خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/975"> الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/975?sub=4846"> سلسلة المحاضرات
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
العقيدة الصحيحة وأثرها
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى ميز هذا الجنس البشري عن غيره من سائر الأصناف بالعقل الذي به التكليف، وبه تشريف كذلك على سائر الحيوانات، وهذا العقل إنما يتم تصرف الأعضاء كلها على أساس معتقده، فما اعتقده العقل يعمل الإنسان على أساسه، وما اعتقد فساده وخلافه لا يمكن أن يكون تصرفه على ذلك الأساس؛ لأن العقل هو المسيطر على حركات الإنسان كلها، بل هو قائده وسلطانه؛ لذلك احتيج إلى أن يعلم أن اعتقاد الإنسان هو أصل تصرفه وأعماله، وما لم يقتنع به الإنسان لا يمكنه أن يتصرف به إلا لمدة معينة، اتباعاً لهوىً، أو ارتباطاً بشخص، أو بغير ذلك، لكن ما اقتنع به واعتقده لا بد أن يعمله في خلواته وجلواته وفي سائر أوقاته؛ لهذا فإن الله سبحانه وتعالى علم قصور عقولنا عن الوصول إلى الاعتقاد فيما يلزم أن نبني عليه تصوراتنا، فأرسل إلينا الرسل مبشرين ومنذرين؛ ليعلموا الناس ما يلزم أن يعتقدوه، وما يلزم أن تقتنع به قلوبهم، وقفى على آثارهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فبين المحجة البيضاء للناس، التي هي الصراط المستقيم المرضي عند الله سبحانه وتعالى، وبين انبناءها على خمسة أركان هي أولاً: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، فهذه الأركان هي دعائم هذا الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وأسسه.
أثر العقيدة الصحيحة على بقية دعائم الدين
الركن الأول والدعيمة الأولى لا يمكن أن يصح شيء من الدعائم الأخرى إلا بصحتها، فمن فقد هذه الدعيمة الأولى فقد فقدَ الجميع، ومن تحققت لديه الدعيمة الأولى ولو كان مقصراً في بعض ما سوى ذلك حتى لو دخل النار فسيخرج منها بإيمانه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين: ( أن أقواماً يدخلون النار بذنوبهم، ويخرجون منها بإيمانهم، فيخرجون منها قد اسودوا وامتحشوا، فيلقون في نهر الحياة فتنبت أجسامهم كما تنبت الحبة في حميل السيل، ثم بعد ذلك يدخلون الجنة ).
فلذلك لا بد أن يعلم الإنسان أن هذا المنطلق هو أساس العمل، وهو الذي ينبني عليه كل التصرف، وأنه لو عمل الإنسان أعمالاً أمثال الجبال ثم بعد ذلك قدم على الله عز وجل يشرك به شيئاً، فإن تلك الأعمال ستذهب هباءً منثوراً، كما قال الله تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً [الفرقان:23]، وكما قال تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65]، وكما قال تعالى: مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [البقرة:217]، وكما قال تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ [المائدة:5].
فلا بد إذاً من الاعتناء بهذا الركن الذي هو شرط للبقية، ولا بد أن يراجع كل واحد منا نفسه؛ حتى يعلم أساس بنائه هل هو مستقيم أو مائل، فإن كثيراً من الناس يغفلون عن الأساس، فيبنون ويشيدون القصور المتراكمة، لكنها مبنية على أساس هش، ومن هنا احتاج الإنسان إلى مراجعة مبادئه وأصوله وأسسه قبل أن يبني عليها، فينهار به في نار جهنم.
امتحان العبد في عقيدته في القبر
إن هذا المجال من الأمور الضيقة التي لا يغني فيها أحد عن أحد شيئاً، وكل إنسان فيها سيمتحن امتحاناً خاصاً، وهو أول ما يواجهه بعد ضمة القبر في قبره، فإن الإنسان إذا وضع في قبره أول ما يلقاه من مشاهد القيامة ضمة القبر التي تختلف منها الأضلاع، وتزول منها الحمائل، ثم بعد ذلك الامتحان في التوحيد ( يأتيه منكر ونكير، وهما جعدان أسودان أشقران عظيمان فيجلسانه إلى ركبتيه ويقولان له: ما ربك؟ وما دينك؟ وما كنت تقول في هذا الرجل؟ فأما المؤمن فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، والرجل المبعوث فينا محمد صلى الله عليه وسلم، هو محمد، هو محمد، هو محمد ثلاثاً، جاءنا بالبينات والهدى فآمنا واتبعنا، فيقولان له: صدقت وبررت، نم نومة عروس، ويملآن عليه قبره خضراً ونوراً، وأما المنافق أو المرتاب فيقول: هاه هاه، لا أدري! كنت سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فيقولان له: لا دريت ولا تليت، ويضربانه بمطارق فيصيح صيحةً يسمعها من يليه إلا الإنس والجن ).
وفي رواية: ( ويضربانه بمرزبة معهما لو اجتمع عليها أهل منى ما أقلوها، فيصيح صيحةً يسمعها من يليه إلا الإنس والجن )، شتان ما بين هذين الحالين: شتان بين حال من يقول له الملائكة: صدقت وبررت، ومن يقول له الملائكة: لا دريت ولا تليت؛ فلذلك لا بد أن يحرص الإنسان في حياته هذه قبل الامتحان على المراجعة، وأنتم تعلمون أن كل موعود بامتحان أمامه لا بد أن يذاكر أو يراجع، ونحن موعودون بهذا الامتحان، وهو قطعاً أمامنا، ولا يمكن أن نميل عنه ذات اليمين ولا ذات الشمال؛ فلذلك لا بد أن نستعد لهذا الامتحان، والاستعداد له إنما هو في هذه الحياة أن يراجع الإنسان اعتقاده ومبادئه، فالذي يكبر في نفسه شيء من أمور الدنيا، إذا سئل: ما ربك؟ فسيذكر ما يكبر في نفسه، والذي يعجبه رجل من رجال الدنيا دون النبي صلى الله عليه وسلم، أو زعيم من زعمائها إذا سئل: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ سيذكر ذلك الرجل الذي يذكره كثيراً في حياته، والذي ينتمي لشيء غير الإسلام لأدلوجية أو قبيلة أو حزب، إذا سئل: ما دينك؟ يوشك أن يجيب بانتمائه الذي كان ينتمي إليه في الحياة الدنيا، فاحتجنا إذاً إلى أن نحقق هذه المبادئ والأصول، وأن ننطلق منها في تصرفاتنا كلها؛ فذلك أقمن للنجاح في الامتحان، وقد ضمن الله الثبات عند الموت وفي هذا السؤال لمن آمن به، فقال تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27].
فلذلك نحتاج إذاً إلى أن نتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بالإيمان به حتى يثبتنا عند هذا الامتحان الشاق الصعب، الذي الناس عرضة له وهو فتنة من الفتن، وأنتم تستعيذون منه في صلاتكم، تستعيذون بالله من أربع، فتقولون: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المسيح الدجال، ومن فتنة المحيا والممات، ففتنة الممات هي هذه؛ فلذلك لا بد أن يستحضر الإنسان ما يقول، وأن يفهمه، وأن يستوعبه، ثم يبني عليه بعد ذلك تصرفاته، إن الإنسان إذا لم يصحح بناءه وكان يعتقد اعتقاداً فاسداً فذلك الاعتقاد سيجره إلى تصرفات فاسدة كلها، فيعيش حياته في خواء وفساد، وهذا مثل حال المشركين والمنافقين والمبتلين في أمور الدين، ( فقد سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن جدعان ، وكان يطعم اليتيم، والمسكين، والفقير، وابن السبيل، والضيف، هل يغني عنه ذلك من الله شيئاً؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، إنه لم يقل يوماً واحداً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين ).
فلذلك لا بد أن يحرص الإنسان على تصحيح مبدئه وأصله حتى لا يطول عمله، وحتى لا يكون من الذين أرهقوا أنفسهم وأتعبوها في الحياة، ثم يجدون أعمالهم يوم القيامة كالسراب، وقد ضرب الله بذلك المثل فقال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [النور:39].
الركن الأول والدعيمة الأولى لا يمكن أن يصح شيء من الدعائم الأخرى إلا بصحتها، فمن فقد هذه الدعيمة الأولى فقد فقدَ الجميع، ومن تحققت لديه الدعيمة الأولى ولو كان مقصراً في بعض ما سوى ذلك حتى لو دخل النار فسيخرج منها بإيمانه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين: ( أن أقواماً يدخلون النار بذنوبهم، ويخرجون منها بإيمانهم، فيخرجون منها قد اسودوا وامتحشوا، فيلقون في نهر الحياة فتنبت أجسامهم كما تنبت الحبة في حميل السيل، ثم بعد ذلك يدخلون الجنة ).
فلذلك لا بد أن يعلم الإنسان أن هذا المنطلق هو أساس العمل، وهو الذي ينبني عليه كل التصرف، وأنه لو عمل الإنسان أعمالاً أمثال الجبال ثم بعد ذلك قدم على الله عز وجل يشرك به شيئاً، فإن تلك الأعمال ستذهب هباءً منثوراً، كما قال الله تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً [الفرقان:23]، وكما قال تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65]، وكما قال تعالى: مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [البقرة:217]، وكما قال تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ [المائدة:5].
فلا بد إذاً من الاعتناء بهذا الركن الذي هو شرط للبقية، ولا بد أن يراجع كل واحد منا نفسه؛ حتى يعلم أساس بنائه هل هو مستقيم أو مائل، فإن كثيراً من الناس يغفلون عن الأساس، فيبنون ويشيدون القصور المتراكمة، لكنها مبنية على أساس هش، ومن هنا احتاج الإنسان إلى مراجعة مبادئه وأصوله وأسسه قبل أن يبني عليها، فينهار به في نار جهنم.
إن هذا المجال من الأمور الضيقة التي لا يغني فيها أحد عن أحد شيئاً، وكل إنسان فيها سيمتحن امتحاناً خاصاً، وهو أول ما يواجهه بعد ضمة القبر في قبره، فإن الإنسان إذا وضع في قبره أول ما يلقاه من مشاهد القيامة ضمة القبر التي تختلف منها الأضلاع، وتزول منها الحمائل، ثم بعد ذلك الامتحان في التوحيد ( يأتيه منكر ونكير، وهما جعدان أسودان أشقران عظيمان فيجلسانه إلى ركبتيه ويقولان له: ما ربك؟ وما دينك؟ وما كنت تقول في هذا الرجل؟ فأما المؤمن فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، والرجل المبعوث فينا محمد صلى الله عليه وسلم، هو محمد، هو محمد، هو محمد ثلاثاً، جاءنا بالبينات والهدى فآمنا واتبعنا، فيقولان له: صدقت وبررت، نم نومة عروس، ويملآن عليه قبره خضراً ونوراً، وأما المنافق أو المرتاب فيقول: هاه هاه، لا أدري! كنت سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فيقولان له: لا دريت ولا تليت، ويضربانه بمطارق فيصيح صيحةً يسمعها من يليه إلا الإنس والجن ).
وفي رواية: ( ويضربانه بمرزبة معهما لو اجتمع عليها أهل منى ما أقلوها، فيصيح صيحةً يسمعها من يليه إلا الإنس والجن )، شتان ما بين هذين الحالين: شتان بين حال من يقول له الملائكة: صدقت وبررت، ومن يقول له الملائكة: لا دريت ولا تليت؛ فلذلك لا بد أن يحرص الإنسان في حياته هذه قبل الامتحان على المراجعة، وأنتم تعلمون أن كل موعود بامتحان أمامه لا بد أن يذاكر أو يراجع، ونحن موعودون بهذا الامتحان، وهو قطعاً أمامنا، ولا يمكن أن نميل عنه ذات اليمين ولا ذات الشمال؛ فلذلك لا بد أن نستعد لهذا الامتحان، والاستعداد له إنما هو في هذه الحياة أن يراجع الإنسان اعتقاده ومبادئه، فالذي يكبر في نفسه شيء من أمور الدنيا، إذا سئل: ما ربك؟ فسيذكر ما يكبر في نفسه، والذي يعجبه رجل من رجال الدنيا دون النبي صلى الله عليه وسلم، أو زعيم من زعمائها إذا سئل: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ سيذكر ذلك الرجل الذي يذكره كثيراً في حياته، والذي ينتمي لشيء غير الإسلام لأدلوجية أو قبيلة أو حزب، إذا سئل: ما دينك؟ يوشك أن يجيب بانتمائه الذي كان ينتمي إليه في الحياة الدنيا، فاحتجنا إذاً إلى أن نحقق هذه المبادئ والأصول، وأن ننطلق منها في تصرفاتنا كلها؛ فذلك أقمن للنجاح في الامتحان، وقد ضمن الله الثبات عند الموت وفي هذا السؤال لمن آمن به، فقال تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27].
فلذلك نحتاج إذاً إلى أن نتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بالإيمان به حتى يثبتنا عند هذا الامتحان الشاق الصعب، الذي الناس عرضة له وهو فتنة من الفتن، وأنتم تستعيذون منه في صلاتكم، تستعيذون بالله من أربع، فتقولون: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المسيح الدجال، ومن فتنة المحيا والممات، ففتنة الممات هي هذه؛ فلذلك لا بد أن يستحضر الإنسان ما يقول، وأن يفهمه، وأن يستوعبه، ثم يبني عليه بعد ذلك تصرفاته، إن الإنسان إذا لم يصحح بناءه وكان يعتقد اعتقاداً فاسداً فذلك الاعتقاد سيجره إلى تصرفات فاسدة كلها، فيعيش حياته في خواء وفساد، وهذا مثل حال المشركين والمنافقين والمبتلين في أمور الدين، ( فقد سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن جدعان ، وكان يطعم اليتيم، والمسكين، والفقير، وابن السبيل، والضيف، هل يغني عنه ذلك من الله شيئاً؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، إنه لم يقل يوماً واحداً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين ).
فلذلك لا بد أن يحرص الإنسان على تصحيح مبدئه وأصله حتى لا يطول عمله، وحتى لا يكون من الذين أرهقوا أنفسهم وأتعبوها في الحياة، ثم يجدون أعمالهم يوم القيامة كالسراب، وقد ضرب الله بذلك المثل فقال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [النور:39].
تنوير وجوه أصحاب العقيدة الصحيحة
إن أهم ما يجنيه الإنسان من تصحيح اعتقاده نجاته من عذاب الله يوم القيامة، فإن الذين يصححون اعتقادهم في الدنيا ينور الله وجوههم فيسيرون في النور خمسمائة عام، وإن الذين يتربصون ويرتابون ويشكون في هذه الحياة يحشرون مع أولئك ثم يضرب بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمْ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمْ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الحديد:13-15].
وقد عطف الله هؤلاء على الذين كفروا، والعطف يقتضي المغايرة، فمعناه أن هؤلاء لم يكونوا في الدنيا من الذين كفروا بحسب ما يبدو للناس؛ لأنهم يقولون للذين آمنوا: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى [الحديد:14] فصدقوهم، وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمْ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا [الحديد:14-15]، فإذاً هم من غير الذين كفروا في ظاهر ما يبدو للناس في الحياة الدنيا، ولكنهم يحال بينهم وبين الذين آمنوا في الدار الآخرة وهم ينادونهم: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد:13]، أي: انتظرونا حتى نقتبس من نوركم، ومع ذلك يحال بينهم بهذا السور العظيم. نسأل الله السلامة والعافية.
تصحيح العمل ونجاحه
كذلك فإن من آثار تصحيح هذا الاعتقاد تصحيح العمل ونجاحه، فإن العمل لا يكون مرضياً عند الله سبحانه وتعالى إلا إذا أخلص فيه صاحبه لله، فإذا صح اعتقاده وكان موافقاً للشرع قبل ذلك العمل عند الله، وإلا كان تعباً ولغباً يصاب به الإنسان، فيفسد فيه وقته وماله، ويفني فيه طاقته وعمره دون أن يستفيد منه شيئاً.
موافقة العمل الدنيوي للشرع
وكذلك من فوائد تصحيحه للاعتقاد، أنه أيضاً مدعاة لأن يكون العمل الدنيوي موافقاً للشرع، فإذا كان الإنسان فاسداً اعتقاده في أمور الدنيا بأن لم ينطلق من المبدأ الصحيح، واتبع الهدى، فإنه عبادته ستكون هوىً، تميل به الأهواء ذات اليمين وذات الشمال، وقد نص أهل العلم على أن أكثر عبادات الجهال هي من اتباع الهوى، وليست من ابتغاء مرضات الله واتباع شرعه؛ لأنهم جهلوا شرع الله فظنوا أن شرع الله هو ما يزينه لهم أهواؤهم؛ ولذلك فإن الذين يجهلون الشرع ولا ينطلقون من بدأ تعلمه وغاية أمرهم وقصارى جهدهم أن يقولوا: قال فلان، أو أن يذكروا قولاً لأحد العلماء أو المشايخ أو المعروفين، وحينئذ إذا عورضوا بشيخ آخر أو بعالم آخر مواز له إما أن يضطروا لقضية الترجيح بينهما؛ ولأن هذا أفضل من الآخر، فإذا سئلوا عن الدليل توقفوا، ويمكن بعد ذلك أن يلجئوا إلى أن قول الآخر مجهول لديهم، فإذا قيل: ها هو وهذا دليله وقف الحمار حينئذ في العقبة؛ فلذلك هم في تردد وتذبذب، لم يبد لهم عين الصواب، ولم تظهر لهم المحجة، فقصارى أمرهم أقوال الناس الذين يخطئون ويصيبون.
والمبدأ الأعظم والأصح هو ما بينه الله سبحانه وتعالى في قوله: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:111]، وفي قوله: قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ [الأنبياء:45]، فالمبدأ هو الانطلاق من الدليل، والأخذ منه، فإن أي أحد من الناس لم يكلمه الله سبحانه وتعالى، ولم ينزل عليه رسالاته إلا ما أرسل به الرسل الكرام، ولا يقبل الله من أحد أي تعبد إلا بما جاء به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بعد بعثته؛ ولذلك قال: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85]، وقال: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، وبين النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن موسى بن عمران لو كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعه )، وقال: ( والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة لا يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بي إلا دخل النار )؛ فلذلك لا بد أن يدرك الإنسان أن مبدأه في تصحيح اعتقاده أن يجعل مرجعه الوحي الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يعلم أن من طلب الهدى في غيره أضله الله، ومن تركه لجبار قسم الله ظهره، فمن أعرض عنه فقد تعهد الله له بالضلال المبين، وبالعمى يوم القيامة، وقد قال الله تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طه:124-127].
تحرير الإنسان من عبودية غير الله تعالى
كذلك من آثار تصحيح هذا الاعتقاد: أنه حرية للإنسان من الأغيار، فيكون الإنسان عبداً لله خالصاً، ليس لأحد عليه أي رق، ولا له عليه أي ولاء، وإنما يتحرر الإنسان من الشيطان، والهوى، والنفس الأمارة بالسوء، وضغوط الناس بتصحيح هذا الاعتقاد، فإذا كان يعلم أنه لا نافع ولا ضار إلى الله، وكان يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، لم يستطع أحد أن يضغط عليه بأية وسيلة من وسائل الضغوط، وكان عبداً خالصاً لله سبحانه وتعالى، فلا يمكن حينئذ أن يتوكل إلا على الله، ولا يمكن أن يستغيث إلا بالله، ولا يمكن أن يسأل إلا الله، ولا يمكن أن يعبد إلا الله، ولا يمكن أن يصرف شيئاً من تصرفاته إلا إلى الله وحده؛ لعلمه أنه وحده الذي يملك له النفع والضر، وهو الذي بيده حياته وموته وبعثه ونشوره، وأن كل من سواه لا يملك لنفسه ولا لغيره حياةً ولا موتاً ولا نشوراً، وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الحج:73-74]، وبهذا الإيمان يعلم الإنسان أن الله وحده هو الذي يمسك السموات السبع والأرضين السبع يوم القيامة فيهزهن ويقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ فهل لأحد معه شرك في السموات أو في الأرض؟ هل لأحد أي تصرف أو أي فعل أو أي تدبير يمكن أن يعارض حينئذ عندما يمسك الجبار السموات السبع والأرضين السبع فيهزهن ويقول: أنا الملك؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟
أهمية معرفة الإنسان لربه لتصحيح اعتقاده
لذلك لا بد أن يدرك الإنسان أن تصحيح الاعتقاد هو الذي يقتضي منه أن يعرف الرب سبحانه وتعالى، وأنه لا يمكن أن يعرف الرب سبحانه وتعالى إلا بذلك، والتماس معرفته بمجرد الإيغال في العبادة دون التعرف إليه سبحانه وتعالى ضلال مبين، لا يمكن أن يصل به الإنسان إلى مبتغاه، بل إنما يسير به وراء الأهواء والتلبيسات الشيطانية والخرافات والخزعبلات، لكن إذا أراد المعرفة من وجهها فليتعرف إلى الله سبحانه وتعالى بإفراده بالألوهية، وليتعرف على حقوقه سبحانه وتعالى، وليؤدها إليه كاملةً ولا يكن من المطففين، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:2-6].
لا بد أن يحقق الإنسان حينئذ معرفة الله سبحانه وتعالى، بأن يعرف أنه وحده ديان السموات والأرض، الذي بيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله، ولا شريك له في شيء من خلقه، ولا تخفي عنه سماء سماءً، ولا أرض أرضاً، ولا جبل ما في وعره، ولا بحر ما في قعره، وهو الذي يدبر الأمور كلها يرفع إليه أمر الليل قبل النهار، وأمر النهار قبل الليل، قيوم لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، إذا تعرف الإنسان على صفات الله سبحانه وتعالى وأسمائه الحسنى، وتعرف على حقوقه والتزم ذلك وأداه على وجهه، فهذا هو تصحيح الاعتقاد، ومنه يصح العمل، ومنه تتم الحرية للإنسان، وإذا لم يفعل ذلك ولم يتعرف على الله سبحانه وتعالى فإنه بأصل فطرته يعلم أنه عبد غير رب، فلا أحد من البشر يدعي الربوبية إلا إذا كان منكوس الفطرة، فالبشر جميعاً يعرفون أنهم عباد مفطورون على العبودية، فمن اهتدى منهم إلى معرفة ربه عبده، ومن لم يهتد إلى ذلك سيطلب صنماً يعبده من دونه، ومن عرف أن الله وحده هو المدبر الحي القيوم، الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض، يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر:41] يعلم أنه وحده سبحانه وتعالى الذي تصرف له العبادة، وتعنوا له الوجوه، وهو الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، يعلم السر وأخفى، هو الذي لا تخفى عليه خافية، ومن هنا فلا يمكن أن يكتم الإنسان عنه شيئاً.
فلا تكتمن الله ما في نفوسكم فيخفى مهما يكتم الله يعلم
الاعتقاد الصحيح في الألوهية وفي جانب النبي صلى الله عليه وسلم
فلذلك لا بد أن يستحضر الإنسان حقوق الإلهية، وأن يميز بينها وبين حقوق العباد، وأن يعلم أن الإفراط والتفريط في هذا الجانب هو أخطر أنواع الإفراط، فأفضل البشر وأسماهم قدراً، وأعلاهم منزلةً عند الله، وأكرمهم عليه، وهو وجيههم وشفيعهم يوم القيامة محمد صلى الله عليه وسلم، وهو رسول الله الذي لا يرتضي الله من أحد بعد بعثته اتباع غيره، ولكن مع ذلك لا يمكن أن يصرف إليه أي شيء من حقوق الإلهية بوجه من الوجوه، ومن صرف إليه أقل شيء من حقوق الإلهية فقد عادى محمداً صلى الله عليه وسلم قبل معاداته لله؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما بعث إلا لإفراد العبودية لله وحده ولتوحيده سبحانه وتعالى؛ ولذلك قال الله تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5].
لذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم من أن يضفى عليه أي وصف من أوصاف الإلهية، فقال: ( لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم )، وقال: ( لا تتخذوا قبري وثناً )، وقال: ( اللهم لا تجعل قبري وثناً )، وقال: ( لعن الله الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )، ( وذكرت عنده كنيسة بالحبشة اسمها مارية وما فيها من التصاوير، وقد دخلتها أم سلمة و أم حبيبة في أيام هجرتهما، فوصفتاها، فقال: أولئك شرار الخلق عند الناس، إذا مات فيهم الرجل الصالح جعلوا قبره مسجداً ).
وحذر صلى الله عليه وسلم من أن ينسب إليه أي شيء مما هو من حقوق الإلهية، عندما ( أتاه أعرابي فقال: يا رسول الله! إنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك. فتغير وجهه صلى الله عليه وسلم، واشتد غضبه، وقال: ويلك! اعلم ما تقول، إن الله أكبر من أن يستشفع به على أحد من خلقه ).
وكذلك بين صلى الله عليه وسلم أن من حقوق الإلهية: أن لا يعطف على الله في المشيئة أحد من خلقه؛ فلذلك ( قال عندما قال له الرجل: ما شاء الله وما شئت، قال: بئس خطيب القوم أنت، لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم ما شاء فلان ).
وقال للآخر حين عطفه على الله عز وجل قال: ( أتجعلني نداً لله؟ )، فلم يكن صلى الله عليه وسلم يقبل أي تسامح في هذا المجال، فلا بد أن يعرف الناس الفرق بين حقوق الإله وحقوق العباد، وما لم يميز الإنسان هذا الفرق فستبقى عقيدته فاسدةً لا محالة؛ لأنه سيجمع الأضداد والأنداد، وسيعطي للمخلوق ما ليس له بحق، بل ربما أعطاه من حقوق الإلهية ما يكون إعطاؤه وإضفاؤه على المخلوق شركاً أكبر مخرجاً من الملة، نسأل الله السلامة والعافية؛ ولهذا فإن الله سبحانه وتعالى بين حال المشركين، فنعى عليهم ذلك فقال: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3]، وقال تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [يونس:107].
وقال تعالى: مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر:2].
وقال تعالى: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونَنِي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ * وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ * بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ [الزمر:64-66].
فإذاً: هذا هو الحد المفصل، والحد فيه هو تصحيح الاعتقاد، أن يفصل الإنسان بين حقوق الإلهية وحقوق المخلوقين، وليس معنى ذلك أن يفرط في حقوق المخلوقين، بل لا بد أن يقدر المخلوقين على حسب ما أولاهم الله من الحقوق، ولا يمكن أن يزري بحقوقهم، لكن المحظور أن يعطيهم ما ليس لهم من حقوق الإله سبحانه وتعالى، وكثير من الناس يتهمون أن من لم يعط بعض المخلوقين بعض حقوق الخالق فإنه يزري بهم، أو يعاديهم، أو يستنقص منهم، وهذا غاية الخلط والخبط، وادعاء الباطل من كل وجه، ألا ترون أن المرأة تحب أباها أكثر من حبها لزوجها في كثير من الأحيان، وهل تعطي أباها شيئاً من حقوق زوجها؟ لا يمكن أن تفعل، وإن فعلت كانت ظالمةً وأتت ما يخالف الشرع والعقل؛ فلذلك لكل حقوق، ولا يمكن الخلط بينها، ولا تعديها، ولا يقتضي ذلك تجاوزاً أو إفراطاً أو عدم محبة، فالمرأة التي لم تعط والدها حقوق زوجها ليس معنى ذلك أنها لا تحب أباها، بل هي تحبه أكثر مما تحب زوجها، لكن هذه الحقوق للزوج وحده لا يمكن أن تصرف لغيره، وهكذا في كل الأمور.
ثبات الإنسان وعدم هلعه وجزعه
من آثار تصحيح هذا الاعتقاد: أنه مقتض من الإنسان أن لا يجزع، وأن لا يهلع، فمن كان صحيح الاعتقاد، مؤمناً بأن الله هو القيوم، وأن ما أراده نافذ لا بد أن يقع لا محالة، ولو اجتمع الإنس والجن وأرادوا أن يغيروا شيئاً مما أراده لا يمكن أن يغيروا أي شيء منه، ولو اجتمعت الأمة جميعاً على أن تنفعه بشيء لم يكتبه الله له لم تكن لتنفعه به، ولو اجتمعت جميعاً على أن تضره بشيء لم يكتبه الله عليه لم تكن لتضره به، فذلك مقتض منه بأن لا يهلع، وأن لا يجزع، وأن لا يخاف إذا خاف الناس، وقد بين الله ذلك في قوله: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد:22-23]، أي: أن حكمة بيان القدر للناس؛ ليكون ذلك داعياً لهم إلى ألا يفرحوا بما آتاهم الله، ولا ييأسوا بما فاتهم مما حجب عنهم وزوى من أمور الدنيا، فكل ذلك بقدر الله المكتوب، وقد كتبه الله في الصحف التي عنده فوق عرشه، ( وأمر القلم أن يكتب، فقال: أي رب ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن، فكتب كل ما هو كائن )، فلا يمكن أن يقع شيء إلا على وفق تلك الكتابة، ومن هنا إذا طوى الله عز وجل عن الإنسان شيئاً وزواه عنه من أمور الدنيا، لم يجزع لذلك إذا كان مؤمناً بالقدر، وإذا أعطاه شيئاً من أمور الدنيا لم يفرح بذلك إذا كان مؤمناً بالقدر لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد:23].
أثر العقيدة الصحيحة في شجاعة الإنسان في الحق
كذلك من آثار تصحيح هذا الاعتقاد: أنه مقتض من الإنسان الشجاعة في الحق، فالذي يفسد اعتقاده يخاف من المخلوقين، ولا يستطيع أن يباديهم بقول الحق، ولا أن يجاهر به؛ لما يخاف من الضغوط؛ ولأنه يظن أن المخلوقين هم الرازقون الذين يملكون له رزقاً، أو هم المدبرون الذين يدبرون صنعاً في هذه الدنيا، أو هم الذين يملكون فيها عذاباً، أو أذىً، أو غير ذلك، وبهذا يضل عن سواء السبيل.
أما من كان صحيح الاعتقاد فسيقول ما قال نوح عليه السلام: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ [يونس:71].
وما قال هود عليه السلام: إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود:56].
وما قال إبراهيم عليه السلام عندما رمى به أصحابه في النار فقال: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173].
وما قال محمد صلى الله عليه وسلم لصاحبه إذ هما في الغار: إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40]، وما قال هو وأصحابه عندما قال لهم نعيم بن مسعود : إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ [آل عمران:173-174].
وبهذا يتحرر الإنسان من العقدة النفسية التي تقتضي منه عدم الشجاعة في قول الحق؛ ولذلك لا ترون أن إبراهيم قال لأبيه وقومه عندما اجتمعوا جميعاً لمجادلته: وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ [الأنعام:80-83]، فهذه الحجة البالغة تقطع ألسنة الناس، وعندما يتصل الإنسان بالرب سبحانه وتعالى، ويتوكل عليه، ويعرفه تمام المعرفة سيتخلى من ضغوط الآدميين، ولا يبالي بها أية مبالاة؛ ولذلك يقول أحد الشعراء:
فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب
ويقول العلامة مولود بن أحمد الجواد رحمه الله:
أستودع الحافظ المستودع الوالي ديني ونفسي وإخواني وأموالي
وأسأل المتعالي أن يوفقني وأن يسدد أفعالي وأقوالي
أنا الضعيف فذاك الضعف يرحمه رب القوي فكان الضعف أقوى لي
ما ذل ما ذل من بالله عز وكم ذل العزيز بأعمام وأخوالي
وكم رأينا ذليلاً بعد عزته من عزه بالموالي أو بالاموال
متى تفز بموالاة الإله يدي فعاد يا أيها المخلوق أو والِ
وقد حدثني بعض من حضر الشيخ عبد الله بن باداه رحمة الله عليه، عندما تراكمت عليه الضغوط في قضية معينة، وقال للرسل وهم من الناصحين المشفقين المحبين له: إني عرضت على قلبي هذا أن يخاف غير الله فلم يستجب لذلك، وهذا جوابه عن كل الضغوط والتراكمات والوجاهات قال: إني عرضت على قلبي هذا أن يخاف غير الله فما قبل ذلك، وهذه الكلمة شبيهة بكلمة لـعمر بن عبد العزيز أمير المؤمنين رحمه الله، فإنه قال عندما ضغط عليه بنو أمية في تغيير الواقع، وترك بعض المظالم التي كانت لديهم، قال لهم: أي يوم أخشاه قبل يوم القيامة فلا وقيت شره.
فهذا هو تصحيح الاعتقاد، أن يكون الإنسان يعرف الفرق بين الخالق والمخلوق، ويكون متوكلاً على الخالق، معتمداً عليه، متصلاً به في كل شئونه، لا يبالي بمن دونه بحال من الأحوال، فيجد بذلك حريةً عجيبةً، ويجد به شجاعةً عجيبة.
طمأنينة الإنسان وثباته
وكذلك من آثار تصحيح هذا الاعتقاد: أنه أيضاً مقتض من الإنسان الطمأنينة والثبات، فلا يتذبذب، ولا يتزحزح، فهو على بينة من أمره؛ ولذلك قال الإمام مالك رحمه الله حين جاءه مجادل من أهل الأهواء، فقال له مالك : أما أنا فعلى بينة من أمري، وأنت شاك فاذهب إلى شاك مثلك فجادله.
وكذلك قال الزبيري رحمه الله:
أأرجع بعدما رجفت عظامي وكان الموت أقرب ما يليني
فما عوض لنا منهاج جهم بمنهاج ابن آمنة الأمين
صلى الله عليه وسلم، فإذا عرف الإنسان هذا لم يتذبذب، ولم يشك بحال من الأحوال، وكان ثابتاً على موقفه ومبدئه ويعلم أنه على بينة من أمره، وما سواه شاك فليذهب إلى شاك آخر فليجادله كما قال مالك : إنما هي سليسلة بنت سليسلات.
سعادة الإنسان الدنيوية والأخروية
كذلك من آثار تصحيح هذا الاعتقاد: أنه مقتض من الإنسان للسعادة الدنيوية والأخروية، فالإنسان الذي يصحح هذا الاعتقاد، ويصلح ما بينه وبين الله سبحانه وتعالى، ويتوكل عليه يرضى بكل ما جاء من عنده، فإذا جاءته الضراء رحب بها كما يرحب الناس بالسراء، فهذا خبيب بن عدي بن جحجبى رضي الله عنه لما أخذه المشركون، وصلبوه على خشبة، سأله أبو سفيان بن حرب ، فقال له: يا خبيب ! أتود أنك في قومك مكرم، وأن ابننا محمداً عندنا نقتله ونصلبه؟ فانتفض خبيب وقال: والله ما أود، لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المكان الذي هو فيه يشاك بشوكة، وإني أنجو مما عندكم. وأنشد أبياته المشهورة، وهي قوله:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان لله مصرعي
وذلك في ذات الإله فإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع
فهذه غاية السعادة، أن يعرف الإنسان أنه على الحق المبين، ولا يبالي بالآخرين، وهذا الحال هو ما حصل لـابن تيمية رحمه الله عندما آذاه ملك مصر وحبسه بالإسكندرية، فأتاه بعض الصالحين يريد تعزيته، فإذا هو مسرور غاية السرور، فقال: وما يسرك أيها الشيخ؟ قال: ما يفعل أعدائي بي، قتلي شهادة، وسجني خلوة، ونفيي سياحة، وجنتي في صدري. فإذا قتل فقتله شهادة في سبيل الله وهي أقصى ما يتمناه المسلم، وإذا سجن فإنما سجن عن الأكدار والثقلاء، وخلص للعبادة لله سبحانه وتعالى وخلا بربه، وهذا قصارى أمره وأبلغ ما يريده، وإذا نفي من مكانه فهو سياحة، فهو يعلم أن الأرض كلها لله، وجنته في قلبه فهو القرآن والسنة معه فيتدبر في ذلك أينما يتوجه، فيجد مبتغاه ومنيته في تدبره لآيات ربه، ولسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن هنا لا يبالي بالضغوط، ولا بما أصابه في سبيل الحق، وهذا الحال حصل لعدد كبير من الأئمة المصلحين في هذه الأمة، فهذا أحمد بن حنبل رحمه الله عندما صبر على الأذى والعذاب ثماني عشرة سنة وهو في السلاسل والقيود، ويضرب بأنواع الضرب، ومع ذلك بقي صامداً صابراً، لا تعروه وحشة ولا مذلة، وإذا قابله الملك بعد أن يجلد أحمد جلداً شديداً يؤتى به إلى الملك، فإذا قابله كأن أحمد الملك، وكأن الملك أحد الخدم عنده، فهذا الشموخ والعزة بالله سبحانه وتعالى، وهي مقتضية لتمام السعادة والرضا، فالإنسان بها مرحب بكل ما يأتي من عند ربه، وراض بكل ما يأتيه من عند الله سبحانه وتعالى، مستقبل له بانشراح صدر، وبرضاً كامل لمعرفته بالرب سبحانه وتعالى وبلطفه، وجميل صفحه، وبصفات الكمال والجلال، وبتعرفه إليه في كل ذلك، وبمعرفته أن الله يبتلي العباد على قدر محبته لهم، ( فأشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل الأمثل )، ولا تزال البلية بالعبد فيفد على الله عز وجل وليس معه ذنب. فلذلك إذا صحح الإنسان هذا الجانب من الاعتقاد؛ نال هذه السعادة العجيبة، وهذا الشموخ العجيب، الذي يكون ازدراءً للدنيا وأهلها، واحتقاراً لما هم فيه، كما قال الفضيل بن عياض رحمه الله: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف.
فما يتنافسون عليه يريدون منه تحقيق الرغبات، ويريدون منه العزة والطمأنينة، والواقع أنهم ضيعوا الطريق، فطلبوا ذلك في غير محله، وإنما تنال العزة والطمأنينة والسعادة بالاتصال بالله سبحانه وتعالى وحده، فإذا حقق الإنسان الأنس بالله، والقرب منه سبحانه وتعالى لم يبال بأحد فهو يعلم أن الإنس والجن يموتون، وأن الله هو الحي القيوم الذي لا يموت.
معرفة الحق والطمأنينة إليه
كذلك من آثار تصحيح هذا الاعتقاد في بناء شخصية المسلم أنه يقتضي منه معرفة الحق والطمأنينة إليه، فقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً [الأنفال:29]، فهذا الفرقان نور رباني يميز الإنسان به بين الحق والباطل، وإذا صحح الإنسان اعتقاده لم يكد يلتبس عليه حق بباطل؛ لأنه بذلك يعرف أن الحق هو ما جاء من عند الله، وأن الباطل هو الأهواء، ولبس الشيطان، فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ [الحج:52-53]؛ ولذلك أذكر أن أحد علماء هذه البلاد حفظه الله ناقشه مناقش يوماً في مسألة فقهية، فلما ناقشه فيها قال له: أما قرأت ابن عاشر رحمه الله: الحكم في الشرع خطاب ربنا؟ فإذا عرفت أن الحكم في الشرع هو خطاب الله، عرفت أن خطاب المخلوقين ليس حكماً في الشرع وأنت لا تستطيع أن تدعي أن هذا اللفظ من خطاب ربنا، بل هو من خطاب قال فلان، وقال فلان؛ فلذلك يدرك الإنسان بهذا الفرق بين الحق والباطل، وبذلك يكون محقاً في كل الأمور، ولا يجد أية غضاضة في الرجوع إلى الحق إذا وجد الدليل في وجه أن يترك ما يخالف الدليل ويأخذ بالدليل؛ ولذلك فإن عمر رضي الله عنه كتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه في كتابه في القضاء: ولا يمنعك قضاء قضيت فيه بالأمس، فراجعت فيه نفسك فهديت فيه إلى رشدك، أن ترجع إلى الحق فإن الحق قديم لا ينقضه شيء، وإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.
وقد قال العلامة محمود بابا رحمه الله:
ليس من أخطأ الصواب بمخط إن يئوب لا ولا عليه ملامة
إنما المخطئ المسيء من إذا ما ظهر الحق لج يحمي كلامه
حسنات الرجوع تذهب عنه سيئات الخطأ وتنفي الملامة
إيثار الإنسان رضا الله على رضا المخلوقين
كذلك من آثار تصحيح هذا الاعتقاد: أنه يقتضي من الإنسان أن يؤثر رضا الله على رضا المخلوقين، فلا ولاء إلا لله سبحانه وتعالى ولمن جعل الله الولاء له، وقد قال الله تعالى: إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ [المائدة:55-56].
ومن هنا فإن الذين صححوا اعتقادهم كتب الله في قلوبهم الإيمان فلم يجدوا ميلاً إلى الأقارب إذا خالفوا هذا المنهج، فقد قال الله تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ [المجادلة:22].
وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنْ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [التوبة:23-24].
فلذلك يحقق الإنسان الولاء لله سبحانه وتعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، ويجد نفسه رحيماً بالمؤمنين، قريباً منهم عزيزاً على الكفار غليظاً عليهم، كما قال الله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29].
وكما قال تعالى: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة:54].
وكذلك فإن البراء سيكون حينئذ من كل من عاد الله سبحانه وتعالى، كما جعل إبراهيم ذلك كلمةً باقيةً في عقبه لعلهم يرجعون، فيبرأ الإنسان من كل من عاد الله سبحانه وتعالى، ومن كل ما تبرأ الله منه، ومن كل ما كرهه الله، ومن هنا لا يحب أي شيء مما يبغضه الله، سواءً كان شخصاً، أو فعلاً، أو قولاً، فكل ذلك قد ترك جانباً؛ لأنه بتصحيحه للاعتقاد أحب الله فأحب كل ما أحبه الله، وبرئ من كل ما أبغضه الله سبحانه وتعالى وتخلص منه، ولم يكن نافذة عليه بوجه من الوجوه، ولا ميل إليه، بل قد تخلص من ذلك كله، واستبدله بما أحب الله سبحانه وتعالى، وبما رضي له.
استقامة الإنسان على طريق الحق
كذلك من آثار تصحيح هذا الاعتقاد: أنه يبقى به الإنسان على هذا الخط حتى يلقى الله سبحانه وتعالى، فقد قال الله تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد:17]، وقال تعالى في أصحاب الكهف: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف:13]، فإذا صحح الإنسان اعتقاده فسيلهمه الله سبحانه وتعالى طريق الحق، ويثبته على هذا الطريق، ويرشده إليه، ولا يزال في ترقٍ وصعود وسمو حتى يلقى الله سبحانه وتعالى؛ لأنه صحح البدايات، وبتصحيحها تصح النهايات؛ ولأنه سلك الطريق الموصلة إلى الجنة، فسيستمر عليه، فالطريق نفسه يدعو من سلكه إلى الاستمرار والاستقامة عليه إلى أن يصل إلى منتهاه.