خطب ومحاضرات
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73
شرح كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية [13]
الحلقة مفرغة
ظهور المعتزلة وإنكارهم الشفاعة للعصاة
فجاء بعدهم المعتزلة الذين اعتزلوا الجماعة بعد موت الحسن البصري رحمه الله، وهم: عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء الغزال وأتباعهما ].
لما شاع في الأمة أمر الخوارج تكلمت الصحابة فيهم وبينوا بدعتهم وحذروا الناس منهم، ورووا عن النبي صلى الله عليه وسلم الأحاديث فيهم، وسبق أن الأحاديث في الخوارج كلها صحيحة، وفيهم عشرة أحاديث في الصحيحين وفي غيرهما، بخلاف الأحاديث التي في القدرية فرفعها ضعيف ووقفها أصح.
فبدعة الخوارج أول البدع ظهوراً، ظهرت في أواخر عهد الصحابة بعد مقتل عثمان رضي الله عنه، ثم بعد ذلك ظهرت بدعة المعتزلة في أوائل عهد التابعين في أوائل المائة الثانية، وسببها: أن الحسن البصري -وهو تابعي جليل- كان له حلقة يدرس فجاء رجل فسأل الحسن البصري عن العاصي وعن الفاسق فأجابه، وكان في حلقته عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء فاعترضا على شيخهما فقال واصل بن عطاء: أنا لا أقول إنه مؤمن ولا أقول إنه كافر، ثم جلس في حلقة مستقلة واعتزل حلقة شيخه الحسن البصري ، ومن ذلك الوقت سموا معتزلة؛ لأنهم اعتزلوا حلقة شيخهم الحسن البصري.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فقالوا: أهل الكبائر يخلدون في النار كما قالت الخوارج، ولا نسميهم لا مؤمنين ولا كفاراً بل فساق ننزلهم منزلة بين منزلتين ].
هذا مذهب المعتزلة وقد قالوا: أن أهل الكبائر مخلدون في النار كما قالت الخوارج، فهم يوافقون الخوارج في تخليد العاصي في النار في الآخرة، أما في الدنيا فيخالفونهم، فالخوارج يقولون: إذا فعل الكبيرة خرج من الإيمان ودخل في الكفر، والمعتزلة يقولون: خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر، وصار في منزلة بين المنزلتين لا مؤمناً ولا كافراً، ويقولون: نسميه فاسقاً، والحقيقة أنه ليس هناك منزلة بين الإيمان الكفر، والناس إما مؤمن أو كافر، وهم اختلقوا من عند أنفسهم منزلة بين المنزلتين.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وأنكروا شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر من أمته، وأن يخرج أحد من النار بعد أن دخلها ].
إنكار الشفاعة مشترك بين المعتزلة والخوارج، فكلهم أنكروا شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر من أمته، وقالوا: إن العاصي مخلد في النار لا شفاعة له، واستدلوا بالآيات التي جاءت في الكفار كقوله تعالى: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر:48]، وقوله: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ [البقرة:254]، وقوله: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ [غافر:18].
فهذه الآيات في الكفار حملوها على المؤمنين فقالوا: ليس لهم نصيب في الشفاعة، ولا يمكن أن يخرج أحد من النار بعد دخولها أبداً، فالزاني والسارق وشارب الخمر والكافر كلهم مخلدون في النار، ولا يمكن أن يشفع في أحد، ولا يمكن أن يخرج أحد من النار بعد دخولها مع أن الأحاديث في إخراج العصاة الموحدين بلغت حد التواتر ومع ذلك أنكرها الخوارج والمعتزلة، فأنكر عليهم أهل السنة وصاحوا بهم وبدعوهم وضللوهم وفسقوهم، وقالوا: كيف تنكرون النصوص وهي متواترة ولا حصر لها، والنبي صلى الله عليه وسلم يشفع أربع شفاعات، والأنبياء يشفعون، والملائكة يشفعون، والشهداء يشفعون، والأفراط يشفعون، فكيف تنكرون الشفاعة ونصوصها متواترة؟
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقالوا: ما الناس إلا رجلان سعيد لا يعذب أو شقي لا ينعم، والشقي نوعان: كافر وفاسق، ولم يوافقوا الخوارج على تسميتهم كفارا ].
المعتزلة قالوا: الناس رجلان سعيد لا يعذب أو شقي لا ينعم، والسعيد الذي لا يعذب هو الموحد الذي أدى الواجبات وترك المحرمات، والشقي نوعان: كافر أتى بالكفر ومات على الكفر، والثاني: فاسق -وهو المؤمن العاصي- وهذا قالوا فيه: إنه شقي كالكافر سواء ليس هناك فرق بينه وبين الكافر.
والخوارج قالوا: الشقي نوع واحد وهو الكافر، والكافر عندهم الذي أتى بالكفر والذي أتى بالمعصية سواء بسواء ولا فرق.
والمؤسس للاعتزال هو واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد ، وقد كان عمرو بن عبيد زاهداً في الدنيا لكنه ابتلي بالكلام، ونفى صفات الله عز وجل، وكذلك واصل بن عطاء ، وقد كانوا في حلقة الحسن البصري يدرسون، ولكن ابتلوا بهذه الآراء السيئة، وكان واصل بن عطاء الغزال فصيحاً جداً، وعنده قوة في الخطابة والأسلوب وتصريف الكلام، حتى أنه يخطب الخطبة الطويلة -ساعتين أو ثلاثاً- لا يتلعثم إلا أنه في لسانه لثغة في الراء، فمن فصاحته صار يتجنب الراء في الخطبة الطويلة، فيأتي بخطبة طويلة ليس فيها راء حتى لا تبين لثغته، ومن فصاحته أنه قيل له مرة: قل أمر الأمير بحفر البئر في قارعة الطريق، فقال: أوعز القائد بقلب القليب في الجادة، فأدى المعنى بدون راء، ولكنه ابتلي بهذا الاعتقاد الفاسد، وهو المؤسس لمذهب المعتزلة هو وعمرو بن عبيد وهو القول بأن المؤمن العاصي يخرج من دائرة الإيمان في الدنيا ويخلد في النار في الآخرة، نسأل الله السلامة والعافية.
الرد على المعتزلة في تقسيم الناس بين الإيمان والكفر
الضمير يعود إلى الخوارج، (فكما أنهم) أي: الخوارج (قسموا الناس إلى مؤمن لا ذنب له وكافر لا حسنة له)، والمؤمن الذي لا ذنب له هو المؤمن المطيع، والكافر الذي لا حسنة له هو الكافر والعاصي.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قسمتم الناس إلى مؤمن لا ذنب له وإلى كافر وفاسق لا حسنة له ].
قوله: (قسموا): الضمير يعود إلى المعتزلة، والمعنى: قسمتم أيها المعتزلة الناس إلى مؤمن لا ذنب له وهو المطيع، وإلى كافر وفاسق لا حسنة له، فالكافر معروف، والفاسق هو المؤمن العاصي، فجعلوهم قسمين، لكن الفاسق لا حسنة له كما أن الكافر لا حسنة له، فجعلوا الفاسق مثل الكافر، والفاسق مؤمن له حسنات عند أهل الحق، لكن عند المعتزلة ليس له حسنة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فلو كانت حسنات هذا كلها محبطة، وهو مخلد في النار لاستحق المعاداة المحضة بالقتل والاسترقاق، كما يستحقها المرتد ].
هذا هو الرد الأول، أن نقول للمعتزلة: لو كانت حسنة العاصي مرتكب الكبيرة حابطة وهو مخلد في النار لاستحق المعاداة المحضة بالقتل والاسترقاق كما يستحقها المرتد، ولو كان الزاني والسارق وشارب الخمر أو المرابي تحبط أعماله كالكافر وليس له حسنات لاستحق المعاداة المحضة فيقتل ويسترق كما أن الكافر يقتل ويسترق، فالمؤمنون إذا قاتلوا الكفار يقتلونهم ويسترقونهم، وإذا وقعوا أسرى بأيديهم فالإمام مخير بين القتل والاسترقاق والمفاداة، فهذا المؤمن العاصي الذي تقول المعتزلة إنه لا حسنة له وإن أعماله حابطة لو كانت أعماله حابطة لكان يستحق أن يعادى معاداة تامة كالكافر ويقتل ويسترق، لكن النصوص دلت على أنه يعامل معاملة المؤمنين.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فإن هذا قد أظهر دينه بخلاف المنافق ].
العاصي مرتكب الكبيرة قد أظهر دين الإسلام وهو مؤمن، وإذا سألت العاصي فقلت له: أأنت مؤمن؟ قال: نعم أنا مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، ونحن نصلي ونصوم، فهو يظهر دينه وينتسب إلى الإسلام بخلاف الكافر.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فلما شاع في الأمة أمر الخوارج تكلمت الصحابة رضي الله عنهم فيهم، ورووا عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الأحاديث فيهم، وبينوا ما في القرآن من الرد عليهم، وظهرت بدعتهم في العامة.
فجاء بعدهم المعتزلة الذين اعتزلوا الجماعة بعد موت الحسن البصري رحمه الله، وهم: عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء الغزال وأتباعهما ].
لما شاع في الأمة أمر الخوارج تكلمت الصحابة فيهم وبينوا بدعتهم وحذروا الناس منهم، ورووا عن النبي صلى الله عليه وسلم الأحاديث فيهم، وسبق أن الأحاديث في الخوارج كلها صحيحة، وفيهم عشرة أحاديث في الصحيحين وفي غيرهما، بخلاف الأحاديث التي في القدرية فرفعها ضعيف ووقفها أصح.
فبدعة الخوارج أول البدع ظهوراً، ظهرت في أواخر عهد الصحابة بعد مقتل عثمان رضي الله عنه، ثم بعد ذلك ظهرت بدعة المعتزلة في أوائل عهد التابعين في أوائل المائة الثانية، وسببها: أن الحسن البصري -وهو تابعي جليل- كان له حلقة يدرس فجاء رجل فسأل الحسن البصري عن العاصي وعن الفاسق فأجابه، وكان في حلقته عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء فاعترضا على شيخهما فقال واصل بن عطاء: أنا لا أقول إنه مؤمن ولا أقول إنه كافر، ثم جلس في حلقة مستقلة واعتزل حلقة شيخه الحسن البصري ، ومن ذلك الوقت سموا معتزلة؛ لأنهم اعتزلوا حلقة شيخهم الحسن البصري.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فقالوا: أهل الكبائر يخلدون في النار كما قالت الخوارج، ولا نسميهم لا مؤمنين ولا كفاراً بل فساق ننزلهم منزلة بين منزلتين ].
هذا مذهب المعتزلة وقد قالوا: أن أهل الكبائر مخلدون في النار كما قالت الخوارج، فهم يوافقون الخوارج في تخليد العاصي في النار في الآخرة، أما في الدنيا فيخالفونهم، فالخوارج يقولون: إذا فعل الكبيرة خرج من الإيمان ودخل في الكفر، والمعتزلة يقولون: خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر، وصار في منزلة بين المنزلتين لا مؤمناً ولا كافراً، ويقولون: نسميه فاسقاً، والحقيقة أنه ليس هناك منزلة بين الإيمان الكفر، والناس إما مؤمن أو كافر، وهم اختلقوا من عند أنفسهم منزلة بين المنزلتين.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وأنكروا شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر من أمته، وأن يخرج أحد من النار بعد أن دخلها ].
إنكار الشفاعة مشترك بين المعتزلة والخوارج، فكلهم أنكروا شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر من أمته، وقالوا: إن العاصي مخلد في النار لا شفاعة له، واستدلوا بالآيات التي جاءت في الكفار كقوله تعالى: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر:48]، وقوله: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ [البقرة:254]، وقوله: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ [غافر:18].
فهذه الآيات في الكفار حملوها على المؤمنين فقالوا: ليس لهم نصيب في الشفاعة، ولا يمكن أن يخرج أحد من النار بعد دخولها أبداً، فالزاني والسارق وشارب الخمر والكافر كلهم مخلدون في النار، ولا يمكن أن يشفع في أحد، ولا يمكن أن يخرج أحد من النار بعد دخولها مع أن الأحاديث في إخراج العصاة الموحدين بلغت حد التواتر ومع ذلك أنكرها الخوارج والمعتزلة، فأنكر عليهم أهل السنة وصاحوا بهم وبدعوهم وضللوهم وفسقوهم، وقالوا: كيف تنكرون النصوص وهي متواترة ولا حصر لها، والنبي صلى الله عليه وسلم يشفع أربع شفاعات، والأنبياء يشفعون، والملائكة يشفعون، والشهداء يشفعون، والأفراط يشفعون، فكيف تنكرون الشفاعة ونصوصها متواترة؟
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقالوا: ما الناس إلا رجلان سعيد لا يعذب أو شقي لا ينعم، والشقي نوعان: كافر وفاسق، ولم يوافقوا الخوارج على تسميتهم كفارا ].
المعتزلة قالوا: الناس رجلان سعيد لا يعذب أو شقي لا ينعم، والسعيد الذي لا يعذب هو الموحد الذي أدى الواجبات وترك المحرمات، والشقي نوعان: كافر أتى بالكفر ومات على الكفر، والثاني: فاسق -وهو المؤمن العاصي- وهذا قالوا فيه: إنه شقي كالكافر سواء ليس هناك فرق بينه وبين الكافر.
والخوارج قالوا: الشقي نوع واحد وهو الكافر، والكافر عندهم الذي أتى بالكفر والذي أتى بالمعصية سواء بسواء ولا فرق.
والمؤسس للاعتزال هو واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد ، وقد كان عمرو بن عبيد زاهداً في الدنيا لكنه ابتلي بالكلام، ونفى صفات الله عز وجل، وكذلك واصل بن عطاء ، وقد كانوا في حلقة الحسن البصري يدرسون، ولكن ابتلوا بهذه الآراء السيئة، وكان واصل بن عطاء الغزال فصيحاً جداً، وعنده قوة في الخطابة والأسلوب وتصريف الكلام، حتى أنه يخطب الخطبة الطويلة -ساعتين أو ثلاثاً- لا يتلعثم إلا أنه في لسانه لثغة في الراء، فمن فصاحته صار يتجنب الراء في الخطبة الطويلة، فيأتي بخطبة طويلة ليس فيها راء حتى لا تبين لثغته، ومن فصاحته أنه قيل له مرة: قل أمر الأمير بحفر البئر في قارعة الطريق، فقال: أوعز القائد بقلب القليب في الجادة، فأدى المعنى بدون راء، ولكنه ابتلي بهذا الاعتقاد الفاسد، وهو المؤسس لمذهب المعتزلة هو وعمرو بن عبيد وهو القول بأن المؤمن العاصي يخرج من دائرة الإيمان في الدنيا ويخلد في النار في الآخرة، نسأل الله السلامة والعافية.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وهؤلاء يرد عليهم بمثل ما رد به على الخوارج، فيقال لهم: كما أنهم قسموا الناس إلى مؤمن لا ذنب له وكافر وفاسق لا حسنة له ].
الضمير يعود إلى الخوارج، (فكما أنهم) أي: الخوارج (قسموا الناس إلى مؤمن لا ذنب له وكافر لا حسنة له)، والمؤمن الذي لا ذنب له هو المؤمن المطيع، والكافر الذي لا حسنة له هو الكافر والعاصي.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قسمتم الناس إلى مؤمن لا ذنب له وإلى كافر وفاسق لا حسنة له ].
قوله: (قسموا): الضمير يعود إلى المعتزلة، والمعنى: قسمتم أيها المعتزلة الناس إلى مؤمن لا ذنب له وهو المطيع، وإلى كافر وفاسق لا حسنة له، فالكافر معروف، والفاسق هو المؤمن العاصي، فجعلوهم قسمين، لكن الفاسق لا حسنة له كما أن الكافر لا حسنة له، فجعلوا الفاسق مثل الكافر، والفاسق مؤمن له حسنات عند أهل الحق، لكن عند المعتزلة ليس له حسنة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فلو كانت حسنات هذا كلها محبطة، وهو مخلد في النار لاستحق المعاداة المحضة بالقتل والاسترقاق، كما يستحقها المرتد ].
هذا هو الرد الأول، أن نقول للمعتزلة: لو كانت حسنة العاصي مرتكب الكبيرة حابطة وهو مخلد في النار لاستحق المعاداة المحضة بالقتل والاسترقاق كما يستحقها المرتد، ولو كان الزاني والسارق وشارب الخمر أو المرابي تحبط أعماله كالكافر وليس له حسنات لاستحق المعاداة المحضة فيقتل ويسترق كما أن الكافر يقتل ويسترق، فالمؤمنون إذا قاتلوا الكفار يقتلونهم ويسترقونهم، وإذا وقعوا أسرى بأيديهم فالإمام مخير بين القتل والاسترقاق والمفاداة، فهذا المؤمن العاصي الذي تقول المعتزلة إنه لا حسنة له وإن أعماله حابطة لو كانت أعماله حابطة لكان يستحق أن يعادى معاداة تامة كالكافر ويقتل ويسترق، لكن النصوص دلت على أنه يعامل معاملة المؤمنين.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فإن هذا قد أظهر دينه بخلاف المنافق ].
العاصي مرتكب الكبيرة قد أظهر دين الإسلام وهو مؤمن، وإذا سألت العاصي فقلت له: أأنت مؤمن؟ قال: نعم أنا مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، ونحن نصلي ونصوم، فهو يظهر دينه وينتسب إلى الإسلام بخلاف الكافر.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقد قال الله في كتابه: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]. فجعل ما دون ذلك الشرك معلقاً بمشيئته ].
هذه الآية فيها رد على المعتزلة، ووجه الرد من الآية قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].
فخص الله الشرك بأنه لا يغفر، وعلق ما دونه بالمشيئة، فدل على أن العاصي تحت المشيئة؛ لأن معصيته دون الشرك، فهو تحت مشيئة الله إن شاء الله غفر له وإن شاء عذبه، وإذا عذبه فإنه يخرج من النار بشفاعة الشافعين، أو برحمة أرحم الراحمين كما دلت على ذلك النصوص.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ولا يجوز أن يحمل هذا على التائب، فإن التائب لا فرق في حقه بين الشرك وغيره ].
قوله: (لا يجوز أن يحمل هذا) الإشارة تعود إلى الحكم الذي دلت عليه الآية السابقة، وهي قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].
أي: فلا يقول قائل في التائب؛ لأن التائب لا فرق في حقه بين الشرك وغيره، والتوبة تجب ما قبلها سواء كان شركاً أو غير شرك، فمن تاب من الشرك قبل الله توبته إذا كانت توبة نصوحاً، ومن تاب من الزنا أو السرقة أو الربا قبل الله توبته، والآية فرقت بين الشرك وغيره: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].
فدل على أن هذا في غير التائبين؛ لأن الله تعالى فرق بين الشرك وغيره، فخص الشرك بأنه لا يغفر وعلق ما دونه تحت المشيئة، أما التوبة فإنها تجب ما قبلها أياً كانت، كالتوبة من الشرك أو الكفر أو النفاق أو الزنا أو السرقة، فإذا كانت التوبة نصوحاً وجاء التائب بشروطها: أن تكون التوبة لله، وأقلع عن المعصية، وندم على ما مضى، وعزم على عدم العودة إليها، ورد المظلمة إلى أهلها، وكانت التوبة قبل الموت وقبل طلوع الشمس من مغربها في آخر الزمان، فهذه مقبولة من كل شخص، حتى من المثلثة النصارى الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة، فقد عرض الله عليهم التوبة بقوله: أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ [المائدة:74].
فهذه الآية في غير التائبين، بخلاف آية الزمر فإنها في التائبين كما سيذكر المؤلف رحمه الله وهي قوله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر:53].
فهذه أجمع العلماء على أنها في التائبين؛ لأن الله عمم وأطلق، فقال: إِِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر:53]، أي ذنب: سواء كان كفراً، أو شركاً، أو نفاقاً، فعمم وأطلق ولم يخصص ولم يقيد، فدل على أنها في التائبين، فآية الزمر في التائبين، وآية النساء في غيرهم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ كما قال تعالى في الآية الأخرى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر:53]، فهنا عمم وأطلق؛ لأن المراد به التائب، وهناك خص وعلق ].
قوله: (هناك): الإشارة تعود إلى آية النساء، و(هنا) الإشارة تعود إلى آية الزمر.
والتخصيص هو تخصيص الشرك بأنه لا يغفر، وعلق ما دون الشرك على المشيئة فقال: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، وفي آية الزمر عمم وأطلق.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقال تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ [فاطر:32-35].
فقد قسم الله سبحانه الأمة التي أورثها الكتاب واصطفاها إلى ثلاثة أصناف: ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات، وهؤلاء الثلاثة ينطبقون على الطبقات الثلاث المذكورة في حديث جبريل عليه الصلاة والسلام: الإسلام، والإيمان، والإحسان، كما سنذكره إن شاء الله تعالى ].
هذه الآية هي آية فاطر: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [فاطر:32]، وفيها أقسام المؤمنين، وهؤلاء الثلاثة كلهم مؤمنون، لأن الله أورثهم الكتاب واصطفاهم، فكلهم مصطفون، وكلهم أورثهم الله القرآن:
فالصنف الأول: هو الظالم لنفسه، وهو المؤمن العاصي الذي أخل ببعض الواجبات أو فعل بعض المحرمات.
والصنف الثاني: هو المقتصد، وهو المؤمن المطيع الذي أدى الواجبات وترك المحرمات، لكن ليس عنده نشاط في فعل المستحبات والنوافل، وليس عنده نشاط في ترك المكروهات كراهة تنزيه وفضول المباحات، بل قد يتوسع في المباحات وقد يفعل المكروهات، فهؤلاء يقال لهم: مقتصدون، ويقال لهم أصحاب اليمين.
والصنف الثالث: السابق بالخيرات، وهم الذين أدوا الواجبات، ومع ذلك عندهم نشاط ففعلوا المستحبات والنوافل، وتركوا المحرمات، وتركوا المكروهات كراهة تنزيه، وتركوا فضول المباحات خشية الوقوع في المحرمات، وهؤلاء كلهم مؤمنون، فإن قيل: كيف يكون العاصي من المصطفين؟ قلنا: لما سلم من الشرك ووحد الله وأخلص له العبادة صار من المصطفين دون الكفار.
والقسم الرابع: الكفار.
وفي سورة الواقعة قسمهم الله ثلاثة أصناف فقال: وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً [الواقعة:7]، وقال: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ [الواقعة:10]، وقال: وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ [الواقعة:27]، وقال: وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ [الواقعة:41].
وفي آخر الواقعة قسمهم كذلك.
وهؤلاء الثلاثة: الظالم والمقتصد والسابق ينطبقون على الطبقات الثلاث في حديث جبريل: الإسلام والإيمان والإحسان، فالظالم لنفسه يسمى مسلماً ولا يسمى مؤمناً؛ لأنه ترك بعض الواجبات وفعل بعض المحرمات، والمقتصد يسمى مؤمناً، والسابق للخيرات يسمى محسناً.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ومعلوم أن الظالم لنفسه إن أريد به من اجتنب الكبائر أو التائب من جميع الذنوب فذلك مقتصد أو سابق، فإنه ليس أحد من بني آدم يخلو عن ذنب، لكن من تاب كان مقتصداً أو سابقاً ].
الأقرب والله أعلم أن الظالم لنفسه لا يراد به من اجتنب الكبائر، وقوله: (إن أريد به من اجتنب الكبائر) أي: ما أريد به من اجتنب الكبائر فإن هنا نافية بمعنى (ما)؛ لأن الظالم لنفسه هو الذي يفعل بعض الكبائر، والتائب من جميع الذنوب، إما مقتصد إذا كان يفعل بعض النوافل والمستحبات، وإما سابق بالخيرات إن كان يفعل مع ذلك المستحبات.
فإذاً الظالم لنفسه غير التائب، لأن الظالم لنفسه هو الذي يفعل بعض المحرمات ويترك بعض الواجبات ولم يتب، أما من تاب من فعله لبعض الكبائر فيكون من المقتصدين أو من السابقين، فالظالم لنفسه يراد به من يفعل بعض الكبائر ولا يراد به من اجتنب الكبائر.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [كذلك من اجتنب الكبائر كفرت عنه السيئات كما قال تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [النساء:31]، فلا بد أن يكون هناك ظالم لنفسه موعود بالجنة، ولو بعد عذاب يطهر من الخطايا ].
التائب إما مقتصد أو سابق، ويقولون: ليس أحد من بني آدم يخرج من الذنب، فالإنسان محل الذنب، لكن من تاب كان مقتصداً أو سابقاً، إن تاب من الذنب وفعل المستحبات فهو سابق، وإن تاب من الذنب ولم يفعل النوافل فهو مقتصد، ومن اجتنب الكبائر كفرت عنه السيئات، كما قال تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [النساء:31].
إذاً: لابد أن يكون هناك ظالم لنفسه موعود بالجنة ولو بعد عذاب يطهر به من الخطايا وهذا هو المؤمن العاصي، وهو موعود بالجنة إن عاجلاً أو آجلاً؛ إن عفا الله عنه دخل الجنة من أول وهلة، وإن لم يعف الله عنه عذب بالنار ثم أخرج منها إلى الجنة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن ما يصيب المؤمن في الدنيا من المصائب مما يجزى به ويكفر به من خطاياه، كما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن ولا غم ولا أذىً حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه) ].
وهذا الحديث صحيح رواه الشيخان البخاري ومسلم وغيرهما.
والوصب المرض.
والنصب: التعب.
والهم والحزن والغم من أمراض الداخلية والباطن، والأذى عام، وقيل الهم ينشأ عن الفكر في ما يتوقع حصوله مما يتأذى به.
والغم كرب يحدث للقلب بسبب ما حصل.
والحزن يحصل لفقد ما يشق على المرء فقده.
وهذه كلها يكفر بها من خطاياه، فإذا أصاب الإنسان مرض أو تعب أو هم أو حزن أو غم أو أذى حتى الشوكة إذا أصابت جسمه يكفر الله بها من خطاياه، ولما نزل قوله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123] بين النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي بكر أن الحزن والهم يجزى به الإنسان.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وفي المسند وغيره أنه لما نزلت هذه الآية: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123].
قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله! جاءت قاصمة الظهر، وأينا لم يعمل سوءاً؟ فقال: (يا
اللأواء: الشدة وضيق العيش.
أبو بكر رضي الله عنه بفقهه وعلمه وورعه يفهم معنى الآية: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123]، إذ معناه: أن كل سوء يعمله الإنسان لا بد أن يجازى به، فقال: يا رسول الله! جاءت قاصمة الظهر، ومن يستطيع ألا يعمل شيئاً ولا يقع في سيئة ولا هفوة، وكل شيء نعمله لابد أن نجازى به، فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن الجزاء ليس خاصاً في الآخرة، بل عام في الدنيا فقال: (يا
فإذا تعب الإنسان أو أصابه نصب أو هم أو غم أو شوكة أو أذى أو ضيق أو مصيبة كفر بها من خطاياه، والحمد لله على ذلك، والمؤمن أمره كله له خير؛ ولهذا جاء في الحديث: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته ضراء فصبر كان خيراً له، وإن أصابته سراء فشكر كان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن)، فالمؤمن ينصب ويحزن ويتعب، وتصيبه اللأواء والشدة وضيق العيش والمرض، وهذا كله مما يبتلى به الإنسان.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وأيضاً فقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنه يخرج أقوام من النار بعدما دخلوها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع في أقوام دخلوا النار ].
هذا هو المرجح السادس من المرجحات: أن وصف العصاة بالإيمان والإسلام لضعف إيمانهم لا لنفاقهم، وأن المؤمن العاصي إذا دخل النار فإنه يعذب بها ثم يخرج، وقد يشفع فيه فلا يدخل النار، وقد يعفو الله عنه، فدل هذا على أن الفاسق أو العاصي والذي وصف بالإيمان دون الإسلام لا يخرج من الإيمان ولو ضعف إيمانه.
وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يخرج أقوام من النار بعدما دخلوها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع في أقوام دخلوا النار، بل ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع في العصاة أربع مرات، وكل مرة يحد الله له حداً، جاء في بعض الأحاديث: أن الله يقول: (أخرج من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان) وفي بعضها: (مثقال نصف دينار) وفي بعضها: (أخرج من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان) وفي بعضها: (أخرج من في قلبه أدنى مثقال حبة خردل من إيمان) وفي بعضها: (أخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان) فيخرجهم بالعلامة وقد جعل الله له علامة، وهذا فيه رد على الخوارج والمعتزلة الذين يقولون بتخليد العصاة في النار وأنهم لا يخرجون منها، فهذا دليل ومن المرجحات على أن العاصي وضعيف الإيمان لا يخرج من الإيمان ولا يسمى منافقاً، بل عنده أصل الإيمان، فيقال: إنه مؤمن ضعيف الإيمان، مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وهذه الأحاديث حجة على الطائفتين الوعيدية الذين يقولون: من دخلها من أهل التوحيد لم يخرج منها، وعلى المرجئة الواقفة الذين يقولون: لا ندري هل يدخل من أهل التوحيد النار أحد أولاً ].
هذا الحديث حجة على الطائفتين: الوعيدية: وهم الخوارج والمعتزلة، ويسمون الوعيدية؟ لأنهم يعملون بنصوص الوعيد، ويغمضون أعينهم عن نصوص الوعد، فيعملون ببعض النصوص ويتركون بعض النصوص، مثل قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [النساء:10].
فهذا من نصوص الوعيد، إذاً آكل مال اليتيم مخلد في النار.
وقوله: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا [النساء:93]، إذاً القاتل مخلد في النار، وهكذا عملوا بالنصوص التي فيها الوعيد للعصاة كالحديث: (من اقتطع مال امرئ بيمينه أوجب الله له النار).
أما نصوص الوعد كالحديث: (من قال: لا إلا الله دخل الجنة) و(حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً) فهذه يغمضون أعينهم عنها، ولا يعملون إلا بنصوص الوعيد، وهذه علامة أهل الزيغ، أنهم يأخذون ببعض النصوص ويتركون البعض الآخر.
فالخوارج والمعتزلة أخذوا نصوص الوعيد فخلدوا العصاة في النار وأخرجوهم من الإيمان في الدنيا، وأغمضوا أعينهم عن نصوص الوعد، وقابلتهم المرجئة فأخذوا بنصوص الوعد، فقالوا في مثل: (من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة)، إن المعاصي لا تضر، وإن زنى وإن سرق، أما الأثر: (من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه) فقالوا فيه: الموحد لا يضره أي كبيرة يعملها.
أما نصوص الوعيد فقد أغمضوا أعينهم عنها؛ لأنهم من أهل الزيغ.
فجاء أهل السنة وأخذوا نصوص الوعيد وصفعوا بها وجوه المرجئة وأبطلوا بها مذهبهم، وقالوا: مذهبكم باطل بنصوص الوعيد، وأخذوا نصوص الوعد وصفعوا بها وجوه الخوارج والمعتزلة وأبطلوا بها مذهبهم وقالوا: مذهبكم باطل، فأبطلوا مذهب الخوارج والمعتزلة بأدلة المرجئة، وأبطلوا مذهب المرجئة بأدلة الخوارج والمعتزلة، وتعارضا فتساقطا، وبقي مذهب أهل السنة والجماعة.
قال أهل السنة: أنتم أدلتكم أيها الخوارج نأخذها ونستدل بها على أن المعاصي تضعف الإيمان وتنقص الإيمان، لكن لا يخرج بها من الإيمان بدليل نصوص الوعد، ونأخذ أدلتكم أيها المرجئة من نصوص الوعد ونستدل بها على أن العاصي معه أصل الإيمان، ولا يخرج من الإيمان، ولكن المعاصي تضره وتنقصه بدليل نصوص الوعيد، فأخذوا أدلة هؤلاء وأدلة هؤلاء، وعملوا بالأدلة من الجانبين، وأبطلوا مذهب المعتزلة بأدلة المرجئة، وأبطلوا مذهب المرجئة بأدلة الخوارج والمعتزلة، وبقي مذهب أهل السنة في الميدان هو الصحيح.
وهذه الأحاديث حجة على الطائفتين: الوعيدية الذين يقولون من دخلها من أهل التوحيد لم يخرج منها، وهذا وصف مشترك بين الخوارج والمعتزلة، وحجة على المرجئة الواقفة الذين يقولون: لا ندري هل يدخل من أهل التوحيد النار أحد أم لا؟ فهؤلاء متوقفون عندهم شك، ويسمون الواقفة، فإذا قيل لهم: هل أهل التوحيد يدخلون النار؟ قالوا: لا ندري، فهذه النصوص حجة عليهم، فالنصوص فيها أنهم يدخلون ويخرجون.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ كما يقول ذلك طوائف من الشيعة والأشعرية، كالقاضي أبي بكر وغيره ].
القاضي أبو بكر الباقلاني من أمكن الأشاعرة، وقد وافق المرجئة الواقفة طوائف من الشيعة والأشعرية وتوقفوا في دخول العصاة أهل التوحيد النار.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وأما ما يذكر عن غلاة المرجئة أنهم قالوا: لا يدخل النار من أهل التوحيد أحد فلا نعرف قائلاً مشهوراً من المنسوبين إلى العلم يذكر عنه هذا القول ].
يقولون: لن يدخل النار من أهل التوحيد أحد ولو فعل جميع الكبائر وجميع المعاصي، وهذا يقوله غلاة المرجئة كالجهمية، ولا يوجد أحد من العلماء المنتسبين للعلم يقول بهذا القول، إنما يقوله غلاة المرجئة وغلاة المرجئة هم الجهمية الذين يقولون لا يضر مع الإيمان طاعة كما لا ينفع مع الكفر معصية، فيقولون: إن المؤمن إذا عرف ربه بقلبه يكفيه، ولو فعل المنكرات وجميع الكبائر، حتى لو فعل المكفرات فلا يضره ما دام أنه يعرف ربه بقلبه، وهذا من أبطل الباطل.