دلالة قوله تعالى: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) على انتفاع الميت بسعي الأحياء
مدة
قراءة المادة :
14 دقائق
.
دلالة قوله تعالى: ﴿ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ﴾ على انتفاع الميت بسعي الأحياء
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فمن الأحكام التي كثُر الخلاف حولها بين الفقهاء قديمًا وحديثًا: حكم انتفاع الميت بسعي الأحياء، فمنهم من أجاز، ومنهم من منع، وكان عمدة استدلال المانعين هو قوله تعالى: ﴿ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ﴾ [النجم: 39]، وكثر النقاش حول دلالة هذه الآية على المراد؛ فوددت أن أقف عليها مفصلة، وبيان وجهة الفقهاء فيها، منتهيًا بذكر أحسن ما يمكن أن يقال في توجيه الاستدلال بها في هذه المسألة، فأقول وبالله التوفيق:
استدَل المانعون من الفقهاء بهذه الآية على عدم انتفاع الميت بشيء من سعي الأحياء مطلقًا[1]، وقالوا: إن الإنسان لا ينتفع إلا بعمله، فلا ينتفع بعملِ غيرِه من غير تسبب؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ﴾ [النجم: 39].
واعترض على استدلالهم هذا من وجوه عدة:
أولها: أن الحكم الوارد في هذه الآية هو من شرع إبراهيم وموسى؛ بدليل قوله تعالى في سياق النص الوارد به هذه الآية: ﴿ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ﴾ [النجم: 36، 37]، وما كان كذلك لا يكون حجة علينا.
قال عكرمة: كان هذا الحكم في قوم إبراهيم وموسى، وأما هذه الأمَّة، فلها سعيها وسعي غيرها[2].
قلت: شرع من قبلنا إذا ورد في القرآن أو السُّنة ولم يثبُت نسخه وتغييره، فهو شرع لنا يلزمنا العملُ به؛ لأن الشارع أقرَّه[3]، والحكم الوارد في هذه الآية من هذا القبيل، بل دلَّت عليه آيات كثيرة في القرآن الكريم، ومنها: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ [البقرة: 268]، وقال تعالى: ﴿ وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [يس: 54].
ثانيها: أن المراد من لفظ (الإنسان) في الآية الكافر دون المسلم، وعليه؛ فالمسلم له سعيه وسعي غيره.
قال الربيع بن أنس: (الإنسان هنا - في الآية - الكافر، وأما المؤمن، فله ما سعى وسعى غيره) [4].
قلت: إن لفظ (الإنسان) موضوعة لتعمَّ كلَّ إنسان، لا فرق بين كبير ولا صغير، ولا بين مؤمن ولا كافر، حتى إنها أينما وردت في القرآن الكريم أُريدَ بها المؤمن والكافر[5]، قال تعالى: ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر: 1 - 3]، فالاستثناء تخصيص لعموم لفظ (الإنسان)، ولو أريد بـ (الإنسان) الكافر، لما احتيج للاستثناء.
ثم إن سياق آيات سورة النجم يأبى إلا إرادة العموم؛ فهو في معرض بيان مصير الإنسان مؤمنًا كان أو كافرًا يوم القيامة، وأنه سيحاسَب على أعماله بالخير إن كانت خيرًا، وبالشر إن كانت شرًّا.
ثالثها: أن هذه الآية منسوخة[6].
قلت: إن دعوى النسخ لا تثبُت من عدة وجوه:
1- ذهب جمهور أهل التأويل إلى أن هذه الآية محْكمة[7]، وعليه؛ فلا يدخُلها النَّسخُ؛ فالمحْكَمُ لا يُنسخ.
2- أن الآية تتضمن الخبر، والنسخ لا يدخل الأخبار[8] إذا أريد به الخبر لا الإنشاء.
3- أن الحُكم المتضمَّن في الآية، ورَد في آيات أخرى مؤكَّدًا - كما سبق - ولم يقل أحد بنسخ بقية الآيات.
والذي يبدو لي أن الذي دفع بعض العلماء للقول بنسخ الآية، هو ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: "إنها - آية ﴿ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ﴾ [النجم: 39] - منسوخة بقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الطور: 21]، فيحصل الولد الطفلُ يوم القيامة في ميزان أبيه، ويُشفِّعُ الله تعالى الآباءَ في الأبناء، والأبناءَ في الآباء"[9].
قلت: إن المراد من قول ابن عباس رضي الله عنه: "إنها منسوخة"، أنها مخصَّصة؛ لأن النسخ على عهد الصحابة والتابعين لا يراد به دائمًا النَّسخ بالمعنى الاصطلاحيِّ الأصولي، وإنما النَّسخ عندهم أعمُّ من مراد الأصوليين؛ حتى إنهم يطلقون على تخصيص العموم نسخًا.
ومع ما تقدَّم من عدم إمكانية نسخ الآية، فإن من شروط النسخ: تحقُّق التناقض بين الدليلين حتى لا يمكن إلا اعتبار المتأخِّر ناسخًا للمتقدِّم، وإذا تأمَّلنا آية سورة النجم وآية سورة الطور لا نجد بين حكميهما تناقضًا، وإنما تعارضا في بعض ما يتناوله عموم آية سورة النجم وهم المؤمنون، فالحكم المقرَّر في آية النجم يشمل المؤمن والكافر بأنهم لا ينتفعون إلا بعملهم، وآية سورة الطور تثبت أن المؤمن ينتفع بعمل غيره، فكانت هذه الآية مخصِّصة لعموم آية سورة النجم.
رابعها: أن الإمام القرطبي - رحمه الله تعالى - حاول أن يتأوَّل الآية لإبعادها عن الاستدلال، فقال رحمه الله تعالى: "قلت - القائل القرطبي -: ويحتمل أن يكون قوله: ﴿ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ﴾ [النجم: 39] خاصًّا في السيئة، بدليل ما في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((قال الله عز وجل: إذا هَمَّ عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه، فإنْ عملها فاكتبوها سيئةً، وإذا هَمَّ بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة، فإنْ عملها فاكتبوها عشرًا))؛ رواه مسلم[10]، قال أبو بكر الوراق: ﴿ إِلَّا مَا سَعَى ﴾ [النجم: 39] إلا ما نوى، بيانه قوله صلى الله عليه وسلم: ((يبعث الناسُ يوم القيامة على نيَّاتِهم))[11]؛ ا.
هـ"[12].
قلت: أما قولُ القرطبي، فاحتمالٌ ناشئ عن غير دليل، ولا تحتمله الآية، وما استدلَّ به من حديث أبي هريرة رضي الله عنه لا يستقيم إلا عن طريق عدم اعتبار الهَمِّ من سعي الإنسان، وإذا كان كذلك فالآية نفسها تدل عليه؛ لأن السعي لغةً: هو العمل والكسب[13]، والهَمُّ لا يسمَّى عملًا، والإثابةُ على الهمِّ بالحسنة هو تفضُّلٌ من الله سبحانه وتعالى، والحكم في الآية هو من باب العدل، لا من باب الفضل، وسيأتي بيانه.
وسياق الآيات بعد هذه الآية يؤكِّد إرادة العموم، قال تعالى: ﴿ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى ﴾ [النجم: 40، 41]، ولا يمكن حمل الحساب على السيئات فقط دون الحسنات.
وأما مذهب الورَّاق فلا يحتمله لفظ (السعي) وهو في اللغة: العمل، والشارع فرَّق بين النية والعمل في الأحكام الشرعية[14]، وكلامه معتبر إذا أريد به أن الله تعالى يحاسب العبد ويجازيه على باعث عمله مع العمل، فإن الله تجاوز برحمته عن نية العمل السيئ إذا تحقَّقت ولم تقترن بعمل، بل إذا تُركت خوفًا من الله تعالى جازاه الله بالخير.
قلت: أحسن ما يقال في الآية: أنها عامة، وعمومها قابل للتخصيص بكلِّ ما قام الدليل الصحيح على التخصيص.
ومن الأدلة المخصِّصة لعموم الآية قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الطور: 21].
فإن الله سبحانه يلحق الأبناء بآبائهم بثواب الآباء من غير أن ينقص من أجور الآباء شيء[15].
فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله ليرفع ذريَّة المؤمن إليه في درجته، وإن كانوا دونه في العمل؛ لتقر بهم عينه، ثم قرأ: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ...
﴾ [الطور: 21] الآية، قال: ما نقصنا الآباء ممَّا أعطينا البنين))؛ قال الهيثمي: رواه البزار وفيه قيس بن الربيع، وثَّقَه شعبة، والثوري، وفيه ضعف [16].
وعنه رضي الله عنه قال شريك: "أظنه حكاه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده، فقال: إنهم لم يبلغوا درجتك أو عملك، فيقول: يا رب، قد عملت لي ولهم! فيؤمر بالإلحاق بهم، ثم تلا ابن عباس: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ...
﴾ [الطور: 21]؛ رواه الطبراني في الكبير[17].
فإن قيل: إن الآية وردت في إلحاق الذرية، وهذه الرواية في إلحاق الآباء.
قلت: إن لفظ الذرية يحتملهما، يدل عليه قوله تعالى: ﴿ وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ﴾ [يس: 41]، فأطلق الذرية على الآباء.
وهناك مُخصِّصَات أخرى لعموم الآية، وسيأتي ذكر بعضها.
والذي يبدو لي: أن اللام المقترنة بلفظ (الإنسان) في قوله تعالى: ﴿ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ﴾ [النجم: 39] تفيد المِلْك، ويشير إليه قول الزجاج: "ومعناه ليس للإنسان إلا جزاء سعيه؛ إن عمل خيرًا جُزِي خيرًا، وإن عمل شرًّا جُزِيَ شرًّا" [18]، وعليه؛ فيكون المعنى الذي تقرِّره الآية - والله أعلم - أن الإنسان لا يملك يوم القيامة إلا ما عمِل وكسبته يداه، وتسبَّب به، ويحاسب عليه، ويجب به له الحسنة بالحسنة، والسيئة بالسيئة، وأنه لا يستطيع ملك سعي غيره قهرًا، فهذا هو العدل، وأما تكثير الحسنات ومضاعفتها، فهو الفضل من الله سبحانه وتعالى: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ﴾ [البقرة: 245]، وقال عز وجل: ﴿ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ﴾ [الأنعام: 110].
فالآية قررت هذا، وما سوى ذلك لم تتعرَّض له لا بالإثبات ولا بالإلغاء، والله تعالى أعلم، ثم وجدت من أشار إلى ذلك، وهو الإمام القرطبي رحمه الله[19].
هذا ما أردت بيانه، والله أسأل أن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يجعل علمنا وعملنا خالصًا لوجهه الكريم، إنه نعم المولى ونعم النصير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[1] ينظر: أسنى المطالب 2/ 412، حاشية الجمل 2/ 210، منح الجليل 1/ 509، الفتاوى الكبرى، لابن حجر الهيثمي 2/ 28.
[2] ينظر: البحر المحيط، لأبي حيان 8/ 168.
[3] ينظر: آراء الأصوليين بالاحتجاج بشرع من قبلنا في: أصول الفقه الإسلامي في نسيجه الجديد، د.
مصطفى الزلمي، ص88.
[4] ينظر: البحر المحيط، لأبي حيان الأندلسي، 8/ 168.
[5] ورد لفظ (الإنسان) في بعض المواطن، وأريد بها شخصٌ بعينه، إلا أن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.
[6] ينظر: زاد المسير في علم التفسير، لابن الجوزي، 8/ 168.
[7] ينظر: البحر المحيط، لأبي حيان الأندلسي، 8/ 168.
[8] ينظر: البحر المحيط في أصول الفقه، للزركشي، 4/ 98.
[9] ينظر: الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، 18/ 114.
[10] صحيح مسلم، 1/ 117.
[11] رواه ابن ماجه، سنن ابن ماجه 2/ 1414.
[12] ينظر: الجامع لأحكام القرآن 18/ 115، التذكرة ص82.
[13] ينظر: لسان العرب، لابن منظور الأنصاري 2/ 151.
[14] فتارة تعتبر النية ويلغى الفعل، وتارة يعتبر الفعل وتلغى النية.
[15] ينظر: الجامع لأحكام القرآن، 17/ 67.
[16] مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، للحافظ ابن حجر الهيثمي 7/ 114.
[17] المعجم الكبير، للطبراني، 11/ 440.
[18] زاد المسير 8/ 80.
[19] ينظر: الجامع لأحكام القرآن، 18/ 114.