أرشيف المقالات

في ركب الوحدة العربية:

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
الأدب في فلسطين للأستاذ محمد سليم الرشدان بين يدي ضروب النثر: وقفت (في عدد مضى) عند فئة من السلف القريب، الذين كانوا في مقدمة المنشئين للنهضة الأدبية (في فلسطين)، والذين نعتبرهم الطليعة المغامرة في هذا الميدان.
وفي (ما بين يدي) أتابع ما تقدم بان أقول: ويأتي بعد أولئك الأعلام الذين ذكرت، جماعة قفوا على أثارهم، وساروا على غرارهم، فكانوا أساتذة الأدب المبدعين.
أنتجوا فيه خير انتاج، فكثر مقلدوهم بين شبابنا المتأدبين.
وما يزالون إلى اليوم خير أسوة يؤتسى بها.
ولو ذهبت أتحدث عنهم مفصلا لضاق بي المجال، مهما رحب، فهم (بحمد الله) في غير قلة، وآثارهم اكثر من أن يشملها صعيد محدود.
ولكنهم (من حيث الاختصاص) يكادون يسلكون مسلكا عجبا! فالأديب منهم لا يبعد أن يكتب في شؤون التربية أو التاريخ، والشاعر لا يبالي أن يكتب في العلوم أو السياسة، والمؤرخ لا يتورع أن يكتب في علم اللغة وآدابها.

ومن هنا تشابه الأمر علي واختلط، ورأيتني ملزما على أن أتجوز في معنى الادب، فأسلك في عداد الأدباء كل من ساهم في ناحية من النواحي الثقافية، التي قامت عليها النهضة الأدبية الحاضرة وأعتبر هؤلاء الأدباء (على اختلاف مواضيع إنتاجهم) في فئتين، فريق في (أهل النثر) وفريق في (أهل النظم). وسوف أتجنب (التفصيل والتطويل) في تراجم من أقدم بعض آثارهم علما مني أن ذلك لا يعدو كونه مهادا يستقر خلف المنحى الذي أهدف إليه، وتكاد - إلى حد ما - لا تربطنا به علاقة مباشرة. ثم إنني سأقتصر على ذكر من تركوا آثارا أدبية - مخطوطة كانت أم مطبوعة - ممن تعرفت إليهم أو (وصلتني) آثارهم.
فأبدأ بأعلام الفريق الأول وهم (الناثرون) فأذكر منهم: الأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي (المقدسي) وهو شيخ الادباء، (وأديب العربية الأكبر) من غير منازع.
وله إنتاج أدبي غزير، فهو ما يفتأ أن يطالعنا بتأليفه القيمة، وأبحاثه التي لا ينقطع لها مدد.
وبفضل نشاطه الذي لا يفتر أصبح علما بارزا في الأقطار العربية جميعها.
ومن مؤلفاته المطبوعة (وهي كثيرة): الإسلام الصحيح: وهو سفر عظيم الفائدة كبير الحجم فيه نقد وتحليل، وفيه توضيح لكثير من الحقائق الغامضة، ودحض لأشتات من الأباطيل التي سار عليها الناس أمدا طويلا، وهم يحسبونها في أصول الدين وما هي منه في شئ.
وكل ما في هذا الكتاب رائع، إلا إن أروع مافية تعليقه على كلمة (آل محمد (ص) ومبلغها في ثنايا الحقيقة والتاريخ. ومن كتبه الأخرى: (كلمة في اللغة العربية) و (البطل الخالد والشاعر الخالد) و (الثورة السورية) ثم (الثورة العراقية).
ومن كتبه التي لم تطبع - بعد - وما تزال قيد بحثه وعنايته: (أبو العلاء المعري) و (آمالي النشاشيبي) و (نقل الأديب). ولهذا الأستاذ أسلوب يكاد يكون وقفا عليه.
وهو ينم على سعة اطلاعه، وكثرة ما استوعب في ذاكرته من مفردات هذه اللغة الكريمة.
ومن ذاك قوله في (اللغة العربية): (اللغة هي الأمة، والأمة هي اللغة.
وضعف الأولي مقرون بضعف الثانية.

واللغة ميراث أورثه الأباء الأبناء، وأحزم الوراث صائن ما ورث، وأسفههم في الدنيا مضيع. وإنا (أمم اللسان الضادي) لعرب، وان لغتنا هي العربية، وهي الإرث الذي ورثناه.
وأنا لحقيقون - والآباء هم الآباء، واللغة هي تلك اللغة - بأن نقي عربية الجنس وعربية اللغة.

ولو كان المورثون صغارا، ولو كان الميراث حقيرا لوجب علينا إكبارهم وإعظامه.
فكيف والتاريخ يقول: إن الأباء كانوا مراما، وأن الأباء كانوا عظاماً.

والزمان يقول أن العربية خير ما صنعت يداي (وان الدهر لصنع)، وأنها لخير طرفة أطرفها الناس.
والزمان بالخير (وإن جاد) شحيح. فالعربية الصنع العبقري للدهر، والعربية الدرة اليتيمة أو كنز الزمان (ضن به كل الضن ثم سخا).
) والأستاذ أحمد سامح الخالدي (المقدسي): وهو أبو التربية في فلسطين.
فلقد انفق شطرا غير قصير من عمره في مزاولة التوحيد الصحيح والتربية المجدية بين ناسئة الجيل عندنا، بل بين نخبة من هذه الناشئة، في (الكلية العربية) التي يتولى عمادتها. وله اليوم طلاب عديدون في طول البلاد وعرضها، نهلوا من علمه الغزير، وساروا على النهج الذي رسم لهم خطته، حتى اصبح فيهم من يشاطره حمل هذا العبء الذي تفرغ لحمله، ويزامله في الميدان الذي يعمل فيه. ولم يكتفي الأستاذ (الخالدي) بالتوجيه العملي.
ولذا فقد فزع إلى التوجيه النظري، فألف فيه كتبا عدة.
ليأخذ بنصوصها هؤلاء الذين حرموا نعمة التخرج على يديه.
واذكر منها الكتب التالية: (أركان التدريس) و (إدارة الصفوف) و (أنظمة التعليم) و (طرق التدريس المثلى) ثم (رسالة اختبار الذكاء).
وهي الأولى من نوعها في العربية. ولم يقف الأستاذ عند هذا المدى، بل تخطاه لما عداه.
فشرح واخرج كثيرا من المخطوطات القيمة، التي لها علاقة مباشرة ببلاد الشام - وفلسطين قسمها الجنوبي - ومنها: (رسالة ترغيب الأنام في سكنى الشام، لعز الدين السلمي.
و (فضائل بيت المقدس) للواسطي، و (مثير الغرام بفضل القدس والشام) لأبي محمود المقدسي.
و (الأعلام بفضائل الشام) للمنيني.
والكتاب الأخير منها صدر منذ أيام، وهو ألان في متناول الأيدي.
وفضلا عن المقدمة القيمة التي أوضح فيها الأستاذ أمورا مبهمة، فضعف بذلك قيمة الكتاب التاريخية.
ثم الموجز التاريخي (الذي اتبعه بها) في سرد تاريخ سورية (الطبيعية) في القرنين السادس عشر والسابع عشر للميلاد.
فانه أضاف أليه ملحقا في تراجم الصحابة والتابعين (الذين نسبوا إلى الشام أو نزلوا أو استشهدوا أو ماتوا فيها).
فجعله بذلك مرجعا قيما للباحثين في هذا السبيل. وله (فيما عدا ذلك) كتب أخرى في العلوم العقلية والأدبية وفي أبحاث شتى.
ومنها: (الحياة العقلية) و (أقنعة الحب) و (خفايا النفوس) و (رحلات في الديار الشامية). كما أن له سفرا قيما - ما يزال بين كتبه المخطوطة - وهو (تاريخ المعاهد الإسلامية).
وقد أولاه (ويوليه) الكثير من عنايته.
ويقع في ثمانية مجلدات ضخمة، يتناول فيها تطور الثقافة عند المسلمين والعرب في سائر معاهدهم التي أنشأوها في الشرق والغرب (ما خلا الأندلس).
ثم كيف كانت هذه الثقافة توجه لأغراض شريفة وأهداف سامية. وهو ألان يكاد يفرغ من كتاب جديد - لعله أول كتاب في بابه - وعنوانه: (الأردن في التاريخ الإسلامي). وأسلوب الأستاذ في سائر مؤلفاته سلس بين، خال من التعقيد والتصنع.
فأسمعه حين يصف التعليم فيقول: (التعليم فن، والمعلم فنان، وكما ينحت المثال من الحجر الأصم تمثالا بالشكل الذي يريده، فيصوغ منه ما يشاء من رموز الحياة ومعانيها، حتى ليخيل إليك إن الحياة تنبض فيه، كذلك يفعل المعلم! غير إن المواد التي يعالجها المعلم مواد حية، حساسة شاعرة متأثرة.
تدفعها ميول وغرائز، وبواعث شديدة التأثر والانفعال: مواد هي أرقى ما صاغته يد الخالق، قابلة للتكيف، تابعة لسنة التطوير، نامية فيها حياة وقوة. هذه المواد، وهذه الوديعة الثمينة - التي يعهد بها إلى المعلم، وتترك إلى عنايته - هي الطفل.
). ثم الدكتور اسحق موسى الحسيني (المقدسي): وهذا العالم الدؤوب - بالرغم من إنه يتخطى حضارة العقد الرابع من سنيه - ما يزال يفاجئنا بين الفينة والفينة بسفر قيم، أو مشروع يرمي إلى أحياء الأدب أو تنشيط النهضة الثقافية. ولقد صدر له إلى اليوم مؤلفات يخطئها الحصر وهي - إلى جانب ذلك - لطيفة الحجوم، إلا أنها (رغم ذينك) غزيرة الفائدة، يحدثك كل وجه فيها عما اقتضاه أعداده من تحر وتدقيق، واستقراء وتحليل.
ومن هذه الكتب: (مذكرات دجاجة) وقد صدر في سلسلة (اقرأ).
ونال الجائزة الأولى لاتفاق القراء على تفضيله، و (عودة السفينة): وهو مجموعة مقالات ترمي إلى هدف واحد، هو العودة بهذه الأمة إلى ماضي عهدها المجيد، وأيامها اللامعة المشرقة. كما أن له كتبا مخطوطة، ما يزال في سبيل أعدادها.
منها كتاب جامع عن (ابن قتيبة) وفيه دراسات وافية لآثاره، وسفر كبير عن (الجامعات الإسلامية) يتناول فيها تاريخ نشوئها والأسباب التي كانت تدعو إلى ذلك.
والدكتور في أسلوبه يميل إلى البساطة واليسر، وملاحقة المعنى دون المبنى.
واليك نمطا من ذلك قوله في كتابه (عودة السفينة): (إن العالم باقي وإن اختلفت مذاهب الناس فيه، وإن التهمت الحروب كل عام ملايين من سكانه.
بل ما دام فيه إنسان واحد. وهذا الإنسان لن يفنى.
إنه سيعيد سيرة جده آدم، وسيبدأ العالم من جديد.
ولهذا يجب إن نؤمن أيمانا لا يتزعزع بوجودنا وبعودتنا، وعلى الذين يغمرهم الجزع في الحاضر أن يلتفتوا مرة إلى الماضي ومرتين إلى المستقبل.
إننا لن نلقي على الماضي إلا نظرة واحدة، إما المستقبل فله منا نظرتان وأننا لنعلم أن الوقت لا ينتظرنا حتى نبدأ من حيث انتهى آباؤنا، ومن حيث ابتدأت الأمم الراقية.
سنبدأ من حيث انتهت، وسنأخذ من كل جديد نهايته، وسنغرف من الحضارة الأوربية ما يطلق مواهبنا إلى غاياتها، وما يبعث تراثنا من جديد.
أجل: إننا سنعود إلى القمة حيث كنا، وستعود السفينة إلى شاطئ السلامة باسم الله مجراها ومرساها.
). (له تكملة) محمد سليم الرشدان (ماجستير في الآداب واللغات السامية)

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢