استغلال الوقت [1]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بُعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى أقام الحجة على الثقلين بتعاقب الليل والنهار، وامتن عليهم بهذه النعمة العظيمة، فقد قال جل شأنه: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً [الفرقان:61-62].

والحجة البالغة على الثقلين الإنس والجن إنما هي بما أتاح لهم من الفرص، وأقام عليهم من الحجة ببعثة الرسل، وتنزيل الكتب وإقامة براهين العقل، وما يريهم في الآفاق من آياته الدالة على وحدانيته وصدق ما جاء في كتابه، وقد قال في ذلك: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت:53]؛ وذلك لتآزر الآيات المذكورة التي هي القرآن، والآيات المنظورة التي هي آيات هذا الكون وبدائع صنع الله تعالى فيه، وتعاقب الليل والنهار فيه من إقامة الحجة الشيء الكثير، فلو كان عمر الإنسان وحدة واحدة لما استطاع أن يعتبر ولا أن يتذكر، ولا أن يستغلها؛ لأن استغلالها وهي فرصة واحدة شاقة به، ويصعب عليه النجاح فيه، أما عند إتاحة الفرصة بتعاقب الليل والنهار، وتقلبهما وتكوير كل واحد منهما على الآخر، يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ [الزمر:5]، فإنه بذلك إذا لم توافقه بيئة أو لم يوافقه ظرف استطاع التحول وينتفع ويعتبر حينئذٍ، وبهذا يعلم أن نعمة الزمان هي مثل نعمة المكان، فكما أن الأمكنة متفاوتة، وأن حاجة الناس إلى تفاوتها قائمة، فمن البلاد ما هو حار دائماً ومنها ما هو بارد دائماً، ومنها ما يتعاقب عليه الحر والبرد، ومنها ما يكون متوسطاً، ومنها ما تلائم طبيعته بعض الناس، ومنها ما تلائم طبيعته آخرين، وكل ذلك بتدبير الله سبحانه وتعالى لهذا الكون، فكذلك الزمان تختلف أوقاته وتتناسب ظروفه مع أنواع العمل، فلما كان عمل الإنسان منوعاً، وأساسه بابان، أحدهما: حسنة المعاد، والثاني: درهم المعاش، احتاج الإنسان إلى وجود نوعين من وحدات الزمن وهما الليل والنهار، فالليل لمن أراد أن يقوم ويتوب وينيب إلى الله جل شأنه، ويتذكر آيات الله، ويتذكر نعمه عليه.

ويتذكر أيضاً الوظائف التي وظف فيها، وما قام به منها وما فرط فيه، فما قام به هو نعمة أنعم الله بها عليه، ووفقه لها، وما فرط فيه هو ذنب ارتكبه من تلقاء نفسه، وهو محوج إلى التوبة قبل أن يفوت الأوان، وقبل أن يحل عليه سخط الله، ولولا نعمة الليل لما تذكر الإنسان ذلك، لو طال النهار فدام أزمنة طويلة دون تقلب، فعاش الناس في ضياء مستمر، لكان نشاط خلايا المخ، ونشاط الأعصاب مستمراً، فيكون الإنسان لا يجد وقتاً للراحة ولا للهدوء، ولو دام الليل سرمداً فاستمر الظلام على الناس، كذلك لاستمرت خلايا المخ نائمة، واستمرت الأعصاب كذلك في هدوء، ولم يجد الإنسان نشاطاً كالذي يجده في النهار، ولذلك امتن الله بهما معاً، وبين أنه لو جعل واحداً منهما سرمداً مستمراً لكان ذلك خطراً على البشرية.

ومن هنا: فإن الله سبحانه وتعالى نوع وحدات الزمن، فعمر الإنسان فيه مرحلة الضعف والصبا، ثم بعد ذلك مرحلة القوة والأيد والنشاط والشباب، ثم تبدأ مرحلة الكهولة والكبر، ثم يصل إلى الضعف والشيب، ثم يصل إلى الموت، هذه المراحل كلها فيها عبرة وتذكير، ولذلك يتفاوت الناس فيها، فمن غلبه هواه وشيطانه في شبابه فكان من أهل النزغ والطيش، فالفرصة متاحة له إذا بلغ سن رشده وتم أشده أن يتوب إلى الله وينيب، فإذا تجاوز ذلك، وقد قصر وندم، فالفرصة أيضاً متاحة أمامه في حال شيبته بإنابته وتوبته، لكن إذا جاء الموت انقطع الأمل، ولم يبقَ للإنسان عودة إلى هذه الحياة، سيتمنى ذلك لا محالة؛ لأنه عندما يوضع في قبره: قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ[المؤمنون:99-100]؛ ولذلك قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ* وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[المنافقون:9-11].

لكن هذه الذكرى إنما ينتفع بها أولو الألباب، وذلك في قسمين:

أهل العقل والتدبر

القسم الأول: من كان من أهل التدبر، فينتفع بعقله.

والقسم الثاني: من كان من أهل السماع فينتفع بكلام غيره، ينتفع بوعظ غيره، وقد بين الله سبحانه تعالى هاتين الدرجتين في سورة (ق): لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37]، من كان له قلب هو صاحب التدبر الذي يتفهم بنفسه، فتقوم عليه الحجة البالغة من تلقاء نفسه، فينيب ويتوب وحده وعندما يذكر الله خالياً فتفيض عيناه، وهو مع الله سبحانه وتعالى بعقله الذي قامت به الحجة على نفسه، وأول بصيرة بذلك العقل.

أهل السماع الحاضرون

القسم الثاني: من ألقى السمع وهو شهيد، فيلقي السمع إلى غيره ويشاهد ذلك، فالذين يلقون السمع منهم من يلقيه فلا ينتفع بما يسمع، ولا يعتبر به؛ لأن أذنه غير أمينة، فلا تؤدي ما تسمعه إلى القلب، والقلوب يطبع عليها فيحال بينها وبين ما تنقله الآذان، ومنهم من يسمع كذلك، ولكن السماع مقيد بوقت، فيعتبر في وقت السماع، فإذا رأى جنازة تدخل باب المغسلة الآن أو تنقل منها تذكر الموت واعتبر، ولكنه سرعان ما ينسى ذلك فينغمس فيما كان فيه من ملذات الحياة الدنيا على شهواتها، وينسى العرض على الله والوقوف بين يديه، وينسى وزن أعماله في الكفتين بين يديه، والميزان له كفتان ولسان: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ [الأعراف:9]، لكن من ألقى السمع وهو شهيد، أي: حاضر لما يسمع، فهو الذي ينتفع بعقل غيره، وينتفع بموعظته وذكراه.

فإذا ألقى سمعه دله ما يسمعه على ما فات من عمره وما فرط فيه بجنب الله، وتذكر أن عليه أن يغير مجرى حياته، وأن يبادر بالتوبة قبل الختام، فإذا كان المشوار طويلاً وبذل في شهواته وملذاته كثيراً من أوقاته، ولم يبقَ باب فتنة إلا طرقه، ولم تبقَ معصية من معاصي الله إلا نال منها لذته ونصيبه، ولكن أراد الله به الخير فختم له بخاتمة السعادة، فإنه يتوب وينوب إلى الله سبحانه وتعالى، ولحظة واحدة من عفو الله وتوبته، تهدم البناء الذي بناه لمدة سنوات طويلة، ولذلك فإن الذنوب هي حصن إبليس، يبنيه على الإنسان، وفي كل يوم يزيده طبقة أو طبقتين أو ثلاثاً أو أربعاً، بحسب ما يرتكبه الإنسان من السيئات، فإذا طال البنيان وتراكم طمع إبليس في سوء خاتمة هذا الإنسان؛ لأنه قد أحاطه بسور حصين لا يستطيع تهديمه، وبذلك يجتهد إبليس في أن يبقى في غفلته سادراً إلى أن يأتي موعده مع ملك الموت، لكن إذا أراد الله به الخير، فدله على طريق الاستقامة والتوبة، تاب إلى الله سبحانه وتعالى، وإذا تقبل الله منه فإن لحظة واحدة من عفو الله تنسف ذلك البناء بكامله، وتزيله فيأسف إبليس ويقول: يا ويلتاه! بنيت هذا البناء من المعصية لسنوات طويلة، فجاءت لحظة عفو من عند الله فهدمته وأزالت أساسه، فلذلك إذا وفق الإنسان لهذه التوبة فإن حياته ستتغير بالكلية.

القسم الأول: من كان من أهل التدبر، فينتفع بعقله.

والقسم الثاني: من كان من أهل السماع فينتفع بكلام غيره، ينتفع بوعظ غيره، وقد بين الله سبحانه تعالى هاتين الدرجتين في سورة (ق): لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37]، من كان له قلب هو صاحب التدبر الذي يتفهم بنفسه، فتقوم عليه الحجة البالغة من تلقاء نفسه، فينيب ويتوب وحده وعندما يذكر الله خالياً فتفيض عيناه، وهو مع الله سبحانه وتعالى بعقله الذي قامت به الحجة على نفسه، وأول بصيرة بذلك العقل.

القسم الثاني: من ألقى السمع وهو شهيد، فيلقي السمع إلى غيره ويشاهد ذلك، فالذين يلقون السمع منهم من يلقيه فلا ينتفع بما يسمع، ولا يعتبر به؛ لأن أذنه غير أمينة، فلا تؤدي ما تسمعه إلى القلب، والقلوب يطبع عليها فيحال بينها وبين ما تنقله الآذان، ومنهم من يسمع كذلك، ولكن السماع مقيد بوقت، فيعتبر في وقت السماع، فإذا رأى جنازة تدخل باب المغسلة الآن أو تنقل منها تذكر الموت واعتبر، ولكنه سرعان ما ينسى ذلك فينغمس فيما كان فيه من ملذات الحياة الدنيا على شهواتها، وينسى العرض على الله والوقوف بين يديه، وينسى وزن أعماله في الكفتين بين يديه، والميزان له كفتان ولسان: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ [الأعراف:9]، لكن من ألقى السمع وهو شهيد، أي: حاضر لما يسمع، فهو الذي ينتفع بعقل غيره، وينتفع بموعظته وذكراه.

فإذا ألقى سمعه دله ما يسمعه على ما فات من عمره وما فرط فيه بجنب الله، وتذكر أن عليه أن يغير مجرى حياته، وأن يبادر بالتوبة قبل الختام، فإذا كان المشوار طويلاً وبذل في شهواته وملذاته كثيراً من أوقاته، ولم يبقَ باب فتنة إلا طرقه، ولم تبقَ معصية من معاصي الله إلا نال منها لذته ونصيبه، ولكن أراد الله به الخير فختم له بخاتمة السعادة، فإنه يتوب وينوب إلى الله سبحانه وتعالى، ولحظة واحدة من عفو الله وتوبته، تهدم البناء الذي بناه لمدة سنوات طويلة، ولذلك فإن الذنوب هي حصن إبليس، يبنيه على الإنسان، وفي كل يوم يزيده طبقة أو طبقتين أو ثلاثاً أو أربعاً، بحسب ما يرتكبه الإنسان من السيئات، فإذا طال البنيان وتراكم طمع إبليس في سوء خاتمة هذا الإنسان؛ لأنه قد أحاطه بسور حصين لا يستطيع تهديمه، وبذلك يجتهد إبليس في أن يبقى في غفلته سادراً إلى أن يأتي موعده مع ملك الموت، لكن إذا أراد الله به الخير، فدله على طريق الاستقامة والتوبة، تاب إلى الله سبحانه وتعالى، وإذا تقبل الله منه فإن لحظة واحدة من عفو الله تنسف ذلك البناء بكامله، وتزيله فيأسف إبليس ويقول: يا ويلتاه! بنيت هذا البناء من المعصية لسنوات طويلة، فجاءت لحظة عفو من عند الله فهدمته وأزالت أساسه، فلذلك إذا وفق الإنسان لهذه التوبة فإن حياته ستتغير بالكلية.

الاعتبار بحال أهل الطاعة

ومن هنا: احتاج الإنسان إلى أن يشاهد عمل غيره، فالذين يراهم الإنسان إذا كان ذا قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، لا بد أن يعتبر من حالهم؛ لأنهم إما مقبل على الله، عرف الله جل جلاله فأقبل عليه، ونال لذة مناجاته وأنس لقائه، وصرف نعمة الله عليه فيما خلقت من أجله فوفق للطاعات، وهذا مجرد النظر إليه عبادة، كما قال تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [الكهف:28]، فقال: وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ [الكهف:28]، وهذا ليس فقط أمراً بمجرد النظر إليهم، بل هو أمر بإدمان النظر إليهم والاستمرار عليه.

الاعتبار بحال أهل المعصية

أو معرض عن الله، مقبل على ملذاته وشهواته، وقد أخذ إبليس بزمازمه وخطامه، ولم يتحرر طرفة عين، فهو في عبوديته لنفسه وهواه وشهواته، قد ألقى الزمام لـإبليس واتبع خطواته، فهو سائر في طريق الردى، كل يوم يزداد من الله بعدًا، وكل يوم تظلم بصيرته ويسود قلبه، وتنكت فيه النكات السوداء حتى يكون قلبه كالكوز مجخيًا مسودًا مربادًا لا ينجو من فتنة، ولا تنبو عنه فتنة أياً كانت، وهذا أيضًا حاله موعظة وذكرى وعبرة، فقد يكون تام العقل، وقد يكون مثقفًا يحمل شهادة عالية، وقد يكون من وسط اجتماعي رفيع، وقد يكون من وسط مادي ميسور، ولكنه مع ذلك أعمى الله قلبه، وأغفله عما خلق من أجله، فهو يسير فوق الأرض كما تسير الأنعام والبهائم، وحاله شر من حال البهائم والأنعام، فالبهائم عذابها إنما هو في هذه الحياة فقط، بما تلقاه؛ لأنها لم تكلف ولم تمتحن بتكاليف، ويوم القيامة تحشر لتقوم بها الحجة على غيرها، فمن كان يملك كثيرًا منها ولا يؤدي زكاته، بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها صغيرة ولا كبيرة، ليس فيها عقساء ولا عرجاء، تطؤه بأظلافها وتنهسه بأسنانها وتنطحه بقرونها، كلما مر عليه آخرها أعيد إليه أولها حتى يفصل بين الناس، وفي ذلك الوقت يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء، ثم بعد ذلك تذهب البهائم في الرياح، ولا يبقى لها أثر إلا ما كان منها معدًا لنعيم أهل الجنة أو لعذاب أهل النار فيبقى.

والإنسان الغافل عن الله سبحانه وتعالى حاله شر من حال الأنعام؛ لأن الحياة الدنيا تمتع فيها كما تتمتع الأنعام: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهمْ [محمد:12]، فالأنعام ليست النار مثوًى لها، وهؤلاء النار مثوًى لهم، فنعيمهم هو ما يقدم لهم في الحياة الدنيا؛ لأنهم يقال لهم يوم القيامة: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا [الأحقاف:20]، نسأل الله السلامة والعافية.

الاعتبار بحال المذبذبين

وإما متوسط يتذبذب، تارة هو مع الصالحين، فإذا سمع النداء جاء إلى المسجد وصلى، ولكن فيما بين الصلاتين يمارس الربا أو الكذب أو الغيبة أو النميمة أو سماع الفحشاء والمنكر، فهو تارة مع الصالحين وتارة مع من سواهم، وهذا التذبذب والتردد إنما هو بمثابة الذي يغزل ثم يعيد الغزل صوفًا بعد أن أتمه.

فهو يجتهد في عمل شاق، ويسعى لوصول البناء إلى تمامه، ثم يهدمه ثم يعود إليه من جديد:

متى يبلغ البنيان يومًا تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم

وهو بمثابة التي تنكث غزلها، فهي تشده وتجتهد وتتعب وتسهر، وتتعب نفسها وتفكيرها في إقامة غزلها ثم ترده وتنكثه بعد ذلك، فيكون عملها باطلًا، وهذا التذبذب فيه خطر عظيم على الإنسان لما فيه من ضياع الوقت والعمر، ولما فيه أيضًا من الإهانة والمشقة، فالإنسان لا هو استراح فأراح الآخرين من كده وتعبه، ولا هو عمل عملًا مستمرًا واستمر في طريقه فيقطع شوطًا منه، فهو دائمًا في مكانه يتعداه الآخرون، وتجدون هذا النوع من الناس: ينشأ ناشئ الفتيان فيجده قد سبقه إلى هذه الحياة، وقبل ميلاده كان من المصلين وكان من الصائمين في رمضان، وكان من الذاكرين في بعض الأحيان، ولكن يتعداه الجيل الناشئ، فيتقدم عليه في الإيمان، وزيادة التقوى والعلم والقرب من الله سبحانه وتعالى، ويبقى هو على الأثر، فدائمًا كلما تعداه جيل أنس بالجيل الذي بعده، فهذا النوع من الناس أيضًا موعظة وعبرة، وحاله غريب جدًا، فلذلك يعتبر الإنسان إذا ألقى السمع وهو شهيد بحال كل من يراه.

الاعتبار بحال من لا يعقل والجمادات

وبالإمكان أن يعتبر أيضًا بحال ما لا يعقل من الحيوان، وكذلك من الجمادات، فاعتباره وذكره فيها أمر عجيب جدًا، فقد كان الحسن البصري رحمه الله، يحفر قبرًا في بيته فإذا خلا بنفسه اضطجع فيه، ثم قرأ قوله تعالى: رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ[المؤمنون:99-100]، ويبكي ثم يقوم فيبادر العمل، فيكون هذا بمثابة الوقود الذي يكون انطلاقًا جديدًا في سرعته إلى الله سبحانه وتعالى وإقباله عليه؛ لأنه يتصور أنه قد وضع في القبر، وبدا له من الله ما لم يكن يحتسب، وقدم إلى ما قدم، ثم أتيحت له فرصة العود مرة أخرى إلى الحياة الدنيا بعد أن شاهد وأيقن، وبذلك يكون قد نال ما سيتمناه جميع الناس في المستقبل ولم ينالوه، والإنسان إذا كان عاقلًا فإن اعتباره بغيره واتعاظه بحالهم، وهو يرى كل يوم وفد الآخرة منهم من هو أكبر منه، ومنهم من هو أصغر، ومنهم من هو معاصر له، ومنهم من هو أعلم منه، ومنهم من هو أذكى منه، ومنهم من هو دونه، ويراهم جميعًا ينطلقون إلى ما هنالك، ولا يرجعون إلا عند النشور، فتلك عبرة للمعتبرين وذكرى للمتفكرين.

الاعتبار بمرور الأيام والسنين

وإذا أدرك الإنسان أنه في عمره يمضي عليه العقود، هذا عقد من الزمن أي: عشر سنوات تعقد فيها الأصابع فكملت، ثم يبدأ عقدًا جديدًا، قد لا يكمله، فإذا امتن الله عليه فأتمه، فبلغ عشرين سنة سيبدأ عقدًا جديدًا أيضًا، وإذا أذن له بإتمامه، وهكذا كل عقد هو طور من أطوار العمر ومحطة من محطاته، ثم في كل عقد من العقود أيضًا سنوات، والسنة فيها أربعة فصول، والفصل فيه شهور، والشهر فيه أيام وليالٍ، واليوم والليلة فيهما ساعات، والساعات فيها الثواني، وكل ذلك آيات من آيات الله، وعبر قائمة، فيحتاج الإنسان إذاً إلى أن يعتبر بهذه السنوات، والأيام والليالي، فنحن الآن في شهر رجب المحرم من هذا العام، وكم من إنسان شهده في العام الماضي، وهو الآن بين الجنادل والتراب، كم من إنسان أيضاً عاش في شهر رجب الآن وهو يعد نفسه لرمضان، ويتهيأ له، ولكنه لم يدركه، وكم من إنسان سيدركه لكن لم تتح له الفرصة في رجب القادم أبدًا، ولم يأتِ عليه إلا وقد بدا له من الله ما لم يكن يحتسب، ورأى ما هنالك.

ومن هنا: احتاج الإنسان إلى أن يشاهد عمل غيره، فالذين يراهم الإنسان إذا كان ذا قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، لا بد أن يعتبر من حالهم؛ لأنهم إما مقبل على الله، عرف الله جل جلاله فأقبل عليه، ونال لذة مناجاته وأنس لقائه، وصرف نعمة الله عليه فيما خلقت من أجله فوفق للطاعات، وهذا مجرد النظر إليه عبادة، كما قال تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [الكهف:28]، فقال: وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ [الكهف:28]، وهذا ليس فقط أمراً بمجرد النظر إليهم، بل هو أمر بإدمان النظر إليهم والاستمرار عليه.

أو معرض عن الله، مقبل على ملذاته وشهواته، وقد أخذ إبليس بزمازمه وخطامه، ولم يتحرر طرفة عين، فهو في عبوديته لنفسه وهواه وشهواته، قد ألقى الزمام لـإبليس واتبع خطواته، فهو سائر في طريق الردى، كل يوم يزداد من الله بعدًا، وكل يوم تظلم بصيرته ويسود قلبه، وتنكت فيه النكات السوداء حتى يكون قلبه كالكوز مجخيًا مسودًا مربادًا لا ينجو من فتنة، ولا تنبو عنه فتنة أياً كانت، وهذا أيضًا حاله موعظة وذكرى وعبرة، فقد يكون تام العقل، وقد يكون مثقفًا يحمل شهادة عالية، وقد يكون من وسط اجتماعي رفيع، وقد يكون من وسط مادي ميسور، ولكنه مع ذلك أعمى الله قلبه، وأغفله عما خلق من أجله، فهو يسير فوق الأرض كما تسير الأنعام والبهائم، وحاله شر من حال البهائم والأنعام، فالبهائم عذابها إنما هو في هذه الحياة فقط، بما تلقاه؛ لأنها لم تكلف ولم تمتحن بتكاليف، ويوم القيامة تحشر لتقوم بها الحجة على غيرها، فمن كان يملك كثيرًا منها ولا يؤدي زكاته، بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها صغيرة ولا كبيرة، ليس فيها عقساء ولا عرجاء، تطؤه بأظلافها وتنهسه بأسنانها وتنطحه بقرونها، كلما مر عليه آخرها أعيد إليه أولها حتى يفصل بين الناس، وفي ذلك الوقت يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء، ثم بعد ذلك تذهب البهائم في الرياح، ولا يبقى لها أثر إلا ما كان منها معدًا لنعيم أهل الجنة أو لعذاب أهل النار فيبقى.

والإنسان الغافل عن الله سبحانه وتعالى حاله شر من حال الأنعام؛ لأن الحياة الدنيا تمتع فيها كما تتمتع الأنعام: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهمْ [محمد:12]، فالأنعام ليست النار مثوًى لها، وهؤلاء النار مثوًى لهم، فنعيمهم هو ما يقدم لهم في الحياة الدنيا؛ لأنهم يقال لهم يوم القيامة: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا [الأحقاف:20]، نسأل الله السلامة والعافية.


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4830 استماع
بشائر النصر 4289 استماع
أسئلة عامة [2] 4133 استماع
المسؤولية في الإسلام 4061 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 4000 استماع
نواقض الإيمان [2] 3947 استماع
عداوة الشيطان 3934 استماع
اللغة العربية 3931 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3908 استماع
القضاء في الإسلام 3897 استماع