خطب ومحاضرات
الجبهات الخمس
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد:
فقد ذكرنا أن ابن آدم في هذه الحياة قد فتح عليه خمس جبهات؛ أما الجبهة الأولى فجبهة الشيطان التي قال الله فيها: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا[فاطر:6]، وهذه الآية فيها الخبر الذي حظه التطبيق وهو قوله: فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا[فاطر:6]، ولا يتخذ الإنسان الشيطان عدواً إلا في ثلاثة أمور:
الأمر الأول: أن لا يطيع له أمراً وأن لا يتبع خطواته.
والأمر الثاني: أن يحذر من مكايده غاية الحذر.
والأمر الثالث: أن ينقص جنوده ما استطاع؛ فكل من دعا إلى الله فاهتدى على يديه إنسان فأكثر فقد حقق عداوته لإبليس؛ لأنه نقص جنوده، وأنت لا تستطيع أن تقتل إبليس؛ لأن الله ضمن له البقاء في هذه الدنيا؛ فقال: إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ[الأعراف:15]، إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ المَعْلُومِ[الحجر:38]، ولا تستطيع أن ... لأنه هو يراك هو وقبيله من حيث لا تراهم، ولا يضره الشتم والسب؛ فقد لعنه الله؛ فكيف تحقق عداوتك له إذاً؟! إنما هي بهذه الأمور الثلاثة؛ فلذلك لا بد أن تحرص على تحقيق العداوة لإبليس بهذه الأمور الثلاثة وأن تعلم أنك لو اهتدى على يديك إنسان واحد من جنود إبليس فقد حققت له العداوة؛ لأن من قاتل ملكاً فأسر من جنوده وقتل فقد حقق العداوة له، وجنود إبليس إنما يؤسرون بضمهم إلى جند الله، فإذا اهتدى على يدك جند من جنود إبليس فضممته إلى جند الله فذلك أبلغ مما لو قتلته أو أسرته.
ثم هذه الجبهة كما ذكرنا لها جندان:
جنود إبليس في عداوته للإنسان
جند الشهوات، وقد قسمنا الشهوات إلى قسمين: شهوات حسية وشهوات معنوية، وذكرنا ما يترتب على اتباعهما.
ثم جند الشبهات، وقد قسمنا الشبهات إلى قسمين: شبهات في التعامل مع الله وشبهات في التعامل مع الناس، ثم قسمنا الشبهات في التعامل مع الله إلى قسمين، إلى: شبهات عقدية وشبهات تعبدية.
ثم نصل الآن إلى الشبهات في التعامل مع الناس، وهي قسمان كذلك:
القسم الأول: ما يتعلق بخلطة الناس؛ وذلك بأن يلقي الشيطان الشبهة للإنسان بأنه إذا خالط الناس ونفعهم فإنه بذلك سيضر نفسه، ومن هنا يعتزل هو الناس والناس بحاجة إليه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم )، والنبي صلى الله عليه وسلم خالط الناس طيلة عمره ولم يعتزلهم، فهذه شبهة في التعامل مع الناس.
والشبهة الثانية هي شبهة في العزلة، وهي أن يدخل الشيطان على الإنسان من الجهة المقابلة الأخرى؛ فيأمره بالإيغال في خلطة الناس حتى يخالط منهم كل من هب ودب، وبذلك يضيع وقته ويضيع على الآخرين أوقاتهم؛ فلا هو اشتغل بما يعنيه فيكون محسناً للإسلام، ولا هو نفع الآخرين فتكون خلطته في الطاعة والتعاون على البر والتقوى.
وهاتان الشبهتان كثيراً ما يبتلى بهما أهل العلم والعبادة؛ فالشبهة الأولى يبتلى بها أهل العبادة، والشبهة الثانية يبتلى بها أهل العلم.
فإذاً لا بد من مخالطة الناس بقدر الحذر، ولا بد من أن يدعهم الإنسان إلا من خير، وإذا خالطهم فإنما يخالطهم بخير، ويكون صادقاً في خلطته وفي عزلته.
وهنا سأحدثكم بما حدثني به جدي محمد علي بن عبد الودود رحمه الله عن يحظيه بن عبد الودود عن محمد بن محمد سالم عن حامد بن عمر عن الفقيه الخطاب عن القاضي علي بن ممو عن شيخ الشيوخ الحسني عن علي الأجهوري عن البرهان العلقمي عن جلال الدين السيوطي عن زكريا الأنصاري عن الحافظ أحمد بن علي بن حسن العسقلاني عن إبراهيم التنوخي عن أحمد بن أبي طالب الحجار عن الحسين بن المبارك عن عبد الأول بن عيسى السجزي عن عبد الرحمن بن محمد الداودي عن عبد الله بن أحمد السرخسي عن محمد بن يوسف بن مطر الفربري عن محمد بن إسماعيل البخاري قال في صحيحه: حدثنا عبد الله بن مسلمة قال: أخبرنا مالك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة عن أبيه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعث الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن ) وإنما ذلك عند فساد الناس؛ فبهذا نعلم أن الشبهة في خلطة الناس إما أن تذهب بالإنسان إلى العزلة وإما أن تذهب به إلى الإيغال في الخلطة، وكل ذلك مذموم، وحد الوسط والاعتدال هو الحد المطلوب.
مكافحة الإنسان للشيطان
ثم بعد هذا نصل إلى كفاح هذين الجندين، كفاح جند الشهوة وجند الشبهة، ولا يكافح هذان الجندان إلا بجند عظيم من جنود الله؛ أما الشهوة فلا تكافح إلا بالصبر؛ فلا بد أن نتعود على الصبر، والصبر ثوابه عظيم فقد قال الله تعالى: إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[البقرة:153]، وقال تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ[الزمر:10]، وقال تعالى: إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ[المؤمنون:109-111]، وقال تعالى: أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا[الفرقان:75]؛ فإذاً عرفتم ثواب الصبر، وقد قال أهل العلم: الصبر على ثلاثة أقسام، وهي شعب الصبر الثلاثة: صبر عن معصية الله وصبر على طاعة الله وصبر على قضاء الله وقدره؛ فلا بد أن نتحقق بالصبر.
والإنسان بطبعه خلق عجولاً ويشق عليه أن يصبر، لكن ذلك إنما يتم بمعالجة النفس.
والصبر أصل كل خير؛ فالصبر على الطاعة هو الذي ينزل الإنسان الدرجات العلى، والصبر عن المعصية هو الذي يتغلب به الإنسان على شهوته، والصبر على قضاء الله وقدره هو الذي يكتب به الإنسان صبوراً؛ فيستحق بذلك أجر الذين بين الله أجرهم في قوله: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ *أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ[البقرة:155-157]، وقد صح عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لما قرأ هذه الآية: نعم العلاوة ونعم الرفدان! فالرفدان عظيمان والعلاوة بينهما عظيمة كذلك؛ فلذلك لا تغلب الشهوة إلا بالصبر.
أما الجند الثاني من جنود الله فهو اليقين، وبه تغلب الشبهة، والشبهة لا تنكسر إلا أمام اليقين، واليقين أن ينطلق الإنسان من الدليل، وأن ينطلق من البرهان وألا يتكلم إلا على ثبت، فإن كلام الإنسان عن جهل مظنة للوقوع فيما يخالف الله، وقد قال الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ[الأعراف:33]، فالقول على الله بغير علم من أعظم الكبائر عند الله، وكذلك فإن الله حذر من العمل على غير علم؛ فقال: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ[الإسراء:36]، وقد أخرج أبو داود في سننه بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أفتي على غير ثبت فإثمه على مفتيه )، وهذا يقتضي من الإنسان أن يحرص على الثبت، وقد قال الله تعالى: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ[البقرة:111]، وأمر سبحانه بالتثبت في نقل الأخبار وتلقيها فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا[الحجرات:6]، وفي القراءة السبعية الأخرى: (فتثبتوا) أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ[الحجرات:6]، فلذلك إذا صحب الإنسان اليقين في كل أمر لم يضره وساوس الشيطان؛ ولهذا يقول الزبيري رحمه الله عندما جادله بعض المبطلين وأراد أن يسوق إليه بعض شبه الجهمية فقال:
أأرجع بعدما رجفت عظامي وكان الموت أقرب ما يليني
فما عوض لنا منهاج جهم بمنهاج ابن آمنة الأمين
صلى الله عليه وسلم.
فلذلك لا بد من الانطلاق في اليقين في كل أمر؛ فأنت يا أخي تعلم ما قال ابن عاشر رحمه الله: الحكم في الشرع خطاب ربنا. فانطلق لخطاب الله، وانطلق منه في كل الأمور؛ فهو حجتك وبرهانك، لا تتصرف إلا على ثبت ولا تنطلق إلا من دليل، وإذا أخبرت بأي خبر فتأنى حتى تتثبت من ذلك الأمر، وهكذا؛ وبهذا تكون صاحب يقين، وتزول عنك الوساوس كلها والأوهام.
إن كثيراً من الناس يصابون بالوساوس في الطهارة، والعقيدة، والصلاة وغير ذلك؛ بسبب عدم تثبتهم وعدم أخذهم باليقين، لكن إذا تثبت الإنسان وأخذ باليقين؛ زال عنه ذلك بالكلية.
إذاً هذا جند إبليس إذا جمع الإنسان له بين الصبر واليقين؛ انهزم أمامه، ولهذا قال ابن القيم رحمه الله: من جمع بين الصبر واليقين نال الإمامة في الدين؛ فإن الله تعالى يقول: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ[السجدة:24]. حين جمعوا بين الصبر واليقين نالوا الإمامة في الدين.
جند الشهوات، وقد قسمنا الشهوات إلى قسمين: شهوات حسية وشهوات معنوية، وذكرنا ما يترتب على اتباعهما.
ثم جند الشبهات، وقد قسمنا الشبهات إلى قسمين: شبهات في التعامل مع الله وشبهات في التعامل مع الناس، ثم قسمنا الشبهات في التعامل مع الله إلى قسمين، إلى: شبهات عقدية وشبهات تعبدية.
ثم نصل الآن إلى الشبهات في التعامل مع الناس، وهي قسمان كذلك:
القسم الأول: ما يتعلق بخلطة الناس؛ وذلك بأن يلقي الشيطان الشبهة للإنسان بأنه إذا خالط الناس ونفعهم فإنه بذلك سيضر نفسه، ومن هنا يعتزل هو الناس والناس بحاجة إليه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم )، والنبي صلى الله عليه وسلم خالط الناس طيلة عمره ولم يعتزلهم، فهذه شبهة في التعامل مع الناس.
والشبهة الثانية هي شبهة في العزلة، وهي أن يدخل الشيطان على الإنسان من الجهة المقابلة الأخرى؛ فيأمره بالإيغال في خلطة الناس حتى يخالط منهم كل من هب ودب، وبذلك يضيع وقته ويضيع على الآخرين أوقاتهم؛ فلا هو اشتغل بما يعنيه فيكون محسناً للإسلام، ولا هو نفع الآخرين فتكون خلطته في الطاعة والتعاون على البر والتقوى.
وهاتان الشبهتان كثيراً ما يبتلى بهما أهل العلم والعبادة؛ فالشبهة الأولى يبتلى بها أهل العبادة، والشبهة الثانية يبتلى بها أهل العلم.
فإذاً لا بد من مخالطة الناس بقدر الحذر، ولا بد من أن يدعهم الإنسان إلا من خير، وإذا خالطهم فإنما يخالطهم بخير، ويكون صادقاً في خلطته وفي عزلته.
وهنا سأحدثكم بما حدثني به جدي محمد علي بن عبد الودود رحمه الله عن يحظيه بن عبد الودود عن محمد بن محمد سالم عن حامد بن عمر عن الفقيه الخطاب عن القاضي علي بن ممو عن شيخ الشيوخ الحسني عن علي الأجهوري عن البرهان العلقمي عن جلال الدين السيوطي عن زكريا الأنصاري عن الحافظ أحمد بن علي بن حسن العسقلاني عن إبراهيم التنوخي عن أحمد بن أبي طالب الحجار عن الحسين بن المبارك عن عبد الأول بن عيسى السجزي عن عبد الرحمن بن محمد الداودي عن عبد الله بن أحمد السرخسي عن محمد بن يوسف بن مطر الفربري عن محمد بن إسماعيل البخاري قال في صحيحه: حدثنا عبد الله بن مسلمة قال: أخبرنا مالك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة عن أبيه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعث الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن ) وإنما ذلك عند فساد الناس؛ فبهذا نعلم أن الشبهة في خلطة الناس إما أن تذهب بالإنسان إلى العزلة وإما أن تذهب به إلى الإيغال في الخلطة، وكل ذلك مذموم، وحد الوسط والاعتدال هو الحد المطلوب.
ثم بعد هذا نصل إلى كفاح هذين الجندين، كفاح جند الشهوة وجند الشبهة، ولا يكافح هذان الجندان إلا بجند عظيم من جنود الله؛ أما الشهوة فلا تكافح إلا بالصبر؛ فلا بد أن نتعود على الصبر، والصبر ثوابه عظيم فقد قال الله تعالى: إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[البقرة:153]، وقال تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ[الزمر:10]، وقال تعالى: إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ[المؤمنون:109-111]، وقال تعالى: أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا[الفرقان:75]؛ فإذاً عرفتم ثواب الصبر، وقد قال أهل العلم: الصبر على ثلاثة أقسام، وهي شعب الصبر الثلاثة: صبر عن معصية الله وصبر على طاعة الله وصبر على قضاء الله وقدره؛ فلا بد أن نتحقق بالصبر.
والإنسان بطبعه خلق عجولاً ويشق عليه أن يصبر، لكن ذلك إنما يتم بمعالجة النفس.
والصبر أصل كل خير؛ فالصبر على الطاعة هو الذي ينزل الإنسان الدرجات العلى، والصبر عن المعصية هو الذي يتغلب به الإنسان على شهوته، والصبر على قضاء الله وقدره هو الذي يكتب به الإنسان صبوراً؛ فيستحق بذلك أجر الذين بين الله أجرهم في قوله: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ *أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ[البقرة:155-157]، وقد صح عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لما قرأ هذه الآية: نعم العلاوة ونعم الرفدان! فالرفدان عظيمان والعلاوة بينهما عظيمة كذلك؛ فلذلك لا تغلب الشهوة إلا بالصبر.
أما الجند الثاني من جنود الله فهو اليقين، وبه تغلب الشبهة، والشبهة لا تنكسر إلا أمام اليقين، واليقين أن ينطلق الإنسان من الدليل، وأن ينطلق من البرهان وألا يتكلم إلا على ثبت، فإن كلام الإنسان عن جهل مظنة للوقوع فيما يخالف الله، وقد قال الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ[الأعراف:33]، فالقول على الله بغير علم من أعظم الكبائر عند الله، وكذلك فإن الله حذر من العمل على غير علم؛ فقال: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ[الإسراء:36]، وقد أخرج أبو داود في سننه بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أفتي على غير ثبت فإثمه على مفتيه )، وهذا يقتضي من الإنسان أن يحرص على الثبت، وقد قال الله تعالى: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ[البقرة:111]، وأمر سبحانه بالتثبت في نقل الأخبار وتلقيها فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا[الحجرات:6]، وفي القراءة السبعية الأخرى: (فتثبتوا) أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ[الحجرات:6]، فلذلك إذا صحب الإنسان اليقين في كل أمر لم يضره وساوس الشيطان؛ ولهذا يقول الزبيري رحمه الله عندما جادله بعض المبطلين وأراد أن يسوق إليه بعض شبه الجهمية فقال:
أأرجع بعدما رجفت عظامي وكان الموت أقرب ما يليني
فما عوض لنا منهاج جهم بمنهاج ابن آمنة الأمين
صلى الله عليه وسلم.
فلذلك لا بد من الانطلاق في اليقين في كل أمر؛ فأنت يا أخي تعلم ما قال ابن عاشر رحمه الله: الحكم في الشرع خطاب ربنا. فانطلق لخطاب الله، وانطلق منه في كل الأمور؛ فهو حجتك وبرهانك، لا تتصرف إلا على ثبت ولا تنطلق إلا من دليل، وإذا أخبرت بأي خبر فتأنى حتى تتثبت من ذلك الأمر، وهكذا؛ وبهذا تكون صاحب يقين، وتزول عنك الوساوس كلها والأوهام.
إن كثيراً من الناس يصابون بالوساوس في الطهارة، والعقيدة، والصلاة وغير ذلك؛ بسبب عدم تثبتهم وعدم أخذهم باليقين، لكن إذا تثبت الإنسان وأخذ باليقين؛ زال عنه ذلك بالكلية.
إذاً هذا جند إبليس إذا جمع الإنسان له بين الصبر واليقين؛ انهزم أمامه، ولهذا قال ابن القيم رحمه الله: من جمع بين الصبر واليقين نال الإمامة في الدين؛ فإن الله تعالى يقول: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ[السجدة:24]. حين جمعوا بين الصبر واليقين نالوا الإمامة في الدين.
أما الجبهة الثانية؛ فهي: النفس الأمارة بالسوء، وهي من أخطر الجبهات؛ لأنها أقرب الجبهات إليك؛ فهي بين جنبيك وتسعى بك دائماً للركون إلى الراحة والإخلاد إلى عدم العمل؛ فلذلك لا بد أن تجاهد نفسك، ولا بد أن تضعها في قفص الاتهام، ولا بد أن تتهمها على كسلها وعدم خدمتها، وإذا لم تتعرف إلى نفسك وتقم معها بالجد والمجاهدة حتى تستقيم فستكون كالدابة الحرون الشرود، إذا أحست بلجام أو بردعة نفرت، أما إذا ذللت نفسك للطاعة وجعلتها في كل أمر تنقاد للأمر وفي كل نهي تفر منه؛ فإنها حينئذ ستكون مستجيبة لك، تقودك إلى طاعة الله سبحانه وتعالى وتسعى للازدياد من الخير في كل الأوقات، وهذه النفس من لم يجاهدها لم يذق حلاوة الجهاد، فإن من أعظم الجهاد جهاد النفس، وقد ذكر أهل العلم أن جهاد النفس على أربع درجات:
مجاهدة النفس بتعلم ما أمر الله به
الدرجة الأولى: جهادها على تعلم ما أمر الله به، وهذه المرتبة يفرط فيها كثير من الناس، فكثير منهم علمه والداه في الصغر دون تكلف منه هو وعناء، ثم ترك هو بعد ذلك جهاد نفسه على التعلم، وهذا خطأ جسم عظيم؛ فالتعلم ليس له وقت يكون فيه قبيحاً مذموماً، فما من وقت إلا والتعلم فيه حميد؛ ولذلك سئل مالك عن المقرب للقتل الذي لم يبق من عمره إلا ساعة في أية طاعة يصرفها؟ قال: علم يتعلمه؛ فقيل: يا أبا عبد الله ! إنه لا يعمل به؛ قال: تعلمه أفضل من العمل به، وقال الشافعي رحمه الله: العلم أفضل من صلاة النافلة.
فلذلك لا بد أن تعبد الله بطلب العلم حتى لو كنت كبير السن، ولو كنت عالماً فيمكن أن تجد في وقت الطلب إخلاصاً لله فتسمع شيئاً قد سمعته من قبل ولكنك سمعته مع نقص في النية أو في الإخلاص، وبذلك تثاب عليه من جديد، وتكون قد جاهدت نفسك، وقد أخرج مسلم في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من ذهب إلى مسجدي هذا لا يخرجه إلا علم يعلمه أو يتعلمه كان مجاهداً في سبيل الله )، وأخرج مالك في الموطأ عن أبي بكر بن عبد الرحمن : ( من خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا علم يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله رجع غانماً )؛ فيكون حينئذ قد جاهد في سبيل الله ورجع غانماً؛ لأنه جاهد نفسه على التعلم، والتعلم -يا أخي!- لا تشبع منه بوجه من الوجوه.
فالوقت الذي تظن فيه أنك قد أحرزت هذا العلم امتحن فيه نفسك بالجلوس إلى أي متحدث في العلم، فستجد بعض النقاط والإشارات التي تدلك على أمور من العلم لم تصل إليها بعد؛ ولذلك قال ابن ... رحمه الله:
وقسمة الحظوظ فيها يدخل فهو المسائل التي تنعقل
فيحرم الذكي من فهم الجلي إن لم يكن من حظه في الأزل
وقال ابن مالك رحمه الله في مقدمة التسهيل: وإذا كانت العلوم منحاً إلاهية ومواهب اختصاصية فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين ما عسر على كثير من المتقدمين.
ولذلك فإن علي بن داود -أبوه الإمام داود الظاهري - كان من العلماء الأذكياء، وكان من أذكى أهل زمانه في خراسان؛ فجلس يوماً للتعليم فأحسن التدريس غاية الإحسان، وكان بمجلسه سبعون صاحب طيلسان - أي: سبعون عالماً من العلماء الكبار - فأحسن الدرس غاية الإحسان؛ فاقترب منه شيخ كبير مرقع الثياب، يلبس الخلق؛ فلما دنا منه ظنه حجاماً يسأل عن حكم فقال له: أحسنت يا فتى؛ فاسأل عما بدا لك! فقال: لا أسألك إلا عن الحجامة، ذلك ازدراء للشيخ لما رأى من هيئته الرثة؛ فاستعاذ الشيخ بالله من الشيطان الرجيم وحمد الله وأثنى عليه، وبدأ بالكلام عن الحجامة؛ فذكر تعريفها في اللغة، ووزنها، وصيغتها الصرفية، وتاريخها، ومن أول من حجم، وذكر مواضع الحجامة في البدن، وذكر ما تذهبه من الأمراض، وحدث بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجامة وجمع بين المتعارض منها؛ فذكر حديث: ( كسب الحجام خبيث )، وحديث: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا أبا طيبة فحجمه فأعطاه صاعاً من تمر )، فوفق بين الحديثين، ثم ذكر الرخص في الحجامة، والحجامة هل تنقض الوضوء أم لا، وهل يحل للمحرم أن يحتجم، وهل يحل للصائم أن يحتجم، وهل تبطل الحجامة الصوم، ونوّع في هذا وأتى بعلم عجيب؛ فجعل الشيخ يتعظ من ذلك فأمسك بيده يبكي وقال: لقد أفدت وأجدت -أيها الشيخ!- فمن أين أتيت؟! قال: ما أنا إلا عبد من عباد الله، ولكني رأيت حسن درسك فخشيت عليك العجب، فأردت أن أنبهك إلى ذلك وأستودعك الله، وخرج ولم يعد بعد ذلك.
فلهذا يحتاج الإنسان دائماً إلى أن يعلم أن الله تعالى يقول في كتابه: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ[يوسف:76]، فيمكن أن يرزق الإنسان في علم ويرزق غيره في علم آخر، ولا مانع أن يعلم هو ما لا يعلمه غيره، ويعلم الغير أيضاً ما لا يعلمه هو، وقد صح في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: ( تماريت أنا و الحر بن قيس بن حصن في صاحب موسى الذي سأل موسى السبيل إلى لقيه؛ فقلت: هو الخضر ؛ فأنكر ذلك الحر بن قيس ، فإذا أنا بـأبي بن كعب فقمت إليه فسألته؛ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن موسى كان في ملأ من بني إسرائيل فأتاه سائل فقال: من أعلم أهل الأرض؟ فقال موسى : أنا؛ فعتب الله على موسى إن لم يرد العلم إليه؛ فقال: بلى، عبدنا الخضر ؛ فطلب موسى السبيل إلى لقيه فجعل الله له الحوت آية )، وذلك في قصة موسى الطويلة في الصحيحين، وقد قصها الله علينا في سورة الكهف.
ومن المعلوم أن موسى أفضل وأعلم من الخضر ، ولكن الله عتب على موسى ، فعلمه مسائل لم يكن يتقنها على لسان الخضر ، فذكر له ثلاثة أمور قد مرت بحياة موسى من قبل ولم يستشعرها:
الأمر الأول: أن الخضر قتل الصبي؛ وذلك لحكمة علم بها بالوحي ولم يعلمها موسى فأنكر عليه موسى ذلك، وهنا لم يجبه الخضر لأن موسى من قبل قد قتل نفساً لم يؤمر بقتلها؛ فكان هذا تنبيهاً على تصرف تصرفه موسى من قبل، وهي أنه وكز الرجل فقضى عليه.
وقبل هذا كان قد ركب معه السفينة فخرقها الخضر وهي في الماء، فلامه موسى على ذلك فلم يجبه الخضر وذلك تنبيه لـموسى إلى أنه قد ألقي التابوت في البحر فلم يغرق، ولم ينتبه لذلك موسى ، ثم الثانية قتله للغلام وذلك تنبيه على قتله للرجل حين وكزه. والثالثة: إصلاحه للجدار الذي كان لغلامين يتيمين في المدينة دون أن يأخذ عليه أجراً؛ وقد سقى موسى للمرأتين اللتين رآهما من وراء الناس ولم يأخذ على ذلك أجراً؛ فكان هذا تنبيهاً له على تلك القصة أيضاً، فهي ثلاث قصص كل واحدة منها قد حصلت لــموسى من قبل ولم ينتبه لها؛ فدل هذا على سعة علم، وأن المخلوق مهما كان فإنه يبقى قاصراً ناقصاً، وقد قال الله تعالى: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا[الإسراء:85].
مجاهدة النفس بالعمل
ثم بعد هذا جهاد النفس على العمل بما تعلمت؛ فالمرتبة الأولى هي: جهادها على التعلم، أي: على تعلم ما أمر الله بتعلمه، ثم المرتبة الثانية: جهادها على العلم بما تعلمت، فهذا العلم سلاح ذو حدين إذا لم يعمل به الإنسان كان حجة عليه لا له؛ ولذلك قال أبو الدرداء رضي الله عنه: إن أخوف ما أخافه كتاب الله أن لا تبقى آية آمرة إلا جاءتني فقالت: يا أبا الدرداء ! قد أتيتك آمرة فلم تأتمر بي، ولا آية زاجرة إلا جاءتني فقالت: يا أبا الدرداء ! قد أتيتك زاجرة فلم تنزجر بي. وفي رواية أخرى أخرجها أبو عمر في جامع بيان العلم وفضله أن أبا الدرداء رضي الله عنه قال: (إن أخوف ما أخافه أن يقال لي يوم القيامة: أعلمت أم جهلت؟ فأقول: بل علمت؛ فيقال: ففيم عملت فيما علمت؟).
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن شبابه فيما أبلاه؟ وعن عمره فيما أفناه؟ وعن علمه فيما عمل به؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيما أنفقه؟ )؛ فلذلك لا بد أن نعمل بما تعلمنا؛ فكل من سمع مسألة واحدة ولم يعمل بها كانت في كفة السيئات يوم القيامة، فلذلك لا بد أن نبادر بما تعلمنا، ولا خير في العلم إذا لم يصحبه العمل؛ ولذلك يقول الشيخ محمد عالي رحمه الله:
العلم من دون العبادة هبا لا يستقر فحر أن يذهب
والعلم في التمثيل مثل الشجرة أما العبادة فمثل الثمرة
ففضله من جهة وفضلها من جهة ثمرة وأصلها
والعلماء يقولون: العلم شجرة والعبادة ثمرة، ولا ثمرة إلا بشجرة، ولا خير في شجرة لا ثمرة لها.
فلذلك لا بد أن نجاهد أنفسنا على العمل بما تعلمنا.
مجاهدة النفس بالدعوة إلى الله تعالى وشرعه
ثم بعد هذا المرتبة الثالثة من جهاد النفس، هي جهادها على الدعوة إلى ما تعلمته وعملت به؛ فهذه الدعوة صفة الله سبحانه وتعالى؛ فقد قال الله تعالى: وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[يونس:25]، وقال تعالى: وَاللهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ[البقرة:221]، وهي صفة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فقد قال الله في وصفه: وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا[الأحزاب:46]، وأمره بها إذ قال: وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ[القصص:87]، وقال: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[النحل:125]، وأمره أن يخبر عن نفسه وعن أتباعه بأن الدعوة سبيلهم؛ فقال: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ[يوسف:108]، فأخبر أنها أحسن الأقوال إذ قال: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ[فصلت:33].
فلا بد يا أخي! أن تكون مشاركاً فيها وأن تكون من أهلها؛ فأنت قد اؤتمنت على الدين الذي بلغك إياه محمد صلى الله عليه وسلم فلا بد أن تدعو إليه، وكيف ترضى أن تكون مؤتمناً بأمانة عظيمة عرضت على السماوات والأرض والجبال فأشفقن منها ولم يحملنها، ومع ذلك اؤتمنت أنت عليها فتفرط وتقصر في أدائها؟! وأنتم تعلمون أن هذا الحي مذكر لكم بهذه الدعوة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم عهد إليكم أن يبلغ الشاهد منكم الغائب، وأشهد الله عليكم بذلك، فلا بد يا أخي! أن تكون داعياً إلى الله.
وهي فرض عين في حق من له أهل يطيعونه أو في حق من له أولاد، أو في حق من له جيران يمكن أن يسمعوا منه؛ فقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ[التحريم:6]، وقد أخرج الطبراني في الكبير من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما بال أقوام لا يعلمون جيرانهم ولا يذكرونهم؟ فليعلمن قوم جيرانهم وليذكرنهم أو لأعاجلنهم العقوبة، قالوا: ومن تعني يا رسول الله؟ قال: الأشعريين، فلم يبت الأشعريون بعد إلا على تعليم )؛ فلذلك يا أخي! إذا كان لك أهل أو لك ولد أو لك جيران أو لك من يسمع منك؛ فامتثل أمر الله وبادر بحق الدعوة الواجب عليك، أن تنقذه من النار، أن تبلغه ما بلغك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهذا إذاً فرض عين من الدعوة.
ثم بعد ذلك هي فرض عين على من احتيج إليها، من احتيج إليها بأن كان يعلم علماً لا يعلمه غيره أو كان في بلد أهله لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر أو شهد هو المنكر ورآه؛ فهي فرض عين عليه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان )، أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
ثم بعد ذلك هي فرض كفاية على الأمة؛ يجب عليها أن يكون فيها من يدعو إلى الله ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؛ فقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ[النساء:135]، وقال تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ[آل عمران:104]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ[التوبة:119]، وقال تعالى: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَهمْ يَحْذَرُونَ[التوبة:122].
إذاً لا بد من جهاد النفس على الدعوة إلى ما تعلمه الإنسان واقتنع به وعمل به؛ فلا فائدة في قناعة لا يصحبها عمل، ومن كان من قبيلة فإنه لا شك يسعى لرفعة تلك القبيلة، ومن كان من حزب فإنه لا شك يسعى لرفعة ذلك الحزب وزيادة أفراده؛ فأنت يا أخي! قد اقتنعت بصدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وبصدق ما جاء به فكيف لا تحرص على زيادة أفراد أتباع محمد صلى الله عليه وسلم؟!
مجاهدة النفس بالصبر
ثم بعد هذا المرتبة الرابعة من مراتب جهاد النفس هي جهادها على الصبر حتى تلقى الله، وهذا هو الإحسان، ويعني: جهاد النفس على الصبر على طريق الحق حتى تلقى الله؛ فأنت اليوم سالك لطريق هو تمثيل للصراط الأخروي، فالصراط الأخروي جسر منصوب على متن جهنم، أدق من الشعر وأحد من السيف وعليه كلاليب كشوك السعدان، يتفاوت الناس عليه بحسب أعمالهم؛ فمنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح المرسلة، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والإبل، ومنهم من يمر كالرجل يشتد عدواً، ومنهم من يزحف على مقعدته؛ فناج مسلم، ومخدوش مرسل، ومكردس على وجهه في نار جهنم.
وأنت يا أخي! تسلك طريقاً هو مثل الصراط تماماً، أنت فيه على خطر، إذا ملت ذات اليمين فوقعت في المبالغة والإفراط؛ فأنت على خطر، وإذا ملت ذات الشمال فوقعت في التفريط والتقصير فأنت على خطر، وإذا بالغت بالخوف حتى أيست من نعمة الله؛ فأنت على خطر، وإذا بالغت في الرجاء حتى أمنت مكر الله؛ فأنت على خطر، فلذلك لا بد للسالك لطريق الإحسان أن يصبر وأن يكون كالقابض على الجمر، وأن يكون كالعاض على السنة بنواجذه؛ لئلا يفتن عنها، فلذلك إذا جمعت هذه المراتب الأربع فالحمد لله قد انتصرت على نفسك.
ولذلك فإن الله جمع هذه المراتب الأربع في سورة العصر التي قال فيها الشافعي رحمه الله: لو لم ينزل من القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم إلا سورة العصر لكفت حجة على الناس، يقول الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم. وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا[العصر:1-3]، وهذا تعلم ما أمر الله به، يقول الأخضري رحمه الله: أول ما يجب على المكلف تصحيح إيمانه، وكيف لك تصحيح الإيمان؟ بالعلم، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا به؛ فإذاً لا بد في المرحلة الأولى؛ وهي: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا[العصر:3]، ثم المرحلة الثانية وهي قوله: وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ[العصر:3]، ثم المرحلة الثالثة قوله: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ[العصر:3] وهذه الدعوة، ثم المرحلة الرابعة قوله: وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ[العصر:3] وهو الصبر على هذا الطريق، وهي كذلك وصية لقمان لابنه التي تقرءونها؛ فأنتم تقرءون قول الله تعالى: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ[لقمان:13]، أليس هذا تعليماً؟! فهذا التعليم، ثم قال بعدها: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ[لقمان:17]، وهذا العمل، ثم قال: وَأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ[لقمان:17] وهذه الدعوة، ثم قال بعدها: وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ[لقمان:17] وهذا الصبر على هذا الطريق؛ فإذاً لا بد من الجمع بين هذه المراتب الأربع لتنتصر على نفسك وهي جبهة خطيرة كما قلنا.
الدرجة الأولى: جهادها على تعلم ما أمر الله به، وهذه المرتبة يفرط فيها كثير من الناس، فكثير منهم علمه والداه في الصغر دون تكلف منه هو وعناء، ثم ترك هو بعد ذلك جهاد نفسه على التعلم، وهذا خطأ جسم عظيم؛ فالتعلم ليس له وقت يكون فيه قبيحاً مذموماً، فما من وقت إلا والتعلم فيه حميد؛ ولذلك سئل مالك عن المقرب للقتل الذي لم يبق من عمره إلا ساعة في أية طاعة يصرفها؟ قال: علم يتعلمه؛ فقيل: يا أبا عبد الله ! إنه لا يعمل به؛ قال: تعلمه أفضل من العمل به، وقال الشافعي رحمه الله: العلم أفضل من صلاة النافلة.
فلذلك لا بد أن تعبد الله بطلب العلم حتى لو كنت كبير السن، ولو كنت عالماً فيمكن أن تجد في وقت الطلب إخلاصاً لله فتسمع شيئاً قد سمعته من قبل ولكنك سمعته مع نقص في النية أو في الإخلاص، وبذلك تثاب عليه من جديد، وتكون قد جاهدت نفسك، وقد أخرج مسلم في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من ذهب إلى مسجدي هذا لا يخرجه إلا علم يعلمه أو يتعلمه كان مجاهداً في سبيل الله )، وأخرج مالك في الموطأ عن أبي بكر بن عبد الرحمن : ( من خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا علم يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله رجع غانماً )؛ فيكون حينئذ قد جاهد في سبيل الله ورجع غانماً؛ لأنه جاهد نفسه على التعلم، والتعلم -يا أخي!- لا تشبع منه بوجه من الوجوه.
فالوقت الذي تظن فيه أنك قد أحرزت هذا العلم امتحن فيه نفسك بالجلوس إلى أي متحدث في العلم، فستجد بعض النقاط والإشارات التي تدلك على أمور من العلم لم تصل إليها بعد؛ ولذلك قال ابن ... رحمه الله:
وقسمة الحظوظ فيها يدخل فهو المسائل التي تنعقل
فيحرم الذكي من فهم الجلي إن لم يكن من حظه في الأزل
وقال ابن مالك رحمه الله في مقدمة التسهيل: وإذا كانت العلوم منحاً إلاهية ومواهب اختصاصية فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين ما عسر على كثير من المتقدمين.
ولذلك فإن علي بن داود -أبوه الإمام داود الظاهري - كان من العلماء الأذكياء، وكان من أذكى أهل زمانه في خراسان؛ فجلس يوماً للتعليم فأحسن التدريس غاية الإحسان، وكان بمجلسه سبعون صاحب طيلسان - أي: سبعون عالماً من العلماء الكبار - فأحسن الدرس غاية الإحسان؛ فاقترب منه شيخ كبير مرقع الثياب، يلبس الخلق؛ فلما دنا منه ظنه حجاماً يسأل عن حكم فقال له: أحسنت يا فتى؛ فاسأل عما بدا لك! فقال: لا أسألك إلا عن الحجامة، ذلك ازدراء للشيخ لما رأى من هيئته الرثة؛ فاستعاذ الشيخ بالله من الشيطان الرجيم وحمد الله وأثنى عليه، وبدأ بالكلام عن الحجامة؛ فذكر تعريفها في اللغة، ووزنها، وصيغتها الصرفية، وتاريخها، ومن أول من حجم، وذكر مواضع الحجامة في البدن، وذكر ما تذهبه من الأمراض، وحدث بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجامة وجمع بين المتعارض منها؛ فذكر حديث: ( كسب الحجام خبيث )، وحديث: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا أبا طيبة فحجمه فأعطاه صاعاً من تمر )، فوفق بين الحديثين، ثم ذكر الرخص في الحجامة، والحجامة هل تنقض الوضوء أم لا، وهل يحل للمحرم أن يحتجم، وهل يحل للصائم أن يحتجم، وهل تبطل الحجامة الصوم، ونوّع في هذا وأتى بعلم عجيب؛ فجعل الشيخ يتعظ من ذلك فأمسك بيده يبكي وقال: لقد أفدت وأجدت -أيها الشيخ!- فمن أين أتيت؟! قال: ما أنا إلا عبد من عباد الله، ولكني رأيت حسن درسك فخشيت عليك العجب، فأردت أن أنبهك إلى ذلك وأستودعك الله، وخرج ولم يعد بعد ذلك.
فلهذا يحتاج الإنسان دائماً إلى أن يعلم أن الله تعالى يقول في كتابه: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ[يوسف:76]، فيمكن أن يرزق الإنسان في علم ويرزق غيره في علم آخر، ولا مانع أن يعلم هو ما لا يعلمه غيره، ويعلم الغير أيضاً ما لا يعلمه هو، وقد صح في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: ( تماريت أنا و الحر بن قيس بن حصن في صاحب موسى الذي سأل موسى السبيل إلى لقيه؛ فقلت: هو الخضر ؛ فأنكر ذلك الحر بن قيس ، فإذا أنا بـأبي بن كعب فقمت إليه فسألته؛ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن موسى كان في ملأ من بني إسرائيل فأتاه سائل فقال: من أعلم أهل الأرض؟ فقال موسى : أنا؛ فعتب الله على موسى إن لم يرد العلم إليه؛ فقال: بلى، عبدنا الخضر ؛ فطلب موسى السبيل إلى لقيه فجعل الله له الحوت آية )، وذلك في قصة موسى الطويلة في الصحيحين، وقد قصها الله علينا في سورة الكهف.
ومن المعلوم أن موسى أفضل وأعلم من الخضر ، ولكن الله عتب على موسى ، فعلمه مسائل لم يكن يتقنها على لسان الخضر ، فذكر له ثلاثة أمور قد مرت بحياة موسى من قبل ولم يستشعرها:
الأمر الأول: أن الخضر قتل الصبي؛ وذلك لحكمة علم بها بالوحي ولم يعلمها موسى فأنكر عليه موسى ذلك، وهنا لم يجبه الخضر لأن موسى من قبل قد قتل نفساً لم يؤمر بقتلها؛ فكان هذا تنبيهاً على تصرف تصرفه موسى من قبل، وهي أنه وكز الرجل فقضى عليه.
وقبل هذا كان قد ركب معه السفينة فخرقها الخضر وهي في الماء، فلامه موسى على ذلك فلم يجبه الخضر وذلك تنبيه لـموسى إلى أنه قد ألقي التابوت في البحر فلم يغرق، ولم ينتبه لذلك موسى ، ثم الثانية قتله للغلام وذلك تنبيه على قتله للرجل حين وكزه. والثالثة: إصلاحه للجدار الذي كان لغلامين يتيمين في المدينة دون أن يأخذ عليه أجراً؛ وقد سقى موسى للمرأتين اللتين رآهما من وراء الناس ولم يأخذ على ذلك أجراً؛ فكان هذا تنبيهاً له على تلك القصة أيضاً، فهي ثلاث قصص كل واحدة منها قد حصلت لــموسى من قبل ولم ينتبه لها؛ فدل هذا على سعة علم، وأن المخلوق مهما كان فإنه يبقى قاصراً ناقصاً، وقد قال الله تعالى: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا[الإسراء:85].
استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
خطورة المتاجرة بكلمة الحق | 4810 استماع |
بشائر النصر | 4287 استماع |
أسئلة عامة [2] | 4131 استماع |
المسؤولية في الإسلام | 4057 استماع |
كيف نستقبل رمضان [1] | 3997 استماع |
نواقض الإيمان [2] | 3946 استماع |
عداوة الشيطان | 3932 استماع |
اللغة العربية | 3930 استماع |
المسابقة إلى الخيرات | 3906 استماع |
القضاء في الإسلام | 3895 استماع |