القصص
مدة
قراءة المادة :
15 دقائق
.
باريس: سبتمبر1792
عن البارونة أورزي
للأديب محمد البكري محمد
- 1 -
. .
قبل غروب الشمس بفترة وجيزة.
.
وفي الباب الغربي لباريس.
.
كانت هناك أصوات صاخبة تصدر من كائنات لا تحمل من الإنسانية غير أسمها! .
.
وظلت المقصلة سحابة اليوم ماضية في عملها المخيف.
.
تحصد أولئك الذين كانت فرنسا تفخر بهم في العصور الغابرة: من ذوي الأسماء التليدة، والدماء النبيلة.
.
لقد دفعوا الضريبة عندما هبت ثورة الحرية والمساواة! .
.
وتوقفت المذبحة عند هذه الساعة المتأخرة من النهار.
.
لا لشيء سوى أن هنالك مناظر أكثر أهمية.
.
وأكثر تسلية تشاهدها الجماهير في الفترة القصيرة قبل أن تغلق أبواب باريس ليلا .
وهكذا اندفع الناس خارج ميدان (لاجريف) وتوجهوا إلى الأبواب المتفرقة كي يتسلوا بالمنظر المثير الذي كان يتكرر كل يوم.
.
منظر الأرستقراطيين الذين يحتالون - ويحاولون أن يهربوا من فرنسا .
.
وكانت هذه الطبقة خائنة في نظر العامة.
.
خائنة كلها بلا استثناء.
ولقد طالما اضطهد أسلافهم أبناء العامة.
.
وداسوهم تحت أحذيتهم المترفة.
ولكن ها قد أصبح العامة حكام فرنسا.
.
وداسوا سادتهم الأولين لا تحت أحذيتهم، فقد كانوا في الغالب حفاة - ولكن تحت سيف المقصلة!!. - 2 - .
.
كانت المقصلة تدعو إليها ضحاياها.
.
من رجال بلغوا أرذل العمر.
.
ونساء في ميعة الشباب.
.
وأطفال في غضاضة الزهر!.
حتى جاء يوم لم ترحم مديتها فيه أن تفصل رقبة ملك.
.
وملكة صغيرة جميلة ولكن هذا ما كان ينبغي!.
ألم تصبح فرنسا اليوم في قبضة الرعاع؟ كل أرستقراطي خائن.
.
كما كان أسلافه من قبل ولم يعد لأحفادهم مهرب من انتقام الرعاع إلا أن ينجو بأبدانهم ويفروا من فرنسا .
.
لقد حاولوا أن يستخفوا.
.
وحاولوا أن يهربوا.
.
وكانوا في كل ذلك مبعث تسلية لأفراد العامة! ففي كل أصيل قبل أن توصد أبواب المدينة.
.
وقبل أن تخرج منها عربات الأسواق.
.
كان بعض الأرستقراط يحاولون الإفلات من قبضة (لجنة الأمن العام) متنكرين في أزياء مختلفة.
.
يبغون لهم مقرا في إنجلترا.
.
أو أي بلد آخر .
.
ولكنهم كانوا - غالبا - يقعون في قبضة الحراس.
.
.
وكان (بيبو) ينوع خاص له حاسة غريبة يشم بها أيا منهم مهما أمعن في التنكر.
وكان ينظر إلى فريسته بالعين التي ينظر بها القط إلى فأر.
.
يداعبه.
.
ويتظاهر أنه خدع بمظهره.
.
وأحيانا يتغافل عنه.
.
ويدعه يمضي.
.
ويتيح له أن يحلم بالنجاة ولكن سرعان ما يرسل وراءه اثنين من رجاله بعيدانه خزيان.
.
ليلقى حتفه .
.
وليس بعجيب أن يتزاحم الناس حول (بيبو) فلقد شهدوا اليوم مائة رأس نبيل تتهاوى تحت المقصلة.
.
وانهم ليرجون أن يتاح لهم أن يتاح لهم أن يشهدوا مائة أخرى مع الغد - 3 - كان (بيبو) جالسا على برميل بجوار الباب الموكل بحراسته وتحت إمرته شرذمة قليلة من الجنود المدنيين.
.
وكان العمل قائما على قدم وساق في هذه الأيام الأخيرة، لأن أولئك النبلاء المناكير.
قد أفرخ روعهم.
.
ودفع بهم الفزع إلى محاولة للفرار من باريس بأي ثمن!.
ولكن (بيبو) كان بمرصد لهم دائما!.
يكشف أمرهم.
.
ويبعث بهم إلى (تنيفيل) رئيس لجنة الأمن العام.
.
حيث تنتظرهم النهاية المروعة!.
. .
.
وكانت حماسة (بيبو) وإخلاصه وغيرته تبلغ إلى حد إعجابه بنفسه فلقد أرسل خمسين من الأشراف بمجهوده إلى ساحة المقصلة!.
.
.
ولكن أوامر خاصة صدرت إلى الحراس اليوم!.
أن عددا غفيرا من الأشراف قد نجح في الهروب.
.
وأن شائعات غريبة تلوكها الأسئلة عن هذا الهرب.
.
وأن هذا الأمر قد أصبح شغل الناس.
.
ومبعث دهشة الجميع!.
وها هو ذا (جروسبيير) تحت سيف الجلاد.
.
جزاء ما قصر.
.
فأتاح لعائلة أرستقراطية أن تفر من الباب الشمالي!.
. وأصبح معروفا أن هذا التهريب تنظمه عصابة من الإنجليز كانت تفتن في أداء مهمتها.
.
وإنقاذ طبقة الأشراف من الإعدام.
.
ونمت الشائعات وترعرعت.
.
ولم يعد هناك شك في وجود هذه العصابة الغامضة.
.
وأكثر من هذا فقد أصبح من اليقين أنها تحت إدارة رجل ذي مرة وحيلة فوق الوصف!.
. .
.
أن أحدا لم ير هذه العصابة المخيفة.
.
وأن أحدا لا يجرؤ أن يذكر رئيسها.
.
إلا في رعب.
.
كأنما يتحدث عن الشيطان! وكان (تينيفل) تصل إليه رسالة غامضة.
.
يجدها مرة في جيب ردائه.
.
وأخرى تصل إلى يده في غمرة الزحام.
.
وفي كل مرة.
.
كانت تنبئ عن نشاط العصابة.
وقوتها.
.
وكانت تحمل في نهايتها.
.
ختم العصابة (الزهرة القرمزية).
.
ولا تزال الأخبار تصل إلى أعضاء اللجنة أن عددا من الملكيين قد غادروا الشاطئ إلى إنجلترا حيث الأمان!.
- 4 - .
.
ضوعف عدد الحراس.
.
وهددوا بالموت، وانبعثت المكافآت هنا وهناك لمن يرشد عن هذه العصابة الآثمة.
.
أما رئيسها.
.
فإن خمسة آلاف فرنك لمن يقبض عليه!.
.
وقد أحسن (بيبو) أنه سيحظى بهذه المكافأة دون شك.
.
بل أنه واثق من هذا! ولذلك لم يك غريبا أن تجمع الناس حوله كل يوم.
.
ليشهدوا بأنفسهم هذا الحارس الماهر عندما يتصيد ضحاياه.
.
والتفت (بيبو) إلى مساعده قائلا: - (لقد كان (جروسبير) ابله بلا شك!.
آه لو كنت مكانه!.
.) ثم بصق على الأرض ليعبر عن اشمئزازه من غباء زميله.
فأسرع مساعده إلى سؤاله: - (كيف؟!.
ماذا حدث؟!).
وهم (بيبو) بالإجابة في رزانة مفتعلة.
.
بينما تزاحمت الجماعة لتنصت - في شغف - إلى حديثه: (في الوقت الذي كان فيه (جروسبير) عند بابه.
.
يلاحظه في انتباه كانت عربات السوق تمر إلى الخارج.
.
وكانت إحداهما محملة بالبراميل ويقودها رجل عجوز والى جواره ولد.
.
وكان (جروسبير) ثملا نوعا ما.
.
ويعتقد في نفسه المهارة الفائقة.
.
نظر في البراميل - في معظمها على الأقل - وظن أنها فارغة.
.
فترك العربة وشأنها! ولم يمض نصف ساعة حتى أقبل عليه أحد ضباط الحراسة ومعه اثنا عشر جنديا.
.
وسأله: هل مرت عربة من هنا.
.
يقودها رجل عجوز بجواره ولد؟ نعم! منذ نصف ساعة عندئذ صاح فيه الضابط: - وتركتهم يهربون! ويلك.
.
إلى المقصلة جزاء ما فرطت.
.
أن هذه العربة كانت تقل (دوق دي شالي) وعائلته! فانتفض (جروسبير) من الوجل.
.
ثم أردف القائد قائلا: - أجل! والسائق العجوز لم يكن شخصا غير رئيس العصابة الإنكليزية! .
.
وهنا تصايحت الجماعة من الدهشة.
وأخذ (بيبو) يضحك كثيرا ثم استأنف قائلا: -.
ثم صاح الضابط في جنوده الإثني عشر يهيب بهم أن يدركوا هذه العربة الهاربة.
ويذكرهم بالمكافئة.
.
واندفع إلى الخارج وتبعه رجاله .
وهنا تصايحت الجماعة مرة أخرى واستبعدوا أن يلحق الضابط ورجاله بالعربة.
.
بينما كان (بيبو) يضحك من هذا التصايح حتى بدت نواجذه.
.
وطفرت الدموع من عينيه.
وسرعان ما قطع دهشة الجميع حين قال: إن النبلاء لم يكونوا في العربة.
.
ولم يكن السائر العجوز لرئيس العصابة بل أن الضابط نفسه هو ذلك الإنكليزي الجريء.
.
ورجاله الإثني عشر كانوا كلهم من الأرستقراطيين.
وقد هربوا!. .
وفي هذه المرة.
.
لم تتصايح الجماعة ولم تحر جوابا.
.
في الحق أن هذا الإنكليزي الغامض لا بد أن يكون الشيطان نفسه! - 5 - .
كانت الشمس تدنو إلى الغروب.
فاستعد (بيبو) أن يقفل.
وصاح أن تتقدم العربات الخارجة.
وكان هناك يضع عشرات من العربات المقفلة على استعداد أن تغادر المدينة لتحضر المحاصيل من الريف، ابتغاء السوق في الصباح.
.
وكانت هذه العربات معروفة جد المعرفة لدى (بيبو) لأنها تمر من خلال بابه.
مرتين كل يوم! ولذلك كان يبدو عليه الأسف عندما أخذ يفتش هذه العربات.
ثم لمح (بيبو) امرأة عجوزا بين سائقي العربات وسائقاتها.
وكان قد رآها في الصباح قريبا من المقصلة فقال لها: هيا.
يا أم! ماذا أتى بك إلى هنا؟! فأخذت تعبث بسوطها بأصابعها الغليظة المعروقة بينما ضحكت ضحكة خشنة إلى (بيبو) وأشارت إلى مقبض سوطها المحاط بخصل من الشعر مختلفة الألوان.
وقالت له: لقد صادقت الجلاد!.
.
وقد أهدى إلي هذه الخصل من الرؤوس التي تتهاوى تحت سيفه.
وقد وعدني خصلا أخرى غدا.
.
ولكن لا أدري.
لعلي لا أكون هنا في الغد! فأسرع (بيبو) إلى سؤالها عن السبب فأشارت بسبابتها إلى داخل العربة وأجابت: أن حفيدي مصاب بالجدري، ويقول البعض أنه الطاعون! وإذا كان الأمر كذلك، فسوف لا يسمح لي أن أدخل باريس في الصباح! ولم تكد العجوز تذكر كلمة (الجدري) حتى تراجع (بيبو) إلى الوراء، وعندما ذكرت (الطاعون) تقهقر عنها ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وتحاشت الجماعة كلها هذه العربة وصاح (بيبو) في العجوز: - عليك اللعنة - بل عليكم أنتم، أيها الجبناء! أي رجل هذا الذي يرتاع من المرض؟! وظلت الجماعة واجمة، خائفة، يبدو عليها الفزع، لأن هذا الداء الخبيث (الطاعون) هو الشيء الوحيد الذي يستطيع أن يثير الرعب والضيق في هذه المخلوقات المتوحشة!؟ وأخيرا صاح (بيبو) في المرأة مرة أخرى: - أغربي عنا.
أغربي بطفلك هذا المصاب بالطاعون! .
.
وفي ضحكة خشنة ألهبت العجوز ظهر حصانها بالسوط وانسلت خارج باريس!. .
.
وأفسدت هذه الواقعة أصيلة اليوم.
.
ولا يزال أفراد الجماعة التي حول (بيبو) ينظر بعضهم إلى بعض في ريبة وحذر ولا يزالون يتحاشون بعضهم خشية أن يكون (الطاعون).
.
قد اندس بينهم من قبل.
.
ثم أقبل فجأة ضابط من الحرس.
.
وكانت حقيقة هذه المرة.
.
لأنه معروف شخصيا (لبيبو).
.
ولا خوف أن يتكشف عن ذلك الإنجليزي المخادع المتنكر.
.
وقبل أن يصل الضابط إلى الباب: - - عربة.
.
العربة!.
فسأله (بيبو) في لهفة: - - أية عربة؟!.
- تقودها امرأة عجوز.
عربة مغطاة!.
- امرأة عجوز تزعم أن حفيدها مصاب بالطاعون!.
- أوه!.
نعم!.
- بالطبع.
أنت لم تتركها تذهب!!.
فأجاب (بيبو) وقد استحالت حمرة خده إلى شحوب الموت: - كلا!.
- إن هذه العربة تحمل (الكونتس دي تورنيا) وطفليها.
.
وهم من الخونة.
.
الذين تنتظرهم المقصلة!.
.
وكانت رعدة الخوف قد تملكت (بيبو) عندئذ.
فتمتم المحموم قائلا: - - ومن السائق؟!.
- لا شك أنه ذلك الإنجليزي الملعون.
رئيس العصابة الغامضة!.
الكيمان محمود البكري محمد جامعة فؤاد الأول -