مكانة الجهاد


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

أطراف الصراع بين الحق والباطل

فإن الجهاد هو بذل الجهد لإعلاء كلمة الله وإظهار دينه. (بذل الجهد) أي: بذل الإنسان طاقته من أجل إعلاء كلمة الله وإظهار دينه، وقد امتحن الله الناس بصراع أبدي مستمر بين الحق والباطل على هذه الحياة، وهذا الصراع هو بين حزبين هما: حزب الله وحزب الشيطان؛ فحزب الله يريد إعلاء كلمة الله وإعزاز دينه وإظهاره، وحزب الشيطان يريد تحقيق يمين إبليس التي أقسمها بعزة الله ليغوين أكثر أهل الأرض، وهذه اليمين قد أقسمها إبليس وأكد قسمه، وأخبر الله أنها قد تحققت وصدقت في أكثر البشرية، فقال تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ المُؤْمِنِينَ[سبأ:20]، وفي القراءة الأخرى التي تقرءون بها: (ولقد صَدَقَ عليهم إبليس ظنه) ومعناهما واحد، أي: حقق إبليس ظنه حين أقسم بعزة الله ليغوينهم، إِلَّا فَرِيقًا مِنَ المُؤْمِنِينَ[سبأ:20].

مدار الصراع بين الحق والباطل

ومدار هذا الصراع ومحوره هو البشر، فحزب الله يريد هداية أكبر قدر ممكن من البشر، وحزب الشيطان يريد إغواء أكبر قدر ممكن من البشر، ولا يمكن أن يريد أحد الحزبين حسم هذه المعركة وإنهاءها بالكلية؛ فحزب الله لا يريد حسم المعركة والقضاء على حزب الشيطان بالكلية؛ لأن هذا من المستحيلات؛ فالله تعالى سير الدنيا كلها على وفق السنن، ومن سنة الله سنة التدافع بين الحق والباطل، وهذه السنة هي مصلحة الأرض؛ فلو توقف هذا الصراع لحظة واحدة لفسدت الأرض، وذلك أن الله جعل الدنيا دار امتحان ولا جزاء، فلو تمحض عليها الحق وحده لاستحق أهلها أن يدخلوا الجنة وأن يخرجوا إلى دار الجزاء؛ لأنهم قد نجحوا في الامتحان، ولو تمحض عليها الباطل وحده؛ لاستحق أهلها سخط الله ومقته؛ ( إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وذلك حين يتمحض الباطل على الأرض ).

الحياد في معارك صراع الحق والباطل

فلهذا لا بد أن يبقى هذا الصراع مستمراً موجوداً ويبقى على المؤمن أن يحدد مكانه من هذا الصراع، فتجاهله لا يغني شيئاً، لا بد أن يعرف الإنسان أن الصراع موجود، وليحدد هو مكانه منه؛ فمن لم يعرف موقعه ومحله من الإعراب لا يمكن أن يشعر بمسئوليته وماذا ينتظره وماذا عليه أن يقوم به، لكن إذا حدد الإنسان موقعه وعرف أنه من حزب الله، وأنه لا يرضى بأن يكون في الكيول، بل يريد أن يكون في مقدمة الصفوف، ويريد أن يتعجل إلى الله ويقول: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى[طه:84]؛ فهذا الذي يستطيع أن يضحي ويبذل، أما من سواه فسينشغل بما ينشغل به حزب الشيطان؛ فمن كان محايداً في هذه المعركة فهو من حزب الشيطان لا محالة، فكل محايد في المعركة بين الحق والباطل فهو من حزب الشيطان؛ ولذلك قال الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا[النساء:76]، فلا يمكن أن يقول الإنسان: أنا معتزل لهذه المعركة، لا علي ولا لي، نعم؛ يمكن أن يضعف في بعض الأحيان فيتصور أنه غير داخل في البيعة التي أخذها الله وأكدها في القرآن والتوراة والإنجيل، وهي في رقاب كل المؤمنين، وقال الله فيها: إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ المُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ[التوبة:111-112]؛ فهذه الآية الثانية بينت مضمون البيعة، أي: المطلوب أن تفعله في هذه البيعة، التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ المُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ[التوبة:112]، فهذه الصفات لا بد من تحقيقها قبل الجهاد، وهي الإعداد له، والإعداد واجب لقول الله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ[الأنفال:60]، والجهاد ذروة سنام الإسلام؛ فلا يمكن أن يصل إليه من قفز بعض المراحل أو تعداها؛ فلا بد أولاً أن يكون الإنسان متقناً للصلاة، فالإنسان الذي لا يتقن الصلاة كيف يتقن الجهاد؟! ولا بد أن يكون مؤدياً للزكاة، ولا بد أن يكون عارفاً لأحكامه الخاصة به، ولا بد أن يكون صائماً لرمضان ويحج البيت إن استطاع إليه سبيلاً، حتى يكون مجاهداً؛ لأن الجهاد ذروة سنام الإسلام، ولا يصل إليه إلا من مر بما دونه من أركان الإسلام وشعائره.

فإن الجهاد هو بذل الجهد لإعلاء كلمة الله وإظهار دينه. (بذل الجهد) أي: بذل الإنسان طاقته من أجل إعلاء كلمة الله وإظهار دينه، وقد امتحن الله الناس بصراع أبدي مستمر بين الحق والباطل على هذه الحياة، وهذا الصراع هو بين حزبين هما: حزب الله وحزب الشيطان؛ فحزب الله يريد إعلاء كلمة الله وإعزاز دينه وإظهاره، وحزب الشيطان يريد تحقيق يمين إبليس التي أقسمها بعزة الله ليغوين أكثر أهل الأرض، وهذه اليمين قد أقسمها إبليس وأكد قسمه، وأخبر الله أنها قد تحققت وصدقت في أكثر البشرية، فقال تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ المُؤْمِنِينَ[سبأ:20]، وفي القراءة الأخرى التي تقرءون بها: (ولقد صَدَقَ عليهم إبليس ظنه) ومعناهما واحد، أي: حقق إبليس ظنه حين أقسم بعزة الله ليغوينهم، إِلَّا فَرِيقًا مِنَ المُؤْمِنِينَ[سبأ:20].

ومدار هذا الصراع ومحوره هو البشر، فحزب الله يريد هداية أكبر قدر ممكن من البشر، وحزب الشيطان يريد إغواء أكبر قدر ممكن من البشر، ولا يمكن أن يريد أحد الحزبين حسم هذه المعركة وإنهاءها بالكلية؛ فحزب الله لا يريد حسم المعركة والقضاء على حزب الشيطان بالكلية؛ لأن هذا من المستحيلات؛ فالله تعالى سير الدنيا كلها على وفق السنن، ومن سنة الله سنة التدافع بين الحق والباطل، وهذه السنة هي مصلحة الأرض؛ فلو توقف هذا الصراع لحظة واحدة لفسدت الأرض، وذلك أن الله جعل الدنيا دار امتحان ولا جزاء، فلو تمحض عليها الحق وحده لاستحق أهلها أن يدخلوا الجنة وأن يخرجوا إلى دار الجزاء؛ لأنهم قد نجحوا في الامتحان، ولو تمحض عليها الباطل وحده؛ لاستحق أهلها سخط الله ومقته؛ ( إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وذلك حين يتمحض الباطل على الأرض ).

فلهذا لا بد أن يبقى هذا الصراع مستمراً موجوداً ويبقى على المؤمن أن يحدد مكانه من هذا الصراع، فتجاهله لا يغني شيئاً، لا بد أن يعرف الإنسان أن الصراع موجود، وليحدد هو مكانه منه؛ فمن لم يعرف موقعه ومحله من الإعراب لا يمكن أن يشعر بمسئوليته وماذا ينتظره وماذا عليه أن يقوم به، لكن إذا حدد الإنسان موقعه وعرف أنه من حزب الله، وأنه لا يرضى بأن يكون في الكيول، بل يريد أن يكون في مقدمة الصفوف، ويريد أن يتعجل إلى الله ويقول: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى[طه:84]؛ فهذا الذي يستطيع أن يضحي ويبذل، أما من سواه فسينشغل بما ينشغل به حزب الشيطان؛ فمن كان محايداً في هذه المعركة فهو من حزب الشيطان لا محالة، فكل محايد في المعركة بين الحق والباطل فهو من حزب الشيطان؛ ولذلك قال الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا[النساء:76]، فلا يمكن أن يقول الإنسان: أنا معتزل لهذه المعركة، لا علي ولا لي، نعم؛ يمكن أن يضعف في بعض الأحيان فيتصور أنه غير داخل في البيعة التي أخذها الله وأكدها في القرآن والتوراة والإنجيل، وهي في رقاب كل المؤمنين، وقال الله فيها: إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ المُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ[التوبة:111-112]؛ فهذه الآية الثانية بينت مضمون البيعة، أي: المطلوب أن تفعله في هذه البيعة، التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ المُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ[التوبة:112]، فهذه الصفات لا بد من تحقيقها قبل الجهاد، وهي الإعداد له، والإعداد واجب لقول الله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ[الأنفال:60]، والجهاد ذروة سنام الإسلام؛ فلا يمكن أن يصل إليه من قفز بعض المراحل أو تعداها؛ فلا بد أولاً أن يكون الإنسان متقناً للصلاة، فالإنسان الذي لا يتقن الصلاة كيف يتقن الجهاد؟! ولا بد أن يكون مؤدياً للزكاة، ولا بد أن يكون عارفاً لأحكامه الخاصة به، ولا بد أن يكون صائماً لرمضان ويحج البيت إن استطاع إليه سبيلاً، حتى يكون مجاهداً؛ لأن الجهاد ذروة سنام الإسلام، ولا يصل إليه إلا من مر بما دونه من أركان الإسلام وشعائره.

ثم بعد هذا لا بد أن نعلم أن الجهاد هو أشق امتحان من امتحانات الناس في الأرض؛ لأنه يقتضي أن يبذل الإنسان كل جهده من أجل إعلاء كلمة الله، فالإنسان قد يمتحن امتحاناً سهلاً، وذلك من سنة الله في التدرج في التشريع؛ كما قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا * أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ المَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ[النساء:77-78].

الخوف من الموت

فالإنسان قد يحجزه عن أداء الحق الذي عليه بعد قناعته به الخوف، فيكون ممن يخاف الموت، وهذا الخوف رده الله هنا بقوله: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ المَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ[النساء:78]؛ فموتة كتبها الله على كل إنسان لا بد أن ينالها.

ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد

هو الموت ما منه ملاذ ومهرب إذا حط ذا عن نعشه ذاك يركب

لا الموت محتقر الصغير فعادل عنه ولا كبر الكبير مهيب

فالجميع لا بد أن ينال الموتة التي كتبت له، ولا يمكن أن يتأخر الأجل بالجبن، ولا يمكن أن يتعجل الأجل بالشجاعة؛ فأجل الإنسان محدد وقد كتب وهو جنين في بطن أمه؛ كما في حديث ابن مسعود في الصحيحين: ( حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد )؛ فكل ذلك قد كتب، ولا يمكن أن يتغير فيما بعد.

وقد يخيل إلى الإنسان أن الذي يمنعه من أداء الحق الذي عليه هو خوفه من المخلوقين؛ فيتذكر ما لدى أعداء الله وحزب الشيطان من أنواع وسائل الإرهاب والقوى؛ فيتذكر السجون والمشانق والطائرات والدبابات والصواريخ العابرة للقارات وغير ذلك، لكن هذا الخوف وهمي، رده الله على أصحابه بقوله: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[آل عمران:175]، فهذا الخوف يقابل الخوف من الله، لا بد أن تتذكر من الذي يملك السموات السبع والأرضين السبع وهن في قبضة يمينه، والقلوب كلها بين إصبعين من أصابعه، ولا يخطر في الوجود خطرة ولا تقطر من البحر قطرة إلا بعلمه وإرادته، إنه الله وحده، لا معقب لحكمه، من سواه لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم حياة ولا موتاً ولا نشوراً؛ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ[الحج:73-74]؛ ولذلك فإن الله جعل هذا الخوف مقابلاً لخوفه، وهما كفتا ميزان؛ فاختر أي الكفتين أرجح أن تخاف الله المهيمن القيوم، ديان السموات والأرض، الجبار، الملك الديان، أو أن تخاف مخلوقاً ضعيفاً مسكيناً لا يملك شيئاً من أمور الدنيا، لا يملك قطميراً فما دونه! أيهما أحق أن يخاف؟ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا[المائدة:44]، وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ[الأحزاب:37].

فهذا الخوف إذاً مردود على أصحابه.

وقوله تعالى: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ[آل عمران:175]، أي: ما تشعرون به من الخوف والجبن إنما هو من إلقاء الشيطان، يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ[آل عمران:175]، أي: يحيطهم بهالة من الخوف تجعلكم تخافونهم، والواقع أن ذلك من كيد الشيطان وكيده ضعيف؛ فلذلك قال: فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[آل عمران:175].

الخوف من التشويه والإشاعات

ومن أنواع الخوف كذلك التي تحول دون القيام بحق هذه البيعة: خوف الإنسان من التشويه؛ أن تلصق به التهم والأوصاف، وأن يذكر بين الناس بهذه الأوصاف التي يروج الإعلام بتشويهها؛ أصولي، متطرف، متزمت، إرهابي، هذه أوصاف جعلها الإعلام أوصافاً مروعة؛ فيخشى كثير من الناس أن يوصف بها، والواقع أنها إنما هي امتحان وابتلاء في طريق الحق ومعلم من معالمه، وكل من سلك طريق الحق لا بد أن يصيبه ما أصاب الأنبياء من قبله، فلسنا أكرم على الله من نوح ولا من إبراهيم ولا من موسى و لا من محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أصابهم جميعاً ذلك، والله ديان السموات والأرض، المتصف بصفات الكمال، المنزه عن النقائص، زعم اليهود له صاحبة وولداً؛ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا[المائدة:64]، لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ[آل عمران:181]، هل ضر الله هذا التشويه شيئاً؟ أبداً، ولن يضره، وأنبياء الله الذين اصطنعهم على عينه واصطفاهم من خلقه ونقاهم من جميع الأقذار والأكدار ما منهم أحد إلا قيل فيه: مجنون، كاهن، ساحر، شاعر، طالب سلطة، كذاب؛ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ[الذاريات:53]، ولم يضر الأنبياء هذا التشويه شيئاً؟ وأنت يا عبد الله! حلقة واحدة من سلسلة فيها نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ومن معهم من المخلصين، وكل نكبة أصابت حلقة من حلقات السلسلة فستصيب السلسلة كلها، وأنا متأكد لو أن الإخوة الموجودين هنا في المسجد علموا أن مسماراً بباب المسجد قد داسه نوح برجله فأصابه وداسه إبراهيم برجله فأصابه وداسه محمد صلى الله عليه وسلم برجله فأصابه؛ لتنافسوا جميعاً في التبرك به؛ لأنه مسمار مبارك قد أصاب هؤلاء الأنبياء المباركين.

حقيقة طريق الحق والثبات

فإذاً النكبات التي تصيب الإنسان في طريق الحق هي نكبات مباركة أصابت من هو خير منا؛ ولذلك قال الله تعالى: الـم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ[العنكبوت:1-3]، وقال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ[البقرة:214]، ويقول تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ[آل عمران:142]، فإذاً لا بد أن يصيب السالكين لطريق الأنبياء بعض ما أصابهم، ولا يتصور أحد أنه سيعيش حياته دون أن يجد أية مضايقة وهو سالك لطريق الحق، هذا من المستحيل، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات )، وفي رواية: ( حجبت الجنة بالمكاره، وحجبت النار بالشهوات )، وصح عنه صلى الله عليه وسلم: ( أن الله عز وجل لما خلق الجنة جعل فيها من أنواع النعيم المقيم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فأمر جبريل فأطاف بها فقال: كيف وجدتها؟ فقال: وعزتك وجلالك لا يسمع بها أحد إلا دخلها. ثم خلق النار فجعل فيها من أنواع الأذى والعذاب مثل ذلك، فأمر جبريل فأطاف بها فقال: كيف وجدتها؟ فقال: وعزتك وجلالك لا يسمع بها أحد فيدخلها. ثم أمر بالجنة فحفت بالمكاره، فأمر جبريل فأطاف بها فقال: كيف وجدتها؟ فقال: وعزتك وجلالك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد. وأمر بالنار فحفت بالشهوات، وأمر جبريل فأطاف بها، فقال: كيف وجدتها؟ فقال: وعزتك وجلالك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد ).

فلذلك لا بد أن يدرك الإنسان أن الطريق غير مفروش بالورود، وإنما هو مفروش بالأشواك، والمؤمن فيه دائماً عرضة للمصائب، ( وأشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، وإذا أحب الله عبداً ابتلاه )، وهذا الابتلاء هو امتحان على طريق الحق، ومن نجح فيه فالدنيا ما تساوي شيئاً من عمره، وقد سمعتم عن أعمار الإنسان، فالعمر الدنيوي لا يساوي شيئاً منها، إنما هو كراكب استظل تحت شجرة، فمدة بقائه تحت الشجرة هي مدة عمره في هذه الحياة، وهذه لا تساوي شيئاً من حياته، لو أن أحدكم يمكث في المكتب خمس ساعات يومياً، وفي البيت عشر ساعات، وفي الأماكن الأخرى كل مكان يمكث فيه نصف ساعة حتى يكمل أربعاً وعشرين ساعة، أين سيضع وسائل الرفاه والراحة؟ هل سيضعها في المكان الذي يمكث فيه نصف ساعة فقط أو في المكان الذي يطيل فيه المكث؟ إنما يضعها في المكان الذي سيطيل فيه المكث؛ فلذلك المؤمن لا يبحث عن الراحة والرفاه والسلامة في هذه الحياة؛ لعلمه أنها أخطر مدده وهي شر مكان يقيم فيه، وإنما يريد الراحة والطمأنينة في جنات النعيم، يريدها في مستقر رحمة الله تعالى، فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ[القمر:55].

علو همة المؤمنين

ولهذا تتعلق أنفس المؤمنين بالفردوس الأعلى من الجنة، سقفه عرش الرحمن، وهم يعلمون ما هنالك من النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، ويعلمون أن أنعم أهل الدنيا حالاً من الكافرين يصبغ صبغة واحدة في النار فيقال: ( يا عبد الله! أرأيت خيراً قط؟ فيقول: وعزتك وجلالك ما رأيت خيراً قط )، الإنسان من أهل الدنيا الذي لم يصبه الصداع ولم يسمع كلمة يكرهها، ولم يواجه بأي شيء يغضبه، ولم يفكر بشيء إلا ناله، وهو في غاية الغنى والرفاهية يصبغ صبغة واحدة في النار فيقال: ( يا عبد الله! أرأيت خيراً قط؟ فيقول: وعزتك وجلالك ما رأيت خيراً قط! )، وأبأس أهل الدنيا حالاً ممن أصيب بكل الأمراض وأوذي في ذات الله وأخرج من مكانه، وسجن وعذب، ثم قتل وقطعت أعضاؤه يصبغ صبغة واحدة في الجنة فيقال: ( يا عبد الله! أرأيت شراً قط؟ فيقول: وعزتك وجلالك ما رأيت شراً قط! )، ولتنظروا إلى حال مصعب بن عمير الذي خرج مهاجراً، أخرج من مكة وهي أحب البلاد إليه طبعاً، وهي داره التي ولد فيها وتربى فيها يخرج منها مهاجراً في سبيل الله، ولا يملك إلا سيفه وبردة عليه، فيمكث ثلاث سنين في الجهاد في سبيل الله في المدينة؛ فيقتل يوم أحد ويمثل به، ويقول أصحابه: ( إذا غطينا رأسه بدت رجلاه، وإذا غطينا رجليه بدا رأسه، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نغطي رأسه وأن نجعل على رجليه من الإذخر )، بردة واحدة مدة ثلاث سنوات، ما له لباس سواها، ولا يملك غيرها؛ ومع ذلك إذا غطي بها رأسه بدت رجلاه، وإذا غطيت رجلاه بدا رأسه، هل ضره هذا شيئاً؟ أبداً! بل نال النعيم المقيم الخالد الذي لا يحول ولا يزول ولا يمل، كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا[البقرة:25]؛ ولذلك فلذات الجنة لا تنقطع، اللذة الأولى التي ينالها الإنسان عندما يصيبه شيء من روحها وريحانها تبقى معه ولو أتبعت بمليارات اللذات، فاللذة الأولى باقية والتي تليها باقية والتي تليها باقية، بينما لذات الدنيا لا تمكث إلا ثوان محصورة ثم تنقطع، وإذا بقي شيء من لذات الدنيا مع الإنسان أطول من ثوان محصورة سيمل هو.

أعجب ما في الدنيا أن أحب شيء إلى النفوس من لذاتها لا يستطيع الإنسان الصبر عليه، بل يمله غاية الملل، وانظروا إلى قوم اجتمعوا على طعام يحبونه غاية المحبة، وعندما يخلصون منه وينتهون، أليس يؤذيهم بقاؤه بين أيديهم؟ سيخرجونه ويغسلون أيديهم عنه وأفواههم، ولا يريدون بقاء رائحته معهم بوجه من الوجوه، هذا دليل على أن كل ما في الدنيا من الملذات مملول، بينما أهل الجنة: كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ[البقرة:25]؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يغفر للشهيد عند أول قطرة من دمه ويزوج بسبعين من الحور العين )، وهؤلاء نساء الجنة وصفهن النبي صلى الله عليه وسلم بالوصف العجيب؛ فقال: ( لو أن إحداهن أسفرت عن وجهها لأضاء لها ما بين المشرق والمغرب، ولو بصقت في البحر لصار عذباً من بصاقها، ويرى مخ ساقها من خارجه، وأهدابها كجناح النسر، وحاجبها كالهلال في الاستقواس والسعة )، لا يسمع منها الإنسان مكدراً ولا طلباً ولا لغواً في القول، ولا أذى أياً كان، لا يرى إلا ما يسره ولا يسمع إلا ما يسره، ولا يجد أي كدر.

فإذاً هذا النعيم المقيم لا شك أنه لا يوجد في هذه الدنيا وإنما يطلب في الدار الآخرة، والذي يريده لا بد أن يعلم أنه سيصيبه في المقابل أذى الدنيا؛ لأن الله لم يكن ليجمع على الإنسان نعيم الدنيا ونعيم الآخرة، هذا لا يمكن أن يجتمع؛ ولهذا قال الله تعالى: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ[البقرة:200-202]، ويقول تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا[الإسراء:18-19]، وقال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ[الشورى:20].

وبين الله سبحانه وتعالى حال الكفار في النار حين يقال لهم: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ[الأحقاف:20]، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تأكلوا في آنية الذهب والفضة ولا تشربوا في صحافهما؛ فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة )، فهذه الأواني إنما هي من زخارف الدنيا، فهي لأهل النار في الدنيا وللمؤمنين في الآخرة.

الخوف على المصالح

ثم كذلك من أنواع الخوف أن يخاف الإنسان على مصالحه فيحول ذلك بينه وبين نصرة الدين؛ فكثير من الناس لهم مصالح متوقعة أو مرجوة أو حاصلة وهم يخافون عليها، إما أن تكون هذه المصالح وظائف أو مكانة اجتماعية أو مالاً، أو غير ذلك؛ فهم يخافون على مصالحهم، لكن هذا الخوف وهمي أيضاً؛ لأن الإنسان العاقل إنما يعلم أن هذه المصالح جميعاً من عند الله لا من عند الناس، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللهِ[النحل:53]، وما آتاك الله هل تعلم له مانعاً؟ ( لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ[فاطر:2]، ( واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف ).

فلذلك لا بد أن يدرك الإنسان أن النعم التي يخاف عليها هي من عند الله لا من تلقاء نفسه ولا من كده، وأن الله هو القادر على إبقائها وتمتيعه بها، وإذا أراد أخذها فلا يمكن أن ترد عليه بوجه من الوجوه؛ ولهذا فإن الله تعالى قال معقباً على قصة قارون: فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ[القصص:81-83].

ضمان الله تحقيق مصالح المجاهد في سبيله

وقد ضمن الله سبحانه وتعالى لمن جاهد في سبيله تحقيق مصالحه وغناه عما فاته؛ ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( انتدب الله لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي أن أرجعه إلى المكان الذي خرج منه بما نال من أجر أو غنيمة أو أن أدخله الجنة )، فهذا انتداب من الله، أي: تعقد منه سبحانه وتعالى بذلك، والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ[التوبة:28]، وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً[التوبة:28] أي: فقراً، فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ[التوبة:28]، وهذا وعد الله، والله لا يخلف الميعاد، فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ[التوبة:28-29].

الخوف من مشقة التكاليف

كذلك من أنواع الخوف التي تحجز الإنسان عن القيام بهذا الحق الذي جعل الله عليه أن يخاف الإنسان من التكاليف، فكثير من الناس يخاف أن يتكلف تكاليف لا يطيقها، والواقع أن الإنسان لا يملك إلا نفسه وماله، وقد باعهما لله؛ إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهمْ[التوبة:111]، ففيم التكاليف التي تخاف منها؟ لا تكون التكاليف إلا في نفس أو مال، وقد بعتهما لله، فعلام الخوف إذاً؟! ليس لديك شيء تخاف فيه من التكاليف بعد النفس والمال.

نقص الثقة بالنفس

كذلك قد يحجز الإنسان عن القيام بهذا الحق نقص ثقته، وهذا أنواع؛ فمنه نقص الثقة بالنفس، أن يقول الإنسان: أنا ضعيف مسكين، واجباتي أكثر من أوقاتي، لدي ضيوف ولدي مرضى ولدي عوائل ولدي مشاريع، وأنا جبان.. إلى آخره، وهذه الأعذار كلها تزول يوم القيامة، فيوم القيامة ليس فيه أعذار، هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ * وَلا يُؤْذَنُ لَهمْ فَيَعْتَذِرُونَ[المرسلات:35-36]؛ ولذلك فإن الله تعالى قص علينا قصة شبان من قريش لما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم آمنوا به وصدقوه، واقتنعوا بصدق ما جاء به، لكنهم ضعفوا أمام الضغوط؛ فاحتقروا أنفسهم فكفروا، وهؤلاء منهم علي بن أمية بن خلف ، ومنهم عمارة بن الوليد بن المغيرة ، وقد أنزل الله فيهم قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا[النساء:97]، فهؤلاء لم يعذرهم الله مع أنهم اعتذروا بالاستضعاف، قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ[النساء:97]، فلم يقبل الله منهم هذا العذر.

فلذلك لا بد أن يعرف الإنسان أنه لا يكلف إلا ما يطيق؛ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا[الطلاق:7]، لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا[البقرة:286]، وعلى هذا فعليه أن يقوم بما يطيق وما يستطيع، وأنتم تقرءون قول الله تعالى في قصة موسى عليه السلام: قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ[المائدة:23]، وهنا في قوله: قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ[المائدة:23] اختلف أهل التفسير؛ فقالت طائفة: الَّذِينَ يَخَافُونَ[المائدة:23]: هم اليهود، أي: قال رجلان من اليهود، واليهود دائماً هم أهل الذلة والمسكنة، وقد كتب الله عيلهم الخوف، أي: قال رجلان من اليهود، أنعم الله عليهما بالتوفيق، وقيل: المعنى: قال رجلان من الذين يخافون الله، أي: يخافون الله عز وجل فآثروا خوف الله على خوف المخلوق؛ فلذلك وفقهم الله بهذا الرأي، ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ[المائدة:23].

نقص الثقة بالمستقبل

كذلك من نقص الثقة نقص الثقة بالمستقبل، فكثير من الناس يرى انتفاشة الباطل وانتفاخته، ويظن أن الأمر لا يزداد إلا شدة، وأن أهل الباطل لا يزدادون إلا علواً وتجبراً وتكبراً، ولا يتوقع أبداً هزيمة لهم، يقول: مكثنا حتى الآن ثلاثة وسبعين سنة وليس للمسلمين خليفة، وقد تفرقت الدول الإسلامية وأصبحت كل دولة ترعى حدوداً خاصة بها، ورأينا الاتحاد الأوروبي، وأوروبا كل يوم تزداد قوة، ورأينا كذلك قوة أمريكا وما أوتيت من أنواع القوى، فمتى يكون للمسلمين من القوة ما يستطيعون به مقابلة هؤلاء الأعداء.

إن هذا النوع من الهزيمة سببه الاستعجال؛ فالإنسان الذي يتذكر سنن التاريخ ويتذكر ما حصل في الماضين لا بد أن يستحضر ما أملى الله علينا في سورة القمر؛ فالله سبحانه وتعالى قص علينا الطريقة التي أهلك بها الذين كذبوا نوحاً حين أمر السماء فانفتحت أبوابها بالماء المنهمر، وأمر الأرض فتفجرت عيوناً فالتقى الماء على أمر قد قدر، وقص علينا الطريقة التي أهلك بها الذين كذبوا هوداً حين سخر عليهم الريح العقيم ثمانية أيام حسوماً، وقص علينا الطريقة التي أهلك بها الذين كذبوا صالحاً حين أرسل عليهم الصيحة فشقت أشغفة قلوبهم، وقص علينا الطريقة التي أهلك بها الذين كذبوا لوطاً حين أرسل عليهم الحاصب فحمل قريتهم حتى سمع أهل السماء أصوات كلابهم، ثم ردها على الأرض، وقص علينا الطريقة التي أهلك بها الذين كذبوا موسى حين أمر البحر فابتلعهم، قال بعد ذلك: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ[القمر:43]؛ هل الكفار الذين تعاصرونهم وترهبونهم خير من أولئكم؟ والجواب: لا، طبعاً، ليست أمريكا أقوى من عاد الذين قالوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً[فصلت:15]، ثم جاء الالتفات العجيب في الأسلوب، كان الخطاب لنا: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ[القمر:43]، ثم جاء الالتفات إلى خطاب الكفار مباشرة: أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ[القمر:43]، أم لكم أيها الكفار براءة في الزبر، أي: في الكتب المنزلة، هل عندكم براءة من الله أن لا يصيبكم بمثل ما أصاب به السابقين، فما أهون الأرض على الله إذا عصاه أهلها، الأرض كلها لا تساوي شيئاً من ملكوت الله، ولذلك أخرج مسلم في الصحيح وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله قيوم لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يرفع القسط ويخفضه، قد احتجب بسبعين حجاباً، حجاب نور وحجاب نار وحجاب نور وحجاب نار، لو كشف الحجاب عن وجهه لحظة، لأحرقت سبحات وجهه ما وصل إليه بصره من خلقه )، السبحات: الأنوار؛ فلذلك لا يعجزه أن يأمر الفضاء الخارجي بابتلاع ما فيه، وأن يأمر الأرض بابتلاع ما فيها والبر بابتلاع ما فيه والجو بابتلاع ما فيه والبحر بابتلاع ما فيه، لا يعجزه شيء من ذلك، فلذلك قال: أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ * أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ[القمر:43-44]، إذا كان المرجع الدعاية الإعلامية ويقولون: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ[القمر:44]، ما الحل؟ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ[القمر:45]؛ فهذه سنة الله الماضية: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ[القمر:45]، ومع ذلك ليس هذا جزاءهم، بل هذا من شؤم ذنبهم في الحياة الدنيا، والجزاء كله أخروي؛ فلذلك قال: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ[القمر:46].

فالإنسان قد يحجزه عن أداء الحق الذي عليه بعد قناعته به الخوف، فيكون ممن يخاف الموت، وهذا الخوف رده الله هنا بقوله: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ المَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ[النساء:78]؛ فموتة كتبها الله على كل إنسان لا بد أن ينالها.

ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد

هو الموت ما منه ملاذ ومهرب إذا حط ذا عن نعشه ذاك يركب

لا الموت محتقر الصغير فعادل عنه ولا كبر الكبير مهيب

فالجميع لا بد أن ينال الموتة التي كتبت له، ولا يمكن أن يتأخر الأجل بالجبن، ولا يمكن أن يتعجل الأجل بالشجاعة؛ فأجل الإنسان محدد وقد كتب وهو جنين في بطن أمه؛ كما في حديث ابن مسعود في الصحيحين: ( حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد )؛ فكل ذلك قد كتب، ولا يمكن أن يتغير فيما بعد.

وقد يخيل إلى الإنسان أن الذي يمنعه من أداء الحق الذي عليه هو خوفه من المخلوقين؛ فيتذكر ما لدى أعداء الله وحزب الشيطان من أنواع وسائل الإرهاب والقوى؛ فيتذكر السجون والمشانق والطائرات والدبابات والصواريخ العابرة للقارات وغير ذلك، لكن هذا الخوف وهمي، رده الله على أصحابه بقوله: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[آل عمران:175]، فهذا الخوف يقابل الخوف من الله، لا بد أن تتذكر من الذي يملك السموات السبع والأرضين السبع وهن في قبضة يمينه، والقلوب كلها بين إصبعين من أصابعه، ولا يخطر في الوجود خطرة ولا تقطر من البحر قطرة إلا بعلمه وإرادته، إنه الله وحده، لا معقب لحكمه، من سواه لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم حياة ولا موتاً ولا نشوراً؛ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ[الحج:73-74]؛ ولذلك فإن الله جعل هذا الخوف مقابلاً لخوفه، وهما كفتا ميزان؛ فاختر أي الكفتين أرجح أن تخاف الله المهيمن القيوم، ديان السموات والأرض، الجبار، الملك الديان، أو أن تخاف مخلوقاً ضعيفاً مسكيناً لا يملك شيئاً من أمور الدنيا، لا يملك قطميراً فما دونه! أيهما أحق أن يخاف؟ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا[المائدة:44]، وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ[الأحزاب:37].

فهذا الخوف إذاً مردود على أصحابه.

وقوله تعالى: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ[آل عمران:175]، أي: ما تشعرون به من الخوف والجبن إنما هو من إلقاء الشيطان، يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ[آل عمران:175]، أي: يحيطهم بهالة من الخوف تجعلكم تخافونهم، والواقع أن ذلك من كيد الشيطان وكيده ضعيف؛ فلذلك قال: فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[آل عمران:175].

ومن أنواع الخوف كذلك التي تحول دون القيام بحق هذه البيعة: خوف الإنسان من التشويه؛ أن تلصق به التهم والأوصاف، وأن يذكر بين الناس بهذه الأوصاف التي يروج الإعلام بتشويهها؛ أصولي، متطرف، متزمت، إرهابي، هذه أوصاف جعلها الإعلام أوصافاً مروعة؛ فيخشى كثير من الناس أن يوصف بها، والواقع أنها إنما هي امتحان وابتلاء في طريق الحق ومعلم من معالمه، وكل من سلك طريق الحق لا بد أن يصيبه ما أصاب الأنبياء من قبله، فلسنا أكرم على الله من نوح ولا من إبراهيم ولا من موسى و لا من محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أصابهم جميعاً ذلك، والله ديان السموات والأرض، المتصف بصفات الكمال، المنزه عن النقائص، زعم اليهود له صاحبة وولداً؛ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا[المائدة:64]، لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ[آل عمران:181]، هل ضر الله هذا التشويه شيئاً؟ أبداً، ولن يضره، وأنبياء الله الذين اصطنعهم على عينه واصطفاهم من خلقه ونقاهم من جميع الأقذار والأكدار ما منهم أحد إلا قيل فيه: مجنون، كاهن، ساحر، شاعر، طالب سلطة، كذاب؛ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ[الذاريات:53]، ولم يضر الأنبياء هذا التشويه شيئاً؟ وأنت يا عبد الله! حلقة واحدة من سلسلة فيها نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ومن معهم من المخلصين، وكل نكبة أصابت حلقة من حلقات السلسلة فستصيب السلسلة كلها، وأنا متأكد لو أن الإخوة الموجودين هنا في المسجد علموا أن مسماراً بباب المسجد قد داسه نوح برجله فأصابه وداسه إبراهيم برجله فأصابه وداسه محمد صلى الله عليه وسلم برجله فأصابه؛ لتنافسوا جميعاً في التبرك به؛ لأنه مسمار مبارك قد أصاب هؤلاء الأنبياء المباركين.

فإذاً النكبات التي تصيب الإنسان في طريق الحق هي نكبات مباركة أصابت من هو خير منا؛ ولذلك قال الله تعالى: الـم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ[العنكبوت:1-3]، وقال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ[البقرة:214]، ويقول تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ[آل عمران:142]، فإذاً لا بد أن يصيب السالكين لطريق الأنبياء بعض ما أصابهم، ولا يتصور أحد أنه سيعيش حياته دون أن يجد أية مضايقة وهو سالك لطريق الحق، هذا من المستحيل، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات )، وفي رواية: ( حجبت الجنة بالمكاره، وحجبت النار بالشهوات )، وصح عنه صلى الله عليه وسلم: ( أن الله عز وجل لما خلق الجنة جعل فيها من أنواع النعيم المقيم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فأمر جبريل فأطاف بها فقال: كيف وجدتها؟ فقال: وعزتك وجلالك لا يسمع بها أحد إلا دخلها. ثم خلق النار فجعل فيها من أنواع الأذى والعذاب مثل ذلك، فأمر جبريل فأطاف بها فقال: كيف وجدتها؟ فقال: وعزتك وجلالك لا يسمع بها أحد فيدخلها. ثم أمر بالجنة فحفت بالمكاره، فأمر جبريل فأطاف بها فقال: كيف وجدتها؟ فقال: وعزتك وجلالك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد. وأمر بالنار فحفت بالشهوات، وأمر جبريل فأطاف بها، فقال: كيف وجدتها؟ فقال: وعزتك وجلالك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد ).

فلذلك لا بد أن يدرك الإنسان أن الطريق غير مفروش بالورود، وإنما هو مفروش بالأشواك، والمؤمن فيه دائماً عرضة للمصائب، ( وأشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، وإذا أحب الله عبداً ابتلاه )، وهذا الابتلاء هو امتحان على طريق الحق، ومن نجح فيه فالدنيا ما تساوي شيئاً من عمره، وقد سمعتم عن أعمار الإنسان، فالعمر الدنيوي لا يساوي شيئاً منها، إنما هو كراكب استظل تحت شجرة، فمدة بقائه تحت الشجرة هي مدة عمره في هذه الحياة، وهذه لا تساوي شيئاً من حياته، لو أن أحدكم يمكث في المكتب خمس ساعات يومياً، وفي البيت عشر ساعات، وفي الأماكن الأخرى كل مكان يمكث فيه نصف ساعة حتى يكمل أربعاً وعشرين ساعة، أين سيضع وسائل الرفاه والراحة؟ هل سيضعها في المكان الذي يمكث فيه نصف ساعة فقط أو في المكان الذي يطيل فيه المكث؟ إنما يضعها في المكان الذي سيطيل فيه المكث؛ فلذلك المؤمن لا يبحث عن الراحة والرفاه والسلامة في هذه الحياة؛ لعلمه أنها أخطر مدده وهي شر مكان يقيم فيه، وإنما يريد الراحة والطمأنينة في جنات النعيم، يريدها في مستقر رحمة الله تعالى، فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ[القمر:55].

ولهذا تتعلق أنفس المؤمنين بالفردوس الأعلى من الجنة، سقفه عرش الرحمن، وهم يعلمون ما هنالك من النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، ويعلمون أن أنعم أهل الدنيا حالاً من الكافرين يصبغ صبغة واحدة في النار فيقال: ( يا عبد الله! أرأيت خيراً قط؟ فيقول: وعزتك وجلالك ما رأيت خيراً قط )، الإنسان من أهل الدنيا الذي لم يصبه الصداع ولم يسمع كلمة يكرهها، ولم يواجه بأي شيء يغضبه، ولم يفكر بشيء إلا ناله، وهو في غاية الغنى والرفاهية يصبغ صبغة واحدة في النار فيقال: ( يا عبد الله! أرأيت خيراً قط؟ فيقول: وعزتك وجلالك ما رأيت خيراً قط! )، وأبأس أهل الدنيا حالاً ممن أصيب بكل الأمراض وأوذي في ذات الله وأخرج من مكانه، وسجن وعذب، ثم قتل وقطعت أعضاؤه يصبغ صبغة واحدة في الجنة فيقال: ( يا عبد الله! أرأيت شراً قط؟ فيقول: وعزتك وجلالك ما رأيت شراً قط! )، ولتنظروا إلى حال مصعب بن عمير الذي خرج مهاجراً، أخرج من مكة وهي أحب البلاد إليه طبعاً، وهي داره التي ولد فيها وتربى فيها يخرج منها مهاجراً في سبيل الله، ولا يملك إلا سيفه وبردة عليه، فيمكث ثلاث سنين في الجهاد في سبيل الله في المدينة؛ فيقتل يوم أحد ويمثل به، ويقول أصحابه: ( إذا غطينا رأسه بدت رجلاه، وإذا غطينا رجليه بدا رأسه، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نغطي رأسه وأن نجعل على رجليه من الإذخر )، بردة واحدة مدة ثلاث سنوات، ما له لباس سواها، ولا يملك غيرها؛ ومع ذلك إذا غطي بها رأسه بدت رجلاه، وإذا غطيت رجلاه بدا رأسه، هل ضره هذا شيئاً؟ أبداً! بل نال النعيم المقيم الخالد الذي لا يحول ولا يزول ولا يمل، كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا[البقرة:25]؛ ولذلك فلذات الجنة لا تنقطع، اللذة الأولى التي ينالها الإنسان عندما يصيبه شيء من روحها وريحانها تبقى معه ولو أتبعت بمليارات اللذات، فاللذة الأولى باقية والتي تليها باقية والتي تليها باقية، بينما لذات الدنيا لا تمكث إلا ثوان محصورة ثم تنقطع، وإذا بقي شيء من لذات الدنيا مع الإنسان أطول من ثوان محصورة سيمل هو.

أعجب ما في الدنيا أن أحب شيء إلى النفوس من لذاتها لا يستطيع الإنسان الصبر عليه، بل يمله غاية الملل، وانظروا إلى قوم اجتمعوا على طعام يحبونه غاية المحبة، وعندما يخلصون منه وينتهون، أليس يؤذيهم بقاؤه بين أيديهم؟ سيخرجونه ويغسلون أيديهم عنه وأفواههم، ولا يريدون بقاء رائحته معهم بوجه من الوجوه، هذا دليل على أن كل ما في الدنيا من الملذات مملول، بينما أهل الجنة: كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ[البقرة:25]؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يغفر للشهيد عند أول قطرة من دمه ويزوج بسبعين من الحور العين )، وهؤلاء نساء الجنة وصفهن النبي صلى الله عليه وسلم بالوصف العجيب؛ فقال: ( لو أن إحداهن أسفرت عن وجهها لأضاء لها ما بين المشرق والمغرب، ولو بصقت في البحر لصار عذباً من بصاقها، ويرى مخ ساقها من خارجه، وأهدابها كجناح النسر، وحاجبها كالهلال في الاستقواس والسعة )، لا يسمع منها الإنسان مكدراً ولا طلباً ولا لغواً في القول، ولا أذى أياً كان، لا يرى إلا ما يسره ولا يسمع إلا ما يسره، ولا يجد أي كدر.

فإذاً هذا النعيم المقيم لا شك أنه لا يوجد في هذه الدنيا وإنما يطلب في الدار الآخرة، والذي يريده لا بد أن يعلم أنه سيصيبه في المقابل أذى الدنيا؛ لأن الله لم يكن ليجمع على الإنسان نعيم الدنيا ونعيم الآخرة، هذا لا يمكن أن يجتمع؛ ولهذا قال الله تعالى: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ[البقرة:200-202]، ويقول تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا[الإسراء:18-19]، وقال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ[الشورى:20].

وبين الله سبحانه وتعالى حال الكفار في النار حين يقال لهم: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ[الأحقاف:20]، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تأكلوا في آنية الذهب والفضة ولا تشربوا في صحافهما؛ فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة )، فهذه الأواني إنما هي من زخارف الدنيا، فهي لأهل النار في الدنيا وللمؤمنين في الآخرة.

ثم كذلك من أنواع الخوف أن يخاف الإنسان على مصالحه فيحول ذلك بينه وبين نصرة الدين؛ فكثير من الناس لهم مصالح متوقعة أو مرجوة أو حاصلة وهم يخافون عليها، إما أن تكون هذه المصالح وظائف أو مكانة اجتماعية أو مالاً، أو غير ذلك؛ فهم يخافون على مصالحهم، لكن هذا الخوف وهمي أيضاً؛ لأن الإنسان العاقل إنما يعلم أن هذه المصالح جميعاً من عند الله لا من عند الناس، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللهِ[النحل:53]، وما آتاك الله هل تعلم له مانعاً؟ ( لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ[فاطر:2]، ( واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف ).

فلذلك لا بد أن يدرك الإنسان أن النعم التي يخاف عليها هي من عند الله لا من تلقاء نفسه ولا من كده، وأن الله هو القادر على إبقائها وتمتيعه بها، وإذا أراد أخذها فلا يمكن أن ترد عليه بوجه من الوجوه؛ ولهذا فإن الله تعالى قال معقباً على قصة قارون: فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ[القصص:81-83].


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4830 استماع
بشائر النصر 4289 استماع
أسئلة عامة [2] 4132 استماع
المسؤولية في الإسلام 4060 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 4000 استماع
نواقض الإيمان [2] 3947 استماع
عداوة الشيطان 3934 استماع
اللغة العربية 3931 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3907 استماع
القضاء في الإسلام 3897 استماع