الربا أنواعه ومخاطره


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى هو الحي القيوم، قيام السموات والأرض، خلق هذه الأرض للبشر، وسخر لهم ما فيها من أرزاق، وقسمها بينهم على حسب حكمته، لا على حسب هواهم؛ فقال سبحانه وتعالى: وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ [النحل:71]؛ فجعل من الناس من يستطيع الإنتاج، ولديه قوة عقلية وبدنية لذلك، ومن لا يمتلك تلك القوة نهائياً، ومن لديه قوة جزئية تمكنه من إنتاج جزء يكفيه، لا إنتاج كل حاجته، فجعل الذين ينتجون أكثر من حاجاتهم يغطون جزءاً مشلولاً من البشرية، والذين ينتجون قدر حاجاتهم فقط أو أقل منها يشاركون في عملية الإنتاج، وما ذلك إلا ليقع التكامل، والترابط بين البشر؛ لأن الله سبحانه وتعالى ارتضى للبشرية الأخوة والتعاون والتكامل؛ فخلقهم من نفس واحدة، وكان بإمكانه أن يخلق مليون آدم، وأن يجعل البشر من سلالات شتى، ولكنه شاء بحكمته البالغة أن يردهم إلى سلالة واحدة، وأن يتحقق بينهم كل ما يقتضي ألفتهم وتعاونهم؛ ولهذا شرع لهم ما ينظم علاقاتهم فيما بينهم، ويحميهم من الخلافات المدمرة لهذه العلاقات.

من أعظم ما يؤدي إلى الاختلاف فيما بين البشر: (الربا).

حكم الربا والأدلة عليه

لقد حرم الله سبحانه وتعالى الربا تحريماً جازماً، فهو حرام بالكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس.

فمن تحريمه بالكتاب، قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:278-279]، وقوله تعالى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [البقرة:276].

ومن السنة ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:( لعن الله آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: هم سواء )، وكذلك ما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالمتمر، والملح بالملح مثلاً بمثل، يداً بيد، سواء بسواء؛ فإذ اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيفما شئتم إذا كان يداً بيد )، وما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء ).

وأما الإجماع فقد أجمعت الأمة على تحريم الربا، وعلى أن من استحله فهو كافر، يستتاب ثلاثة أيام بلا جوع وعطش ومعاقبة، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، ومحل هذا إن كان قد تربى في بيئة الإسلام، أما إن كان حديث عهد بجاهلية فإنه يعلم الحكم، ويؤدب لجراءته على الله حين استحل ما حرم الله.

وإن استحلال مثل هذا النوع من الكبائر العظيمة، التي تحريمها من المعلوم من الدين بالضرورة كفر إجماعي، لا يمتري فيه أحد من المسلمين.

وكذلك فإن القياس يقتضي تحريم الربا؛ لأن الله سبحانه وتعالى حرم الظلم على نفسه وجعله محرماً بين عباده، وإن الربا من أبلغ الظلم بالناس؛ لما فيه من استغلالهم، وأخذ ما ينتجونه بدون مقابل؛ فإن كل عمل يقدمه الإنسان إذا أخذ منه دون رضاه، وبغير مقابل فهو ظلم صريح له، وإن الربا الطبقة المسحوقة فيه الضعيفة الكادحة التي تعمل وتنتج، ثم يأخذ أصحاب رءوس الأموال إنتاجها، فهي مظلومة مسحوقة؛ لأنها ما اضطرت إلى الربا إلا لحاجتها وفقرها؛ فلذلك كان هذا الربا داخلاً في الظلم الذي حرمه الله على نفسه، وجعله محرماً بين عباده، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: ( يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا ).

وكذلك فإن الربا مقتض من الإنسان للحرص على العاجلة، وإهمال الدار الآخرة، وهذا إنما جاءت الرسل كلها لمكافحته، فالرسل إنما أرسلوا ليعلموا الناس ما أمرهم الله به، وقد قال الله تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5]، وإن المرابي يحرص على هذه الدنيا ويؤثرها على الآخرة، والله تعالى يقول في كتابه: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى:16-17].

وكذلك فإن المرابي يقدم شهواته على ما أمره الله به ويتبعها، والقياس يقتضي تحريم كل ما تأمر به الشهوة؛ لقول الله سبحانه وتعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40-41].

صورة ربا الجاهلية

إذا عرفنا حرمة الربا بالكتاب والسنة، والإجماع، والقياس، وعرفنا أن تحريمه من المعلوم من الدين بالضرورة، وأن منكره كافر مرتد عن دين الإسلام؛ فلنبحث إذاً في تعريف الربا ما هو؟

فهذا الربا الذي جاءت فيه هذه النصوص ليس مقصوراً على ما كان معروفاً بالجاهلية بهذا الاسم، فإن ربا الجاهلية كان أن ( يأتي الرجل الرجل، فيدان من عنده بدين إلى أجل محدد؛ فإذا حل الدين أتاه فقال له: إما أن تقضيني، وإما أن تربي لي )، (إما أن تقضيني)، أي: تدفع إلي ما دفعت إليك، (وإما أن تربي لي)، أي: أن تزيد لي من المال مقابل التأخير، هذا هو ربا الجاهلية الذي كان معروفاً فيها، وقد وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزاله، وقال في خطبته بعد فتح مكة: ( أما بعد: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا وإن دماء الجاهلية موضوعة تحت قدمي، وأول دم أضعه دمنا، دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، ألا وإن ربا الجاهلية موضوع تحت قدمي، وأول رباً أضعه ربانا؛ ربا العباس بن عبد المطلب ).

فأزال رسول الله صلى الله عليه وسلم الربا، ومحاه عن الذين أثقلت كواهلهم بفوائد ربوية، وجعل ذلك موضوعاً تحت قدمه، وما وضعه الله ورسوله لا رافع له، ولا يمكن أن يرتفع بعد أن وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت قدميه.

تعريف الربا

فلنعلم أن الذين عرفوا الربا من أهل العلم ذكروا له تعريفين: أحدهما تعريف بالتقسيم والعد، والثاني تعريف بالحد.

أما التعريف بالعد: فقد قسموا الربا فيه إلى قسمين: ربا الفضل، وربا النساء.

وربا الفضل هو: أن يباع الشيء بما هو جنس له متفاضلاً، أي: أحدهما أكثر من الآخر، أو أن يباع الشيء بأكثر منه من غير جنسه من ما هو ربوي، أي: من الأجناس التي يحصل الربا فيما بينها.

وربا النساء هو: الربا المتعلق بالتأخير، سواء كان ذلك بتعجيل ما في الذمة أو بتأخيره؛ لأن معجل ما في الذمة مسلف؛ ولأن مؤخر ما في الذمة مسلف كذلك، كما سيتبين من خلال كلامنا عن أمهات الربا إن شاء الله.

أما التعريف بالحد؛ فقد عرفوا الربا بأنه: كل بيع لا يحل؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل البيع مقابل للربا، ووصف الربا بالحرمة، ووصف البيع بالإباحة؛ فقال تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275]، فظاهر هذه الآية تقابل البيع والربا، فهما قسيمان، فكل تعامل مالي محرم فهو رباً، وكل تعامل مالي مباح فهو بيع، وأحل الله البيع وحرم الربا، والبيوع المحرمة قد أوصلها العلماء إلى ثمانية وخمسين بيعاً نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الثمانية والخمسون ترجع في جمهورها إلى علل تحريم الربا.

العلة في تحريم الربا

وعلل تحريم الربا ثلاث:

العلة الأولى هي: تحريم الغش، معناه أن يخادع الإنسان غيره؛ ليبيع له ما هو معيب، أو ما فيه نقص، وهو يخفيه عنه، فهذا غش، قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من غشنا فليس منا )، وحذر منه غاية التحذير.

العلة الثانية هي: السلف الذي يجر نفعاً؛ لأن القرض لا يكون إلا لوجه الله، وهو من القيم الإسلامية التي حض الإسلام على ترسيخها في المسلمين؛ فإن الشارع رسخ في المسلمين قيمة الإقراض، أن يقرض بعضهم بعضاً؛ لأن ذلك داخل في التعاون على البر والتقوى، قال تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2]، والقرض الحسن أفضل عند الله تعالى وأثقل في الميزان من الهبة؛ لأن الهبة يسألها من لا يحتاج إليها، وهي أعظم منة، والقرض لا يسأله إلا من هو محتاج إليه، وهو أقل منه؛ فلذلك كان القرض أفضل من الهبة، والقرض لا يكون إلا لوجه الله تعالى، فمن أخذ مقابله نفعاً فقد رابى؛ لكن هذا النفع أنواع:

النوع الأول: نفع حسي، وهو الفائدة الزائدة على أصل القرض، كأن تقرض إنساناً مليوناً فتأخذ منه مليوناً ومائة ألف، فهذه الفائدة الزائدة هي الربا المحرم المادي الذي هو رباً متجسد متجسم.

النوع الثاني: الفائدة المتعلقة بالأجل، فإن تأخير ما في الذمة ينتفع به الإنسان؛ لأنه بمثابة من أقرض؛ فسيستعمل تلك السيولة أو ذلك المال وسيربح منه في تلك الفترة؛ ولهذا فإن مؤخر ما في الذمة مسلف؛ لأنه قد استفاد هذه الفترة؛ فإذا أقرضت أخاك هذا مائة ألف إلى أجل مسمى، فأتيته عند الأجل، فأخرت هذا إلى أجل آخر، فقد أقرضته قرضاً جديداً؛ لأن تأخير ما في الذمة إقراض جديد، فإذا أخذت مقابل ذلك شيئاً فقد رابيت.

ومثل ذلك معجل ما في الذمة؛ فإذا أقرضت شخصاً إلى أجل مسمى، فأتيته قبل الأجل فعجل لك جزء مالك، وعفوت عنه في بقيته، فإنه قد أقرضك؛ لأنه عجل لك هذا المبلغ قبل وقته، وقضاؤه هو عند حصول الأجل، وسيأخذ أكثر مما دفع؛ لأنه محي من ذمته مبلغ أكبر من الذي دفعه، فلذلك مؤخر ما في الذمة مسلف، ومعجل ما في الذمة مسلف، وكل سلف جر نفعاً فهو محرم، وهذه مسألة إجماعية.

العلة الثالثة هي: ما يؤدي إلى الغرر والجهالة؛ فكل ما فيه غرر أو جهالة فهو رباً، وقد ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر ) نهياً مطلقاً كما في حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه، ونهى عنه في عدة أحاديث أخرى، كنهيه عن ربح ما لم يضمن، وعن بيعتين في بيعة، وعن بيع المضامين، والملاقيح، وحبل الحبلة، وعن بيع المنابذة، والملامسة، وبيع الحصاة، وغير ذلك من البيوع التي كلها داخلة في هذا النوع الذي هو الغرر، وفيها أحاديث عن عمر و عبد الله بن عمرو بن العاص ؛ فكلها مبينة لأنواع بيع الغرر.

وسبب تحريمه أنه يؤدي بالإنسان إلى الهلع والطمع؛ فالمزابن الذي يدفع الآخر حتى ينال هو ربحاً زائداً يتزاحم مع الآخر بعقله، فيكون كل واحد منهما يريد أن يغلب عقله عقل الآخر؛ ولهذا فإن المزابنة التي حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم مشتقة من الزبن، وهو الدفع، ومنه اشتقاق الزبانية، وهم خزنة النار؛ لأنهم يدفعون أهل النار دفعاً شديداً نسأل الله السلامة والعافية؛ ولذلك فسر ابن عمر المزابنة بأنها: أن يقصد كل واحد من البائع والمشتري غلبة الآخر؛ فإذا كان شخص يبيع شارفاً من الإبل -أي: ناقة كبيرة السن، ذات مخاض- بحقة إلى أجل سنتين مثلاً، أو ثلاث سنين؛ فيشتري منه إنساناً آخر يريد مغالبته بالعقل، فيقول: سآخذ هذه الناقة وأنميها، فتلد لي أنثى فأربيها، فأدفعها له في الحقة، وأنتفع أنا بالشارف، أي: بالناقة. فهذه هي المزابنة التي حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي راجعة إلى الغرر؛ لأنه بالإمكان أن تموت الناقة الآن، وتبقى الحقة في ذمته؛ ولذلك فإن بيع الشيء بجنسه إلى أجل ممنوع أصلاً؛ لما فيه من المزابنة.

وتوسع الشارع في التحريم فيه حتى منع بيع الأرض بما يخرج منها؛ لأن بيع الأرض بما تنبته ويخرج منها ممنوع؛ لأنه داخل في هذا النوع من الغرر لوجود المزابنة، ومثل ذلك بيع الشجر بالخشب لأنه ينتجه، فكل ما يمكن أن يكون الثمن فيه نتاجاً للمثمن؛ فالبيع فيه ممنوع شرعاً، لما يحصل فيه من المزابنة.

يضاف إلى هذه العلل الثلاث: علة رابعة جزئية، أي: في بعض جزئيات العقود دون بعض، وهي أن الضمان أيضاً مثل القرض لا يكون إلا ابتغاء مرضاة الله، ولا يحل أخذ مقابل عليه؛ فكل ضمان أخذ عليه صاحبه مالاً فهو رباً.

لقد حرم الله سبحانه وتعالى الربا تحريماً جازماً، فهو حرام بالكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس.

فمن تحريمه بالكتاب، قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:278-279]، وقوله تعالى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [البقرة:276].

ومن السنة ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:( لعن الله آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: هم سواء )، وكذلك ما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالمتمر، والملح بالملح مثلاً بمثل، يداً بيد، سواء بسواء؛ فإذ اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيفما شئتم إذا كان يداً بيد )، وما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء ).

وأما الإجماع فقد أجمعت الأمة على تحريم الربا، وعلى أن من استحله فهو كافر، يستتاب ثلاثة أيام بلا جوع وعطش ومعاقبة، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، ومحل هذا إن كان قد تربى في بيئة الإسلام، أما إن كان حديث عهد بجاهلية فإنه يعلم الحكم، ويؤدب لجراءته على الله حين استحل ما حرم الله.

وإن استحلال مثل هذا النوع من الكبائر العظيمة، التي تحريمها من المعلوم من الدين بالضرورة كفر إجماعي، لا يمتري فيه أحد من المسلمين.

وكذلك فإن القياس يقتضي تحريم الربا؛ لأن الله سبحانه وتعالى حرم الظلم على نفسه وجعله محرماً بين عباده، وإن الربا من أبلغ الظلم بالناس؛ لما فيه من استغلالهم، وأخذ ما ينتجونه بدون مقابل؛ فإن كل عمل يقدمه الإنسان إذا أخذ منه دون رضاه، وبغير مقابل فهو ظلم صريح له، وإن الربا الطبقة المسحوقة فيه الضعيفة الكادحة التي تعمل وتنتج، ثم يأخذ أصحاب رءوس الأموال إنتاجها، فهي مظلومة مسحوقة؛ لأنها ما اضطرت إلى الربا إلا لحاجتها وفقرها؛ فلذلك كان هذا الربا داخلاً في الظلم الذي حرمه الله على نفسه، وجعله محرماً بين عباده، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: ( يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا ).

وكذلك فإن الربا مقتض من الإنسان للحرص على العاجلة، وإهمال الدار الآخرة، وهذا إنما جاءت الرسل كلها لمكافحته، فالرسل إنما أرسلوا ليعلموا الناس ما أمرهم الله به، وقد قال الله تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5]، وإن المرابي يحرص على هذه الدنيا ويؤثرها على الآخرة، والله تعالى يقول في كتابه: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى:16-17].

وكذلك فإن المرابي يقدم شهواته على ما أمره الله به ويتبعها، والقياس يقتضي تحريم كل ما تأمر به الشهوة؛ لقول الله سبحانه وتعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40-41].

إذا عرفنا حرمة الربا بالكتاب والسنة، والإجماع، والقياس، وعرفنا أن تحريمه من المعلوم من الدين بالضرورة، وأن منكره كافر مرتد عن دين الإسلام؛ فلنبحث إذاً في تعريف الربا ما هو؟

فهذا الربا الذي جاءت فيه هذه النصوص ليس مقصوراً على ما كان معروفاً بالجاهلية بهذا الاسم، فإن ربا الجاهلية كان أن ( يأتي الرجل الرجل، فيدان من عنده بدين إلى أجل محدد؛ فإذا حل الدين أتاه فقال له: إما أن تقضيني، وإما أن تربي لي )، (إما أن تقضيني)، أي: تدفع إلي ما دفعت إليك، (وإما أن تربي لي)، أي: أن تزيد لي من المال مقابل التأخير، هذا هو ربا الجاهلية الذي كان معروفاً فيها، وقد وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزاله، وقال في خطبته بعد فتح مكة: ( أما بعد: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا وإن دماء الجاهلية موضوعة تحت قدمي، وأول دم أضعه دمنا، دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، ألا وإن ربا الجاهلية موضوع تحت قدمي، وأول رباً أضعه ربانا؛ ربا العباس بن عبد المطلب ).

فأزال رسول الله صلى الله عليه وسلم الربا، ومحاه عن الذين أثقلت كواهلهم بفوائد ربوية، وجعل ذلك موضوعاً تحت قدمه، وما وضعه الله ورسوله لا رافع له، ولا يمكن أن يرتفع بعد أن وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت قدميه.

فلنعلم أن الذين عرفوا الربا من أهل العلم ذكروا له تعريفين: أحدهما تعريف بالتقسيم والعد، والثاني تعريف بالحد.

أما التعريف بالعد: فقد قسموا الربا فيه إلى قسمين: ربا الفضل، وربا النساء.

وربا الفضل هو: أن يباع الشيء بما هو جنس له متفاضلاً، أي: أحدهما أكثر من الآخر، أو أن يباع الشيء بأكثر منه من غير جنسه من ما هو ربوي، أي: من الأجناس التي يحصل الربا فيما بينها.

وربا النساء هو: الربا المتعلق بالتأخير، سواء كان ذلك بتعجيل ما في الذمة أو بتأخيره؛ لأن معجل ما في الذمة مسلف؛ ولأن مؤخر ما في الذمة مسلف كذلك، كما سيتبين من خلال كلامنا عن أمهات الربا إن شاء الله.

أما التعريف بالحد؛ فقد عرفوا الربا بأنه: كل بيع لا يحل؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل البيع مقابل للربا، ووصف الربا بالحرمة، ووصف البيع بالإباحة؛ فقال تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275]، فظاهر هذه الآية تقابل البيع والربا، فهما قسيمان، فكل تعامل مالي محرم فهو رباً، وكل تعامل مالي مباح فهو بيع، وأحل الله البيع وحرم الربا، والبيوع المحرمة قد أوصلها العلماء إلى ثمانية وخمسين بيعاً نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الثمانية والخمسون ترجع في جمهورها إلى علل تحريم الربا.

وعلل تحريم الربا ثلاث:

العلة الأولى هي: تحريم الغش، معناه أن يخادع الإنسان غيره؛ ليبيع له ما هو معيب، أو ما فيه نقص، وهو يخفيه عنه، فهذا غش، قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من غشنا فليس منا )، وحذر منه غاية التحذير.

العلة الثانية هي: السلف الذي يجر نفعاً؛ لأن القرض لا يكون إلا لوجه الله، وهو من القيم الإسلامية التي حض الإسلام على ترسيخها في المسلمين؛ فإن الشارع رسخ في المسلمين قيمة الإقراض، أن يقرض بعضهم بعضاً؛ لأن ذلك داخل في التعاون على البر والتقوى، قال تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2]، والقرض الحسن أفضل عند الله تعالى وأثقل في الميزان من الهبة؛ لأن الهبة يسألها من لا يحتاج إليها، وهي أعظم منة، والقرض لا يسأله إلا من هو محتاج إليه، وهو أقل منه؛ فلذلك كان القرض أفضل من الهبة، والقرض لا يكون إلا لوجه الله تعالى، فمن أخذ مقابله نفعاً فقد رابى؛ لكن هذا النفع أنواع:

النوع الأول: نفع حسي، وهو الفائدة الزائدة على أصل القرض، كأن تقرض إنساناً مليوناً فتأخذ منه مليوناً ومائة ألف، فهذه الفائدة الزائدة هي الربا المحرم المادي الذي هو رباً متجسد متجسم.

النوع الثاني: الفائدة المتعلقة بالأجل، فإن تأخير ما في الذمة ينتفع به الإنسان؛ لأنه بمثابة من أقرض؛ فسيستعمل تلك السيولة أو ذلك المال وسيربح منه في تلك الفترة؛ ولهذا فإن مؤخر ما في الذمة مسلف؛ لأنه قد استفاد هذه الفترة؛ فإذا أقرضت أخاك هذا مائة ألف إلى أجل مسمى، فأتيته عند الأجل، فأخرت هذا إلى أجل آخر، فقد أقرضته قرضاً جديداً؛ لأن تأخير ما في الذمة إقراض جديد، فإذا أخذت مقابل ذلك شيئاً فقد رابيت.

ومثل ذلك معجل ما في الذمة؛ فإذا أقرضت شخصاً إلى أجل مسمى، فأتيته قبل الأجل فعجل لك جزء مالك، وعفوت عنه في بقيته، فإنه قد أقرضك؛ لأنه عجل لك هذا المبلغ قبل وقته، وقضاؤه هو عند حصول الأجل، وسيأخذ أكثر مما دفع؛ لأنه محي من ذمته مبلغ أكبر من الذي دفعه، فلذلك مؤخر ما في الذمة مسلف، ومعجل ما في الذمة مسلف، وكل سلف جر نفعاً فهو محرم، وهذه مسألة إجماعية.

العلة الثالثة هي: ما يؤدي إلى الغرر والجهالة؛ فكل ما فيه غرر أو جهالة فهو رباً، وقد ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر ) نهياً مطلقاً كما في حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه، ونهى عنه في عدة أحاديث أخرى، كنهيه عن ربح ما لم يضمن، وعن بيعتين في بيعة، وعن بيع المضامين، والملاقيح، وحبل الحبلة، وعن بيع المنابذة، والملامسة، وبيع الحصاة، وغير ذلك من البيوع التي كلها داخلة في هذا النوع الذي هو الغرر، وفيها أحاديث عن عمر و عبد الله بن عمرو بن العاص ؛ فكلها مبينة لأنواع بيع الغرر.

وسبب تحريمه أنه يؤدي بالإنسان إلى الهلع والطمع؛ فالمزابن الذي يدفع الآخر حتى ينال هو ربحاً زائداً يتزاحم مع الآخر بعقله، فيكون كل واحد منهما يريد أن يغلب عقله عقل الآخر؛ ولهذا فإن المزابنة التي حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم مشتقة من الزبن، وهو الدفع، ومنه اشتقاق الزبانية، وهم خزنة النار؛ لأنهم يدفعون أهل النار دفعاً شديداً نسأل الله السلامة والعافية؛ ولذلك فسر ابن عمر المزابنة بأنها: أن يقصد كل واحد من البائع والمشتري غلبة الآخر؛ فإذا كان شخص يبيع شارفاً من الإبل -أي: ناقة كبيرة السن، ذات مخاض- بحقة إلى أجل سنتين مثلاً، أو ثلاث سنين؛ فيشتري منه إنساناً آخر يريد مغالبته بالعقل، فيقول: سآخذ هذه الناقة وأنميها، فتلد لي أنثى فأربيها، فأدفعها له في الحقة، وأنتفع أنا بالشارف، أي: بالناقة. فهذه هي المزابنة التي حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي راجعة إلى الغرر؛ لأنه بالإمكان أن تموت الناقة الآن، وتبقى الحقة في ذمته؛ ولذلك فإن بيع الشيء بجنسه إلى أجل ممنوع أصلاً؛ لما فيه من المزابنة.

وتوسع الشارع في التحريم فيه حتى منع بيع الأرض بما يخرج منها؛ لأن بيع الأرض بما تنبته ويخرج منها ممنوع؛ لأنه داخل في هذا النوع من الغرر لوجود المزابنة، ومثل ذلك بيع الشجر بالخشب لأنه ينتجه، فكل ما يمكن أن يكون الثمن فيه نتاجاً للمثمن؛ فالبيع فيه ممنوع شرعاً، لما يحصل فيه من المزابنة.

يضاف إلى هذه العلل الثلاث: علة رابعة جزئية، أي: في بعض جزئيات العقود دون بعض، وهي أن الضمان أيضاً مثل القرض لا يكون إلا ابتغاء مرضاة الله، ولا يحل أخذ مقابل عليه؛ فكل ضمان أخذ عليه صاحبه مالاً فهو رباً.

هذه الأمور الأربعة المذكورة، أو العلل الأربع تنتظم أمهات الربا؛ وهي:

الأم الأولى: سلف جر نفعاً؛ فكل سلف جر نفعاً فهو رباً، وهذا يشمل كثيراً من العقود المتداولة، وسنذكر بعض أمثلتها في واقعنا إن شاء الله.

والأم الثانية هي: مؤخر ما في الذمة مسلف.

والأم الثالثة: معجل ما في الذمة مسلف.

والأم الرابعة: حط الضمان وأزيدك، أي: حط عني قضائي في هذا الوقت على هذا الأجر، وأزيدك في رأس المال مقابل الزيادة في التأجير.

والأم الخامسة: ضع وتعجل، أي: ضع بعض مالك وتعجل بقيته؛ فيكون حينئذٍ متعجلاً لما في الذمة؛ فيكون مسلفاً سلفاً جر نفعاً.

والأم السادسة: أسلفني على أن أسلفك، أي: أن يكون السلف مقابل سلف؛ فيكون الإنسان منتفعاً حينئذٍ من القرض الذي لا يجوز إلا ابتغاء مرضاة الله.

والأم السابعة: المزابنة، وهي: قصد المغالبة في البيع.

هذه هي أمهات الربا التي تتنظم كثيراً من صوره، وقد حرص العلماء على تفصيلها وبيان أوجهها.

ولقد ذكر العلماء لذلك كثيراً مما يمكن أن يعتني به الناس لحفظ تفريعات هذه الشريعة؛ فمن أهم ما قعدوه بناء على هذا: أن بينوا أركان العقد، وشروط كل ركن، فبينوا أن العقد المالي الذي هو: البيوع وما يتعلق بها له ستة أركان:

أركان البيع

الركن الأول: البائع، والثاني: المشتري، والثالث: السلعة، والرابع: الثمن، والخامس: الإيجاب، والسادس: القبول، فهذه ستة أركان على سبيل البسط، وأما على سبيل الاختصار فيمكن أن تقول: العاقدان، والمعقود عليهما، والصيغة، وأهم ذلك الصيغة؛ لأنها الركن الأساسي من العقد، وهي الركن الإجماعي، فعند الحنفية ركن البيع واحد وهو: الصيغة فقط، أما ما سوى ذلك فهو مكملات له وشروط، وعند الجمهور كل هذه المذكورات أركان.

شروط الصيغ في البيع

والصيغة يشترط لها ثلاثة شروط:

الشرط الأول: توارد الإيجاب والقبول على محل واحد، معناه: أن يكون ما نطق به البائع، وما نطق به المشتري واردين على محل واحد؛ فإذا قال لك إنسان: بعني هذا الجهاز بألف، فقلت: بعتك هذا الجهاز بألف، فإن الصيغة غير صحيحة؛ لأن الإيجاب والقبول فيها لم يتواردا على محل واحد؛ فهو يقصد هذا الجهاز الكبير، وأنت قصدت هذا الجهاز الصغير، فلم يتوارد اللفظان على محل واحد، فلا تصح الصيغة حينئذ، ويكون هذا العقد بيعاً فاسداً.

الشرط الثاني: اتصال الإيجاب بالقبول، فإن انفصل الإيجاب عن القبول بما يدل على الإعراض فإن العقد لا ينعقد بذلك، كما إذا قال لك إنسان: بعتك هذا الجهاز بألف؛ فخرجت ولم تتكلم، وبعد أسبوع أتيت فقلت: قبلت منك هذا الجهاز بألف، أو قبلت منك الجهاز الذي عرضته بألف؛ فهذا العقد غير صحيح؛ لعدم اتصال الإيجاب بالقبول؛ فحين أعرضت عنه ولم تقبله كان بالإمكان أن يبيعه لمن سواك، أو أن تطرأ حوالة الأسواق فيتغير الثمن، أو أن يتلف الجهاز من أصله، كل ذلك محتمل، وقد حرم الشارع كل ما يؤدي إلى الغرر.

الشرط الثالث: استمرار أهلية الأخير من العاقدين حتى نهاية نطقه؛ فإن الإيجاب بالإمكان أن يصدر أولاً، وبالإمكان أن يصدر القبول قبله، وهذا في تصوير الجمهور للإيجاب والقبول، أما عند الحنفية فالإيجاب هو: ما صدر أولاً، والقبول: ما صدر ثانياً مطلقاً، فقول المشتري: اشتريت منك هذا الجهاز بمائة فهذا قبول عند الجمهور، وإيجاب عند الحنفية، فإن الحنفية يسمون الإيجاب ما صدر أولاً، والجمهور عندهم الإيجاب هو: ما صدر من البائع صاحب السلعة، والقبول: هو ما صدر من المشتري صاحب الثمن، فإذا كان ما ..... منهما في النطق قد اختلت أهليته بأن مات أو حجر عليه، أو أصيب بمرض مخوف يمنع أهليته، أو صدر عليه حكم يقتضي إفلاسه، فإن العقد لم ينعقد؛ لأن القبول ما صدر وهو متصل بالأهلية، والأهلية لا بد منها في العاقدين.

إذاً: هذه الثلاثة هي شروط الصيغة، وإن اختل واحد من هذه الشروط كان العقد محرماً، وداخلاً في إطار الربا.

شروط العاقدين في البيع

أما شروط العاقدين، فهي ستة:

الشرط الأول منها: تمييزهما، ومعناه: أن يكونا مدركين لمعنى البيع؛ فغير المميز كالمجنون المطلق، أي أن الصبي الذي لا يميز لا ينعقد البيع معه بحال من الأحوال، ولا يستثنى من هذا إلا ما كان من الأجهزة التي تكون معدة للعقد بواسطة عقل إلكتروني، فإن التعامل فيها في الواقع مع صاحبها، كماكنة الصرف التي يدخل فيها الإنسان رقمه السري، وبطاقته الخاصة؛ فيسحب من رصيده فيها مبالغ مالية، أو كالماكنات التي تكون على الشوارع، وفيها الأشربة، ويضع الإنسان فيها نقداً، فيستخرج مقابله شراباً، أو عصيراً، أو شاياً، أو غير ذلك، فالعقد هنا ليس مع الماكنة، وإنما هو مع صاحبها؛ لأنه قد وضع فيها برنامجاً محدداً لذلك.

الشرط الثاني من هذه الشروط: البلوغ؛ فإن الصبي المميز يصح عقده، لكنه لا يلزم؛ فهو موقوف على رضا وليه؛ لأنه المالك الحقيقي المتصرف في أمره، وهو لا يمكن أن يكون تام التصرف إلا بعد إذن وليه، ويستثنى من هذا الشيء التافه في شراء الصبية للحلاوات ونحوها من المحلات؛ فالأشياء التافهة جرت العادة على أن يتعامل فيها الصبيان؛ وذلك داخل في ابتلائهم، في قول الله تعالى: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6]، فابتلاؤهم هو بامتحانهم بجعل بعض المال اليسير تحت أيديهم لينظر تصرفهم فيه، هل هو تصرف الرشداء، أو تصرف السفهاء؟ فهذا النوع من التعامل يجوز انعقاده ويمضي مع الصبيان؛ لأنه مما جرت العادة به، والعادة في ذلك غير مخالفة للشرع؛ لأن الله أمر بابتلاء اليتامى بمثل هذا.

الشرط الرابع: الحرية، والمقصود بذلك الإذن من المالك لرقيقه في البيع والشراء؛ لأن له حقاً في ماله في أي وقت شاء، فلا بد من إذنه؛ لكن البيع من أصله صحيح، وهو موقوف على رضا المالك، فإن فوضه فكان الرقيق مأذوناً فبيعه نافذ مطلقاً، ومثل ذلك ما جرت به العادة من التعامل؛ فإن الشرع أقره، أما ما لم تجر به العادة، ولم يأذن فيه السيد، فهو موقوف على رضاه ولا يمضي إلا بإذنه.

الشرط الخامس: الرشد؛ فإن تصرف السفيه كذلك موقوف على رضا وليه الحازر عليه، فالعقد صحيح، ولكنه غير لازم، ولا يلزم إلا بعد إنفاذ الولي له.

الشرط السادس: الملك، والمقصود به: الصفة الشرعية التي تقتضي من الإنسان تصرفاً، سواء كانت ملك يمين بأن كان الإنسان يملك هذا الجهاز ملكاً صحيحاً، أو كانت بالإذن في التصرف، كالوكيل على البيع؛ فهو غير مالك للجهاز، ولكنه مالك لبيعه؛ لأنه وكيل على ذلك، فهذا شرط كذلك للعاقدين.

شروط المعقود عليه في البيع

أما شروط المعقود عليه، فهي:

الشرط الأول: الطهارة؛ فالنجس لا يحل العقد عليه مطلقاً، وبيعه داخل في الربا المحرم، ولا يستثنى من ذلك إلا ما كان من جلود الميتات إذا دبغت، وهذا عند طائفة من أهل العلم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أيما إهاب دبغ فقد طهر )، وفي رواية: ( فقد طهر )، وكذلك السرجين، وهو السماد الذي أصله نجس؛ فإن أهل الزراعة يحتاجون إليه، وقل ما يجدونه دون مقابل؛ فيحتاجون إلى شرائه وبيعه، فرخص في ذلك للضرورة، ومثل هذا إذا اضطر الإنسان لدم لفقره عنده مثلاً، واحتاج إلى شراء الدم من بنوك الدم؛ فإنه يحل للمحتاج أن يشتريه، ويحرم على البائع بيعه، وهذا نوع من العقود سنتعرض له؛ فبعض العقود تكون حراماً على أحد الطرفين، حلالاً للآخر؛ فالمضطر للدم لأن لديه مريضاً قد أصيب بفقر دم، أو سيتعرض لعملية جراحية في القلب، أو في الكلى، أو زراعة كبد، أو نحو ذلك، فإذا لم يشتري له دماً لحقنه به، فسيموت ذلك المريض قطعاً، فهو مضطر لشرائه، فيحل له أن يشتريه، ولكن لا يحل للبائع بيعه، نعم يجوز التبرع به، لكن لا يحل بيعه.

ويستثنى من ذلك كذلك: ما تغير بعلاج كيميائي ينقله عن أصله، كالمواد التي أصلها نجس، ثم عولجت بالكيمياء، حتى تغيرت أصولها، وعادت مادة جديدة؛ فالكريمات التي يدهن بها. كثير منها يؤخذ في الأصل من المشيمة من الشارلي وغيره؛ فهذه قد عولجت كيميائياً حتى تغيرت عن أصلها؛ فأصبحت مادة جديدة، والراجح في مثل هذا الإباحة، ومثل ذلك: ما يتغير عن أصله بالكلية، من علف البهائم الذي يؤخذ من المجازر، وبقايا الميتات، ويصنع ويعالج بالكيمياء، حتى يتغير عن أصله، فإن الراجح فيه الإباحة حينئذٍ.

الشرط الثاني: أن يكون منتفعاً به؛ فما لا نفع فيه لا يحل بيعه ولا شراؤه، وبيعه من الربا المحرم، ويدخل في ذلك: المحرم الذي أشرف على الموت، كالحمار الذي قد أشرف على الموت؛ فهذا لا نفع فيه، فبيعه حرام رباً، ومثل ذلك بيع الدخان ووسائله؛ فإنه لا نفع فيه شرعاً، فأنواع السجائر، ومثلها آلاتها، وما لا يستعمل إلا فيها، لا نفع فيها شرعاً؛ فبيعها حرام رباً؛ لأنها لا يترتب عليها أي نفع شرعاً؛ فإن وصول المنافع أربع تكفل الله بها لآدم في الجنة، فقال تعالى: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى [طه:118-119]؛ فضمن له ألا يجوع وهذه هي المطاعم، وألا يعرى وهذه هي الملابس، وألا يظمأ وهذه المشارب، وألا يضحى، أي: ألا يبرز للشمس وهذه المساكن؛ فهذه هي أصول المنافع، وما عداها فهي مكملات لها، والتدخين ليس فيه نفع من هذه المنافع؛ فهو محرم من ناحية التداول في البيع والشراء، فلا يحل بيعه ولا شراؤه، لعدم الانتفاع به.

ولا يستثنى من هذا إلا ما يمكن أن يخضع لبعض التجارب فيستفيد منه بعض الناس دون بعض، كبيع العقارب للمخابر التي تستخرج سمومها، وبيع الحيات للمخابر التي تستخرج سمومها، فإنها تعمل منها العقاقير ونحوها مما فيه نفع؛ فهذا ليس بيعاً لما لا نفع فيه؛ بل هو بيع لما ينتفع به بعض الناس دون بعض.

ومثل ذلك: الحشائش التي تستعمل لاستخلاص بعض المواد العلاجية منها، ويستفاد منها في صناعة الأدوية؛ فهذه لا يستفيد منها أكثر الناس، ولا يحل بيعها لهم، وإنما يحل بيعها لأصحاب المصانع الذين يستخلصون منها موادها الأساسية النافعة في تركيب الأدوية، أو غيرها من الأمور النافعة؛ فيعلم من هذا أن الأوراق الملفوفة التي تلف لتكون وعاء للتدخين لا يحل بيعها؛ لأنه لا نفع فيها.

ومثل ذلك: وسائلها الخاصة بها التي لا تستغل في غيرها؛ فلا يحل بيعها؛ لأنها لا ينتفع بها في غير ما لا نفع فيه، ولا يحل التعامل به، وأما المواقد التي توقد بها النار كالكبريت، والموقد الغازي؛ فهذه ينتفع بها في غير التدخين؛ فيجوز بيعها وشراؤها، والعقد فيها صحيح ليس رباً؛ لأنها بالإمكان أن ينتفع بها بوجه شرعي آخر.

الشرط الثالث: ألا يكون منهياً عنه، فإن كان قد ورد نهي بخصوصه، فلا يحل بيعه حينئذٍ، ولا العقد عليه مطلقاً، ومن ذلك النهي عن بيع الكلب، فقد صح في سنن أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكلاب، وقال: ( فإن جاء يطلب ثمنه فاملئوا له كفه تراباً )، فهذا يقتضي حرمة بيع الكلاب مطلقاً، ولو كانت منتفعاً بها، ولو كانت مما يحل استغلاله ككلب الصيد، وكلب الزرع، وكلب الرعي؛ فهذه الكلاب يجوز استخدامها؛ لكن لا يحل بيعها لإطلاق النهي عن بيع الكلاب.

ومثل ذلك: بيع آلات اللهو؛ فإنها وإن كانت مما له ثمن رائج بين الناس، لكنها لا يحل بيعها شرعاً، لما جاء من النهي عنها في قول الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ [لقمان:6]، ويستثنى من ذلك ما كان نافعاً في غير اللهو، أي: ويستعمل في غير اللهو؛ فإنه يجوز بيعه وشراؤه، كالآلات التي تستعمل للهو وغيره، كآلات التسجيل والتلفزات، وغيرها، فهذه يمكن أن تستعمل للهو، ويمكن أن تستعمل لغيره، فيحل بيعها للجانب الآخر، تغليباً لجانب الإباحة على جانب الحظر في مثل هذا.

الشرط الرابع: ألا يكون مجهولاً، والمقصود بذلك: أن يعلم علماً ينفي الغرر؛ فلا يحل بيع الحمام المحلق في الهواء، أو الحمام الذي في البرج، أو ما لا يستطيع الإنسان حصره ومعرفة عدده؛ فهذا لا يحل بيعه لجهالته، والجهالة راجعة إلى الغرر الذي بيناه من قبل، وكل ما يؤدي بيعه إلى جهالة؛ فإن بيعه من الربا البين؛ ومن ذلك بيع الملابس المستعملة التي تأتي في صورة الأكوام، فيها الجيد والرديء؛ لكن الإنسان يشتريها وهو مقدم على مغامرة، لا يدري هل ما يشتريه سيربح منه، ويجد فيه نفعاً، أو هو غيره صالح لذلك؛ فهذه لا يحل بيعها ولا شراؤها هكذا، للجهالة البينة فيها، التي تقتضي غرضاً واضحاً، وإنما يحل بيع الملابس بعد نشرها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الملامسة، وبيع المنابذة، وبيع الحصاة، وكل ذلك خشية الغرر، والغرر الحاصل في الملابس المستعملة أعظم من هذا؛ لأن كثيراً من الناس يشترونها، وهي في أوعيتها، لا يراها، ولا يعرف أنواع الملابس أصلاً، ولا يعرف درجة الانتفاع بها.

بل قد سألني سائل في هذه الأيام بين في سؤاله أن كثيراً من الناس قد يشتريها لا يريدها لذاتها، وإنما يريدها لما قد يوجد فيها من النقود، أو من الساعات، أو نحو ذلك؛ فيكون هذا من الميسر البين، الذي بين الله سبحانه وتعالى تحريمه، وقرنه بالخمر في كتابه.

الشرط الخامس: أن يكون المعقود عليه مقدوراً عل تسليمه وتسلمه، أي: أن يكون البائع قادراً على تسليمه، وأن يكون المشتري قادراً على تسلمه، بخلاف بيع الشارد الذي لا يتمكن الإنسان من تسليمه وتسلمه، أو المغصوب، أو نحو ذلك، فهذا لا يتمكن الإنسان من تسليمه وتسلمه، فلا يحل بيعه ولا شراؤه، والعقد عليه حينئذٍ من الربا البين؛ لأن المقدم عليه مغامر قد يحصل على نفع، وقد لا يحصل على شيء.

الشرط السادس: عدم الحرمة، وهذا هو الشرط الأخير في المعقود عليه، ألا يكون محرم الاستعمال؛ فإن كان محرم الاستعمال لذاته كالخمر؛ فإنه لا يحل العقد عليه أصلاً، والعقد عليه باطل، ومثل ذلك الخنزير، فلا يحل بيعه ولا شراؤه، وذلك العقد كله باطل، وهو من الربا البين، حتى لو ترتب على ذلك بعض الأمور التي تغير الأصل، كمن يشتري الخمر وهو يريد أن يجعلها خلاً، أو يطبخها في الحلويات حتى يزول عنها الإسكار، فإن العقد من أصله حرام، لا يحل له شراؤها كذلك؛ لكن إذا حجرها مالكها، أو وضع نبيذاً أو سويقاً حتى تحجرت، أو تخللت فيحل حينئذٍ بيعها بعد أن تتحجر أو تتخلل، لكن قبل أن تتحجر أو تتخلل لا يحل بيعها ولا شراؤها، وهو من الربا البين.

بخلاف العطور التي فيها مادة الكحول، فإنه يحل بيعها وشراؤها؛ لأن مادة الكحول ليست هي الخمر، فالخمر مادة مركبة، فيها الكحول وغير الكحول، ومن القواعد الفقهية المسلمة: أن الشيء مع غيره غيره معه، وبلفظ آخر: الشيء مع غيره غيره لا هو مع غيره، فمادة الكحول إذا خلطت بالسكر وبالماء، وبالجليكوز، وغير ذلك من المواد حصلت منها مادة الخمر؛ لكن إذا كانت وحدها، أو مخلوطة من مادة أخرى لا تصل إلى حد الإسكار فليست بخمر، فلذلك يحل بيعها كما يحل بيع السكر، والماء، والعنب، ونحو ذلك من المواد المشاركة في تكوين الخمر، والمواد العلاجية التي تكون كحولية، أو كحولاً مستخلصة، أو مخدرة في أصلها؛ لكنها عولجت بطريقة تكون علاجاً لبعض الأمراض، أو مساعدة في ذلك، فهذه يحل بيعها وشراؤها؛ لأن الأصل في شرائها وبيعها إنما هو في الانتفاع المحدد المنصوص.

وإن كان بعض الناس قد يستغلها لأغراض فاسدة؛ فإن ذلك لا يقتضي تحريمها، كالذين يشترون مادة الإسبيرين لجعلها في أشربة مسكرة، أو نحو ذلك، فهذا لا عبرة به، ومثل ذلك الذين يستخدمون بعض الأدوية للتخدير، فيستغلونها ويجعلونها مخدرة، فإن هذا لا يحرم بيعها؛ لأن الأصل فيها أنها معدة لانتفاع محدد، فتباع لأجل ذلك الانتفاع.