شرح الوصايا العشر [2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الصادق الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد:

فيقول الله عز وجل في الوصية الثانية: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً[الأنعام:151].

بعد الوصية بحق الله وهو التوحيد تأتي الوصية بحق الوالدين، فالوالدان اللذان قد ملأ الله قلوبهما بمحبة الإنسان والحنان عليه والعطف عليه، وجبلهما على ذلك، حتى لو كان من غير البشر، فالأتان عندما تضع ولدها تدافع عنه وتذود عنه الذئاب، وترفع رجلها عنه، وتحاول رفعه حتى يصل إلى ثديها ليرتضع منها، وهي في ذلك مثلاً لم تعلم إذا كانت أول مرة تضع، ولم تمسها يد بشر، ولم تروض، ولم تعود على أي تصرف، فإن الله سيملأ قلبها بالحنان على ولدها حتى ترفع حافرها عنه، وهكذا في جميع الخلائق، جميع الخلائق سواء منها ذوات السموم، أو ذوات البيض، أو ذوات الأولاد، كلها ملأ الله قلوبها بالحنان على أولادها وفراخها.

فلذلك كان حق الوالدين على الإنسان حقاً عظيماً، فقد ربياه صغيراً عندما كان مليئاً بالقذر، وكان الناس يقذرونه، فكانا يسهران على تنظيفه وتطهيره، وكان ضعيفاً لا يستطيع أن يرفع الشراب إلى فيه فقاما بذلك حتى وصلت يداه إلى فمه، وكان لا يجد ما يستر به بدنه، فستراه وعوداه على مصالحه، فلهما من الحق عليه الشيء الكثير.

مقدار حق الوالدين

إذا كان الإنسان يستشعر ضعفه أيام كان والداه إذا بكى في الليل سهرا عليه، وإذا أزعجهما بكاؤه صبرا عليه، فإذا استشعر الإنسان هذا فإنه سيستشعر ما لهما من الحق عليه، وهذا الحق لا يستطيع الإنسان الوفاء به مهما قدم.

وقد سمع ابن عمر رضي الله عنه رجلاً يحمل أمه على ظهره في الحج وهو يطوف، ويقول: هل كافأتك؟ فقال له ابن عمر : لا ولا زقية واحدة، لم تكافئها (ولا زقية) أي: صيحة واحدة عند وضعك.

فلذلك لا بد من استشعار حق الوالدين، ولا بد من العناية بهما عناية بالغة، ولا بد أن يخفض الإنسان لهما جناح الذل من الرحمة، ولا بد أن يخاطبهما بالقول الكريم، ولا بد أن يحرص على أداء حقهما في الحياة وحقهما بعد الممات، ولا بد ألا يؤثر عليهما أي إنسان آخر، فكثير من الناس يظن أنه إذا تزوج زوجة يحبها، وله بها تعلق فإنها ستسد له مسد أمه أو مسد والديه، وهذا من الخطأ في التفكير، فمن أحب إنساناً لشيء كرهه لفقده، فالمحبة الحاصلة إنما حصلت من أجل نظارته وجماله، أو من أجل ماله، أو من أجل مكانته، فإذا زال عنه هذا فستذهب تلك المحبة، ولهذا قال صخر بن عمرو بن الشريد السلمي لما طعن فخرج من خصره مثل اليد، فعاش على فراشه يقلب، ولا يستطيع القيام بشيء من مصالح نفسه، فملته زوجته مللاً شديداً، وكانت أمه لا تمله، فإذا تألم بكت أمه، فبدرت دمعتاها قبل دمعتيه، يقطر دمعها قبل أن تقطر دمعته، ولا تنام حتى تستيقن أنه قد نام، ولا تتغذى حتى تغذيه، فقال:

أرى أم صخر لا تمل عيادتي وملت سليمى مضجعي ومكاني

وأي امرئٍ ساوى بأمٍ حليلة فلا عاش إلا في شقى وهوان

وقد دخل رجل على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإذا هو مستوي اليد اليمنى (يابسة) فقال: ما الذي لوى يدك؟ قال: دعوة أبي. فقال: ما ذاك؟ قال: لقد كنت عاقاً بأبي فضربته يوماً بالعصا، فقال:

وربيته حتى إذا ما تركته أخا القوم واستغنى عن المسح شاربه

وبالمحض حتى آض نهداً عنطنطاً إذا قام ساوى غارب الفحل غاربه

فأخرجني منها لقى ولوى يدي لوى يده الله الذي هو غالبه

فاستجاب الله دعاء والده فيه، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أن دعوة الوالد مستجابة ).

ونهى الأم أن تدعو على ولدها في حال غضبها؛ لئلا يستجاب لها فيه، حتى في حال الغضب إذ دعت عليه استجيب لها، فدعوة الوالد مستجابة مثل دعوة المظلوم، ودعوة المسافر في الطاعة مستجابة، ودعوة الصائم حتى يفطر كلها دعوات مستجابات، فلذلك لا بد من رعاية حق الوالدين.

ولا شك أن انتقال الناس من البداوة إلى الحضارة، ودراستهم في المدارس النظامية، ومخالطتهم لقرناء السوء، كل ذلك مما يزهدهم في حقوق الآباء والأمهات، وهذا من الغلط البين، فأبوك الذي كان سبباً في وجودك حتى لو كان متخلفاً من كل النواحي، وهو قطعاً خير لك من زميلك أو صديقك الذي تعرفت عليه.

وأيضاً فالإنسان الذي بينك وبينه هذه الثقة والقرابة إذا رآك تحتقر أباك، ولا تؤدي حقه فلا يمكن أن يثق بمحبتك.

لا تثقن بصداقة عقق لقطعه من وصله منك أحق

إذا كان عاقاً بوالده فكيف أقتنع أنا بأنه سيبرني؟ لا يمكن أن يحصل على ثقتي أبداً، ولذلك لا بد أن نتذكر أن حق الوالدين عطفه الله على حق نفسه في عدد كثير من الآيات، فقال تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً[النساء:36]، وقال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً[الإسراء:23]، فلا بد من الإحسان إليهما، والمبالغة في إكرامهما.

وقد قال أهل العلم: "من الأمور ما لا يدخله الرياء وهو: إكرام الضيف، وبر الوالدين". فهذا من القربات التي لا يدخلها الرياء، وينبغي للإنسان أن يبالغ فيها وأن يزيد وأن يظهرها.

فبر الإنسان بوالديه دليل على شرفه ومروءته وكرم أخلاقه، ودليل على أنه فعلاً يقدر ما وصل إليه من المعروف، والإنسان الذي لا يقدر والديه، ولا يحترمهما ولا يقوم بحقوقهما لا يمكن أن يكون من الذين يعاملون المحسن بالإحسان، ولا يمكن أن يكون من الذين إذا أحسنت إليهم كافئوك؛ لأن أبلغ الناس في الإحسان إلى الإنسان بعد النبي صلى الله عليه وسلم والداه اللذان نزلاه؛ فلذلك قال: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً[الأنعام:151] وهذه وصية الله الثانية من هذه الوصايا.

طاعة الوالدين مطلقة

والغريب في الأمر أن الله تعالى لم يفصل في الوالدين، سواء كانا صالحين أو فاسدين، عالمين أو جاهلين، غنيين أو فقيرين، قويين أو ضعيفين، لم يفصل الله في ذلك، فأسوأ الوالدين خلقاً، وأقلهم علماً هو داخل في قوله: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً[الأنعام:151]، بخلاف الولد، فالولد إنما يكون مزية لأبيه إذا كان صالحاً؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية).

فالولد إنما يكون مزية لأبيه إذا كان صالحاً، فإذا كان فاسداً لا نفع فيه، والوالد حقه على الولد ثابت حتى لو كان غير صالح، فلا بد من القيام بحق الوالدين، وتذكر أن حاجتهما إلى الإنسان هي عند ضعفهما وافتقارهما، فإذا لم يجداك في وقت الحاجة فمتى يجدانك؟ متى يجدانك تنتظرهما لتجدهما في عرصات القيامة؟

ولذلك يقول أمية بن الأسكر الثقفي رضي الله عنه وهو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:

يا ابني أمية إني عنكما غاني وما الغنا غير أني مرعش فاني

يا ابني أمية إلا تشهدا كبري فإن نأيكما والسكن مثلان

إذ يحمل الفرس الأحوى ثلاثتنا وإذ فراقكما والنأي مثلان

أمسيت هزءاً لراعي الضأن أعجبه ماذا يريبك مني راعي الضان

انعق بضأنك في نجم تحصله من المواضع واحبسها بجمدان

إن ترع ضأناً فأني قد رعيتهم بيض الوجوه بني عمي وإخواني

فلا بد من مراعاة حقهما عند حاجتهما وافتقارهما وكبرهما، وعلى الإنسان ألا يمل من خطابهما، فقد صبرا عليه في صباه عندما كان لا يعقل، فكان يبكي آناء الليل وأطراف النهار وهما يصبران على أذاه، فلذلك على الإنسان أن يتحملهما، وأن يصبر عليهما، وأن يعلم أنه إذا فارقاه فلن يجد من يتحمل له من المودة والمحبة والإخلاص والدعاء كما يتحمل له والداه.

وأذكر شيخاً من شيوخ الدعوة الإسلامية، من الدعاة المشاهير في العالم كانت له أم صالحة عابدة، فتوفيت رحمة الله عليها، وهو الشيخ جاسم المهلهل أبو معاذ فجاء إلى إخوانه فقال: إنه كان لي من أُترك في وجهه، وينوب عني في الصدقة والدعاء، ويعوذني وأنا مشغول في هموم الدعوة وأمور الدين، واليوم قد فقدت ذلك الإنسان الذي كنت أترك في وجهه، فدعوا لي وقتاً أحصن فيه نفسي. هذه الوالدة كانت تتصدق عنه، وكانت تدعو له، وكانت تعوذه، وكانت تحصنه وهو مشغول، فلما توفيت تذكر أنه قد بقي لديه فراغ كبير جداً في مكان أمه.

فعلى الإنسان أن يتذكر ذلك إذا ذهب والداه وماتا، أليس سيبقى لك فراغ كبير جداً في مكانهما؟ فلا بد أيضاً من الإحسان إليهما.

إذا كان الإنسان يستشعر ضعفه أيام كان والداه إذا بكى في الليل سهرا عليه، وإذا أزعجهما بكاؤه صبرا عليه، فإذا استشعر الإنسان هذا فإنه سيستشعر ما لهما من الحق عليه، وهذا الحق لا يستطيع الإنسان الوفاء به مهما قدم.

وقد سمع ابن عمر رضي الله عنه رجلاً يحمل أمه على ظهره في الحج وهو يطوف، ويقول: هل كافأتك؟ فقال له ابن عمر : لا ولا زقية واحدة، لم تكافئها (ولا زقية) أي: صيحة واحدة عند وضعك.

فلذلك لا بد من استشعار حق الوالدين، ولا بد من العناية بهما عناية بالغة، ولا بد أن يخفض الإنسان لهما جناح الذل من الرحمة، ولا بد أن يخاطبهما بالقول الكريم، ولا بد أن يحرص على أداء حقهما في الحياة وحقهما بعد الممات، ولا بد ألا يؤثر عليهما أي إنسان آخر، فكثير من الناس يظن أنه إذا تزوج زوجة يحبها، وله بها تعلق فإنها ستسد له مسد أمه أو مسد والديه، وهذا من الخطأ في التفكير، فمن أحب إنساناً لشيء كرهه لفقده، فالمحبة الحاصلة إنما حصلت من أجل نظارته وجماله، أو من أجل ماله، أو من أجل مكانته، فإذا زال عنه هذا فستذهب تلك المحبة، ولهذا قال صخر بن عمرو بن الشريد السلمي لما طعن فخرج من خصره مثل اليد، فعاش على فراشه يقلب، ولا يستطيع القيام بشيء من مصالح نفسه، فملته زوجته مللاً شديداً، وكانت أمه لا تمله، فإذا تألم بكت أمه، فبدرت دمعتاها قبل دمعتيه، يقطر دمعها قبل أن تقطر دمعته، ولا تنام حتى تستيقن أنه قد نام، ولا تتغذى حتى تغذيه، فقال:

أرى أم صخر لا تمل عيادتي وملت سليمى مضجعي ومكاني

وأي امرئٍ ساوى بأمٍ حليلة فلا عاش إلا في شقى وهوان

وقد دخل رجل على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإذا هو مستوي اليد اليمنى (يابسة) فقال: ما الذي لوى يدك؟ قال: دعوة أبي. فقال: ما ذاك؟ قال: لقد كنت عاقاً بأبي فضربته يوماً بالعصا، فقال:

وربيته حتى إذا ما تركته أخا القوم واستغنى عن المسح شاربه

وبالمحض حتى آض نهداً عنطنطاً إذا قام ساوى غارب الفحل غاربه

فأخرجني منها لقى ولوى يدي لوى يده الله الذي هو غالبه

فاستجاب الله دعاء والده فيه، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أن دعوة الوالد مستجابة ).

ونهى الأم أن تدعو على ولدها في حال غضبها؛ لئلا يستجاب لها فيه، حتى في حال الغضب إذ دعت عليه استجيب لها، فدعوة الوالد مستجابة مثل دعوة المظلوم، ودعوة المسافر في الطاعة مستجابة، ودعوة الصائم حتى يفطر كلها دعوات مستجابات، فلذلك لا بد من رعاية حق الوالدين.

ولا شك أن انتقال الناس من البداوة إلى الحضارة، ودراستهم في المدارس النظامية، ومخالطتهم لقرناء السوء، كل ذلك مما يزهدهم في حقوق الآباء والأمهات، وهذا من الغلط البين، فأبوك الذي كان سبباً في وجودك حتى لو كان متخلفاً من كل النواحي، وهو قطعاً خير لك من زميلك أو صديقك الذي تعرفت عليه.

وأيضاً فالإنسان الذي بينك وبينه هذه الثقة والقرابة إذا رآك تحتقر أباك، ولا تؤدي حقه فلا يمكن أن يثق بمحبتك.

لا تثقن بصداقة عقق لقطعه من وصله منك أحق

إذا كان عاقاً بوالده فكيف أقتنع أنا بأنه سيبرني؟ لا يمكن أن يحصل على ثقتي أبداً، ولذلك لا بد أن نتذكر أن حق الوالدين عطفه الله على حق نفسه في عدد كثير من الآيات، فقال تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً[النساء:36]، وقال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً[الإسراء:23]، فلا بد من الإحسان إليهما، والمبالغة في إكرامهما.

وقد قال أهل العلم: "من الأمور ما لا يدخله الرياء وهو: إكرام الضيف، وبر الوالدين". فهذا من القربات التي لا يدخلها الرياء، وينبغي للإنسان أن يبالغ فيها وأن يزيد وأن يظهرها.

فبر الإنسان بوالديه دليل على شرفه ومروءته وكرم أخلاقه، ودليل على أنه فعلاً يقدر ما وصل إليه من المعروف، والإنسان الذي لا يقدر والديه، ولا يحترمهما ولا يقوم بحقوقهما لا يمكن أن يكون من الذين يعاملون المحسن بالإحسان، ولا يمكن أن يكون من الذين إذا أحسنت إليهم كافئوك؛ لأن أبلغ الناس في الإحسان إلى الإنسان بعد النبي صلى الله عليه وسلم والداه اللذان نزلاه؛ فلذلك قال: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً[الأنعام:151] وهذه وصية الله الثانية من هذه الوصايا.

والغريب في الأمر أن الله تعالى لم يفصل في الوالدين، سواء كانا صالحين أو فاسدين، عالمين أو جاهلين، غنيين أو فقيرين، قويين أو ضعيفين، لم يفصل الله في ذلك، فأسوأ الوالدين خلقاً، وأقلهم علماً هو داخل في قوله: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً[الأنعام:151]، بخلاف الولد، فالولد إنما يكون مزية لأبيه إذا كان صالحاً؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية).

فالولد إنما يكون مزية لأبيه إذا كان صالحاً، فإذا كان فاسداً لا نفع فيه، والوالد حقه على الولد ثابت حتى لو كان غير صالح، فلا بد من القيام بحق الوالدين، وتذكر أن حاجتهما إلى الإنسان هي عند ضعفهما وافتقارهما، فإذا لم يجداك في وقت الحاجة فمتى يجدانك؟ متى يجدانك تنتظرهما لتجدهما في عرصات القيامة؟

ولذلك يقول أمية بن الأسكر الثقفي رضي الله عنه وهو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:

يا ابني أمية إني عنكما غاني وما الغنا غير أني مرعش فاني

يا ابني أمية إلا تشهدا كبري فإن نأيكما والسكن مثلان

إذ يحمل الفرس الأحوى ثلاثتنا وإذ فراقكما والنأي مثلان

أمسيت هزءاً لراعي الضأن أعجبه ماذا يريبك مني راعي الضان

انعق بضأنك في نجم تحصله من المواضع واحبسها بجمدان

إن ترع ضأناً فأني قد رعيتهم بيض الوجوه بني عمي وإخواني

فلا بد من مراعاة حقهما عند حاجتهما وافتقارهما وكبرهما، وعلى الإنسان ألا يمل من خطابهما، فقد صبرا عليه في صباه عندما كان لا يعقل، فكان يبكي آناء الليل وأطراف النهار وهما يصبران على أذاه، فلذلك على الإنسان أن يتحملهما، وأن يصبر عليهما، وأن يعلم أنه إذا فارقاه فلن يجد من يتحمل له من المودة والمحبة والإخلاص والدعاء كما يتحمل له والداه.

وأذكر شيخاً من شيوخ الدعوة الإسلامية، من الدعاة المشاهير في العالم كانت له أم صالحة عابدة، فتوفيت رحمة الله عليها، وهو الشيخ جاسم المهلهل أبو معاذ فجاء إلى إخوانه فقال: إنه كان لي من أُترك في وجهه، وينوب عني في الصدقة والدعاء، ويعوذني وأنا مشغول في هموم الدعوة وأمور الدين، واليوم قد فقدت ذلك الإنسان الذي كنت أترك في وجهه، فدعوا لي وقتاً أحصن فيه نفسي. هذه الوالدة كانت تتصدق عنه، وكانت تدعو له، وكانت تعوذه، وكانت تحصنه وهو مشغول، فلما توفيت تذكر أنه قد بقي لديه فراغ كبير جداً في مكان أمه.

فعلى الإنسان أن يتذكر ذلك إذا ذهب والداه وماتا، أليس سيبقى لك فراغ كبير جداً في مكانهما؟ فلا بد أيضاً من الإحسان إليهما.

ثم قال في الوصية الثالثة: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ[الأنعام:151].

أوصى بالأولاد أيضاً وصية ثانية، وهذا من تمام عدل الله سبحانه وتعالى ولطفه ورفقه، فلما أوصى الأولاد بالوالدين، أوصى كذلك الوالد بالأولاد، فقال: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ[الأنعام:151]، فحرم على الوالد قتل ولده؛ خشية أن يشركه في رزقه كما كان أهل الجاهلية يفعلون، فأهل الجاهلية كانوا يقتلون الذكور من الأولاد ويئدونهم؛ خشية المشاركة في مالهم، ويقتلون البنات خشية العار منهن، فحرم الله ذلك، وهنا قال: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ[الأنعام:151]، فهذا يشمل الذكور والإناث، ويشمل الكبار والصغار.

أنواع القتل للأولاد

وهذا القتل أنواع منوعة:

فمن القتل قتل عقيدة الولد، فتعويده صغيراً على الشركيات هو قتل له، وكذلك من القتل قتل خلق الولد، فتعويده صغيراً على الفاسد من الأخلاق هو قتل لمروءته، ومن القتل للولد قتل ثقافته وتعليمه، فإذا حيل بينه وبين التعلم في صباه فذلك قتل له:

أخو العلم حي خالد بعد موته وأوصاله تحت التراب رميم

وذا الجهل ميت وهو ماش على الثرى يعد من الأحياء وهو عديم

وكذلك من القتل للأولاد: ألا يعودهم الإنسان على ابتغاء مرضاة الله بالأعمال، فنقص الإخلاص هو من القتل؛ لأن الإنسان يذهب عمله هباءً منثوراً إذا لم يكن مخلصاً لله، وإذا عود في صباه على الإخلاص لله وقصد وجهه الكريم فذلك حياة له؛ لأنه سيعزم على ذلك ويقدم ما قدم وهو راضٍ به متقرب به إلى الله سبحانه وتعالى، وكل عمل أخلص فيه صاحبه فسيبارك الله فيه.

ولا شك أن مجتمعنا يحصل فيه كثير من القتل للأولاد من هذا القبيل، فكثير من الأولاد تنزع منهم الثقة في صباهم، فلا يؤتى بهم إلى المسجد، ولا يقامون في الصفوف، ولا يعودون على الطهارة، ولا يعلمون الأحكام، ولا تناقش معهم القضايا حتى أمور الدنيا، ولا يؤخذ رأيهم فيها، وهذا من القتل لهم؛ لأنه إضعاف لشخصياتهم وتقليل لشجاعتهم، فسيعيشون وهم أذلة، لا يستطيعون الكلام أمام الملأ، ولو قام أحدهم خطيباً لارتعشت بوادره، ولم يستطع أن يقول كلاماً، فكل ذلك بسبب قتل شخصياتهم وإضعافهم.

ومن هنا لا بد من تعويد الصغار على كل هذه الحقوق، وأداء حق الله فيهم؛ لئلا يقتل الإنسان شخصياتهم ومروءاتهم، أو دينهم، أو خلقهم، أو علمهم، أو شجاعتهم ونخوتهم، فكل تلك الأمور الإنسان مطالب بإحيائها لا بإماتتها.

لفتة بلاغية في قوله: (من إملاق) وقوله: (خشية إملاق)

ثم قال: مِنْ إِمْلاقٍ[الأنعام:151]، فـ(من) هنا ابتدائية، أي: ابتداء قتل الأولاد سببه الإملاق، أي: الفقر، وهو حاصل، أي الإملاق الذي حصل، أي: لا تقتلوهم بسبب الفقر، فإذا كنتم فقراء فإن ما لديكم من الغنى وما أنعم الله به عليكم كله من عند الله لا من عند أنفسكم، فلذلك قال: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ[الأنعام:151]، فبدأ برزقكم أنتم أولاً قبل رزقهم هم، وهذا الإملاق الحاصل. وفي الإملاق المتوقع انعكست الآية كما في سورة الإسراء: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ[الإسراء:31].

ولينظر إلى اللفتة البلاغية العجيبة، ففي سورة الأنعام قال سبحانه: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ[الأنعام:151] والإملاق هو الفقر قد حصل، فقال: من إملاق فابتدأ القتل منه. ثم قال: نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ[الأنعام:151]، وهذا الإملاق الحاصل علاجه هو رزق الله، فلذلك قال: نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ[الأنعام:151].

وفي آية الإسراء قال: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الإسراء:31]، فهم حالاً أغنياء ولكنهم يخشون الفقر في المستقبل، فقال: نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ [الإسراء:31] أي: نرزقهم هم الذين لم يرزقوا بعد، وأنتم لديكم مال، فلذلك قال: نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ[الإسراء:31].

وهذا النوع هو من تدبر القرآن الذي ينبغي أن نعود أنفسنا عليه والمقارنة في أساليبه العجيبة البديعة.

وهذا القتل أنواع منوعة:

فمن القتل قتل عقيدة الولد، فتعويده صغيراً على الشركيات هو قتل له، وكذلك من القتل قتل خلق الولد، فتعويده صغيراً على الفاسد من الأخلاق هو قتل لمروءته، ومن القتل للولد قتل ثقافته وتعليمه، فإذا حيل بينه وبين التعلم في صباه فذلك قتل له:

أخو العلم حي خالد بعد موته وأوصاله تحت التراب رميم

وذا الجهل ميت وهو ماش على الثرى يعد من الأحياء وهو عديم

وكذلك من القتل للأولاد: ألا يعودهم الإنسان على ابتغاء مرضاة الله بالأعمال، فنقص الإخلاص هو من القتل؛ لأن الإنسان يذهب عمله هباءً منثوراً إذا لم يكن مخلصاً لله، وإذا عود في صباه على الإخلاص لله وقصد وجهه الكريم فذلك حياة له؛ لأنه سيعزم على ذلك ويقدم ما قدم وهو راضٍ به متقرب به إلى الله سبحانه وتعالى، وكل عمل أخلص فيه صاحبه فسيبارك الله فيه.

ولا شك أن مجتمعنا يحصل فيه كثير من القتل للأولاد من هذا القبيل، فكثير من الأولاد تنزع منهم الثقة في صباهم، فلا يؤتى بهم إلى المسجد، ولا يقامون في الصفوف، ولا يعودون على الطهارة، ولا يعلمون الأحكام، ولا تناقش معهم القضايا حتى أمور الدنيا، ولا يؤخذ رأيهم فيها، وهذا من القتل لهم؛ لأنه إضعاف لشخصياتهم وتقليل لشجاعتهم، فسيعيشون وهم أذلة، لا يستطيعون الكلام أمام الملأ، ولو قام أحدهم خطيباً لارتعشت بوادره، ولم يستطع أن يقول كلاماً، فكل ذلك بسبب قتل شخصياتهم وإضعافهم.

ومن هنا لا بد من تعويد الصغار على كل هذه الحقوق، وأداء حق الله فيهم؛ لئلا يقتل الإنسان شخصياتهم ومروءاتهم، أو دينهم، أو خلقهم، أو علمهم، أو شجاعتهم ونخوتهم، فكل تلك الأمور الإنسان مطالب بإحيائها لا بإماتتها.

ثم قال: مِنْ إِمْلاقٍ[الأنعام:151]، فـ(من) هنا ابتدائية، أي: ابتداء قتل الأولاد سببه الإملاق، أي: الفقر، وهو حاصل، أي الإملاق الذي حصل، أي: لا تقتلوهم بسبب الفقر، فإذا كنتم فقراء فإن ما لديكم من الغنى وما أنعم الله به عليكم كله من عند الله لا من عند أنفسكم، فلذلك قال: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ[الأنعام:151]، فبدأ برزقكم أنتم أولاً قبل رزقهم هم، وهذا الإملاق الحاصل. وفي الإملاق المتوقع انعكست الآية كما في سورة الإسراء: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ[الإسراء:31].

ولينظر إلى اللفتة البلاغية العجيبة، ففي سورة الأنعام قال سبحانه: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ[الأنعام:151] والإملاق هو الفقر قد حصل، فقال: من إملاق فابتدأ القتل منه. ثم قال: نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ[الأنعام:151]، وهذا الإملاق الحاصل علاجه هو رزق الله، فلذلك قال: نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ[الأنعام:151].

وفي آية الإسراء قال: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الإسراء:31]، فهم حالاً أغنياء ولكنهم يخشون الفقر في المستقبل، فقال: نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ [الإسراء:31] أي: نرزقهم هم الذين لم يرزقوا بعد، وأنتم لديكم مال، فلذلك قال: نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ[الإسراء:31].

وهذا النوع هو من تدبر القرآن الذي ينبغي أن نعود أنفسنا عليه والمقارنة في أساليبه العجيبة البديعة.

قال تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأنعام:151].

هذه الوصية الرابعة، نهانا الله تعالى أن نقترب من الفواحش. والفواحش: هي الذنوب التي وصلت إلى درجة المبالغة في السوء والقبح، فالفاحش هو المتجاوز للحد، فيقال: فلان فاحش الطول، أو فاحش القصر، أي: متجاوز للمعتاد فيه، والذنب إذا تجاوز حد الكراهة الشرعية حتى كان مقيتاً شرعاً بغيضاً ذميماً كان فاحشاً، والفواحش تشمل الكبائر، ولكن الكبائر أخص منها، فكبائر الإثم داخلة في الفواحش، فكل كبيرة هي من الفواحش، لكن بعض الفواحش لا تدخل في حيز الكبائر، فإذاً كل كبيرة فاحشة من غير عكس.

ولهذا قال الله تعالى: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ[النجم:32]، فبدأ بالأكبر وهو كبائر الإثم، ثم ذكر الأوسط وهو الفواحش، ثم ذكر الأدنى وهو الصغائر، فلهذا قال: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ[النجم:32]، فهنا قال: وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ[الأنعام:151].

العلة في النهي عن الاقتراب من الفواحش

وهذه الوصية هي نهي عن الاقتراب من الفواحش، فيشمل ذلك كل تسبب فيها، فالإنسان ضعيف، وهو إن استطاع أن يمسك نفسه عما حرم عليه، أو عما قبح به في المروءة أمام الناس إذا خلا به لا يأمن أن يقع فيه، فلذلك عليه أن يمنع نفسه أصلاً من مواقع التهم، ولا يعرض نفسه للامتحان: هل ينجح أو لا ينجح؟ أنت غني عن هذا الامتحان أصلاً، فلذلك لا تنظر إلى ما حرم الله عليك؛ لأنك إن نظرت قد تسوقك تلك النظرة إلى ما لا تستطيع كف نفسك عنه؛ ولهذا يقول الحكيم:

كل الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر

كم نظرة بلغت في قلب صاحبها كمبلغ السهم بين القوس والوتر

والمرء ما دام ذا طرف يقلبه في أعين الغيد موقوف على الخطر

يسر مقلته ما ضر مهجته لا مرحباً بسرور عاد بالضرر

ويقول الآخر:

فإنك إن أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر

رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر

فيحتاج الإنسان إلى الابتعاد أولاً عن تلك الفواحش، فليحذر من أسبابها، فهي متدرجة في خطوات، كما قال أحمد شوقي :

نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء

فالفواحش كلها متدرجة، تبدأ بالشيء اليسير، ويظنه الإنسان لا يساوي شيئاً، وقد نكتت نكتة سوداء في قلبه، وحصل شرخ أو صدع في إيمانه، ثم لا يزال الأمر يزداد حتى يتسع الخرق على الراقع.

فلذلك على الإنسان أن يفر قبل أن يقع، فالإنسان بعد وقوعه يصعب عليه الفراق، فلذلك لا بد من الفرار عن بعد، وحاول يا أخي أن تستغني بحلال الله عن حرامه، وإذا أغناك الله بالحلال ولو كان قليلاً فاستغن به عن الحرام، ولا تعرض على نفسك أكل الربا، ولا تعرض على نفسك الاقتراب من أي محرم من المال، ولا تعرض على نفسك التفريط في أية أمانة من الأمانات، ولا تعرض على نفسك غش الناس في أي تعامل، ولا تعرض على نفسك الكذب في أية معاملة، ولا تطلب ربحاً بكذب في أية معاملة، ولا تعرض على نفسك، وكذلك في أمورك الخاصة أيضاً نظراً إلى حرام، أو استماعاً إليه، أو مجالسة لأهله، فإنه سريع العدوى، وقد قال عمرو بن العاص رضي الله عنه:

إذا المرء لم يترك طعاماً يحبه ولم ينه قلباً غاوياً أين يمما

قضى وطراً منه وغادر سبة إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما

فلا بد أن يحرص الإنسان على الابتعاد، فالفرار الفرار من كل ما نهى الله عنه، فعلى الإنسان أن يحذر هذه المناهي، كما يحذر الأسد وكما يفر من المجذوم.

أنواع الفواحش

ثم بعد هذا قال: وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ[الأنعام:151].

والفواحش أنواع منوعة:

فمنها الظاهر الذي يفعله الناس جميعاً، ولا يلوم بعض الناس بعضاً فيه، كالغيبة، والنميمة، والكذب، وازدراء المسلمين، واحتقارهم، والطعن في أنسابهم، والغش في البيع والتزوير، وغير ذلك من المحرمات الظاهرة المنتشرة بين الناس.

والقسم الثاني: هو المستور، وهو الذي لا يستطيع الناس فعله في الشارع، ولا في المكاتب، ولكنهم يخفونه، وهذا ما بطن منها.

وقد قال بعض أهل العلم: "(ما ظهر منها) هو عمل الجوارح. (وما بطن) عمل القلب". لكن التفسير الأول أظهر، وهو أن ما ظهر من الفواحش ما أعلنه الناس ونشروه، وأن ما بطن من الفواحش هو الشيء المكتوم الذي لا يشارك فيه كل أحد، ولا يفعله إلا متقياً ساتراً له.

وهذه الوصية هي نهي عن الاقتراب من الفواحش، فيشمل ذلك كل تسبب فيها، فالإنسان ضعيف، وهو إن استطاع أن يمسك نفسه عما حرم عليه، أو عما قبح به في المروءة أمام الناس إذا خلا به لا يأمن أن يقع فيه، فلذلك عليه أن يمنع نفسه أصلاً من مواقع التهم، ولا يعرض نفسه للامتحان: هل ينجح أو لا ينجح؟ أنت غني عن هذا الامتحان أصلاً، فلذلك لا تنظر إلى ما حرم الله عليك؛ لأنك إن نظرت قد تسوقك تلك النظرة إلى ما لا تستطيع كف نفسك عنه؛ ولهذا يقول الحكيم:

كل الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر

كم نظرة بلغت في قلب صاحبها كمبلغ السهم بين القوس والوتر

والمرء ما دام ذا طرف يقلبه في أعين الغيد موقوف على الخطر

يسر مقلته ما ضر مهجته لا مرحباً بسرور عاد بالضرر

ويقول الآخر:

فإنك إن أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر

رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر

فيحتاج الإنسان إلى الابتعاد أولاً عن تلك الفواحش، فليحذر من أسبابها، فهي متدرجة في خطوات، كما قال أحمد شوقي :

نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء

فالفواحش كلها متدرجة، تبدأ بالشيء اليسير، ويظنه الإنسان لا يساوي شيئاً، وقد نكتت نكتة سوداء في قلبه، وحصل شرخ أو صدع في إيمانه، ثم لا يزال الأمر يزداد حتى يتسع الخرق على الراقع.

فلذلك على الإنسان أن يفر قبل أن يقع، فالإنسان بعد وقوعه يصعب عليه الفراق، فلذلك لا بد من الفرار عن بعد، وحاول يا أخي أن تستغني بحلال الله عن حرامه، وإذا أغناك الله بالحلال ولو كان قليلاً فاستغن به عن الحرام، ولا تعرض على نفسك أكل الربا، ولا تعرض على نفسك الاقتراب من أي محرم من المال، ولا تعرض على نفسك التفريط في أية أمانة من الأمانات، ولا تعرض على نفسك غش الناس في أي تعامل، ولا تعرض على نفسك الكذب في أية معاملة، ولا تطلب ربحاً بكذب في أية معاملة، ولا تعرض على نفسك، وكذلك في أمورك الخاصة أيضاً نظراً إلى حرام، أو استماعاً إليه، أو مجالسة لأهله، فإنه سريع العدوى، وقد قال عمرو بن العاص رضي الله عنه:

إذا المرء لم يترك طعاماً يحبه ولم ينه قلباً غاوياً أين يمما

قضى وطراً منه وغادر سبة إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما

فلا بد أن يحرص الإنسان على الابتعاد، فالفرار الفرار من كل ما نهى الله عنه، فعلى الإنسان أن يحذر هذه المناهي، كما يحذر الأسد وكما يفر من المجذوم.

ثم بعد هذا قال: وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ[الأنعام:151].

والفواحش أنواع منوعة:

فمنها الظاهر الذي يفعله الناس جميعاً، ولا يلوم بعض الناس بعضاً فيه، كالغيبة، والنميمة، والكذب، وازدراء المسلمين، واحتقارهم، والطعن في أنسابهم، والغش في البيع والتزوير، وغير ذلك من المحرمات الظاهرة المنتشرة بين الناس.

والقسم الثاني: هو المستور، وهو الذي لا يستطيع الناس فعله في الشارع، ولا في المكاتب، ولكنهم يخفونه، وهذا ما بطن منها.

وقد قال بعض أهل العلم: "(ما ظهر منها) هو عمل الجوارح. (وما بطن) عمل القلب". لكن التفسير الأول أظهر، وهو أن ما ظهر من الفواحش ما أعلنه الناس ونشروه، وأن ما بطن من الفواحش هو الشيء المكتوم الذي لا يشارك فيه كل أحد، ولا يفعله إلا متقياً ساتراً له.

ثم بعد هذا قال: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ[الأنعام:151].

هذه الوصية الخامسة: وهي الابتعاد عن قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق.

درجات النفس من حيث القتل وعدمه

هنا ثلاث درجات:

الدرجة الأولى: النفس التي لم يحرم الله قتلها، وهي نفس الكافر الحربي.

الدرجة الثانية: النفس التي حرم الله قتلها بسبب، أو كانت في الأصل محرمة لسبب عارض، مثل نفس كافر يدفع الجزية للمسلمين وهو الذمي، أو الكافر الذي بينه وبين المؤمنين عهد وهو المعاهد، أو المؤمن الذي لا يحل دمه في الأصل، ولا يحل الاعتداء عليه إلا بالحق.

والدرجة الثالثة: هي المؤمن أو المعصوم الدم الذي لا يمكن الاعتداء عليه بوجه من الوجوه.

فإذاً الدرجات ثلاث:

أولاها مباحة مطلقاً وهي نفس الكافر الحربي في الأصل: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ[التوبة:5].

والدرجة الثانية مباحة لعارض كالمسلم الزاني المحصن، أو القاتل عمداً عدواناً، أو الذمي، أو المعاهد الذي قتل عمداً عدواناً، أو اعتدى على المسلمين.

والدرجة الثالثة: هي المعصومة، وهي نفس المؤمن والمؤمّن، فالعصمة تكون بإيمان أو أمان.

فهذه ثلاث درجات، فلذلك قال: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ[الأنعام:151]، فهذا يشمل نفس الإنسان التي بين جنبيه، فلا يحل له أن يقتلها إلا بحق، وحقها هو الجهاد في سبيل الله، فإنما حرم الله تعالى قتل الإنسان نفسه إذا كان ذلك ظلماً عدواناً، فقال تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً[النساء:29-30].

وهذا المفعول لأجله وهو قوله: عُدْوَاناً وَظُلْماً[النساء:30]، مفهومه أن من فعل ذلك إيماناً واحتساباً لا ينطبق عليه الحكم.

التحذير من المشاركة في قتل النفس المحرمة

إن كل مشاركة في قتل مسلم فهي جريمة كبرى من أكبر الكبائر، وهي مخالفة لوصية الله الخامسة في هذه الآية، وهذه المشاركة ليست المشاركة بالسلاح فقط، بل المشاركة بشطر كلمة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولو بشطر كلمة) كأن يقول: اق، وهو يقصد اقتل فلا يكملها، فهي مشاركة في قتل وهي هلكة على الإنسان، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)، وقد قال الله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً[النساء:93]، فهذا التهديد العظيم من الله تعالى الذي يقتضي الخلود في النار أمر عظيم؛ لأنه يقتضي سوء الخاتمة.

ولذلك لا بد من الحذر من الفتن التي تؤدي إلى القتل، فلا بد أن يشيع الناس الأمن الاجتماعي فيما بينهم، حتى يأمن الإنسان على نفسه وماله، فكل ما يؤدي إلى الفتن والحروب الأهلية والمشكلات فهو مسدود شرعاً، ولا يحل للإنسان أن يسعى إليه ولو بشطر كلمة، ولا بد من سد هذا الباب نهائياً فلا فتح له، ولذلك ما فتح إلا رفع السيف على الأمة، والناس كثيراً ما يتساهلون في قضية الدماء في الفتن، فإذا وقع خلاف في أرض من الأراضي، أو وقع خلاف في مزرعة، أو على مال، أو حصلت خصومة بين اثنين، فكثيراً ما ينزغ الشيطان فتقع الدماء، وهذا ما سده الشارع وحرمه.

كذلك فإن من أسباب القتل أيضاً: فشو الفواحش، فأنتم تسمعون ما يشيع من القتل هنا على شاطئ المحيط، سببه الفواحش، وذلك بأن يتنافس اثنان في معصية من معاصي الله نسأل الله السلامة والعافية، فيقتل أحدهما الآخر؛ بسبب تلك المعصية، وهذا من شؤم الذنوب، فلذلك لا بد من سد كل باب يؤدي إلى القتل، ولا بد أن يعيش الناس بأمان وأمن، ولا يمكن أن يصلوا إلى الرخاء المنشود المطلوب، ولا أن يأمنوا ويطمئنوا في أداء نسكهم وعباداتهم وشعائرهم إلا إذا حصل الأمن، وهذا الأمن مطلب شرعي لم يأت نبي قط إلا بالحفاظ عليه، وهو من أبلغ ما يحقق مصالح أهل الأرض، ولو لم يقع الأمن في بلد من البلدان هل سيبني أهله مصانع؟ هل سيحسن أي إنسان منهم بناء بيته وزخرفته؟ ما فائدة ذلك وهو عرضة للتهديم في كل وقت.




استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4779 استماع
بشائر النصر 4275 استماع
أسئلة عامة [2] 4118 استماع
المسؤولية في الإسلام 4042 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 3981 استماع
نواقض الإيمان [2] 3937 استماع
اللغة العربية 3919 استماع
عداوة الشيطان 3919 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3892 استماع
القضاء في الإسلام 3882 استماع