شمولية الإسلام


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين, وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه, ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى هو المشرع وحده لا يمكن أن يحل، ولا أن يحرم، ولا أن يأمر، ولا أن ينهى فيما يتعبد به إلا هو وحده؛ لأنه الذي إليه منتهى كل شيء, وهو الذي تصير إليه الأمور: أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ [الشورى:53], علم كل شيء بيده سبحانه وتعالى؛ فلذلك هو وحده الذي يستطيع التشريع والإحلال والتحريم، ومن دونه لا يعلمون مآلات الأمور, فإذا رأوا مصلحة في وقتٍ من الأوقات، فيمكن أن تتغير تلك المصلحة في وقتٍ آخر, وإذا رأوا مفسدة في وقتٍ من الأوقات، فيمكن أن تنقلب تلك المفسدة مصلحة في وقتٍ آخر: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].

فلذلك لم يكل الله أمور الدين إلى اجتهادات البشر وآرائهم؛ بل شرعها الله سبحانه وتعالى وأنزل بها الوحي واختار له أمين الملائكة، وأنزله على أمناء البشر وهم الرسل المبلغون عن الله سبحانه وتعالى، وقد قامت الحجة على الثقلين الإنس والجن بما جاء به رسل الله من عند الله من الدين، ثم قفى على آثارهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فختم به الرسالة وأوضح به معالم الدين، وأنزل عليه في آخر ما أنزل: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا[المائدة:3].

وسر ذلك أن الله علم أن جوارحنا محدودة محصورة، وأننا نتفاوت فيها ونحن مضطرون للتعايش في هذه الدار، وعقولنا ما هي إلا حاسة من حواسنا؛ فكما أن العين لها حدود إلى أدنى فلا تبصر ما في الجفن من الخطوط والعروق والألوان، ولها حدود إلى أقصى فللبصر منتهىً يقف عنده, وكما أن الأذن لا تسمع جريان الدم في العروق، ولا تسمع الأمواج المحملة المحيطة بها مع أن أصواتها كبيرة مزعجة؛ كذلك لها حدود إلى أقصى فتبلغ قوة الانفجار أو الصاعقة بحيث لا تسمعها الأذن ولا تستوعبها.

وكذلك الأصابع في اليد فإن لها قدرة تستطيع أن تحمل الشيء الذي في طوق الإنسان حمله، ولكن لا تستطيع حمل أثقل من ذلك، كما أنها يشق عليها انتزاع الشيء اليسير الصغير الذي لا يمكن الوصول إليه وحده، كانتزاع الخربصيصة من الرمل، والخربصيصة: هي الهنة التي تتراءى في الرمل، فأخذ الإنسان لها بأصبعيه من الأمور الشاقة؛ لأنها أصغر من مدى طاقة الحمل.

فكذلك العقل له حدود إلى أدنى، وحدود إلى أعلى، فحدوده الدنيا منها بداياته كالأوليات، والمشاهدات والحدسيات، والشعور الذي يشعر به الإنسان كشعوره باللذة والألم والرضا والغضب، هذه أمور لا يناقشها العقل ومنها يبدأ, ثم للعقل نهايات لا يمكن أن يتعداها وهي مواقفه كاجتماع الضدين، والنقيضين، وكارتفاع النقيضين، وكقلب الحقيقة، وكبطلان الحصر ونحو ذلك؛ فهذه الأمور يقف عندها العقل ولا يمكن أن يتعداها, فإذا كان العقل محصوراً فلا يمكن أن يكون حكماً؛ لأن الحكم لا بد أن يكون غير محصور؛ لأن الزمان غير محصور إلا بنهايته الحتمية التي تأتي وهي نهاية الدنيا.

ولأن المكان غير محصور كذلك إلا بتنوع ما خلق الله من الأمثلة في هذه الأرض، واختلاف ألسنة الناس وألوانهم؛ فكل ذلك يقتضي أن يكون التشريع خارجاً عن عقول البشر, فشرع الله سبحانه وتعالى للناس هذا الدين، وبناه أتم بنيان ورتب بعضه على بعض، وجعله جميعاً من عند الله, فلو اختلفت نظراتنا نحن إلى أهميته، ورأى بعضنا الاهتمام ببعضه دون بعض؛ فإنما ذلك لجهلنا بقيمة الجانب الذين نظنه أدنى، فما شرعه الله سبحانه وتعالى كله هو مصلحة البشر في الدنيا أو في الآخرة؛ فما عرفنا مصلحته في الدنيا هو الذي يسميه الناس بالتعللات، وما لم نعرف مصلحته في الدنيا وكانت مصلحته أخروية فهو الذي يسميه الناس بالتعبديات.

والأحكام كلها إما تعليلية أو تعبدية, فالتعليلية: معناه ما أدرك البشر علاقته بالمصلحة الدنيوية كقطع يد السارق وجلد شارب الخمر ونحو ذلك، وكترتيب العقود من إيجاب وقبول، فهذه يعرف البشر مصلحتها فيرونها تعليلية.

أما الجانب الثاني: فهو كترتيب أربع ركعات على زوال الشمس، وأربع ركعات على دلوكها، وثلاث ركعات على غروبها، وأربع ركعات على غيوب شفقها، وركعتين على طلوع فجرها, فهذه أمور لا يدركها العقل في هذه الحياة الدنيا.

فمصلحتها أخروية فهي التي تسمى بالجانب التعبدي؛ لكن يؤمن الإنسان المؤمن أنها قطعاً هي المصلحة، فلا يمكن أن تكون الصلاة المناسبة لوقت الفجر مثلاً: أربع ركعات، أو ثلاث ركعات، وقد اختار الله أن تكون ركعتين, ولا يمكن أن تكون الصلاة المناسبة لهذا الوقت الذي صلينا الآن ركعتين وقد اختار الله أن تكون أربع ركعات, فما اختاره الله هو المصلحة.

ولذلك فمن أراد أن يعرف قصور العقل فلينظر إلى عقول البشر؛ ولذلك لا يوجد اثنان على مستوىً واحد في العقل, وما من أحد إلا وهو راضٍ عن الله في عقله، وأقلهم عقلاً أرضاهم به.

فإذا عرفنا ذلك عرفنا أنه لا بد من الرجوع إلى الوحي في التشريع, وأن نعلم أن الوحي هو الحكم الذي لا يجور؛ لأنه من عند الله سبحانه وتعالى، وهو كلامه وأمره إلى عباده الذين خلقهم وسواهم.

الله لا يسأل عما يفعل

فأنت لو شوهت في خلقتك لكان بالإمكان ألا ترضى بمسلاخك، وتحب أن تكون أطول من هذا أو أقصر أو أبيض أو أسود أو أجمل أو أقبح, ويمكن أن تقترح أن يكون لك ثلاثة عيون أو أربعة عيون بدل عينين, لكن الله اختار لك هذه الصورة فخلقك في أحسن تقويم.

ولهذا فلم نرَ أحداً يعترض على أن له يدين أو عينين أو أذنين؛ فلماذا يعترض إذاً على الأحكام؟ ما الفرق؟

كل من عند ربنا؛ فالجميع من تدبير الخالق الكريم سبحانه وتعالى وهو أعلم؛ فلا يستطيع أحد أن يعترض عليه في شيء؛ ولذلك قال تعالى: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23], وقال تعالى: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا [الكهف:51], وقال تعالى: فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار:8], فهذا تركيب الله سبحانه وتعالى للعباد.

اهتمام شريعة الإسلام بالتفاصيل لكل صغيرة وكبيرة

وهذا الدين الذي شرعه الله للعباد قد رتب بعضه على بعض، فلا يمكن أن يستقيم بدون ذلك البعض؛ لأنه مبني عليه كدرجات السلم, هل يستطيع أحد أن يجد سلماً مقطوع الأسفل غير متصل بالأرض فيصعد عليه وينتفع به؟

أبداً، بل لا بد أن تكون درجات السلم مرتبةً ترتيباً يمكن من الانتفاع بها وإلا حصل الإشكال؛ فلذلك رتب الشارع الكريم الأحكام كلها عقائدها وأوامرها، ونواهيها، وآدابها، وأخلاقها، وحدودها، وقضاءها، وأحكامها، وسياستها، واقتصادها، واجتماعها ترتيباً جاء من عند الله سبحانه وتعالى، لا يمكن أن يخلف ولا أن يغير, وهذا الترتيب وإن كان مترتباً في التدريج، وفي هيئة الأداء وفيما نعرف نحن الحاجة إليه أو مبادرة الحاجة إليه، فالجميع مع ذلك من عند الله فلا بد من احترامه جميعاً وتقديره، ولا بد من معرفته جميعاً.

ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لـمعاذ رضي الله عنه لما أرسله إلى اليمن: ( ادعوهم إلى كبير الإسلام وصغيره )؛ فلا يمكن التجزئة في الإسلام, فالإسلام كله هو دين الله وليس بين الناس.

وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين لنا تفاصيل الأحكام حتى في دخول الخلاء وما يتعلق بذلك؛ ولهذا فإن حبراً من اليهود أتى سلمان الفارسي رضي الله عنه فقال: ( لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة، قال: أجل علمنا ألا نستقبل القبلة ولا نستدبرها ببول ولا غائط، وأن نستجمر بثلاث ), فهذا تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو من عند الله وتشريعه، وقد أمره الله أن يبين للناس ما أنزل إليهم.

القول بقصر الإسلام على بعض الجوانب دون بعض

وبهذا نعلم أن الشرع يتدخل في كل شيء, فمن ظن أن الإسلام مقصوراً على بعض الجوانب فهو إما جاهل به لا يعلم ما هو, وإما مغرور يرد على الله بعض ما شرع لعباده؛ كحال اليهود الذين قالوا: نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض, وكحال طائفة منهم الذين قالوا: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [آل عمران:72]؛ ولذلك فإن أبا بكر رضي الله عنه وقد وافقه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعاً، لما توفى الله رسوله صلى الله عليه وسلم فأراد العرب العلمانية إذ ذاك فقالوا: نقر الصلاة ونرد الزكاة، قال أبو بكر : إن الزكاة أخت الصلاة فوالله لأقاتلن من فرق بينهما.

فهذا الدين إذاً غير قابل للتجزئة، ولا يستطيع الإنسان أن يأخذ بعضه ويرد بعضه، إما أن تكون مقراً بأن الله عز وجل هو ربك الذي خلقك وأنعم عليك، ومقراً بأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الرسول الذي أرسل الله إليك، فلا بد أن تأخذ بكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من عند الله وألا ترد عليه شيئاً, أو أن تكون راداً على الله منكراً لربوبيته، راداً على محمد صلى الله عليه وسلم منكراً لرسالته فلا تأخذ شيئاً مما جاء به.

شمول الدين الإسلامي للجانب العقدي

إن هذا التشريع الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من عند الله قد نظم للناس كل شئون حياتهم؛ فنظم لهم علاقاتهم بربهم سبحانه وتعالى, فأنتم تعلمون أن الله سبحانه وتعالى لا يستطيع الناس أن يقدروه حق قدره وأنه هو العلي الكبير، وأنه هو ذو الجلال والكمال والجمال، لا يمكن أن يصل إليه عباده بنفع ولا ضرر, ولا يمكن أن يعرفوه إلا من خلال ما شرع.

فاحتاج العباد إذاً إلى ما يعرفهم بالباري سبحانه وتعالى، فجاء جانب من الدين هو جانب العقائد يعرف العباد بمنطلقات عقولهم؛ فهذا العقل الذي خلق الله لنا منطلقاته التي ينبني عليها تكون تصوراته هي هذه العقائد, وقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل؛ فبين ستة أركان هي محددات ومقومات إذا خرج عنها العقل فقد ضل عن سواء السبيل, فقال: ( أن تؤمن بالله, وملائكة, وكتبه, ورسله, واليوم الآخر, وتؤمن بالقدر خيره وشره ), هذه المنطلقات الستة هي التي تحكم تصورات العقول، وهي التي تقتضي من الإنسان أن يعرف ما قبله، وما بعده، وما هو محتاج إليه في وقته.

من أين للإنسان أن يعرف خلق آدم وقصص الأنبياء السابقين لو لم يأت الوحي بذلك, ومن أين له أن يعرف مشاهد القيامة وأشراطها والجنة والنار وما فيهما لو لم يأتِ الوحي بذلك؟ فالعقل محصور في حياة الإنسان لا يصل إلى ما قبله ولا يصل إلى ما بعده؛ فاحتاج الإنسان إذاً إلى تنوير خارجي، يعرف به ما هو محتاج إليه، وهذا التنوير هو الوحي المنزل من عند الله تعالى في مجال العقائد.

ثم بعد ذلك المعاملة مع الرب الكريم سبحانه وتعالى, وهذه المعاملة تقتضي أن يعبد حق عبادته, وأن يتقرب إليه بما يرضيه, وأن يسعى الإنسان لأن يكون من عباده المخلصين المخلَصين, ولا يمكن أن يتم ذلك من خلال مجرد نظرات العقول وتخميناتها, فلا يمكن أن يتقرب إلى الله إلا بما شرع, فلو أن الإنسان ترك سدىً وقيل له: تقرب إلى الله، ماذا سيعمل؟ طبعاً هو لا يراه؛ لأنه (لا تدركه الأبصار)، ولا يجد له مثالاً؛ لأنه (ليس كمثله شيء)؛ فكيف يتقرب إليه؟ لا يمكن أن يتقرب إليه حينئذٍ.

ولهذا كان عبد الواحد بن عاش الحكيم رحمه الله حين قال: الحمد لله الذي علمنا من العلوم ما به كلفنا, ولو كلفنا ولم يعلمنا لكانت مشكلة.

شمول الدين الإسلامي للتعامل مع البشر

كذلك ما يتعلق بالتعامل بين البشر، فإن الله قد أعطى بعضهم ما لا يحتاج إليه، وأعطى آخر ما يحتاج إليه ذلك البعض السابق؛ فلو وكلوا إلى آرائهم لكان القوي يأخذ ما يريده وما يرغب فيه بالقوة عن طريق الغصب, وكان الضعيف يحتال لذلك عن طريق السرقة, لكن الله تعالى رتب لهم البيوع والعقود التي يتقاضون فيها حقوقهم، فيصل كل إنسان إلى حاجته عن طريق عقل موثق مبناه على الرضا: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29], إنما البيع عن تراض، فيتراضون جميعاً فلا تقع مشكلة، لا يحتاج الضعيف إلى السرقة, ولا يحتاج القوي إلى الغصب والانتزاع، فكل له وسيلة الامتلاك ما يرغب فيه، وهي العقود التي شرعها الله وفيها التراضي والتساوي؛ فيكون بذلك العدل مبسوطاً على هذه الأرض لا يحتاج فيه الإنسان إلى تغيير ولا إلى انتزاع ولا إلى وساطة ولا إلى مساعدة، حقه بين يديه.

وكذلك ما يتعلق بالعيوب والأعراض والأمراض التي يقع فيها الناس، فإن الناس عرضة لأن يستخفهم الشيطان فيقعوا في الذنوب الخطيرة, وهذه الذنوب بعضها اعتداء على الحرمات البشرية كالقتل وكالزنا وكالسرقة، وبعضها اعتداء على مقدسات المجتمع، وعلى أصول الدين كالردة مثلاً عن الإسلام وكالحرابة وإخافة الطريق.

فالأول: ما يتعلق بالردة اعتداء على ثوابت الدين ومبادئه.

والثاني: اعتداء على مقومات المجتمع وأخلاقياته, فيحتاج إذاً إلى علاج لهذه الأمور التي يستخف الشيطان إليها بعض الناس، وهذا العلاج لا يمكن أن يكون من الناس؛ لأن الناس متفاوتون في لين القلوب وقسوتها وفي الرحمة والشدة والفظاظة والغلظة فهم متفاوتون في ذلك.

ولهذا تجدون القضاة إذا اتبعوا الهوى مالوا فحكموا أحكاماً جائرة بعيدة عن طريق الحق كل البعد؛ لأنهم حينئذٍ سيقلدون الهوى، وقد قال الله تعالى لداود عليه السلام: يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ [ص:26].

فلذلك شرع الشارع علاجاً لهذه الأمور جميعاً، هذا العلاج بدايته أولاً الإثبات؛ فمنطلق الشرع أن كل شيء لم يثبت فلا عبرة به, فالأصل في الإنسان السلامة والاستقامة ما لم يثبت انحرافه؛ ولذلك فهذا خلاف ما ينتهجه الظلمة اليوم، فيرون أن الإنسان الأصل فيه أنه متهم فيوضع في السجون، ثم بعد ذلك يحاولون إثبات التهمة عليه فيما بعد.

والواقع أن الشرع جعل الإنسان في الأصل بريئاً حتى تثبت إدانته، وهذا الإثبات لا يكون إلا بالبينات ووسائل الإثبات المعتبرة شرعاً, ثم إذا ثبتت فقد جعل الشارع أنصبتها مختلفة, فالزنا لا يثبت إلا بشهادة أربعة عدول، شهدوا بهيئة واحدة في وقت واحد على صورة واحدة، وما سوى ذلك من الحدود يثبت بشهادة عدلين من أهل الشهادة، وما يتعلق بالأموال يثبت أيضاً بشهادة الرجال والنساء، اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [البقرة:282], فهذه الأمور جعل الشارع لها أنصباء للإثبات, لا بد من الاقتصار عليها وعدم التعدي عليها.

ثم بعد الثبوت فاوت الشارع بين هذه الأمراض فيما يتعلق بالعلاج، فرتب حدوداً من عند الله تعالى هي الجوابر الزواجر، لو عطلت وتوقفت لما صلحت تلك الأخطاء ولما صححت أبداً, فلو عطل حد القصاص مثلاً لاعتدى بعض الناس على بعض؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، ولكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر ).

ولو عطل حد الردة لتسارع أصحاب الأهواء والبدع المضلة إلى ما يلقيه الشيطان في آذانهم ورءوسهم فأفسدوا الناس بذلك.

ولو عطل حد شرب الخمر كما تشهدون الآن؛ لكانت أم الخبائث عنها يصدر كل خبيث فهي سبب القتل، وهي سبب السرقة، وهي سبب النهب، وهي سبب الاعتداء على الأعراض وغير ذلك؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لحد واحد يقام على الأرض خير لأهلها من أن يمطروا سبتاً ), أي: أسبوعاً كاملاً، وفي رواية: (شهراً), حد واحد يقام على الأرض.

وتعطيل هذه الحدود محادة لله في ملكه, كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لـأسامة : ( أتشفع في حد من حدود الله؟ فمن حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد حاد الله في ملكه ).

كذلك ما شرعه الشارع من الآداب والقيم والأخلاق التي تقتضي من الكبير أن يرحم الصغير، ومن الصغير أن يوقر الكبير، وتقتضي أن ينزل الناس منازلهم، وأن يعتنى بكل إنسانٍ فيوضع في محله المناسب، هذه أمور شرعها الشارع وبها استقامة شئون الدنيا، ولو اختل شيء منها لما استقامت هذه الحياة الدنيا, فيحتاج الناس إلى الأخذ بهذه الآداب وإقامتها على وجهها الصحيح, ولو حصل اعتراض في هذه الآداب؛ فأراد إنسان أن يخلع ملابسه مثلاً في الشارع، أو أرادت امرأة أن تتبرج في الشارع بحضرة الناس، أو أن يقع الاختلاط بين الرجال والنساء أو نحو ذلك مما هو مخالف لهذه القيم والأخلاق التي شرعها الشارع الحكيم، فهذا ليس فقط اعتداءً على شخصية ذلك الإنسان المقترف؛ بل هو اعتداء على الأمة كلها؛ لأنه تغيير لمجرى حضارتها، وقيمها وأخلاقها، وما هي مقتنعة به.

ومن هنا فأذكر قديما قبل عدة سنوات أنه عقد مؤتمر في باريس مؤتمر بورفيه، مؤتمر الاتحاد الإسلامي، الجمعيات الإسلامية العاملة في فرنسا, فكان من المحاضرين الذين تقررت دعوتهم امرأة وكانت دكتورة في الفقه، ولكنها كانت متبرجة، فوقع القائمون على المؤتمر في إحراج، فسيدعونها وستجلس بين الشيوخ والعلماء، فحاولوا إقناعها بالتستر فلم تقبل وقالت: هذا منافٍ للحريات، وأنا حرة وسأختار لنفسي شعاري المناسب, فوقعوا في حرجٍ شديد فكلموني فقلت: اتصلوا بها وأعطوني إياها بالتلفون, فأعطوني إياها، فقلت: أليست كل دولة تشترط شروطاً لدخول بلادها في التأشيرة؟ فقالت: بلى. فقلت: إذاً المؤتمر يشترط زياً معيناً لدخوله، فهو شرط لتأشيرته. فأنا عرفت أنها مفتونة، ولو بدأت أناقشها فيما يتعلق بالحجاب لطال النقاش ولم يكن لذلك فائدة, فقالت: الآن اقتنعت فمن حق المؤتمرين أن يشترطوا زياً معيناً وأنا أقبله؛ فلذلك يحتاج إلى الحفاظ إلى هذه القيم، وهذه الأخلاق وترسيخها وبقائها.

كذلك أن يعلم أن قطيعة الرحم وعقوق الآباء والأمهات ونحو ذلك ليس اعتداءً فقط على الآباء والأمهات أو على الرحم المقطوع؛ بل هو اعتداء على الأمة كلها؛ ولهذا قال الله تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22-23], يحتاج الناس إذاً إلى الأخذ بهذا الإسلام جميعاً، وألا يردوا شيئاً منه على الله سبحانه وتعالى، وأن يعلموا أن الرب الحكيم هو الذي شرع هذه الأحكام، وهو الذي رتبها وبناها، وسأضرب لكم مثالاً واحداً، وهو أن القيم الاقتصادية مبنية على القيم الخلقية، لو أن رئيساً من الرؤساء حرم الربا فرتب عليه أقوى العقوبات، ولكنه لم يعتنِ بالقيم الخلقية؛ فلم يرسخ إيثار الآخرة على الأولى, ولم يرسخ الأمانة، ولم يحارب الغش, ولم يحارب أكل مال الناس بالباطل، وترك الناس على أهوائهم، ولكنه فقط رتب عقوبةً عظيمة على الربا، هل سينزجر الناس عن الربا؟

إنهم ولا شك سيحتالون عليه بمختلف الحيل؛ لأنهم أصلاً مقبلون على الدنيا ويؤثرونها على الآخرة؛ ولأنه فشا فيهم الكذب والغش، وانعدمت فيهم الأمانة والصدق؛ فلذلك سيؤثرون أمور الدنيا، فيرابون ويحتالون على التخلص من القانون بالحيل ونحوها من الأمور التي تخرجهم من ورطاته، كالوساطات والرشوات ونحو ذلك.

فأنت لو شوهت في خلقتك لكان بالإمكان ألا ترضى بمسلاخك، وتحب أن تكون أطول من هذا أو أقصر أو أبيض أو أسود أو أجمل أو أقبح, ويمكن أن تقترح أن يكون لك ثلاثة عيون أو أربعة عيون بدل عينين, لكن الله اختار لك هذه الصورة فخلقك في أحسن تقويم.

ولهذا فلم نرَ أحداً يعترض على أن له يدين أو عينين أو أذنين؛ فلماذا يعترض إذاً على الأحكام؟ ما الفرق؟

كل من عند ربنا؛ فالجميع من تدبير الخالق الكريم سبحانه وتعالى وهو أعلم؛ فلا يستطيع أحد أن يعترض عليه في شيء؛ ولذلك قال تعالى: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23], وقال تعالى: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا [الكهف:51], وقال تعالى: فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار:8], فهذا تركيب الله سبحانه وتعالى للعباد.

وهذا الدين الذي شرعه الله للعباد قد رتب بعضه على بعض، فلا يمكن أن يستقيم بدون ذلك البعض؛ لأنه مبني عليه كدرجات السلم, هل يستطيع أحد أن يجد سلماً مقطوع الأسفل غير متصل بالأرض فيصعد عليه وينتفع به؟

أبداً، بل لا بد أن تكون درجات السلم مرتبةً ترتيباً يمكن من الانتفاع بها وإلا حصل الإشكال؛ فلذلك رتب الشارع الكريم الأحكام كلها عقائدها وأوامرها، ونواهيها، وآدابها، وأخلاقها، وحدودها، وقضاءها، وأحكامها، وسياستها، واقتصادها، واجتماعها ترتيباً جاء من عند الله سبحانه وتعالى، لا يمكن أن يخلف ولا أن يغير, وهذا الترتيب وإن كان مترتباً في التدريج، وفي هيئة الأداء وفيما نعرف نحن الحاجة إليه أو مبادرة الحاجة إليه، فالجميع مع ذلك من عند الله فلا بد من احترامه جميعاً وتقديره، ولا بد من معرفته جميعاً.

ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لـمعاذ رضي الله عنه لما أرسله إلى اليمن: ( ادعوهم إلى كبير الإسلام وصغيره )؛ فلا يمكن التجزئة في الإسلام, فالإسلام كله هو دين الله وليس بين الناس.

وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين لنا تفاصيل الأحكام حتى في دخول الخلاء وما يتعلق بذلك؛ ولهذا فإن حبراً من اليهود أتى سلمان الفارسي رضي الله عنه فقال: ( لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة، قال: أجل علمنا ألا نستقبل القبلة ولا نستدبرها ببول ولا غائط، وأن نستجمر بثلاث ), فهذا تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو من عند الله وتشريعه، وقد أمره الله أن يبين للناس ما أنزل إليهم.