حالات واتساب حزينة
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
حالات واتساب حزينةفي هذا العصر الذي أفرزَتْ فيه شبكاتُ التواصُل الاجتماعي العديدَ من الظواهر الإيجابية منها والسلبية، ومع تعدُّد هذه الشبكات وطُرُق النشر، وتميُّز كل شبكة وكل منصة عن نظيرها، برزَتْ شركةُ الواتساب في إحداث نظام ما يُسمَّى بالحالات أو "Status"، تتيح لك خاصية الحالة التعبير عن حالتك بشكل نص أو صورة أو مقطع فيديو أو صورة GIF متحركة، وتختفي الحالة بعد مرور ٢٤ ساعة على نشرها، ولكي تتمكَّن من إرسال حالاتك وتلقِّي حالات الآخرين، لا بد أن تكون قد حفظت أرقام جهات الاتصال هذه في دفتر عناوين هاتفك، وأيضًا لا بد أن تكون هذه الأخيرة قد حفظت رقمك لديها، وهذا التعريف للحالة من موقع الواتساب الرسمي.
ومن هنا انكشف عالم آخر مُصغَّر لا يقِلُّ أهميةً عن غيره، فالبعض ينشُر ما يجيش به صَدْرُه من فرح وحزن وغضب، وشكوى وبكاء وعويل، وغير ذلك من الشعور البشري الذي عبَّرَتْ عنه هذه الحالات بصورة غريبة.
والملاحظ كثرة الشكاوى من ظُلْم الناس، ومن الهمِّ والحُزْن عبر هذه الحالات، فتجد فتاة تنشُر كلامًا حزينًا، وأخرى تنشُر كلامًا كئيبًا عن تعامل الناس معها، وآخر ينشُر كلامًا غاضبًا، وكلهم يشكون ويتباكون، خاصة عند الفتيات، الأمر يشتدُّ عندهم لطبيعتها الخَلْقِيَّة التي حبَاها الله بها؛ لكن مهلًا أخي الكريم، وأختي الكريمة، أين أنتم من ربِّكم؟!
أين أنتم من الشكوى إلى ربِّكم؟!
أين أنتم من الذي هو أعلم بكم وبما في أنفسكم؟!
فهو الذي يعلم أحوالنا كلها، ويعلم حاجتنا وضعفنا، فلماذا لا نشتكي إلى ربِّنا خالقنا، وهو سبحانه لا يغيب عنه ذرةٌ في الأرض ولا في السماوات؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [يونس: 61]، وهو الذي دعانا إلى دعائه وسؤاله وبَثِّ الشكوى إليه؛ قال تعالى: ﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [النمل: 62].
قال القرطبي في تفسيره[1]: "ضمن الله تعالى إجابة المضطر إذا دعاه، وأخبر بذلك عن نفسه، والسبب في ذلك أن الضرورة إليه باللجأ تنشأ عن الإخلاص، وقطع القلب عمَّا سواه، وللإخلاص عنده سبحانه موقع وذمَّة، وجد من مؤمن أو كافر، طائع أو فاجر؛ كما قال تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [يونس: 22]، وقوله: ﴿ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ﴾ [العنكبوت: 65]، فأجابهم عند ضرورتهم ووقوع إخلاصهم".
وهذا يعقوب عليه السلام يقول مخاطبًا أبناءه: (﴿ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 86]؛ أي: قال لهم أبوهم: ما أشكو ما أصابني من الهمِّ والحزن إلَّا إلى الله وحده، وأعلم من لطف الله وإحسانه وإجابته للمضطَّر وجزائه للمصاب ما لا تعلمونه أنتم[2]؛ إذًا فلماذا الشكوى إلى غير الله، وهي في ذاتها مذلَّة، فإذا كانت مذلَّة، فلا تتذلَّل إلَّا لربِّك فهو ناصِرُكَ ومُعينُكَ.
وليسأل كُلُّ مَنْ يشتكي عَبْر هذه الوسائط:
♦ ماذا وجد من شكواه للآخرين، هل نصروكَ في شكواك؟
♦ هل من مجيب لشكواكَ؟
فلعلَّ من تشتكيه أظهر لك الشماتة، أو وصلت شكواك إلى مَنْ يضُرُّكَ ويكرهك، فكان ذلك سببًا كافيًا لإظهار ذلك، واعلموا أن الشكوى تُنافي الصبر الجميل الذي حثَّنا عليه الإسلام، اقرأ إن شئت قوله تعالى: ﴿ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر: 3].
قال ابن تيمية رحمه الله: (وأما الشكوى إلى الخالق فلا تُنافي الصبر الجميل؛ فإن يعقوب قال: ﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ﴾ [يوسف: 18]، وقال: ﴿ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ ﴾ [يوسف: 86]، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقرأ في الفجر بسورة (يونس)، و(يوسف)، و(النحل)، فمَرَّ بهذه الآية في قراءته، فبكى حتى سمِعَ نشيجَه مَنْ آخر الصفوف "ومن دعاء موسى: اللهم لك الحمد وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك".
وفي الدعاء الذي دعا به النبي صلى الله عليه وسلم لما فعل به أهل الطائف ما فعلوا: ((اللهم إليك أشكو ضَعف قوَّتي؛ وقِلَّة حيلتي؛ وهواني على الناس؛ أنت ربُّ المستضعفين وأنت ربِّي، اللهمَّ إلى مَنْ تَكِلُني؟ إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدوٍّ ملَّكْتَه أمري، إن لم يكن بك غَضَبٌ عليَّ فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظُّلُمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي سخطك، أو يحل عليَّ غضبُكَ؛ لك العتبى حتى ترضى، فلا حول ولا قوة إلَّا بك)) - وفي بعض الرِّوايات - ((ولا حول ولا قوة إلَّا بِكَ)).
وكلما قوي طَمَعُ العبد في فضل الله ورحمته ورجائه لقضاء حاجته ودفع ضرورته، قويت عبوديَّتُه له وحريته ممَّا سواه؛ فكما أن طمعه في المخلوق يوجب عبوديته له، فيأسُه منه يوجب غنى قلبه عنه)[3].
وقال: (وكل من علَّق قلبه بالمخلوقات أن ينصروه أو يرزقوه أو أن يهدوه، خضع قلبه لهم، وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك)[4].
وليست كل شكوى إلى المخلوق محرَّمة؛ بل إن كانت لغرض صحيح؛ كالاستعانة به على إزالة الضرر فلا بأس بها، وأما الشكوى دون حاجة فهي مكروهة، وقد تصل إلى التحريم إن اقترن بها تسخُّط من قَدَر الله.
ومن الملاحظ أن هذه الحالات في الواتساب تعجُّ بالشكوى بحاجة وبغير حاجة؛ بل أصبح البعض خاصة الفتيات وبعض النساء يكتبْنَ تحت توقيع (المظلومة)، (الحزينة)؛ بل أصبحت هذه الكتابات الحزينة المليئة بالشكوى كلون أدبي، ومثل هذا الكلام لا يزيد صاحبه إلَّا هَمًّا على هَمِّه وغَمًّا على غَمِّه، فينبغي ترك هذه الكتابات والنأي عنها، والاستفادة من هذه التقنية في الدعوة إلى الله والتذكير بالله، ونشر المقاطع المفيدة وأقوال أهل العلم، وغير ذلك من وجوه الخير التي لا تُحصى ولا تُعَدُّ.
[1] الجامع لأحكام القرآن المعروف بتفسير القرطبي (13 /223).
[2] المختصر في تفسير القرآن الكريم، جماعة من علماء التفسير، ص 245.
[3] مجموع الفتاوى: ابن تيمية: (10 /184).
[4] المصدر السابق: (10 /185).