صفات عباد الرحمن [2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فنستكمل حديثنا عن صفات عباد الرحمن والتي أجملها الله سبحانه وتعالى في سورة الفرقان.

قال تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ [الفرقان:68]، هنا بعد ذكر الجانب الإيجابي في العمل سواءً كان من عمل البدن، أو من عمل اللسان، أو من التصرف في المال، جاء الجانب السلبي وهو التروك، والتروك مثل الأفعال تماماً، فاجتناب النهي مقدم على امتثال الأمر أصلاً، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم )؛ ولهذا فإنه في جانب الأفعال كما سبق لم يذكر أصل الإيمان؛ لأنه أثنى عليهم بعبوديتهم لله؛ فذلك كاف من أصل الإيمان، أما في جانب التروك فذكر الشرك معها للدلالة على أن جانب الترك ينبغي الحور فيه مطلقاً، ولذلك قال أحد العباد من أهل هذه البلاد: أنا لا أوقن بقبول أي عمل لله تعالى، فلا أوقن بأن كفة الحسنات سيقع فيها شيء، لكني سأحاول ألا يقع في كفة السيئات شيء.

فلذلك لا بد أن يبدأ الإنسان أولاً بمنع نفسه من الوقوع في ما حرم الله عليه، فهذا سابق على ما سوى ذلك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم )؛ فلذلك جاء هنا بالتروك، والتروك معناه ترك ما لا يرضي الله تعالى من الأفعال، وما لا يرضي الله تعالى من الأفعال هو الذنوب، وهذه التروك تنقسم إلى قسمين: إلى تروك مؤقتة، وتروك مطلقة، فالتروك المطلقة هي غير مقيدة بوقت، كترك الزنا، وشرب الخمر، والشرك، والسحر، وغير ذلك، هذه تروك مطلقة ليست مقصورةً على وقت، وقتها العمر، أما التروك المقيدة بوقت كترك الأكل والشرب في نهار الصوم، وهذا ترك لكنه مقصور على وقت فقط؛ ولذلك فإن التروك المقيدة بالأوقات تذكر في جانب الأفعال لا في جانب التروك غالباً، فالصوم معدود من الأفعال وإن كان الصوم في الأصل تركاً، لكنه ترك مقصور على وقت فيحتاج إلى النية بخلاف التروك التي لا تحصر بوقت فهي غير محتاجة إلى النية، مثلاً ترك شرب الخمر، تمتثله الآن ولو لم تنو أنك تركت شرب الخمر لوجه الله، لكن الصوم لا بد فيه من النية، إذ من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له؛ فلذلك التروك المقصورة على الأوقات هي من باب الأفعال، والتروك غير المقصورة هي في مقابل ذلك أو في القسيم الذي هو التروك.

وبدأ في التروك فذكر ثلاثة أقسام، فالذنوب كلها تنقسم إلى ثلاثة أقسام: إلى ذنب لا يغفر، وهو الشرك بالله، وإلى ذنب لا يترك، وهو حقوق العباد، وإلى ذنب في المشيئة إن شاء الله عذب به، وإن شاء عفا عنه، وهو حقوق الله المتمحضة، فالله غني عن حقوقه، والعباد فقراء إلى حقوقه، فبدأ أولاً بأعظم الذنوب وهو الذنب الذي لا يغفر، وهو الشرك بالله تعالى، فهذا الشرك لا يمكن أن يقبل من الإنسان معه عمل، فلو قام الإنسان بكل الواجبات، وترك كل المحرمات الأخرى، لكنه كان مشركاً بالله، فإن الله لا يقبل منه شيئاً؛ ولذلك أخرج مسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه عز وجل: ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه )، فيرده الله عليه؛ ولذلك صح في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن عبد الله بن جدعان كان يطعم اليتيم والمسكين والضيف وابن السبيل، أفيغني عنه ذلك من الله شيئاً؟ قال: لا، إنه لم يقل يوماً واحداً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين )؛ فكان امرأً مشركاً فلم تنفعه صدقاته، وقد قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال:36]، وقال تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً [الفرقان:23]، وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [النور:39].

ولذلك لا بد للعمل كله من أصل التوحيد، فإن مناط العمل كله وقبوله ورضا الله به أن يكون الإنسان مخلصاً فيه لله، متبعاً فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذان هما مقتضيا شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فمقتضى شهادة أن لا إله إلا الله: أن يخلص في العبودية لله وحده، فلا يقدم شيئاً من العبودية لغيره، ومقتضى شهادة أن محمداً رسول الله: ألا يعمل بشيء إلا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى؛ فلذلك هما ركنا صلاح العمل: الإخلاص لله، والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهما ركنا إخلاص العمل، ويدخلان في كل عمل، فنجد أن شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله تدخل في الصلاة، وفي الصوم، وفي الحج، وفي الزكاة، وفي الجهاد، وفي الدعوة، وفي الصدقة، وفي غير ذلك، وتدخل أيضاً في التروك، ترك الزنا، ترك شرب الخمر، ترك قذف المحصنات الغافلات المؤمنات، ترك أكل الربا... إلى آخره، كل هذه تدخل فيها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ لأنها من مقتضاهما، وبهذا يكون العمل جميعاً داخلاً في الشهادتين، وتقتضيه هاتان الشهاتان، وتستدعيانه؛ فلذلك بدأ بأخطر العمل الذي نهى الله عنه وهو الشرك بالله.

والشرك بالله ينقسم إلى قسمين: إلى شرك أكبر، وشرك أصغر، فالشرك الأكبر هو المخرج من الملة المبطل لكل العمل، والشرك الأصغر هو دونه ولكنه سمي شركاً تنفيراً منه وتحذيراً.

والشرك الأكبر أربعة أقسام:

أولها: الشرك في الربوبية. أي: أن يزعم الإنسان أن هذا الكون له متصرف أو فيه متصرف غير الله، أن فيه أحداً يستطيع أن يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذن الله، أو أن فيه أحداً يشفي من مرض مع الله، أو أن فيه أحداً يهب الأولاد مع الله، أو فيه أحداً يهب الرزق مع الله، أو أن فيه أحداً يهب الهداية مع الله، أو أن فيه أحداً يأتي بالمطر مع الله، أو أن فيه أحداً يرفع البلاء مع الله؛ أو يزعم أن أحداً يحيي ويميت، أو يزعم أن أحداً يأتي بالشمس من المغرب بدل أن يأتي الله بها من المشرق، فلا بد إذاً من هذا النوع من أنواع التوحيد، وهو توحيد الربوبية أن يعلم أن هذا الكون له خالق واحد هو المدبر، الخالق، الرازق، لا يقع شيء في هذا الكون إلا عن أمره وتصرفه، وإليه ترجع الأمور، أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ [الشورى:53].

رزق كل شيء عليه، ومصير كل شيء إليه، فهو وحده المتصرف في هذا الكون، ليس له أنداد ولا نظراء، ولا شركاء ولا شفعاء، بل قال الله: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ [البقرة:255]، وقال: وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأنبياء:28-29].

فإذاً هذا هو النوع الأول من أنواع الشرك وهو الشرك في الربوبية.

النوع الثاني: هو الشرك في العبادة، وهو أن يصرف شيئاً من العبادة لغير الله، كمن سجد لصنم، أو نذر لمخلوق، أو قدم له أية طاعة، أو أطاعه في معصية الخالق، أو عمل أية عبادة يتقرب بها إلى مخلوق كطواف، أو عكوف، أو ذبح، أو غير ذلك، فهذا شرك في العبادة، مبطل للعمل، لا يقبل الله من صاحبه صرفاً ولا عدلاً؛ ولهذا قال الله تعالى: ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:13-14].

فإذاً لا بد من إفراده في الدعوة؛ فالدعاء عبادة، فدعاء غير الله، والاستغاثة به شرك أكبر مخرج من الملة؛ لأنه شرك في عبودية الإنسان لله؛ ولهذا فإن الله سماه شركاً صريحاً، قال: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:14]؛ فكل من دعا غير الله، واستغاث به فيما لا يقدر عليه إلا الله، أو رفع إليه شيئاً من حوائجه التي لا يمكن أن يصرفها ولا أن يدفعها إلا الله، أو صرف شيئاً من عبادته لغير الله ذبحاً أو نذراً أو غير ذلك فهو مشرك بالله. هذا النوع من الشرك الأكبر المخرج من الملة، وهو شرك العبادة، الذي يسمى بشرك الإلهية.

النوع الثالث من أنواع الشرك الأكبر: هو الشرك في التشريع، وهو إحلال ما لم يأذن به الله، أو تحريم ما أحل الله من دون الله؛ فكل من قنن قانوناً يحل فيه ما حرم الله، أو يحرم ما أحل الله من عند نفسه؛ فهو محاد لله في أرضه، مغير لشرعه، وبذلك يكون مشركاً شركاً أكبر مخرجاً من الملة، كما قال الله تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21]، وقال تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ أَاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [يونس:59]؛ فالله وحده هو الذي يحل ويحرم، وأي قانون غير شرع الله فهو دين غير دين الله، كما قال الله تعالى: كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [يوسف:76]؛ فهذا النوع من الشرك هو شرك الحاكمية، وهو ثالث أنواع الشرك الأكبر المخرج من الملة.

النوع الرابع من أنواع الشرك الأكبر: الشرك في المحبة؛ فالذي يحب غير الله حب الإلهية، فيتوكل عليه في شئونه، ويظن أنه مطلع على أسراره وأحواله ويتعلق به غاية التعلق هذا مشرك شركاً أكبر مخرجاً من الملة؛ لقول الله تعالى: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ [البقرة:165]، وبين براءتهم منه يوم القيامة، فقال: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ [البقرة:166].

فإذاً هذا هو الشرك الأكبر المخرج من الملة بأنواعه الأربعة: الشرك في الربوبية، والشرك في الإلهية، والشرك في التشريع، والشرك في المحبة.

ودون هذا الشرك الأصغر كالرياء والتسميع ونحو ذلك فهو شرك لكنه غير مخرج من الملة.

وقد ذكر الله مثالاً للشرك هنا، فقال: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ [الفرقان:68]، أي: لا يستغيثون بإله آخر، والإله هو المألوه من أله إليه إذا قصده في حوائجه كما قال الشاعر:

ألهت إليكم في أمور تهمني فألفيتكم فيها كراماً أماجدا

فكل مألوه إليه -أي: مقصود في الحوائج- فهو إله عند صاحبه؛ فالذي يتبع هواه في كل أمر قد جعل إلهه هواه، والذي يطيع سلطاناً في معصية الله، قد جعل ذلك السلطان إلهاً له من دون الله، والذي يطيع أي طاغية من طواغيت الأرض في معصية الله فإنه قد اتخذه إلهاً من دون الله؛ ولذلك قال الله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31].

وفي حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ( ما عبدناهم من دون الله، قال: ألم يحلوا لكم الحرام فتأخذوه؟ قال: بلى، قال: ألم يحرموا عليكم الحلال فتتركوه؟ قال: بلى، قال: فإن تلك عبادتهم )؛ فلذلك طاعة المخلوق في معصية الخالق هي من هذا النوع من أنواع الشرك؛ ولذلك قال: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ [الفرقان:68].

إن كثيراً من الناس يظن أن الإله معناه الصنم؛ فيظن أن الطاعة في معصية الخالق ليست من هذا النوع أبداً، ويظن أن دعاء المخلوق والاستغاثة به أيضاً ليس من هذا؛ لأنه لا يعده صنماً، لكن هذا غلط وخطأ في التصور؛ لأنه لم يفهم معنى الإله، فالإله المقصود في الحوائج، وإذا كان ذلك حاصلاً حتى في هواك إذا اتبعته سماه الله في الكتاب إلهاً بالنسبة لك، فمعناه أن كل مطاع في المعصية فهو إله في حق صاحبه؛ فلذلك بين الله أن أضل الناس هو الذي اتخذ إلهه هواه؛ لأن إلهه يتقلب ويتذبذب، فتارةً يدعوه إلى أمر، وعندما يبدأ فيه يرى ضرراً، فيتركه ويفر منه، ويبدأ بغيره؛ فالإنسان يرفع الكأس إلى فيه ليشربها، فإذا علم أن فيها السم مثلاً، فإنه سيفر منها ويرميها؛ فإذاً هو هنا مطيع لذلك الهوى، عندما دعاه إلى الشرب رفعها إلى فيه، وعندما علم الضرر فيها خرج منها؛ فهذا التقلب يدل على أن الهوى لا يمكن أن يكون إلهاً للإنسان، ولا يمكن أن يكون مطاعاً في تصرفاته؛ لأنه يقتضي منه التقلب والتذبذب، وذلك محظور شرعاً؛ لأنه ليس من شأن العقلاء؛ فلهذا قال: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ [الفرقان:68]، وهنا أكد الإله بقوله: (آخر) لبيان الفرق الشاسع بينه وبين الله تعالى؛ فالله هو الذي يستحق العبادة، وهو الذي يستحق أن يخاف منه، وهو الذي يستحق أن يرجى، وغيره ليس لديه شيء، لا يملك لنفسه، ولا لغيره حياةً ولا موتاً ولا نشوراً، وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الحج:73-74]؛ فلهذا قال: إِلَهاً آخَرَ [الفرقان:68] . ‏

عدم الاعتداء على النفس المحرمة

ثم قال تعالى: وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ [الفرقان:68]، هذا النوع الثاني من أنواع الذنوب، وهو الذنب الذي لا يترك، وهو حقوق العباد، فحقوق العباد أعظمها الاعتداء على أرواحهم؛ فمن قتل نفساً بغير حق فقد اعتدى على صاحبها، ثم بعده الاعتداء على العقل، ثم الاعتداء على البدن، ثم الاعتداء على العرض، ثم الاعتداء على المال.. إلى آخره، فهذه حقوق الآدميين، وهي لا تترك لحاجة الآدميين إليها؛ ولذلك سأل النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فقال: ( أتدرون من المفلس فيكم؟ قالوا: من لا درهم له ولا متاع. قال: بل المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال، ويأتي وقد قتل هذا، وضرب هذا، وشتم هذا، وأكل مال هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، حتى إذا نفدت حسناته ألقي عليه من سيئاتهم، ثم ألقي هو في النار ).

فحقوق العباد لا تترك لحاجتهم إليها، وتصور أن كل عبد سيأتي حافياً عارياً أغرل كما بدأ خلقه، وهو محتاج غاية الحاجة إلى ما ينفعه؛ فهل سيسامحه في ذلك الوقت؟ يأتي لا يرى بين يديه ولا عن يمينه إلا عمله، ولا يرى عن شماله إلا النار أن يراها تلقاء وجهه، فكيف يسامحه في حقه وهو محتاج إليه؟ حتى لو كان أقرب الأقربين، أبوك قد يسامحك الآن رحمةً منه ولطفاً بك، لكن لا تتصور أن يسامحك يوم القيامة في حقه بعد أن يوجب؛ لأن الأرحام تنقطع بمجرد النفخ في الصور، فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101]؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( تعافوا الحقوق قبل ألا يكون ديناراً ولا درهم )، على الناس أن يتعافوا الحقوق فيما بينهم اليوم قبل أن يأتوا يوم القيامة حفاةً عراةً غرلاً ليس مع أحد منهم إلا عمله، وقد أخرج مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنكم ملاقو ربكم حفاةً عراةً غرلاً مشاةً كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:104]، فكل إنسان يعاد كما بدئ في أصل خلقته؛ يأتي حافياً عارياً أغرل -أي: غير مختون- ماشياً ليس راكباً، لا يستظل إلا بظل صدقته، فمن مستقل أو مستكثر.

فإذا علم الإنسان ذلك علم أنه بحاجة إلى أن يجازي أصحاب الحقوق قبل أن يرفعوه إلى الملك العدل الحكم الذي لا يظلم عنده أحد؛ فحكم الله تعالى لا يمكن أن يتخلص منه بالوساطات، ولا يمكن أن يتخلص منه بالرشاوى، ولا ينفع ذا الجد منه الجد، ولا يمكن أن يشفع لك شافع، ولا حميم يطاع، فحينئذٍ لا بد يا أخي أن تتخلص من حقوق الآدميين قبل أن يطالبوك بها بين يدي الحكم العدل.

الابتعاد عن الزنا

ثم بعد هذا ذكر الحق الثالث الذي هو في المشيئة وهو حق الله المتوحد فقال: وَلا يَزْنُونَ [الفرقان:68]، فالزنا فاحشة من الفواحش، وكبيرة من الكبائر، وقد نهى الله عن الاقتراب منه، مجرد الاقتراب بمجرد النظرة، أو الموعد، أو الكلام، أو الابتسام كل ذلك طريق إلى الاقتراب من الزنا، وقد حرم الله الاقتراب منه، فقال: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً [الإسراء:32]، وهذه طرقه كما قال أحمد شوقي :

نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء

فلذلك حذر الله من كل ما يؤدي إلى الاقتراب منه فقط، فقال: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى [الإسراء:32]، وما سواه من الذنوب حذر من الوقوع فيه، أما الزنا فقد حذر من الاقتراب منه وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً [الإسراء:32]، لكن الزنا حق من حقوق الله المتمحضة، فإذا عفا الله عن صاحبه، وتجاوز عنه فإنه في المشيئة، فلذلك ذكر هذا القسم الثاني آخراً، أي: هو آخر الأقسام؛ فأولها أعظمها خطراً وضرراً وهو الشرك بالله الذي لا يغفر؛ وبعده حقوق العباد وهي الذنب الذي لا يترك، وبعد ذلك حقوق الله المتمحضة وهي في المشيئة إن شاء الله عذب مرتكبها بها، وإن شاء عفا عن صاحبها.

ثم قال: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً [الفرقان:68]، (يفعل ذلك) أي: المذكور كله، وهذه الإشارة هنا مثل الإشارة السابقة بالحقيقة الشرعية الكاملة، أي: من يفعل جميع ذلك، وهنا لاحظوا أن الوعيد الشرعي إنما يأتي على أخطر الأعمال وأكبرها، وأن الوعد أيضاً إنما يأتي على أعظمها وأهمها؛ ليبقى الإنسان دائماً متردداً بين الرجاء والخوف؛ فلو كان الوعيد هنا على من فعل واحدةً منها، لو كان الوعيد ومن يفعل شيئاً من ذلك يلق أثاماً لخفنا جميعاً؛ لأن الإنسان عرضة لأن يفعل كل ذلك، ولكن جاء الوعيد على من فعل كذلك؛ لتبقى أنت تقول: الحمد لله، أنا لم أفعل كل ذلك، لكن أيضاً تبقى خائفاً؛ لأنك قد فعلت بعضه؛ ولذلك لاحظوا أن آية الليل جاء فيها ميزان لحياة المسلم ليبقى بين الرجاء والخوف، فقد قال الله تعالى: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى [الليل:14]، بعد أن وصف النار بهذا الوصف المرعب المروع قال: لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [الليل:15-16]؛ فالعبد يقول: بحمد الله أنا لست كذلك، قطعاً ليس الأشقى الذي كذب وتولى، لكن إذا قرأ الآية الأخرى: وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل:17-21]، يقول: أنا أيضاً لست كذلك فيبقى بين الرجاء والخوف، يبقى راجياً لرحمة الله؛ لأنه وعد ألا يدخل النار إلا الأشقى الذي كذب وتولى، ويبقى خائفاً من عذابه؛ لأنه توعد من اتصف بهذه الصفات الأخرى بالنار، فيبقى بين الرجاء والخوف؛ فكذلك هنا قال: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً [الفرقان:68].

(يلق أثاماً) أي: لا بد أن يلاقيه الأثام، والأثام: جزاء الإثم، فالإثم هو المعصية، والأثام جزاء ذلك الإثم -أي: ما رتب الله عليه من العقوبة الأخروية- والمقصود بذلك الوعيد ما لم يأت ما يجبه؛ فالإيمان إذا جاء بعد الكفر جاب له، فالإيمان هو جب ما قبله، وكذلك مكفرات الذنوب الأخرى كالتوبة أيضاً مكفرة، ( ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما ما لم تغش الكبائر، والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما ما لم تغش الكبائر، والعمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما ما لم تغش الكبائر، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة )، فهذه كفارات للذنوب، يكفر الله بها السيئات، فهي خارجة عن الوعيد، فالوعيد في حق من لم يأت بالمكفرات المزيلة لهذه الآثام.

وهو هذا الجزاء هو ما ذكره الله فقال: يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً [الفرقان:69]، (يضاعف له العذاب)، ومن المعلوم أن النصوص في القرآن كثيرة تدل على تضعيف الحسنات، وعلى عدم تضعيف السيئات، فالسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز عنها، والحسنة بعشر أضعافها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، فيكون المقصود بقوله: (يضاعف له العذاب) أي: يضاعف له جزاء العذاب لا العذاب نفسه؛ لأن السيئة لا تضاعف، فالسيئة لا تضاعف إلا في نطاق ضيق، وهو في حق من قامت عليه الحجة الكبرى، كأمهات المؤمنين، وزوجات الأنبياء، فقد قامت عليهم الحجة الكبرى من عند الله؛ ولذلك فإن سيئاتهن مضاعفة، كما أن حسناتهن مضاعفة، كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً * يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً * وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً [الأحزاب:28-31].

فمن قامت عليه الحجة الكبرى تكتب له الحسنة في الأصل بحسنتين، ثم تضاعف كل حسنة منهما بعشرة أضعاف إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، وتكتب له السيئة بسيئتين ولا تضاعف أكثر من ذلك؛ لذلك فإن امرأة نوح وامرأة لوط قد ضربهما الله مثلاً للكافرين به، فجعلهما غاية الكفر؛ لأن ما وصلتا إليه هو غاية الكفر، ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنْ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ [التحريم:10]، فهاتان المرأتان قامت عليهما حجة الله الكبرى، فلم تمتثلا ولم تطيعا؛ فاستحقتا أن يضرب بهما المثل للكافرين، فهما أكفر الكافرين؛ لأن الحجة قائمة عليهما أعظم من الحجة القائمة على غيرهما.

قال تعالى: يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الفرقان:69]، والمقصود مضاعفة أحد أمرين: إما أن يكون ذلك كمياً، وإما أن يكون كيفياً؛ فالكم ما كان من الشدة، كشدة زمهرير النار -أي: بردها- وشدة حرها، وشدة نتنها، فهذا من التضعيف الكيفي. والتضعيف الكمي هو ما كان بالوقت، أي: يمكث في النار آلاف السنين أو ملايين السنين، نسأل الله السلامة والعافية، فذلك تضعيف في الوقت؛ ولهذا فإن وقت السيئة الذي تدعو الشهوة فيه إنساناً إلى الوقوع في المعصية وقت يسير جداً، وسرعان ما تذهب تلك الشهوة وتنقطع فتذهب لذتها، وتبقى تبعتها، تذهب اللذة وتبقى التبعة؛ ولذلك لا بد أن يكون الإنسان على نفسه بصيرةً دائماً، إذا دعته شهوته للوقوع في معصية لله تذكر أن هذه الشهوة لن تدوم، وأن وقتها سيكون بضع ثوان أو دقائق وتظهر، ويأتي بعدها تبعتها، والله أعلم كم سيمكث في تبعتها؛ فقد يمكث في النار آلاف السنين بسبب ذنب واحد اقترفه، وإذا تذكر الإنسان هذا قيده هذا عن الوقوع في المعصية؛ لأنه يعلم أن كثيراً من السيئات تذهب لذاتها، وتبقى تبعاتها.

ثم قال: يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الفرقان:69]، ويوم القيامة هو الدار الأخرى؛ وسميت يوماً للتنويه بشأنها وعظم أمرها؛ فالزمن كله في الأصل ينقسم إلى يوم وليل، واليوم أشرف من الليل كما سبق؛ فلذلك سميت الدار الآخرة يوم القيامة، والقيامة هي قيام الناس إلى رب العالمين عندما ينادى فيهم: ( هلموا إلى ربكم، فيخرجون من الأجداث إلى ربهم ينسلون )، فإنهم يقومون من قبورهم لرب العالمين، فتنبت أجسامهم، ويعود كل فقار إلى مكانه، فيسوى بنان الإنسان بعد أن أكله التراب، فيرجع إلى هيئته كما خلق، ويعود إليه كل شعرة من بدنه، وكل عبلة، وكل نسيج من نسيج بدنه، وكل ما سقط منه في الحياة يعود إليه؛ فيأتي به كاملاً، تكمل أظفاره كما خلقت، ويكمل شعره كما خلق، ما قطع منه عاد إليه، فيبعث كاملاً بكل ما خلق من خلقته، كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:104]؛ فلذلك سمي ذلك اليوم العظيم بيوم القيامة، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:6].

قال تعالى: وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً [الفرقان:69]، (يخلد) أي: يبقى، والخلود الدوام، والمقصود بذلك بقاؤه في النار، نسأل الله السلامة والعافية في مدة التعذيب التي كتب الله عليه، يَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً [الفرقان:69]، (فيه) أي: في عذاب النار، (مهاناً) أي: ذليلاً خاسئاً، ويكفي من إهانته أن الله لا ينظر إليه، ولا يكلمه، ولا يزكيه، نسأل الله السلامة والعافية.

مقامات التوبة من الذنوب

قال تعالى: إِلاَّ مَنْ تَابَ [الفرقان:70]، استثنى الله من هذا الوعيد من تاب؛ لأن التوبة تجب الذنوب وتمحوها، وقد قال الله تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً [النساء:17-18].

والتوبة ثلاثة مقامات: توبة الله على العبد ليتوب، أي: توجيهه للتوبة، أن يقذف الله في قلبه الندم على ما فرط فيه في جنب الله، فينكسر خاطره، ويخرج من المعصية يتقلع منها، وهو نادم على وقوعه فيها، مبغض لها غاية البغضاء، يريد الخروج منها قبل الموت، فهذا مقام من عند الله.

المقام الثاني: هو إنابته إلى الله باستقالة عثرته، ومعاهدته ألا يعود إلى ذلك الذنب، وخروجه منه في ساعته إن كان متلبساً بالمعصية.

والمقام الثالث: توبة الله على العبد بقبول توبته. فإذاً توبة الله على العبد سابقة لتوبة العبد إلى الله ولاحقة لها، توبته سابقة لتوجيهه إلى التوبة، وتوبته لاحقة لقبول التوبة منه، وهذا يدلنا على سعة فضل الله ورحمته، لا يتوب أحد منا إلا أن يتوب الله عليه، ثم إذا تاب يتوب عليه بقبول التوبة أيضاً، قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [الشورى:25-26].

قال تعالى: إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ [الفرقان:70] والمقصود بالإيمان هنا تمامه لا أصله؛ لأن أصل الإيمان لا يمكن أن تقبل التوبة بدونه، فلا قبول إلا بالإيمان، كما قال الله: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27]، فإذاً المقصود هنا تمام الإيمان، وتمام الإيمان معناه استكمال الإيمان، والإسلام، والإحسان، أن يستكمل الإنسان أكارع الدين وأطرافه، فهذا الذي يتم به الإيمان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )، أي: لا يتم إيمانه حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وقال: ( والذي نفس محمد بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم ).

وقوله: (لا تؤمنوا حتى تحابوا) معناه: لا تؤمنوا تمام الإيمان حتى تحابوا؛ ولذلك فإن تمام الإيمان وحسن الإسلام المذكور في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ( إن العبد إذا أسلم فحسن إسلامه محا الله عنه كل سيئة كان زلفها، ثم كان بعد ذلك القصاص الحسنة بعشر أمثالها، والسيئة بمثلها، إلا أن يتجاوز الله عنه ).

قال تعالى: إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً [الفرقان:70]، فلا بد على الإنسان بعد توبته أن يتغير حاله؛ فالإنسان الذي يأتي إلى الله تائباً منيباً ثم يعود فينغمس فيما كان فيه، إنما هو من المترددين المنافقين الذين لا تصح توبتهم؛ ولذلك قال أهل العلم: إن الحج المبرور له ثلاث علامات:

العلامة الأولى: أن يكون من حلال؛ لأن ما كان من حرام لا يقبل.

العلامة الثانية: أن يؤديه الإنسان على وفق ما شرع، وفق ما بين النبي صلى الله عليه وسلم: ( خذوا عني مناسككم ).

العلامة الثالثة: أن يتغير حال الإنسان بعده، إذا كان الإنسان يرجع من حجته فينغمس فيما كان منغمس فيه من قبل، لا يترك معصيةً كان يفعلها، ولا يزداد في طاعة كان مقصراً فيها، فحجه غير مبرور؛ فلذلك لا بد أن تكون التوبة داعية للعمل الصالح بعدها؛ فنحن الآن مثلاً سمعنا كلام ربنا، وتدبرنا بعض آياته، وفهمنا عن الله بعض ما ضرب لنا من الأمثلة، وقامت علينا الحجة بما سمعنا جميعاً، ونقلته آذاننا إلى قلوبنا، فمن قام منا من مجلسه هذا ماضياً ألا يعود إلى معصية الله، وأن يكون من أنصار الله ورسوله، وأن يكون صادقاً مع الله في تعامله معه فهذا التائب الذي يحال بينه وبين المعصية، ومن كان منا يسمع الكلام فينتفع به في وقته ثم سرعان ما يعود إلى ما كان عليه كأنه لم يسمعه، وإذا سمعه مرةً أخرى من جديد عاد إليه ذهنه، ثم يعود أيضاً إلى معصيته، فهذا المتذبذب المتردد، وقد قال الله تعالى في وصف المنافقين: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً [النساء:143]، فهم المذبذبون، يتوبون تارةً، ثم يرجعون أدراجهم.. وهكذا؛ فلهذا لا بد أن تكون هذه التوبة مقتضيةً فيما بعد للعمل الصالح؛ ولذلك قال: وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً [الفرقان:70]، وهنا اختص هذا الموضع من القرآن بذكر المنعوت الذي حذف في غيره من المواضع، فالعمل يوصف بالصلاح في القرآن، ولا يذكر هو، وقال: إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [الشعراء:227]، وقال: وَعَمِلَ صَالِحاً [القصص:67]، لكن في هذا الموضع ذكر العمل الذي حذف في غير هذا الموضع فقال: (وعمل عملاً صالحاً)، وهذا العمل لا يكون صالحاً إلا إذا أخلص فيه صاحبه لله، ووافق فيه ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سبق بيانه.

معنى قوله تعالى: (يبدل الله سيئاتهم حسنات)

قال تعالى: فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً [الفرقان:71]، (فأولئك) أي: التائبون الذين تابوا وآمنوا وعملوا العمل الصالح يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ [الفرقان:70]، وقد اختلف أهل العلم في تفسير ذلك على قولين:

القول الأول: أن الوقت الذي كانوا ينفقونه في المعصية يقلبه الله طاعةً فيوفقون فيه لصرفه في الطاعة، فإذا كانوا بعد صلاة العصر يجلسون في مجالس اللهو، وسماع المحرم من الكلام، وأكل الغيبة، والمشي بالنميمة، فإن ذلك الوقت سيوفقون بعد التوبة لصرفه في الطاعة، فيكون وقتاً للطاعة بدل أن كان وقتاً للمعصية، هذا القول الأول: أن الوقت ينقلب للطاعة بعد أن كان للمعصية، فيبدل الله سيئاتهم أي: وقتها، حسنات، فيملأ ذلك الوقت بالحسنات بدل أن كان مملوءاً بالسيئات.

القول الثاني: أن المقصود بذلك أنهم بتوبتهم يمحو الله سيئاتهم، فيكتب لهم بدلها حسنات، فإن كان الإنسان مقصراً في الماضي في قيام الليل، وصيام النفل والطاعات، فكان من أهل القيام والصيام كتب له ذلك طيلة عمره الماضي، ولو كان التزامه جاء بعد أن أكمل اللذات والشهوات، أي: لم يبق باب من أبواب اللذات والشهوات والمعاصي إلا طرقه، ولكنه جاء تائباً فخرج من ذلك، وقد قال يزيد بن الطهرية :

ألا قل لأرباب المخائض أهم

ثم قال تعالى: وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ [الفرقان:68]، هذا النوع الثاني من أنواع الذنوب، وهو الذنب الذي لا يترك، وهو حقوق العباد، فحقوق العباد أعظمها الاعتداء على أرواحهم؛ فمن قتل نفساً بغير حق فقد اعتدى على صاحبها، ثم بعده الاعتداء على العقل، ثم الاعتداء على البدن، ثم الاعتداء على العرض، ثم الاعتداء على المال.. إلى آخره، فهذه حقوق الآدميين، وهي لا تترك لحاجة الآدميين إليها؛ ولذلك سأل النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فقال: ( أتدرون من المفلس فيكم؟ قالوا: من لا درهم له ولا متاع. قال: بل المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال، ويأتي وقد قتل هذا، وضرب هذا، وشتم هذا، وأكل مال هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، حتى إذا نفدت حسناته ألقي عليه من سيئاتهم، ثم ألقي هو في النار ).

فحقوق العباد لا تترك لحاجتهم إليها، وتصور أن كل عبد سيأتي حافياً عارياً أغرل كما بدأ خلقه، وهو محتاج غاية الحاجة إلى ما ينفعه؛ فهل سيسامحه في ذلك الوقت؟ يأتي لا يرى بين يديه ولا عن يمينه إلا عمله، ولا يرى عن شماله إلا النار أن يراها تلقاء وجهه، فكيف يسامحه في حقه وهو محتاج إليه؟ حتى لو كان أقرب الأقربين، أبوك قد يسامحك الآن رحمةً منه ولطفاً بك، لكن لا تتصور أن يسامحك يوم القيامة في حقه بعد أن يوجب؛ لأن الأرحام تنقطع بمجرد النفخ في الصور، فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101]؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( تعافوا الحقوق قبل ألا يكون ديناراً ولا درهم )، على الناس أن يتعافوا الحقوق فيما بينهم اليوم قبل أن يأتوا يوم القيامة حفاةً عراةً غرلاً ليس مع أحد منهم إلا عمله، وقد أخرج مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنكم ملاقو ربكم حفاةً عراةً غرلاً مشاةً كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:104]، فكل إنسان يعاد كما بدئ في أصل خلقته؛ يأتي حافياً عارياً أغرل -أي: غير مختون- ماشياً ليس راكباً، لا يستظل إلا بظل صدقته، فمن مستقل أو مستكثر.

فإذا علم الإنسان ذلك علم أنه بحاجة إلى أن يجازي أصحاب الحقوق قبل أن يرفعوه إلى الملك العدل الحكم الذي لا يظلم عنده أحد؛ فحكم الله تعالى لا يمكن أن يتخلص منه بالوساطات، ولا يمكن أن يتخلص منه بالرشاوى، ولا ينفع ذا الجد منه الجد، ولا يمكن أن يشفع لك شافع، ولا حميم يطاع، فحينئذٍ لا بد يا أخي أن تتخلص من حقوق الآدميين قبل أن يطالبوك بها بين يدي الحكم العدل.