن أمرين:

أحدهما: السكينة، وهي التأني وعدم العجلة، والوقار: وهو غض البصر، وخفض الصوت.

أما السكينة فهي بالتأني وعدم الفعل الذي لا يعني

وخفض صوت ثم غض البصر هو الوقار عندهم في الأشهر

فيطالب الإنسان بجمع هذا، وهذا هو الاقتصاد في المشي الذي أمر الله به في قوله: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ [لقمان:19]، فالقصد في المشي أن يظهر على الإنسان الخشوع بالتأني والوقار.

وبهذا يعلم أن الإخلاص لله سبحانه وتعالى من عمل القلب، وهو أشرف من عمل الجوارح كلها، وأنه من مقاصد الشرع المهمة، ولذلك رُبط به الثواب وبه أرسل الأنبياء، فالأنبياء جميعاً إنما أُرسلوا بالإخلاص لله، كما قال الله تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5]، وما أمروا: أي ما أمر الناس جميعاً، إلا ليعبدوا الله، أي: إلا بعبادته، (مخلصين له الدين): أي في حال إخلاصهم له الدين كله، وكذلك قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ [الزمر:11]، فهذا يقتضي أن العبادة مربوطة بالإخلاص لله تعالى، ولا يمكن أن تتم إلا بذلك.

تعريف الإخلاص لغة

والإخلاص في الأصل: مصدر أخلص الشيء إذا لم يجعل فيه شركاً، فيقال: ملك فلان كذا خالصاً له، أي: غير مشارك فيه، ومن ذلك قول الله تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الأعراف:32]، فهي للذين آمنوا في الحياة الدنيا مشروكين فيها، خالصة لهم يوم القيامة، لا يشركهم فيها من سواهم.

ولذلك فالدين لا بد أن يكون خالصاً لله سبحانه وتعالى وحده، ومن أخلصه له فلم يرد به غير وجه الله الكريم، ولم يرد بذلك رياءً ولا سمعة ولا قصد جاه ولا مال في هذه الحياة عند غير الله فهذا هو المخلص، ويسمى مخلَصاً أيضاً بصيغة اسم الفاعل وبصيغة اسم المفعول، فالمخلِص لأنه قد عمل ذلك فهو من عمله وكسبه، فذلك يُصاغ له منه الوصف فيقال: فلان مخلِص، وهو مخلَص لأن الله أخلصه لنفسه، فلم يجعل فيه شركاً لغيره، فلا يمكن أن يعمل الإنسان ذلك إلا بتوفيق الله، وقد قال الله تعالى: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:28-29]، ولهذا تقرءون في السبعية قول الله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصًا [مريم:51]، وفي القراءة السبعية الأخرى: إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا [مريم:51]، فهو مخلِص وهو مُخلَص، فقد أخلصه الله تعالى لنفسه، ولم يجعل فيه محلاً لغيره، فشغله به عمن سواه، وهو مخلِص لله لأنه قد اكتسب ذلك فتقرب إلى الله بالعمل خالصاً لوجه الله الكريم.

دخول الإخلاص في المأمورات والمنهيات

وهذا الإخلاص الذي أمر الله به يتشعب بتشعب المأمورات والمنهيات، فالمنهيات فيها إخلاص، والمأمورات فيها إخلاص، فالمنهيات مثلاً قد يتركها الإنسان، لكن لا يتركها إلا خوفاً من سطوة القانون، كالذي يترك أمراً ما؛ لأنه يخاف عقوبةً دنيوية ترتب عليه، فهذا لم يتركه مخلِصاً لوجه الله تعالى، وكذلك ما تركه الإنسان منها خشية المرض، كالذي يترك شرب الخمر لما يترتب على شربها من الأضرار، فهذا غير مخلِصٍ ولا يُثاب على عمله؛ لأنه لم يرد وجه الله، وإنما تركه؛ لأنه يخاف عقوبة وهي المرض، ومثل ذلك كل ترك لم يرد به صاحبه وجه الله تعالى، فهو من التروك التي ليس فيها إخلاص، ولذلك فكل تركٍ من التروك لا بد أن يكون مرتبطاً بالإخلاص بخلاف النية.

أقسام التروك التي يدخلها الإخلاص

فالتروك تنقسم إلى قسمين:

تروك مخصوصة بوقتٍ، فتحتاج إلى النية كالصوم، وتروك غير مخصوصة بالوقت، فلا تشترط فيها النية للامتثال ولكنها تزيد الثواب، كترك شرب الخمر، وترك الزنا، وترك قذف المحصنات الغافلات المؤمنات، وترك التولي من الزحف ونحو ذلك، فهذه التروك غير مخصوصة بوقت، فيمكن أن تتحقق من غير نية، فأنت الآن قد لا تكون نويت أن لا تفر من الزحف في عمرك؛ لأنك لم تدخل زحفاً قط، لكن قد حصل اجتناب ذلك بمجرد الترك ولو لم تنوِ هذا، ولكن نيتك تزيد ذلك ثواباً وتزيد عملك زكاءً فهذا الفرق، فإذاً الترك إذا كان مخصوصاً بوقت كالصوم، فهو ترك للأكل والشرب والجماع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، فهو مخصوص بوقت فيحتاج إلى النية؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له)، والترك الذي هو غير مخصوص بوقت كما ذُكر من التروك، لا يحتاج في أصل الاجتناب إلى النية، ولكنها تزيد ثوابه، بخلاف الإخلاص فهو مشروط لكل عملٍ، سواءً كان الترك مؤقتاً بوقت كالصوم أو كان غير مؤقت بوقت كترك شرب الخمر وترك التولي من الزحف وترك الزنا.. إلى آخره، فيحتاج في الإخلاص إلى كل ذلك.

الإخلاص في الأفعال والفرق بينه وبين النية

ومثلها الأفعال، فالأفعال كلها أيضاً يُحتاج فيها إلى الإخلاص، سواءً كانت من عمل القلب أو من عمل الجوارح أو كانت في المال، بخلاف النية فعمل القلب لا يُحتاج فيه إلى النية؛ لأن اشتراط النية فيه يقتضي التسلسل؛ لأن النية من عمل القلب، فلو شُرطت النية لعمل القلب لاشترطت النية للنية ثم لتلك النية نية أخرى، وهكذا حتى يقع التسلسل. فعمل القلب كله لا يُحتاج فيه إلى النية، بخلاف عمل الجوارح فأكثره يُحتاج فيه إلى النية كما ذكرنا سابقاً وبينا، وبعضه قد يُستغنى فيه عن النية كالعبادة في الغير، كغسل الميت لا يُحتاج فيه إلى نية مخصوصة، وكتطهير الثوب أو البدن أو المكان كطهارة الخبث كلها لا تحتاج إلى النية؛ لأنها من التعبدات المتعلقة بالغير، بخلاف طهارة الحدث فهي محتاجة إلى النية، فالتيمم إجماعي أيضاً لكن الوضوء هو محل الخلاف، فلذلك عند الحنفية أن الوضوء ليس من شرطه النية، ولكنها شرط عندهم للتيمم؛ لأنه اسمه القصد، والقصد هو النية، وشرط كذلك للغسل؛ لأنه لا يمكن أن يرفع الإنسان الحدث الأكبر إلا بالنية، فكذلك التعبدات التي هي متعلقة بالغير قد تكون النية في غير محلها فمحل النية في الأصل القلب أي: قلب الفاعل، ولكن الفاعل قد لا تصح منه النية كالصبي الصغير غير العاقل يُحرم عنه وليه والإحرام نية، فتكون النية في غير محلها الأصلي.

ومثل ذلك: الزوجة إذا كانت كتابيةً فحاضت فلا يحل وطؤها قبل غُسلها، والغسل من شرطه النية، ولكنها هي لا تنوي فينوي زوجها لها، ومثل ذلك: الزوجة المجنونة فلا يحل وطؤها بعد حيضها حتى تغتسل، وغُسلها من شرطه النية، والنية لا تتم منها؛ لأنها فاقدة العقل مرفوع عنها القلم، فينوي لها زوجها، فتكون النية في غير محلها.

أما الإخلاص فيشترط في جميع الأفعال، فكل فعلٍ سواءً كان قلبياً أو كان بدنياً أو تعلق بالمال لا بد أن يُخلص فيه لوجه الله الكريم، ولذلك فعموم الإخلاص ليس مثل غيره من عمومات عمل القلب؛ لأنه ملازم للإنسان في كل أموره وفي كل شئونه، فما شُرط في أصله لا يمكن أن يُقبل أصلاً بدونه، وما كان من العادات والأمور التي يفعلها الإنسان جبلّةً يقلبها الإخلاص، ويحولها إلى أن تكون عبادةً، فيكون سعي الإنسان كله عبادةً، وهذا مستوىً من مستويات أهل الإيمان يتحقق في أصحابه قول الله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162] لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ [الأنعام:163]، فيكون نوم الإنسان عبادةً، وأكله عبادةً، وشربه عبادةً، وراحته عبادةً، ولبسه عبادةً، ويكون كل تصرفه عبادةً لله تعالى؛ لأن محياه لله رب العالمين لا شريك له، ولذلك يقول أحد الدعاة رحمه الله: إن كثيراً من الناس يستهولون الموت لله رب العالمين، فأن يموت الإنسان شهيداً في سبيل الله هذا أمر شاق صعب، لكن الحياة لله أشق منه وأصعب، فالموت يمكن أن يصبر الإنسان دقيقة واحدة في وجه العدو ثم يموت في سبيل الله، لكن الحياة في سبيل الله يصبر فيها الإنسان على ذلك مدة عمره، فالشاق أن تكون حياتك لله رب العالمين لا شريك له.

والإخلاص في الأصل: مصدر أخلص الشيء إذا لم يجعل فيه شركاً، فيقال: ملك فلان كذا خالصاً له، أي: غير مشارك فيه، ومن ذلك قول الله تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الأعراف:32]، فهي للذين آمنوا في الحياة الدنيا مشروكين فيها، خالصة لهم يوم القيامة، لا يشركهم فيها من سواهم.

ولذلك فالدين لا بد أن يكون خالصاً لله سبحانه وتعالى وحده، ومن أخلصه له فلم يرد به غير وجه الله الكريم، ولم يرد بذلك رياءً ولا سمعة ولا قصد جاه ولا مال في هذه الحياة عند غير الله فهذا هو المخلص، ويسمى مخلَصاً أيضاً بصيغة اسم الفاعل وبصيغة اسم المفعول، فالمخلِص لأنه قد عمل ذلك فهو من عمله وكسبه، فذلك يُصاغ له منه الوصف فيقال: فلان مخلِص، وهو مخلَص لأن الله أخلصه لنفسه، فلم يجعل فيه شركاً لغيره، فلا يمكن أن يعمل الإنسان ذلك إلا بتوفيق الله، وقد قال الله تعالى: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:28-29]، ولهذا تقرءون في السبعية قول الله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصًا [مريم:51]، وفي القراءة السبعية الأخرى: إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا [مريم:51]، فهو مخلِص وهو مُخلَص، فقد أخلصه الله تعالى لنفسه، ولم يجعل فيه محلاً لغيره، فشغله به عمن سواه، وهو مخلِص لله لأنه قد اكتسب ذلك فتقرب إلى الله بالعمل خالصاً لوجه الله الكريم.

وهذا الإخلاص الذي أمر الله به يتشعب بتشعب المأمورات والمنهيات، فالمنهيات فيها إخلاص، والمأمورات فيها إخلاص، فالمنهيات مثلاً قد يتركها الإنسان، لكن لا يتركها إلا خوفاً من سطوة القانون، كالذي يترك أمراً ما؛ لأنه يخاف عقوبةً دنيوية ترتب عليه، فهذا لم يتركه مخلِصاً لوجه الله تعالى، وكذلك ما تركه الإنسان منها خشية المرض، كالذي يترك شرب الخمر لما يترتب على شربها من الأضرار، فهذا غير مخلِصٍ ولا يُثاب على عمله؛ لأنه لم يرد وجه الله، وإنما تركه؛ لأنه يخاف عقوبة وهي المرض، ومثل ذلك كل ترك لم يرد به صاحبه وجه الله تعالى، فهو من التروك التي ليس فيها إخلاص، ولذلك فكل تركٍ من التروك لا بد أن يكون مرتبطاً بالإخلاص بخلاف النية.


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4810 استماع
بشائر النصر 4287 استماع
أسئلة عامة [2] 4131 استماع
المسؤولية في الإسلام 4057 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 3997 استماع
نواقض الإيمان [2] 3946 استماع
عداوة الشيطان 3932 استماع
اللغة العربية 3930 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3906 استماع
القضاء في الإسلام 3896 استماع