خطب ومحاضرات
شرح كتاب الإيمان لأبي عبيد [4]
الحلقة مفرغة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وأما الحجة من السنة والآثار المتواترة في هذا المعنى من زيادات قواعد الإيمان بعضها بعد بعض ففي حديث منها أربع، وفي آخر خمس، وفي الثالث تسع، وفي الرابع أكثر من ذلك، فمن الأربع حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن وفد عبد القيس قدموا عليه فقالوا: يا رسول الله! إنا هذا الحي من ربيعة وقد حالت بيننا وبينك كفار مضر، فلسنا نخلص إلا في شهر حرام، فمرنا بأمر نعمل به وندعو إليه من وراءنا، فقال: آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع: الإيمان بالله ...) ثم فسره لهم: (شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم، وأنهاكم عن الدباء والحنتم والنقير والمقير).
قال أبو عبيد : حدثناه عباد بن عباد المهلبي حدثنا أبو جمرة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ].
هذا الحديث صحيح ثابت في الصحيحين وفي غيرهما، وهو حديث وفد عبد القيس، فهذا دليل من السنة، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: [ وأما الحجة من السنة والآثار المتواترة في هذا المعنى من زيادات قواعد الإيمان بعضها بعد بعض ] يعني: وأما الأدلة من السنة ومن الآثار فإنها متواترة من جهة المعنى، فقد بلغت حد التواتر من جهة المعنى، فكلها متعاضدة ويقوي بعضها بعضاً وتدل على أن الإيمان يزيد وينقص، وأن قواعد الإيمان يأتي بعضها بعد بعض، ويدل على ذلك أن في بعض الأحاديث ذكر أن الإيمان أربعة أشياء، وفي بعض الأحاديث ذكر أن الإيمان خمسة أشياء، وفي بعضها ذكر أن الإيمان تسعة، وفي بعضها أكثر من ذلك، بل في حديث أبي هريرة : (الإيمان بضع وسبعون شعبة) كلها من الإيمان، فهذا يدل على أن الإيمان يزيد وينقص، وأن قواعد الإيمان نزل بعضها بعد بعض، ثم ذكر مثالاً للأربع فقال: مثال الأربع حديث ابن عباس في وفد عبد القيس، وهو حديث مشهور، وبنو عبد القيس أسلموا قديماً، وكانوا في المنطقة الشرقية، وهي الآن في الأحساء، وبلدتهم هي جواثا، ومسجد جواثا هو ثاني مسجد أقيمت فيه الجمعة، إذ الأولى كانت في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
فهؤلاء أسلموا قديماً، وكان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة مسافة، وكانت بين العرب حروب ولكنهم كانوا يتوقفون عن الحرب في الأشهر الحرم، وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، وشهر رجب، فوفد عبد القيس كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم مسافة، فقالوا: يا رسول الله! إن هذا الحي من ربيعة يسكن في مكان بعيد عن المدينة، ولا نستطيع أن نصل إليك، وقد حالت بيننا وبينك كفار مضر يقاتلوننا، فلا نخلص إليك إلا في شهر حرام، أما في غير ذلك فلا نستطيع، فمرنا -يا رسول الله- بأمر نعمل به وندعو إليه من وراءنا. أي: أعطنا من جوامع الكلم، ما نعمل به ونخبر به من وراءنا. فقال: (آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع)، ثم ذكر لهم أول الأربع، وهو الإيمان، ثم فسر الإيمان فقال: (شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم) ففسره بأربعة أشياء: الشهادة لله تعالى بالوحدانية ولنبيه بالرسالة، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأداء الخمس.
فدل على أن قواعد الإيمان يأتي بعضها بعد بعض.
وقال: (أنهاكم عن الدباء والحنتم والنقير والمقير) وهذه أوعية كانوا ينتبذون بها الشراب، فيجعلون فيها عصيراً كالتمر أو العنب أو غيرهما ويجعلونه في هذه الأوعية، والمزفت هو المطلي بالقار، والنقير جذع النخل ينقرون وسطه، والحنتم جرار خضر من الطين المصلي بالنار، والدبا القرع اليابس، فهذه الأشياء الصلبة كانوا يجعلون فيها العصير من التمر، أو من الشعير، أو من الزبيب، ويضعون عليه الماء فيكون شراباً حلواً، يشربون منه اليومين والثلاثة، لكنه بعد مدة مع شدة الحر يصير خمراً بعد ثلاثة أيام في الغالب، فيتخمر ولا يدرون به فيشربونه، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: لا تضعوا العصير في هذه الأشياء لأنه يتخمر، ولكن ضعوا العصير في الأسقية من الجلد؛ لأنها إذا تخمر فيها العصير تمزقت، فعرفتم أنها خمر فتجتنبونها، أما هذه الأشياء الصلبة فإنها يتخمر فيها العصير ولا تعلمون فتشربون الخمر.
ثم بعد ذلك لما استقرت الشريعة وعرف الناس تحريم الخمر نسخ ذلك، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (انتبذوا في كل وعاء ولا تشربوا الخمر).
[ ومن الخمس حديث ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت) ].
حديث ابن عمر هذا في الصحيحين، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الإسلام فقال: (بني الإسلام على خمس) وفي حديث جبريل كذلك ذكر هذه الخمس، وبين أنها دعائم الإسلام وأركانه، وهي: الشهادتان، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والإسلام إذا أطلق دخل فيه الإيمان، والإيمان فسره في حديث وفد عبد القيس بأربع، وفي حديث ابن عمر بخمس، فدل على أن الإيمان متعدد.
[ قال أبو عبيد : حدثنا إسحاق بن سليمان الرازي عن حنظلة عن أبي سفيان عن عكرمة بن خالد عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ومن التسع حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن للإسلام صوى ومناراً كمنار الطريق) قال أبو عبيد : هي ما غلظ وارتفع من الأرض، واحدتها صوة، منها أن تؤمن بالله ولا تشرك به شيئاً، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تسلم على أهلك إذا دخلت عليهم، وأن تسلم على القوم إذا مررت بهم، فمن ترك من ذلك شيئاً فقد ترك سهماً من الإسلام، ومن تركهن فقد ولى الإسلام ظهره. ].
هذا الحديث فيه بيان أن للإسلام قوى ومناراً كمنار الطريق، أي: علامات ودلائل تدل على الإسلام، وذكر منها أن تؤمن بالله ولا تشرك به شيئاً، وهذا هو أصل الدين، والثاني إقام الصلاة، والثالث إيتاء الزكاة، والرابع صوم رمضان، والخامس حج البيت، والسادس الأمر بالمعروف، والسابع النهي عن المنكر، والثامن أن تسلم على أهلك إذا دخلت عليهم، والتاسع أن تسلم على القوم إذا مررت بهم، قال في آخر الحديث: (فمن ترك من ذلك شيئاً فقد ترك سهماً من الإسلام، ومن تركهن -يعني جميعاً- فقد ولى الإسلام ظهره) أي: فقد ترك الإسلام؛ لأن أولهن التوحيد، والتوحيد هو أصل الدين وأساس الملة.
[ قال أبو عبيد : حدثنيه يحيى بن سعيد عن عطاء عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن رجل عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ].
هذا الحديث أخرجه جمع منهم الحاكم ، وصححه على شرط البخاري ووافقه الذهبي .
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فظن الجاهلون بوجوه هذه الأحاديث أنها متناقضة لاختلاف العدد منها، وهي -بحمد الله ورحمته- بعيدة عن التناقض، وإنما وجوهها ما أعلمتك من نزول الفرائض بالإيمان متفرقاً، وكلما نزلت واحدة ألحق رسول الله صلى الله عليه وسلم عددها بالإيمان، ثم كلما جدد الله له منها أخرى زادها في العدد حتى جاوز ذلك السبعين كلمة، كذلك في الحديث المثبت عنه أنه قال: (الإيمان بضعة وسبعون جزءاً، أفضلها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) ].
يقول رحمه الله تعالى: هذه الأحاديث التي فيها أن الإيمان أربع خصال وخمس وتسع ظن الجاهلون بوجوه هذه الأحاديث أنها متناقضة لاختلاف العدد، وهذا من جهلهم، ولكنها -بحمد الله- بعيدة عن التناقض، فالرسول عليه الصلاة والسلام كلامه يصدق بعضه بعضاً، يقول: [ وإنما وجوهها -أي: تأويلها- ما أعلمتك من نزول الفرائض بالإيمان متفرقاً، فنزول الفرائض كان شيئاً بعد شيء، وكلما نزلت واحدة قبلها المسلمون وعملوا بها، ثم يلحق الرسول صلى الله عليه وسلم عددها بالإيمان، ثم كلما جدد الله له منها أخرى زادها في العدد حتى جاوز ذلك السبعين كلمة، وفي الحديث المثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (الإيمان بضع وسبعون جزءاً) ] وفي لفظ: (الإيمان بضع وستون) والحديث رواه الشيخان، فرواية البخاري : (الإيمان بضع وستون جزءاً) ورواية مسلم : (الإيمان بضع وسبعون جزءاً) وذكر أعلاها وأدناها فقال: (أفضلها شهادة أن لا إله إلا الله -وفي لفظ: أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله- وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان).
وقد عد الإمام البيهقي رحمه الله هذه الشعب، وألف مؤلفاً وسماه شعب الإيمان، وتتبع هذه الشعب من النصوص حتى أوصلها إلى تسع وسبعين شعبة؛ فأوصلها إلى آخر البضع؛ لأن البضع من ثلاث إلى تسع.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أبو أحمد الزبيري عن سفيان بن سعيد عن سهيل بن أبي صالح عن عبد الله بن دينار عن أبي صالح عن أبي هريرة بهذا الحديث، وإن كان زائداً في العدد فليس هو بخلاف ما قبله، وإنما تلك دعائم وأصول ].
يعني: أن هذا الحديث وإن كان زاد في العدد فأوصله إلى بضع وسبعين فإنه لا يخالف الأحاديث التي قبله، وإنما تلك دعائم وأصول، مثل أركان الإسلام الخمسة، فالإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فهذه أصول الإيمان، والإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، فهذه أعمدة الإسلام وأسسه التي يرتكز عليها، فهذه هي الأصول والباقي شعب، فلا منافاة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وهذه فروعها زائدات في شعب الإيمان من غير تلك الدعائم، فنرى -والله أعلم- أن هذا القول آخر ما وصف به رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان؛ لأن العدد إنما تناهى به، وبه كملت خصاله ].
يقول: نرى أن هذا القول في هذا الحديث -أي: حديث (الإيمان بضع وسبعون شعبة)- آخر ما وصف به الرسول صلى الله عليه وسلم الإيمان، فتناهى العدد إلى بضع وسبعين شعبة، وبه كملت خصاله، والدليل على هذا أن الله أنزل بعد ذلك: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة:3] فدل على أن عدد الشرائع والخصال تناهى وكمل في بضع وسبعين شعبة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والمصدق له قول الله تبارك وتعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة:3].
قال أبو عبيد : حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب أن اليهود قالوا لـعمر بن الخطاب رحمة الله عليه -ورضي عنه-: إنكم تقرءون آية لو نزلت فينا لاتخذنا ذلك اليوم عيداً. فذكر هذه الآية فقال عمر : إني لأعلم حيث أنزلت، وأي يوم أنزلت، أنزلت بعرفة ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة. قال سفيان : وأشك أقال يوم الجمعة أم لا ].
هذا حديث ثابت في الصحيحين، وهو أن اليهود قالوا لـعمر بن الخطاب : إنكم تقرءون آية لو نزلت علينا معشر اليهود لاتخذنا يومها عيداً. فقال: أي آية؟ فقالوا: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]
فاليهود -والعياذ بالله- يعلمون الحق، ولكنهم لم يؤمنوا، بل عاندوا الحق، فهم يقولون: هذه الآية التي نزلت عليكم -أيها المسلمون- آية عظيمة، لو كانت نزلت علينا -معشر اليهود- لاتخذنا يومها عيداً. فقال عمر : أي آية؟ فقالوا: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3] فقال عمر : أنا أعلم اليوم الذي نزلت فيه، والمكان الذي نزلت فيه، فاليوم الذي نزلت فيه هو يوم عيد، والمكان الذي نزلت فيه مشعر من المشاعر، فقد نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة في حجة الوداع، وكان اليوم يوم جمعة، فهو يوم عيد.
والشاهد أن الآية الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3] من آخر ما نزل، فقد نزلت قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بثمانين يوماً أو باثنين وثمانين يوماً، فدل على أن خصال الإيمان تناهت وكملت في بضع وسبعين، هذا هو مقصود المؤلف رحمه الله.
[ قال أبو عبيد : حدثنا يزيد عن حماد عن حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمار قال: تلا ابن عباس هذه الآية وعنده يهودي، فقال اليهودي: لو أنزلت هذه الآية فينا لاتخذنا يومها عيداً. قال ابن عباس : فإنها نزلت في يوم عيد يوم جمعة ويوم عرفة.
قال أبو عبيد : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن داود بن أبي هند عن الشعبي قال: نزلت عليه وهو واقف بعرفة حين اضمحل الشرك وهدم منار الجاهلية ولم يطف بالبيت عريان ].
هذا الحديث مرسل؛ لأن الشعبي لم يسمع من عمر ، ولكن الحديث صحيح، إذ قد دلت عليه الأحاديث الصحيحة ومنها ما سبق.
فهذه الآية نزلت وهو واقف بعرفة حين اضمحل الشرك وهدم منار الجاهلية، ولما حج النبي صلى الله عليه وسلم كان قد حج قبله في السنة التاسعة أبو بكر ، فجعله أميراً على الناس، وكان معه مؤذنون يؤذنون في الناس أن لا يطوف بالبيت عريان، ولا يحج بعد العام مشرك.
وكانوا يحجون وهم مشركون، كان الآفاقي الذي يأتي من خارج مكة لا يطوف بثوبه الذي يأتي به، ويقول: هذا ثوب عصيت الله فيه فلا يصلح، فكان يستعير ثوباً من رجل من أهل مكة، فيقول: أعطني -جزاك الله خيراً- ثوباً أطوف فيه. فإن أعطاه طاف به، وإن لم يعطه طاف وهو عريان، حتى المرأة كانت تطلب ثوباً، فإذا لم تجد نزعت ثوبها وطافت عريانة، وتضع يدها على فرجها وتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله
وهذا من جهلهم! فالنبي صلى الله عليه وسلم أمَّر أبا بكر في السنة التاسعة على الحجاج، وأرسل معه مؤذنين يؤذنون في الناس يوم النحر بمنى أن لا يطوف بالبيت عريان، ولا يحج بعد العام مشرك، فالتزموا بذلك، فلما حج النبي صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة انتهى الطواف بالبيت مع العري، وانتهى حج المشركين، فلم يحج مشرك ولم يطف بالبيت عريان، وهذا معنى قوله: [ حين اضمحل الشرك وهدم منار الجاهلية ولم يطف بالبيت عريان ].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فذكر الله جل ثناؤه إكمال الدين في هذه الآية، وإنما نزلت -فيما يروى- قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بإحدى وثمانين ليلة ].
نزلت هذه الآية في اليوم التاسع من ذي الحجة، وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم بعدها بواحد وثمانين يوماً أو ببضع وثمانين يوماً على الخلاف في تحديد يوم وفاته صلى الله عليه وسلم.
[ قال أبو عبيد : كذلك حدثنا حجاج عن ابن جريج ، فلو كان الإيمان كاملاً بالإقرار ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة في أول النبوة كما يقول هؤلاء ما كان للكمال معنى، وكيف يكمل شيئاً قد استوعبه وأتى على آخره؟! ].
يقول المؤلف رحمه الله لو كان الإيمان كاملاً بالإقرار كما تقوله المرجئة؛ لأنهم يقولون: الإيمان يكمل بمجرد الإقرار الذي هو التصديق بالقلب، لو كان كذلك ما كان للكمال معنى في قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3]، فلو كان الإيمان كاملاً حينما كان الناس في مكة فكيف يقول: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3] وقد كمل في مكة؟ وكيف يكمل شيء قد استوعب وأتي على آخره؟! فالله تعالى يقول: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3] فمتى قال هذا؟ ومتى أنزلت الآية؟ لقد كان ذلك في نهاية العام في حجة الوداع بعد أن كمل الدين، وبعد أن نزلت الشرائع وفرضت الفرائض وحدت الحدود.
والمرجئة يقولون: إن الإيمان كان كاملاً في القلب حين كان المؤمنون المستضعفون في مكة قبل أن تفرض الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج!
وهو هنا يرد عليهم ويقول: لو كان الإيمان كاملاً بالإقرار والتصديق فقط ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة في أول النبوة لما كان للكمال معنى في قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3] فكيف يكمل شيء قد استوعب وأتي على آخره؟! فدل ذلك على بطلان هذا القول.
حكم من حكم بغير ما أنزل الله
الجواب: مسألة منع الزكاة فيها كلام لأهل العلم، لكن الذي ذكر هو الصواب من أقوال أهل العلم، فمانعوا الزكاة أيام الردة قاتلهم الصحابة، وحكموا عليهم بحكم المرتدين؛ لأنهم منعوها وقاتلوا عليها.
أما مسألة الحكم بغير ما أنزل الله ففيها تفصيل؛ إذ الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفراً أكبر وقد يكون كفراً أصغر، والله تعالى يقول: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]، ويقول تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45]، ويقول تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47].
وروي عن ابن عباس أنه قال: ليس بالكفر الذي تذهبون إليه.
فإذا فعله كفر به، وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر.
وروي عن عطاء أنه قال: كفر دون كفر.
ومن العلماء من تأول الآية على ترك الحكم بجميع ما أنزل الله، ومن ذلك الحكم بالتوحيد، ومن العلماء من تأولها على ترك الحكم بغير ما أنزل الله جحوداً، ومنهم من تأولها في أهل الكتاب، فالعلماء لهم فيها أقوال.
والصواب في هذه المسألة أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفراً أكبر، وقد يكون كفراً دون كفر، فإذا حكم بغير ما أنزل الله معتقداً أن الحكم بما أنزل الله لا يناسب العصر الحاضر، أو أن الإنسان مخير يجوز له أن يحكم بالشريعة وبغير الشريعة فهذا كفر وردة، مثل من يقول: إن الزنا حلال، أو: الربا حلال، أو: الخمر حلال. فهذا يقتل؛ لأنه استحل أمراً معلوماً من الدين بالضرورة تحريمه، أو أنكر أمراً معلوماً من الدين بالضرورة. فمن يقول: الزكاة غير واجبة، والصلاة غير واجبة يكفر، ولو كان يصلي ويزكي؛ لأنه أنكر أمراً معلوماً من الدين بالضرورة.
وأما من لا يزكي ويرى أن الزكاة واجبة فإنه لا يكفر، وكذلك من يقول: الزنا حلال، أو: الربا حلال، أو: الخمر حلال، فهذا يكفر؛ لأنه استحل أمراً معلوماً من الدين بالضرورة تحريمه، لكن من يزني، أو يشرب الخمر، ويعلم أن ذلك حرام، أو غلبه الجشع فتعامل بالربا، وغلبته الشهوة فزنى، وغلبه حب المال فسرق، فهذا إيمانه ضعيف وناقص وهو مرتكب لكبيرة، وهو متوعد، لكن لا يكفر.
وكذلك الحكم بغير ما أنزل الله، فالذي يحكم بغير ما أنزل الله ويرى أنه يجوز الحكم بالقوانين والآراء، وأنه لا حرج في ذلك، وأن الإنسان مخير فإن ما فعله كفر وردة، أما من حكم طاعة للهوى والشيطان، وهو يعلم أن الحكم بما أنزل الله واجب لكن حكم بغير ما أنزل الله لرشوة، أو لأجل أن ينفع المحكوم له، وهو يعلم أن الحكم بما أنزل الله واجب وأنه عاص ففعله كفر أصغر وكبيرة، ولا يكون كفراً أكبر.
فالمقصود أن هذا فيه تفصيل، وهذا الأمر قد بينه أهل العلم واستدلوا عليه بالنصوص، وعلى السائل أن يراجع ما كتبه العلماء على الآيات في ذلك، فليراجع تفسير الحافظ ابن كثير وغيره على هذه الآيات في سورة المائدة.
أدلة كون الإيمان قولاً وعملاً يزيد وينقص
الجواب: الأدلة في ذلك كثيرة، منها قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال:2-4] فجعل هذه الأمور كلها من الإيمان، وبعضها من أعمال القلوب، وبعضها من أعمال الجوارح، ومنها قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات:15]، وفي الحديث: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) وفي حديث وفد عبد القيس: (آمركم بالإيمان بالله، أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأن تؤدوا خمس ما غنمتم) فكل هذه الأدلة تدل على أن أعمال القلوب، وأعمال الجوارح، وأقوال الألسنة كلها داخلة في مسمى الإيمان.
موقف السلف من مرجئة الفقهاء
الجواب: لاشك في أن السلف صنفوا في هذا وفي هذا، ومن ذلك رسالة الإمام أبي عبيد في بيان مذهب الجهمية، لكن لفظ المرجئة إذا أطلق ينصرف في الغالب إلى المرجئة المحضة، ولهذا فإن مرجئة الفقهاء أنفسهم يسمون الجهمية مرجئة، ولا يسمون أنفسهم مرجئة.
والمقصود أن السلف ردوا على هؤلاء وهؤلاء، ولاشك في أن مذهب الجهمية مذهب خبيث وخطير، ولهذا بين العلماء مذهب الجهمية، والجهم يتزعم عقائد فاسدة، فـالجهم بن صفوان اشتهر بأربع عقائد: عقيدة نفي الصفات، وعقيدة الإرجاء، وهو القول بأن الأعمال ليست من الإيمان وليست مطلوبة، وعقيدة الجبر، وهو اعتقاد أن الإنسان مجبور على أفعاله، وعقيدة اعتقاد فناء الجنة والنار، فهذه أربع عقائد اشتهر بها الجهم لخبثه، والعلماء والأئمة صنفوا في مذهب الجهم وبيان بطلان هذه العقائد الخبيثة، ومنها الإرجاء، فبينوا هذا وحكموا على الجهم بالكفر، وشنعوا على الجهمية.
حكم من عقد الإيمان بقلبه وترك العمل
الجواب: عقده الإيمان يعني اعتقاده، فهو يعتقد الإيمان، ولا يعمل بأحكام الإسلام، أي: لا يؤدي الواجبات ولا ينتهي عن المحرمات، فمن قال: أنا مصدق ولكنه يرفض العمل فهو كافر، ولا يفيده الإيمان؛ لأنه مستكبر عن عبادة الله، كما أن إبليس كان كفره بالإباء والاستكبار، كما قال تعالى: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [البقرة:34]، وفرعون كان كفره بالإباء والاستكبار، واليهود كفرهم بالإباء والاستكبار، وأبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم كان كفره بالإباء والاستكبار، وهو القائل:
ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا
لكن حملته العصبية ومنعته من أن يشهد على قومه وعلى آبائه وأجداده بالكفر، فكان يستكبر عن عبادة الله واتباع رسوله، فالمقصود أن معنى ذلك أن من ادعى أنه مؤمن بقلبه ولكنه استكبر وأبى الالتزام بشرع الله ولم يعمل الواجبات وينتهي عن المحرمات؛ فإن كفره يكون بالإباء والاستكبار؛ لأن هذا الإيمان الذي في قلبه أو الذي اعتقده لابد له من عمل يتحقق به، فإذا رفض العمل فإنه يكون مستكبراً، وتكون دعواه الإيمان دعوى باللسان لا تفيده.
وذلك أنه لا يمكن أن يكون الإيمان تاماً في القلب بدون أن يعمل الإنسان، فهذا ليس بصحيح، فإذا كان الإيمان تاماً فلابد من أن يعمل، فليس هناك من يؤمن بالله ورسوله، ويعتقد أن الجنة حق وأن النار حق، ويصدق بالبعث والوقوف بين يدي الله، ويصدق بأن الصلاة فيها فضل عظيم وأجر كبير، وأنها تكفر الذنوب ثم يبقى طول عمره لا يصلي، ويقول: أنا مصدق لكن لن أصلي، وأعلم أن الصلاة جاء الوعيد الشديد على تركها ولكن لن أصلي. فهذا لا يكون مؤمناً أبداً، ولو كان في قلبه إيمان صادق لبعثه على العمل، فكيف يترك الصلاة طول عمره وهو يعلم ما أعد الله للمصلي من الثواب، ويعلم ما أعد الله على ترك الصلاة من العقاب، ويعلم الفضل والأجر الكبير الذي رتب على أداء الصلاة، والفضل العظيم الذي رتب على أجر الوضوء؟!
وسواء قال: إن الأعمال الظاهرة من لوازم الإيمان، أو جزء من الإيمان فالمقصود أنه لابد من العمل.
حكم القول بأن العمل شرط كمال في الإيمان
الجواب: لا أعلم لهذا القول أصلاً، وذلك أن جمهور أهل السنة يقولون: الإيمان قول باللسان، وتصديق بالقلب، وعمل بالقلب، وعمل بالجوارح، والإيمان عمل ونية يزيد بالطاعة وينقص بالمعاصي، فالعمل جزء من الإيمان، والإيمان مكون من هذه الأشياء، من تصديق القلب وقول اللسان وعمل الجوارح وعمل القلب، فكل هذه أجزاء الإيمان، فلابد من أن يقر المرء باللسان ويصدق بالقلب ويعمل بقلبه ويعمل بجوارحه. والمرجئة يقولون: الأعمال ليست من الإيمان، ولكنها دليل على الإيمان، أو هي من مقتضى الإيمان أو هي ثمرة الإيمان.
أما القول بأن العمل شرط كمال أو شرط صحة فلا أعلم له أصلاً من قول المرجئة ولا من قول أهل السنة، فليس العمل شرط كمال ولا شرط صحة، وإنما هو جزء من الإيمان، والقول بأنه شرط كمال أو صحة لا يوافق مذهب المرجئة، ولا مذهب جمهور أهل السنة، بل قد يقال: إنه يوافق مذهب المرجئة من جهة أنهم أخرجوا الأعمال عن مسمى الإيمان في الجملة، فهو أقرب ما يكون إلى مذهب المرجئة، فالذي يقول: إن العمل شرط كمال أو شرط صحة نقول له: هذا مذهب المرجئة التي أخرجت الأعمال عن مسمى الإيمان، فإما أن تقول: العمل داخل في مسمى الإيمان أو جزء من الإيمان، وإما أن تقول: العمل ليس من الإيمان، فإن قلت: العمل ليس من الإيمان فأنت من المرجئة، سواء أقلت: شرط كمال، أم قلت: شرط صحة، أم قلت: هو دليل على الإيمان، أم قلت: هو مقتضى الإيمان، أم قلت: هو ثمرة الإيمان، فكل من أخرج العمل من الإيمان فهو من المرجئة، ولكني لا أعلم أن المرجئة جعلوا الأعمال شرط كمال للإيمان.
الجمع بين حديث البطاقة وجعل أهل السنة العمل من الإيمان
الجواب: لا منافاة بينها، فحديث البطاقة ليس فيه أنه أخرج الأعمال من الإيمان، لكن الذي فيه أنه يؤتى برجل يوم القيامة ويوقف بين يدي الله، ويخرج له تسعة وتسعون سجلاً كل سجل مد البصر، وكلها سيئات، فيقر بكل ما فيها، فيقال له: هل لك من حسنة؟ فيقول: لا. فلا يذكر شيئاً، فيقول الله له: بلى إنك لا تظلم، إن لك عندنا حسنة. فتخرج له بطاقة فيهما شهادة أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فتوضع البطاقة في كفة والسجلات في كفة فتطيش السجلات وتثقل البطاقة، فيغفر الله له.
قال العلماء: إن كل مؤمن له مثل هذه الشهادة، ومع ذلك فإن بعض المؤمنين يعذب في النار، وهذا لم يعذب، قال العلماء: إن هذا الشخص قال هذه الكلمة عن صدق وإخلاص وتوبة نصوح فأحرقت جميع السيئات وقضت عليها، فيكون قد قالها عند الموت، أو قالها عن توبة فأحرقت هذه السيئات وقضت عليها.
الحكم على حديث الذباب
الجواب: إذا كان المقصود بذلك حديث: (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه ثم لينزعه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء) فهذا الحديث ثابت في صحيح البخاري ، وهو أصح الكتب بعد كتاب الله، ولا إشكال فيه.
وأما إذا كان المقصود حديث طارق بن شهاب (دخل رجل النار في ذباب) فالحديث ثابت عن طارق بن شهاب ، وهو حديث صحيح، وهو مرسل صحابي، والصحابة يروون عن الصحابة.
الفرق بين مطلق الإيمان والإيمان المطلق
الجواب: مطلق الإيمان يراد به أصل الإيمان، والإيمان المطلق كمال الإيمان، فالعاصي يثبت له مطلق الإيمان، ولا يثبت له الإيمان المطلق، بل يقال: هو مؤمن ناقص الإيمان.
أثر التكفير في الآخرة
الجواب: من حكم عليه بالكفر المخرج من الملة فإنه يحكم عليه بالخلود في النار، فكل كافر كفراً أكبر مخلد في النار نسأل الله السلامة والعافية، فمن وقع في الشرك الأكبر، أو في الكفر الأكبر، أو في النفاق الأكبر ومات على ذلك من غير توبة فهو مخلد في النار، فإن تاب توبة نصوحاً قبل الموت تاب الله عليه.
الفرق بين الإعراض عن دين الله وترك العمل
الجواب: الإعراض عن دين الله هو أن يعرض عن دين الله فلا يتعلمه ولا يعبد الله، فهو كافر، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ [الأحقاف:3].
أعمال العهد المكي ومنزلتها من الإيمان
الجواب: حتى لو هاجروا إلى الحبشة، لم يكن في العهد المكي صلاة ولا زكاة ولا صيام ولا حج ولا حدود ولا غيرها، والشرائع ما شرعت إلا في المدينة، إلا الصلاة فإنها فرضت قبل الهجرة بسنة أو سنتين أو ثلاث.
فمقصود المؤلف أن الواجب علينا أولاً التوحيد، ففي مكة أوجب الله التوحيد، أما الشرائع فلم تفرض إلا في المدينة بعد الهجرة.
حكم من سب الله ورسوله عند مرجئة الفقهاء
الجواب: المرجئة يرون أن الكفر لا يكون إلا بالجحود، ويقولون: الجحود دليل على الكفر، أما جمهور أهل السنة وأهل الحق فإنهم يرون أن نفس السب كفر، ونفس الاستهزاء كفر، أما أولئك فيقولون: ليس ذلك كفراً، لكنه دليل على الكفر ودليل على ما في قلب المرء، ولو سجد للصنم فإنهم يقولون: السجود ليس بكفر، لكنه دليل على ما في قلبه وعلى أنه جحد حق الله فكان كافراً، ولذلك سب الله، فهو دليل على ما في قلبه من الجحود، وأما أهل السنة فيقولون: نفس السجود للصنم كفر مستقل، ونفس الاستهزاء كفر مستقل؛ لأن الكفر يكون بالقلب، ويكون باللسان، ويكون بالجوارح، ويكون بالاستكبار والرفض والإعراض عن دين الله.
حكم تارك بعض الصلوات
الجواب: هذه المسألة خلافية بين أهل العلم، فمن العلماء من قال: إنه لا يكفر إلا إذا ترك الصلوات كلها، أما من كان يصلي ويترك بعضاً من الصلاة فإنه لا يكفر حتى يترك جميع الصلوات.
وقال قوم من أهل العلم: يكفر إذا ترك فرضاً واحداً متعمداً وليس له عذر حتى خرج الوقت، واستدلوا بما جاء في صحيح البخاري من حديث بريدة بن حصيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله) والذي يحبط عمله هو الكافر، وهذا أصح الأقوال، وهو أنه إذا ترك فرضاً واحداً متعمداً حتى خرج الوقت وليس له عذر كفر، أما إذا كان نائماً نوماً يعذر فيه، أو كان متأولاً، مثل بعض المرضى في المستشفى يتأول فلا يصلي، فإذا قيل له: لماذا لا تصلي؟ قال: كيف أصلي وثيابي نجسة، ولا أستطيع أن أتوضأ؟! لكن إذا خرجت من المستشفى غسلت ثيابي وصليت، فمن قال لك: إنك ستخرج من المستشفى؟! فقد تموت ولا تخرج من المستشفى، ثم لو قدر أنك تخرج فكيف لك أن تترك الصلاة؟
ولهذا ينبغي لطلبة العلم إذا زاروا المرضى في المستشفى أن يبينوا لهم أنه يجب على المريض أن يصلي على حسب حاله، وما عجز عنه سقط، فإذا استطعت أن تتوضأ فتوضأ وإلا فتيمم، وإذا استطعت أن تغسل ثيابك فاغسلها، وإذا استطعت أن توجه السرير إلى القبلة فوجهه، وإن لم تستطع صل على حسب حالك، فقد قال الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـعمران بن حصين : (صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب) وزاد النسائي : (فإن لم تستطع فمستلقي) والصحابة الذين أرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الغزوات قبل أن يشرع التيمم في طلب عقد عائشة أدركتهم الصلاة ولم يشرع التيمم، فصلوا بغير ماء ولا تراب، فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم، وفاقد الطهورين -وهو الذي ليس عنده ماء ولا تراب كأن يكون مصلوباً على خشبة- إذا جاء وقت الصلاة فإنه يصلي ولو بغير وضوء وتيمم؛ لقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].
حكم التكلم بالكفر
الجواب: هذا الحديث ثابت في الصحيحين وغيرهما، وهو أن رجلاً ممن كان قبلنا كان مسرفاً على نفسه، وفي لفظ: (لم يعمل خيراً) فلما حضرته الوفاة جمع بنيه وأهله وقال: أي أب كنت لكم؟ فأثنوا عليه خيراً. فقال: إنه لم يعمل، وإن الله إذا بعثه ليعذبنه عذاباً شديداً، وجاء في بعض الروايات أنه كان نباشاً للقبور، فلما حضرته الوفاة جمعهم وأخذ عليهم الميثاق والعهد أنه إذا مات أحرقوه، ثم سحقوه ثم ذروه في البر، وفي لفظ: أنه أمرهم أن يذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، وقال: (لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً شديداً) وظن أنه في هذه الحالة يفوت على الله، ففعلوا به ذلك، فلما مات أحرقوه، ثم سحقوه وطحنوه، ثم ذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، وجاء في الحديث أن الله تعالى أمر البر فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه، فقال الله له: قم. فإذا هو إنسان قائم، فقال الله: ما الذي حملك على ذلك؟ قال: من خشيتك يا رب، فرحمه الله وغفر له.
وقد اختلف العلماء في هذا، فقال بعضهم: هذا في شرع من قبلنا وليس في شرعنا. وأصح ما قيل في ذلك ما أقره الأئمة والعلماء، وهو أن هذا الرجل كان جاهلاً، وأن جهله كان في أمر دقيق خفي بالنسبة إليه، وأن الذي حمله على ذلك ليس العناد ولا التكذيب، ولكن الذي حمله على ذلك الجهل مع الخوف العظيم، فاجتمع أمران، جهل مع خوف عظيم فغفر الله له، فهذا الرجل لم يكن مكذباً بالبعث، بل هو يثبت البعث ويعتقد أنه لو ترك ولم يحرق ولم يسحق سيبعث، ولم ينكر قدرة الله، وكان يظن أن الله قادر عليه، وإنما أنكر كمال تفاصيل القدرة، وظن أنه إذا وصل إلى هذه الحالة فات على الله ولم يدخل تحت القدرة، وهذا الظن ليس الذي حمله عليه هو العناد ولا التكذيب، وإنما الذي حمله أمران: الأمر الأول: الجهل، والجهل إنما هو في أمر دقيق خفي، وليس كل جاهل يعذر، فمن أنكر أمراً معلوماً لكل أحد وهو معلوم له فإنه لا يعفى عنه، ومثال ذلك: لو أن إنساناً تعامل بالربا في مجتمعنا الآن ثم نهيته عن الربا وقلت له: لماذا تتعامل بالربا؟ فقال: أنا جاهل لا أدري. فهل يعذر بالجهل؟ لا، وذلك لأن تحريم الربا يعرفه العام والخاص، لكن لو أن إنساناً أمريكياً أسلم في أمريكا وكان يعيش طول حياته في الربا، ولا يعرف إلا الربا، ثم تعامل بالربا، فلما قيل له: كيف أسلمت وتتعامل بالربا؟ قال: أنا لا أدري فإنه يعذر.
فالجاهل إذا كان جاهلاً في مسألة دقيقة خفية فإنه يعذر فيها، أما إذا كان الأمر واضحاً وليس دقيقاً ولا خفياً ومثله لا يُجهَل فإنه لا يعذر فيه، فهذا الرجل كان يجهل هذه المسألة، وهي دقيقة وخفية بالنسبة إليه، وظن أنه إذا وصل إلى هذه الحالة فات على الله ولم يدخل تحت القدرة، ولم ينكر البعث، ولم ينكر أصل قدرة الله، وإنما أنكر كمال تفاصيل القدرة فغفر الله له، وليس الذي حمله على ذلك التكذيب ولا العناد، وإنما الجهل مع الخوف العظيم، فغفر الله له، وهذا هو الصواب في هذه المسألة الذي قرره المحققون من أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره.
استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح كتاب الإيمان لأبي عبيد [2] | 1900 استماع |
شرح كتاب الإيمان لأبي عبيد [14] | 1832 استماع |
شرح كتاب الإيمان لأبي عبيد [9] | 1751 استماع |
شرح كتاب الإيمان لأبي عبيد [8] | 1745 استماع |
شرح كتاب الإيمان لأبي عبيد [10] | 1662 استماع |
شرح كتاب الإيمان لأبي عبيد [11] | 1655 استماع |
شرح كتاب الإيمان لأبي عبيد [5] | 1613 استماع |
شرح كتاب الإيمان لأبي عبيد [6] | 1438 استماع |
شرح كتاب الإيمان لأبي عبيد [12] | 1421 استماع |
شرح كتاب الإيمان لأبي عبيد [1] | 1292 استماع |