خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/975"> الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/975?sub=4846"> سلسلة المحاضرات
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
تطور المعارف بتطور الحضارات [1]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى خلق آدم بيمينه، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وجعله خليفته في الأرض، وقد أخبر ملائكته أنه جاعل آدم خليفة في الأرض، وآدم إذ ذاك منجذب في الطينة، ثم كرم ذريته بأنواع التكريم، فقال تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70].
وقد أهبط الله آدم و حواء إلى هذه الأرض، واستخلف هذا الجنس البشري فيها، فوفر لهذا الجنس البشري في الأرض كل ما يحتاج إليه من الأمور، وهيأ له أسباب العيش الكريم في هذه الأرض، وجعل ما بهذه الأرض قابلاً للتدرج؛ لأنه لو استخرجت خيراته في اليوم الأول لما بقي للأجيال اللاحقة شيء تصنعه، مع هذا فإن في السنة الكونية الماضية بعلم الله أن البشر سيمرون بكثير من المراحل، وقد جاء في إدارة نوح : وهو وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً [نوح:14]، وفي إدارة محمد صلى الله عليه وسلم: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ [الانشقاق:19].
وهذه الأطباق منها في حياة الفرد تسع مراحل يمر بهذا الخلق، بينها الله في سورة المؤمنون، قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ[المؤمنون:12-16].
وهذا التطور في الفرد حصل نظيره في المجتمع، فالمجتمع البشري أول نشأته على الأرض كان مجتمعاً بدائياً، كل حاجياته مستوردة، كما قال الله تعالى في امتنانه على بني آدم: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26]، فبين أنه أنزل اللباس، وفي سورة الزمر بين أنه أنزل من الأنعام ثمانية أزواج، كذلك في بداية نشأة بني آدم.
ثم إن الزراعة كذلك نشأت في ذلك العصر عندما علم الله آدم الزراعة، وكان الملائكة يدلونه على أوجهها وهيئاتها، ثم علم الجيل الذي يلي ذلك طريقة النسيج؛ لأن الجيل الأول لا يمكن أن ينسج ما يكفيه ولهذا أنزل له اللباس من السماء، فعلم إدريس عليه السلام النسيج والحياكة، ثم بعد ذلك علم داود لبوس الحرب الذي يقي من بأس الحديد.
وهكذا تطورت الحضارة البشرية تبعاً للحاجة، فالاختراع وليد الحاجة، وكلما تجددت الحاجة تطورت الحضارة بسبب نشوء تلك الحاجة؛ لأنه يقتضي نشوء تفكير لحل المشكلات التي تتجدد.
والحضارة تنقسم إلى جانبين كبيرين:
أحدهما: الجانب المعنوي الذي يسمى بالثقافة.
والثاني: الجانب المادي الذي يسمى بالمدنية، فالحضارة كلها ترجع إلى هذين البابين.
فالباب الأول: هو الباب المعنوي وهو الثقافة، ولا شك أن للثقافة عوامل كثيرة في إنشائها وتطورها، فأعظم هذه العوامل الدين، فعلى أساسه تقوم الثقافة بكل المجتمعات؛ ولذلك فإن ثقافة البشر في بدايتها كانت تعليماً من الله لـآدم، فقد قال الله تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ[البقرة:31-33].
وكان هذا التعليم بداية مسابقة ثقافية نجح فيها آدم، فشرفه الله سبحانه وتعالى بالنجاح على الملائكة إيذاناً بأن هذا الجنس البشري مفضل على غيره من سائر الأجناس.
ثم إن أهل الأصول اختلفوا في اللغات هل هي توقيفية أو توفيقية؟ وذلك ناشئ أيضاً عن أن آدم علم أسماء الأشياء كلها، فهل ما علمه كان لغات العالم كما يذكره عدد من المفسرين؟ فكثير منهم يذكرون أن آدم علم اثنتين وسبعين لغة، وأنها أصول لغات العالم، أو أن آدم علم أسماء ما يحتاج إليه؟ ثم بعد ذلك يتوافق كل جيل وعصر على ما يحتاجون إليه من الكلمات والدلالات؛ لأن الحضارة تقتضي تطوراً في الآلات والمحدثات، وكل ما هو محدث يحتاج إلى تسمية، فيصطلح الناس على تسميته باسم جديد، فنحن اليوم عرفنا أنواعاً من المراكب التي كانت إنتاجاً لتطور الحضارة، ففي القرآن امتن الله على البشر ببعض المراكب فقال: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:8]، ويخلق: فعل مضارع يدل على الاستقبال، ومعناه: أن الله سيخلق للبشرية من أنواع المراكب ما لا يعلمونه وقت نزول الآية، فشمل ذلك السيارات والطائرات، وحتى المراكب الفضائية فهي داخلة في قوله: وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:8].
ولذلك هذه الأمور ليست معروفة قديماً عند واضعي اللغة، فمن أين لنا أن نعرفها؟ ولا شك أن كل موجود يحتاج إلى اسم يميزه، فاصطلح الناس على تسمية السيارة بالسيارة، مع أن هذا الاسم منقول، فأصله للقافلة، كما قال الله تعالى: وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ [يوسف:19]، فهي القافلة، ولكنه نقل فأطلق على هذه الآلة التي تركب في البر، وكذلك الطائرة اشتق لها هذا الاسم من صنعتها وهي: الطيران، فهذا اسم فاعل، أو صفة مشبهة من الطيران سميت به هذه الآلة التي تطير في الجو.
وكذلك المراكب الفضائية إلى الآن اسمها اسم مركب من خلال الصنعة، ومن خلال المجال الذي تعمل فيه، فتسمى مراكب وتنسب إلى الفضاء، والأصل في المجازات ألا تكون مركبة، بل الأصل في المجاز أن يكون الإطلاق فيه إما بالنقل، وإما بالاشتراك، فيكون اللفظ المعروف في باب من الأبواب ينقل للدلالة على الجديد.
ونقل التركيب في المجاز نادر عند كثير من اللغويين، وقد ذهب الجرجاني رحمه الله إلى تكذيب اللغويين، وقال: كل المجاز لا يكون إلا من خلال التركيب، فزيد أسد، هذا مجاز، لكنه لو لم يركب لما كان مجازاً، فلو قيل: أسد فقط دون ذكر زيد لما كان مجازاً، والواقع أن هذا الخلاف خلاف لفظي فقط لا ينبني عليه شيء؛ لأن قصد الجرجاني رحمه الله أن المجاز لا يعرف إلا من خلال السياق الذي ترد فيه الكلمة، وقصد غيره من العلماء أن الأصل في المجاز ألا يكون جملة بكاملها، بل كلمة واحدة ينقل دلالتها من مدلول إلى مدلول آخر بحسب تطور الحضارة.
تأثير الدين على الثقافة
والدين هو أكبر المؤثرات على الثقافة، ودليل ذلك أن الأمم السابقة إنما كانت تنطلق في تفكيرها وأيدلوجياتها، وفي شئون حياتها من خلال الدين، فبنو إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء، فهم الذين يعلمونهم ما يحتاجون إليه حتى فيما يتعلق بالسياسة، وفيما يتعلق بالاقتصاد، وفيما يتعلق بالاجتماع، فقد كان الأنبياء يتولون سياسة ذلك كله؛ ولهذا قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا [البقرة:246]، فبنو إسرائيل لجئوا إلى نبيهم ليقيم لهم ملكاً، فهذا دليل على أن الثقافة هنا أثرت حتى في المجال السياسي، فلم يكونوا ينتخبون ملوكهم ولا يختارونهم عن طريق الإرث أو غير ذلك، وإنما كانوا يلجئون إلى الأنبياء، فالجانب الديني كان مؤثراً في هذا المجال.
ومثل ذلك في مختلف المجالات الأخرى، ففي المجال الاقتصادي سأل بنو إسرائيل عيسى بن مريم أن ينزل عليهم مائدة من السماء، فسأل عيسى ربه ذلك فأنزلها، فكانت تأتي يحملها الملائكة تنزل من السماء، لا يطلب الإنسان نوعاً من أنواع المآكل إلا وجده فيها، حتى إذا شبعوا رفعتها الملائكة أربعين يوماً، وكانت آية من عند الله سبحانه وتعالى، وتثبيتاً لهم.
تأثير إنتاج عقول البشر على الثقافة
والمؤثر الثاني في الثقافة هو: إنتاج عقول البشر من الأدب والفكر، فالأدب هو ما يتعلق بالتعبير، والفكر هو ما يتعلق بالمعاني المعبر عنها، فهذان جانبان لإنتاج عقول البشر في هذا المجال، فالأدب لا شك أنه مؤثر في الثقافة تأثيراً كثيراً بالغاً؛ لأنه يحسن القبيح ويقبح الحسن، وقد ثبت في صحيح البخاري في حديث وفد بني تميم أن الزبرقان بن بدر لما عرف عمرو بن الأهتم بما يعرف فيه لدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عمرو : ( يا رسول الله! إنه ليعرف في أكثر مما قال ولكنه حسدني، فرد الزبرقان ، فسب عمراً ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرف الغضب في وجهه، فقال الزبرقان : يا رسول الله! والله ما كذبت في الأولى، ولقد صدقت في الثانية، ولكنني رضيت، فقلت أحسن ما علمت، وغضبت فقلت أسوأ ما علمت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من البيان لسحراً، وإن من الشعر لحكمة ).
وكذلك فإن المحسنات اللفظية كثيراً ما تغير توجهات الناس، كما قال الشاعر:
تقول هذا مجاج النحل تمدحه وإن تعب قلت ذا قيء الزنابير
مدحاً وذماً وذات الشيء واحدة سحر البيان يري الظلماء كالنور
فهو بمثابة السحر كما وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو يقلب الحقائق، فيحبب إلى الإنسان ما كان مكروهاً لديه، ويبغض لديه ما كان محبوباً؛ ولهذا فإن بني أنف الناقة كانوا يذمون بهذا الاسم بجاهليتهم حتى مدحه الحطيئة بقوله:
طافت أمامة بالركبان آونة يا حسنها من قوام ما ومنتقبا
إلى أن يقول:
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا
فمدحهم بهذا المدح فشرفوا به، فكان أحدهم إذا افتخر قال: أنا من بني أنف الناقة، وكانوا من قبل يقولون: من بني جعفر بن قريط.
وكذلك فإن بني نمير كانوا بجمرات العرب، ومن ذوي العزة والمكانة فيهم، فلما هجاهم جرير بقصيدته التي مطلعها:
أقلي اللوم عاذل والعتابا وقولي إن أصبت لقد أصابا
ثم قال في وصف أحلامهم وما هم عليه:
فغض الطرف إنك من نمير فلا كعباً بلغت ولا كلاب
فصار الانتساب إلى بني نمير بعد ذلك سبة لدى كثير من الناس، وقد اشتكى بنو عبد المدان بن الديال إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشاعر النجاشي حين هجاهم، فسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن هجائهم، وعندما هجاهم حسان بن ثابت بقوله:
لا بأس بالقوم من طول ومن عظم جسم البغال وأحلام العصافير
قالوا: لقد أفسدت علينا فخرنا، فكنا نفتخر بضخامة الأجسام، فدعاه عمر بن الخطاب ليسترضيهم، فاسترضاهم، فمدحهم بقوله:
وقد كنا نقول إذا رأينا لذي جسم يكون وذي بيان
كأنك أيها المعطى بياناً وجسماً من بني عبد المدان
وهذا التحسين والتقبيح الراجع إلى الألفاظ معروف حتى من الناحية العلمية، فإذا أراد العالم أن يحبب الفكرة، أو أن ينصر مذهباً من المذاهب، فإنه يعبر عن ذلك بتعبير جذاب يدعو إلى الأخذ به، وإذا أراد تحطيم مذهب من المذاهب ومجاوزته فإنه يعبر عنه تعبيراً ملائماً لذلك.
ولهذا يذكر عن الحافظ ابن حجر رحمه الله لما كان بينه وبين الإمام العيني نقاش في التعصب للمذهب الشافعي والمذهب الحنفي، وكان ذلك بين يدي ملك مصر، قال الحافظ ابن حجر : أنا لا أناقش بالكلام، ولكني أصلي لك صلاة مجزئة على مذهب أبي حنيفة وصلاة مجزئة على مذهب الشافعي ، فدعا بتور من ماء فيه ماء مطلق، فتوضأ وأحسن الوضوء، وأطال الغرة، وغسل إلى نصف العضد، وإلى نصف الساق، ومسح الرقبة مع الرأس، وغسل ثلاثاً وخلل الأصابع، واستاك قبل وضوئه، وذكر قبله اسم الله، ومذهب الشافعي أن البسملة واجبة في أول الطهارة.
ولما انتهى منه قام فبسط فراشاً جديداً، واجتهد في جهة القبلة اجتهاداً واضحاً يحدد الفراش إلى جهة القبلة تماماً؛ لأن الشافعية يرون أن قبلة الاجتهاد من قبلة العيان، بخلاف الحنفية فإنهم يتوسعون أخذاً بحديث: ( ما بين المشرق والمغرب قبلة، وما بين هذين قبلة )، فصلى ركعتين فأحرم، واستفتح وبسمل جهراً، وقرأ الفاتحة كما يفعل الشافعية، وقرأ سورة معها من القرآن، وركع فأطال الركوع قدر القراءة، ورفع وأطال الرفع من الركوع قدر الركوع، وهكذا حتى أكمل صلاته ثم سلم عن يمينه وشماله، ثم قال: هذه صلاة مجزئة على مذهب الشافعي .
ثم دعا بنبيذ فتوضأ به يغسل غسلة واحدة، واجتمع عليه الذباب، ولم يخلل أصابع رجليه ولا يديه، ومسح على ربع رأسه فقط، ثم بسط جلد كلب قد دبغ، ولم يحدد جهة القبلة تماماً، وأحرم ولم يفتتح، وقرأ: مُدْهَامَّتَانِ [الرحمن:64]، فقط، ولم يقرأ الفاتحة، ولا أية سورة كاملة؛ لأن الحنفية يرون أن قراءة الفاتحة واجب غير فرض في الصلاة، والفرق بين الواجب والفرض عندهم أن الفرض هو: ما وجب بدليل قطعي، وأما الواجب فهو: ما وجب بدليل ظني.
ويرون أن الفاتحة لا تعتبر واجبة، أي: أنه لو تركها الإنسان لم تبطل صلاته إذا قرأ غيرها من القرآن، اعتماداً على حديث المسيء في صلاته، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: ( ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن).
وهذا الذي فعله نحن نعلم أنه غير موافق للمذهب الحنفي؛ لأن الحنفية لا يرون جواز ترك الفاتحة اختياراً، لكنه فقط أراد التنبيه إلى هذه النكتة، ولم يقرأ إلا آية واحدة: مُدْهَامَّتَانِ [الرحمن:64]. وهي مبتورة من سياقها وأسلوبها، ولا يفهم معناها وحدها، ثم ركع ركوعاً سريعاً سبح فيه تسبيحة واحدة، ثم رفع ولم يستو قائماً؛ لأن الحنفية يرون أن الواجب هو الرفع فقط.
وهنا تنبيه: وهو أن كثيراً من الناس يظنون أن مذهب مالك في الرفع من الركوع ومن السجود إنما هو بقدر الواجب، وهذا غير صحيح؛ لكن فهموه من مختصر خليل ومن نظم ابن عاشر عندما ذكر الرفع ولم يذكر القيام والجلوس، مع أن المالكية يتفقون على أن الرفع من الركوع لا بد أن يكون بالقيام والاعتدال، وأن الجلوس بين السجدتين واجب كذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث المسيء في صلاته: ( ثم ارفع حتى تعتدل قائماً )، وقال في الرفع من السجود: ( ثم اجلس حتى تطمئن جالساً )، وهذا يقتضي وجوب القيام بعد الركوع، ووجوب الجلوس بعد السجود.
ثم بعد ذلك عندما أكمل هذه الصلاة لم يخرج منها بالسلام، وإنما خرج منها بناقض؛ لأن الحنفية يرون أن الخروج من الصلاة إذا كان بصنع الإنسان فإنه مبطل، وإن كان بغير صنعه، وكان قد أكمل التشهد فإنه غير مبطل.
والواقع أنه تجنى هنا كثيراً على المذهب الحنفي، لكن مع ذلك هذا يدل على أسلوب معين يقتضي نفرة، أو يقتضي جلباً وإقبالاً على الأمر الذي يريد الإنسان الترويج له.
تأثير البيئة على الثقافة
بعد هذا هناك عوامل أخرى بتطوير الثقافة بعد حصولها غير الدين، وغير الفكر البشري، وهذا التطوير هو نمط العيش.
فنمط عيش كل قوم مؤثر في ثقافتهم، ولهذا فإن أحد خلفاء بني العباس لما أتاه علي بن الجهم فمدحه بقوله:
أنت كالكلب في الوفاء وكالتيس في قراع الخطوب
فلما مدحه بهذا الغريب، قالوا: من أين جاء الرجل؟ فقيل لهم: من يلملم، فقال: أسكنوه في بيت حسن، في حديقة غناء، على شاطئ النهر، فأسكنوه في الرصافة في بغداد، وبعد مدة يسيرة مدحه بقصيدته التي مطلعها:
عيون المها بين الرصافة والجسر جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
فهذب هذا المسكن وهذه البيئة من حياة الرجل ومن أسلوبه، وغيرت طريقة تفكيره، فلا شك أن نمط العيش مؤثر، ولذلك تجدون عندنا في هذا البلد بعض الأساليب القديمة عندما كان الناس يعاملون الطبيعة القاسية، ويعانونها، فيكون شعرهم مثل الشعر الجاهلي، والذين سكنوا المدن، أو كانوا في بيئة قارة أصبحت لغتهم أسهل من ذلك.
وتجدون فرقاً شاسعاً بين أشعار بعض الشعراء؛ بسبب اختلاف بيئتهم ونمط حياتهم، وقد شعر بذلك البحتري عندما قيل له: إن عبد الله بن المعتز أشعر منه، فقال: وما ذاك؟ قيل: إنه متقن في الوصف والتشبيه، فقال: أنشدوني من شعره فأنشدوه قوله في هلال شوال:
وانظر إليه كزورق من فضة قد أثقلته حمولة من عنبر
فقال: أنشدوني غيره، فأنشدوه في وصف السفينة:
كأن آذريونها والشمس فيه كالية مداهن من ذهب فيها بقايا غالية
فقال: يا ويلتاه! هذا ملك وصف متاع بيته، وأنا سوقة أصف ما أرى، ولكن انظروا إلى قولي:
إن أنسى لا أنسى خبازاً مررت به يدحو الرقاقة مثل اللمح بالبصر
ما بين رؤيتها في كفه كـــرة وبين رؤيتها قوراء كالقـمر
إلا بمقدار ما تنداح دائــــرة في صفحة الماء يرمى فيه بالحجر
فلذلك لا شك أن البيئة مؤثرة كذلك في الثقافة.
والدين هو أكبر المؤثرات على الثقافة، ودليل ذلك أن الأمم السابقة إنما كانت تنطلق في تفكيرها وأيدلوجياتها، وفي شئون حياتها من خلال الدين، فبنو إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء، فهم الذين يعلمونهم ما يحتاجون إليه حتى فيما يتعلق بالسياسة، وفيما يتعلق بالاقتصاد، وفيما يتعلق بالاجتماع، فقد كان الأنبياء يتولون سياسة ذلك كله؛ ولهذا قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا [البقرة:246]، فبنو إسرائيل لجئوا إلى نبيهم ليقيم لهم ملكاً، فهذا دليل على أن الثقافة هنا أثرت حتى في المجال السياسي، فلم يكونوا ينتخبون ملوكهم ولا يختارونهم عن طريق الإرث أو غير ذلك، وإنما كانوا يلجئون إلى الأنبياء، فالجانب الديني كان مؤثراً في هذا المجال.
ومثل ذلك في مختلف المجالات الأخرى، ففي المجال الاقتصادي سأل بنو إسرائيل عيسى بن مريم أن ينزل عليهم مائدة من السماء، فسأل عيسى ربه ذلك فأنزلها، فكانت تأتي يحملها الملائكة تنزل من السماء، لا يطلب الإنسان نوعاً من أنواع المآكل إلا وجده فيها، حتى إذا شبعوا رفعتها الملائكة أربعين يوماً، وكانت آية من عند الله سبحانه وتعالى، وتثبيتاً لهم.
والمؤثر الثاني في الثقافة هو: إنتاج عقول البشر من الأدب والفكر، فالأدب هو ما يتعلق بالتعبير، والفكر هو ما يتعلق بالمعاني المعبر عنها، فهذان جانبان لإنتاج عقول البشر في هذا المجال، فالأدب لا شك أنه مؤثر في الثقافة تأثيراً كثيراً بالغاً؛ لأنه يحسن القبيح ويقبح الحسن، وقد ثبت في صحيح البخاري في حديث وفد بني تميم أن الزبرقان بن بدر لما عرف عمرو بن الأهتم بما يعرف فيه لدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عمرو : ( يا رسول الله! إنه ليعرف في أكثر مما قال ولكنه حسدني، فرد الزبرقان ، فسب عمراً ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرف الغضب في وجهه، فقال الزبرقان : يا رسول الله! والله ما كذبت في الأولى، ولقد صدقت في الثانية، ولكنني رضيت، فقلت أحسن ما علمت، وغضبت فقلت أسوأ ما علمت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من البيان لسحراً، وإن من الشعر لحكمة ).
وكذلك فإن المحسنات اللفظية كثيراً ما تغير توجهات الناس، كما قال الشاعر:
تقول هذا مجاج النحل تمدحه وإن تعب قلت ذا قيء الزنابير
مدحاً وذماً وذات الشيء واحدة سحر البيان يري الظلماء كالنور
فهو بمثابة السحر كما وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو يقلب الحقائق، فيحبب إلى الإنسان ما كان مكروهاً لديه، ويبغض لديه ما كان محبوباً؛ ولهذا فإن بني أنف الناقة كانوا يذمون بهذا الاسم بجاهليتهم حتى مدحه الحطيئة بقوله:
طافت أمامة بالركبان آونة يا حسنها من قوام ما ومنتقبا
إلى أن يقول:
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا
فمدحهم بهذا المدح فشرفوا به، فكان أحدهم إذا افتخر قال: أنا من بني أنف الناقة، وكانوا من قبل يقولون: من بني جعفر بن قريط.
وكذلك فإن بني نمير كانوا بجمرات العرب، ومن ذوي العزة والمكانة فيهم، فلما هجاهم جرير بقصيدته التي مطلعها:
أقلي اللوم عاذل والعتابا وقولي إن أصبت لقد أصابا
ثم قال في وصف أحلامهم وما هم عليه:
فغض الطرف إنك من نمير فلا كعباً بلغت ولا كلاب
فصار الانتساب إلى بني نمير بعد ذلك سبة لدى كثير من الناس، وقد اشتكى بنو عبد المدان بن الديال إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشاعر النجاشي حين هجاهم، فسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن هجائهم، وعندما هجاهم حسان بن ثابت بقوله:
لا بأس بالقوم من طول ومن عظم جسم البغال وأحلام العصافير
قالوا: لقد أفسدت علينا فخرنا، فكنا نفتخر بضخامة الأجسام، فدعاه عمر بن الخطاب ليسترضيهم، فاسترضاهم، فمدحهم بقوله:
وقد كنا نقول إذا رأينا لذي جسم يكون وذي بيان
كأنك أيها المعطى بياناً وجسماً من بني عبد المدان
وهذا التحسين والتقبيح الراجع إلى الألفاظ معروف حتى من الناحية العلمية، فإذا أراد العالم أن يحبب الفكرة، أو أن ينصر مذهباً من المذاهب، فإنه يعبر عن ذلك بتعبير جذاب يدعو إلى الأخذ به، وإذا أراد تحطيم مذهب من المذاهب ومجاوزته فإنه يعبر عنه تعبيراً ملائماً لذلك.
ولهذا يذكر عن الحافظ ابن حجر رحمه الله لما كان بينه وبين الإمام العيني نقاش في التعصب للمذهب الشافعي والمذهب الحنفي، وكان ذلك بين يدي ملك مصر، قال الحافظ ابن حجر : أنا لا أناقش بالكلام، ولكني أصلي لك صلاة مجزئة على مذهب أبي حنيفة وصلاة مجزئة على مذهب الشافعي ، فدعا بتور من ماء فيه ماء مطلق، فتوضأ وأحسن الوضوء، وأطال الغرة، وغسل إلى نصف العضد، وإلى نصف الساق، ومسح الرقبة مع الرأس، وغسل ثلاثاً وخلل الأصابع، واستاك قبل وضوئه، وذكر قبله اسم الله، ومذهب الشافعي أن البسملة واجبة في أول الطهارة.
ولما انتهى منه قام فبسط فراشاً جديداً، واجتهد في جهة القبلة اجتهاداً واضحاً يحدد الفراش إلى جهة القبلة تماماً؛ لأن الشافعية يرون أن قبلة الاجتهاد من قبلة العيان، بخلاف الحنفية فإنهم يتوسعون أخذاً بحديث: ( ما بين المشرق والمغرب قبلة، وما بين هذين قبلة )، فصلى ركعتين فأحرم، واستفتح وبسمل جهراً، وقرأ الفاتحة كما يفعل الشافعية، وقرأ سورة معها من القرآن، وركع فأطال الركوع قدر القراءة، ورفع وأطال الرفع من الركوع قدر الركوع، وهكذا حتى أكمل صلاته ثم سلم عن يمينه وشماله، ثم قال: هذه صلاة مجزئة على مذهب الشافعي .
ثم دعا بنبيذ فتوضأ به يغسل غسلة واحدة، واجتمع عليه الذباب، ولم يخلل أصابع رجليه ولا يديه، ومسح على ربع رأسه فقط، ثم بسط جلد كلب قد دبغ، ولم يحدد جهة القبلة تماماً، وأحرم ولم يفتتح، وقرأ: مُدْهَامَّتَانِ [الرحمن:64]، فقط، ولم يقرأ الفاتحة، ولا أية سورة كاملة؛ لأن الحنفية يرون أن قراءة الفاتحة واجب غير فرض في الصلاة، والفرق بين الواجب والفرض عندهم أن الفرض هو: ما وجب بدليل قطعي، وأما الواجب فهو: ما وجب بدليل ظني.
ويرون أن الفاتحة لا تعتبر واجبة، أي: أنه لو تركها الإنسان لم تبطل صلاته إذا قرأ غيرها من القرآن، اعتماداً على حديث المسيء في صلاته، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: ( ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن).
وهذا الذي فعله نحن نعلم أنه غير موافق للمذهب الحنفي؛ لأن الحنفية لا يرون جواز ترك الفاتحة اختياراً، لكنه فقط أراد التنبيه إلى هذه النكتة، ولم يقرأ إلا آية واحدة: مُدْهَامَّتَانِ [الرحمن:64]. وهي مبتورة من سياقها وأسلوبها، ولا يفهم معناها وحدها، ثم ركع ركوعاً سريعاً سبح فيه تسبيحة واحدة، ثم رفع ولم يستو قائماً؛ لأن الحنفية يرون أن الواجب هو الرفع فقط.
وهنا تنبيه: وهو أن كثيراً من الناس يظنون أن مذهب مالك في الرفع من الركوع ومن السجود إنما هو بقدر الواجب، وهذا غير صحيح؛ لكن فهموه من مختصر خليل ومن نظم ابن عاشر عندما ذكر الرفع ولم يذكر القيام والجلوس، مع أن المالكية يتفقون على أن الرفع من الركوع لا بد أن يكون بالقيام والاعتدال، وأن الجلوس بين السجدتين واجب كذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث المسيء في صلاته: ( ثم ارفع حتى تعتدل قائماً )، وقال في الرفع من السجود: ( ثم اجلس حتى تطمئن جالساً )، وهذا يقتضي وجوب القيام بعد الركوع، ووجوب الجلوس بعد السجود.
ثم بعد ذلك عندما أكمل هذه الصلاة لم يخرج منها بالسلام، وإنما خرج منها بناقض؛ لأن الحنفية يرون أن الخروج من الصلاة إذا كان بصنع الإنسان فإنه مبطل، وإن كان بغير صنعه، وكان قد أكمل التشهد فإنه غير مبطل.
والواقع أنه تجنى هنا كثيراً على المذهب الحنفي، لكن مع ذلك هذا يدل على أسلوب معين يقتضي نفرة، أو يقتضي جلباً وإقبالاً على الأمر الذي يريد الإنسان الترويج له.