شرح كتاب الإيمان لأبي عبيد [6]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب: الاستثناء في الإيمان.

قال أبو عبيد : حدثنا يحيى بن سعيد عن أبي الأشهب عن الحسن قال: قال رجل عند ابن مسعود : أنا مؤمن. فقال ابن مسعود : أفأنت من أهل الجنة؟! فقال: أرجو، فقال ابن مسعود : أفلا وكلت الأولى كما وكلت الأخرى؟ ].

هذا الأثر عن ابن مسعود رضي الله عنه وإن كان قال صاحب الحاشية: إن سنده منقطع له شواهد تقويه وتشده.

وقوله: [ قال رجل عند ابن مسعود : أنا مؤمن ] أي أنه لم يستثن، فكأنه يزكي نفسه، فلم يقل إن شاء الله، فقال ابن مسعود : [ أفأنت من أهل الجنة؟!] أي: تستطيع أن تقول: إنك من أهل الجنة؟! قال: أرجو. فقال: لماذا لم تقل في الإيمان: أنا مؤمن أرجو، أفلا وكلت الأولى إلى مشيئة الله كما وكلت الأخرى إلى مشيئة الله؟! وذلك لأن شعب الإيمان متعددة، فلا يجزم الإنسان بأنه قد عملها، فالإنسان محل النقص والتقصير، يتطرق إليه النقص والخلل في أداء الواجبات وفي ترك المحرمات، فلا يجزم الإنسان بأنه أدى ما عليه، ولا يزك نفسه، ولهذا يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، وقد أنكر ابن مسعود رضي الله عنه عليه على الرجل وقال: أفلا وكلت الأولى كما وكلت الأخرى؟! لأنه استثنى في الثانية ولم يستثن في الأولى.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال أبو عبيد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان بن سعيد عن الأعمش عن أبي وائل قال: جاء رجل إلى عبد الله فقال: بينا نحن نسير إذ لقينا ركباً، فقلنا: من أنتم؟ فقالوا: نحن المؤمنون؟ فقال: أولا قالوا: إنا من أهل الجنة؟! ].

أي: أنكر عليهم قولهم: نحن المؤمنون دون أن يستثنوا، وقال: أولا قالوا: إنا من أهل الجنة؟! أي: من جزم بأنه مؤمن فليجزم بأنه من أهل الجنة، وفي هذا إنكار عليهم، فكما أنك لا تجزم بأنك من أهل الجنة فلا تجزم بأنك مؤمن بإطلاق وأنك أديت ما عليك، بل أنت محل النقص والتقصير، فينبغي أن تستثني وتقول: أنا مؤمن إن شاء الله.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا يحيى بن سعيد ومحمد بن جعفر كلاهما عن شعبة عن سلمة بن كهيل عن إبراهيم عن علقمة قال: قال رجل عند عبد الله : أنا مؤمن، فقال عبد الله : فقل: إني في الجنة، ولكن آمنا بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله ].

علقمة من أصحاب عبد الله بن مسعود، وقد أنكر عبد الله بن مسعود على من قال: (أنا مؤمن) ولم يستثن، فقال عبد الله : فقل: إني في الجنة! يعني: إذا جزمت بأنك مؤمن فاجزم بأنك في الجنة، ولكن قل: آمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله، وهذا هو أصل الإيمان، ولهذا قيل لبعض السلف: أنت مؤمن؟ فقال: أنا مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. أي: هذا أصل الإيمان، أما أن يجزم بأنه مؤمن كامل الإيمان فلا.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن محل بن محرز قال: قال لي إبراهيم : إذا قيل لك: أمؤمن أنت؟ فقل: آمنت بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله ].

لعل إبراهيم هنا هو إبراهيم النخعي، يقول: إذا قيل لك: أمؤمن أنت؟ فقل: آمنت بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، يعني: تجزم بأنك مؤمن لكن لا تجزم بأنك أديت الواجبات وتركت المحرمات فتقول: أنا مؤمن بإطلاق، ولهذا قال: قل: آمنت بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال: إذا قيل لك: أمؤمن أنت؟ فقل: آمنت بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله ].

طاوس هو طاوس بن كيسان اليماني التابعي الجليل، وهنا روى ابن طاوس عن أبيه طاوس أنه قال: إذا قيل لك: أمؤمن أنت؟ فقل: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله. وهذا هو أصل الدين، أما أن تقول: أنا مؤمن وتسكت فلا، فلا تزك نفسك.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا عبد الرحمن عن حماد بن زيد عن يحيى بن عتيق عن محمد بن سيرين قال: إذا قيل لك: أمؤمن أنت؟ فقل: آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ [البقرة:136] ].

أي: هذا أصل الإيمان.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا جرير بن عبد الحميد عن منصور عن إبراهيم قال: قال رجل لـعلقمة : أمؤمن أنت؟ فقال: أرجو إن شاء الله ].

علقمة هو من أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قيل له: أمؤمن أنت؟ فلم يجزم واستثنى وقال: أرجو إن شاء الله. وذلك لأن الإنسان محل التقصير، فلا يجزم بأنه أدى ما عليه، فالخلل والتقصير حاصل في أداء الواجبات وترك المحرمات، ولهذا قال: أرجو إن شاء الله، وهذا مذهب جمهور أهل السنة والجماعة.

توجيه كراهة الاستثناء في الإيمان

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال أبو عبيد : ولهذا كان يأخذ سفيان ومن وافقه الاستثناء فيه، وإنما كراهتهم عندنا أن يبتوا الشهادة بالإيمان مخافة ما أعلمتكم في الباب الأول من التزكية والاستكمال عند الله، وأما على أحكام الدنيا فإنهم يسمون أهل الملة جميعاً مؤمنين؛ لأن ولايتهم وذبائحهم وشهاداتهم ومناكحتهم وجميع سنتهم إنما هي على الإيمان، ولهذا كان الأوزاعي يرى الاستثناء وتركه جميعاً واسعين ].

هذا تعقيب من المؤلف رحمه الله على هذه الآثار ليبين وجه ذلك، فقال: [ولهذا كان يأخذ سفيان] أي: سفيان الثوري [ومن وافقه الاستثناء فيه] يعني: في الإيمان، فإذا قيل له: أمؤمن أنت؟ يقول: إن شاء الله، ولا يجزم، ويكره أن يقول: أنا مؤمن ويسكت، ووجه ذلك قوله: [ وإنما كراهتهم عندنا أن يبتوا الشهادة بالإيمان مخافة ما أعلمتكم به في الباب الأول من التزكية والاستكمال عند الله ]، فهذا وجه كونهم يستثنون، فهم يستثنون ولا يجزمون لأنفسهم بأنهم قد أدوا ما أوجب الله عليهم، وتركوا ما حرم الله عليهم، ويخشون من تزكية النفس؛ لأن الإنسان محل تقصير، فمتى قال: (أنا مؤمن) ولم يستثن فقد زكى نفسه، وشهد لنفسه بأنه تام كامل الإيمان عند الله، وهذا لا يستطيع الإنسان أن يجزم به.

قال: [ وأما على أحكام الدنيا فإنهم يسمون أهل الملة جميعاً مؤمنين ] أي: بالنسبة للأحكام فإنهم يقولون: إن الناس كلهم مؤمنون، الفاسق والعاصي والمطيع كلهم يسمونهم مؤمنين [ لأن ولايتهم وذبائحهم وشهاداتهم ومناكحتهم وجميع سنتهم إنما هي على الإيمان ] فولي المرأة الذي يعقد النكاح لها يشترط أن يكون مؤمناً، ولو كان فاسقاً ولو كان عاصياً، فالولاية ليست هي مجرد اسم الإيمان، وتصح ذبيحة المؤمن ولو كان عاصياً، والشهادة كذلك، وفي النكاح يزوج الرجل ولو كان عاصياً.

وقوله: [ وجميع سنتهم إنما هي على الإيمان ] أي: هذه الأحكام إنما تتعلق بأصل الإيمان، أعني الولاية، والذبائح، والشهادات، والنكاح، أما الجزم بأن الإنسان مؤمن وأنه أدى ما عليه فهذا لابد من الاستثناء فيه، قال: [ولهذا كان الأوزاعي يرى الاستثناء وتركه جميعاً واسعين ].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال أبو عبيد : حدثنا محمد بن كثير عن الأوزاعي قال: من قال: أنا مؤمن فحسن، ومن قال: أنا مؤمن إن شاء الله فحسن؛ لقول الله عز وجل: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح:27]، وقد علم أنهم داخلون ].

والجمهور من السلف والصحابة والتابعين يرون الاستثناء، وبعض العلماء كـالأوزاعي يرى أن الأمر واسع، فلك أن تستثني ولك ألا تستثني.

ولهذا روى أبو عبيد بالسند عن الأوزاعي أنه قال: من قال: أنا مؤمن -يعني: بدون استثناء- فحسن، ومن قال: أنا مؤمن إن شاء الله فحسن. يعني: فهو مخير، واستدل بقول الله عز وجل: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح:27]، وقد علم أنهم داخلون، فدل على أنه لا بأس بالاستثناء، فمن استثنى فقد استدل بالآية.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وهذا عندي وجه حديث عبد الله حين أتاه صاحب معاذ فقال: ألم تعلم أن الناس كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أصناف: مؤمن ومنافق وكافر، فمن أيهم كنت؟ قال: من المؤمنين. إنما نراه أراد أني كنت من أهل هذا الدين لا من الآخرين، فأما الشهادة بها عند الله فإنه كان عندنا أعلم بالله وأتقى له من أن يريده، فكيف يكون ذلك والله يقول: فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم:32] ].

قول المؤلف: [وهذا عندي وجه حديث عبد الله] هو ابن مسعود- [حين أتاه صاحب معاذ فقال له: ألم تعلم أن الناس كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أصناف: مؤمن ومنافق وكافر] هؤلاء: ذكرهم الله في أول سورة البقرة، فذكر المؤمنين باطناً وظاهراً في أربع آيات، والكفار ظاهراً وباطناً في آيتين، والمنافقين -وهم الكفار باطناً والمؤمنون ظاهراً- في ثلاث عشرة آية.

فقال له صاحب معاذ : فمن أيهم كنت؟ فقال: من المؤمنين: ولم يقل من المؤمنين إن شاء الله. يقول المؤلف وجه ذلك أنه على مذهب الأوزاعي يجوز الاستثناء وعدم الاستثناء، قال: [فإنما نراه أنه أراد أني كنت من أهل هذا الدين لا من الآخرين] فمقصوده: أني كنت من أهل الإيمان، لا من الآخرين المنافقين والكافرين؛ لأن الإيمان في مقابل الكفر والنفاق، وليس مقصوده أنه يشهد عند الله أنه مؤمن كامل الإيمان أو أنه يزكي نفسه، ولهذا قال: [ فأما الشهادة بها عند الله فإنه كان عندنا أعلم بالله وأتقى له من أن يريده ] أي: من أن يريد أنه كامل الإيمان، فكيف يكون ذلك والله يقول: فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم:32].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والشاهد على ما نظن أنه كان قبل هذا لا يقول: أنا مؤمن على تزكية ولا على غيرها، ولا نراه أنه كان ينكره على قائله بأي وجه كان، إنما كان يقول: آمنت بالله وكتبه ورسله، لا يزيد على هذا اللفظ، وهو الذي كان أخذ به إبراهيم وطاوس وابن سيرين ].

أي أن الشاهد على أنه يريد أصل الإيمان ولا يريد التزكية أنه كان قبل هذا لا يقول: أنا مؤمن يريد به تزكية ولا غيرها، قال: [ولا نراه أنه كان ينكره على قائله بأي وجه كان، إنما كان يقول: آمنت بالله وكتبه ورسله لا يزيد على هذا اللفظ]؛ لأن هذا أصل الإيمان، وأما إطلاق الإيمان بدون استثناء يريد به التزكية فهذا لا يمكن أن يظن به، وقوله: [ولا نراه أنه كان ينكر على قائله بأي وجه كان]؛ لأن الأوزاعي وجماعة يرون الاستثناء وعدمه سواء، وهو الذي أخذ به إبراهيم وطاوس وابن سيرين فكلهم يرون أنه يجوز الاستثناء وعدم الاستثناء.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ثم أجاب عبد الله إلى أن قال: أنا مؤمن، فإن كان الأصل محفوظاً عنه فهو عندي على ما أعلمتك ].

أي: في الأول كان ينكر أن يقول: أنا مؤمن، ثم أجاب فقال: أنا مؤمن، فإن صح هذا عنه وثبت فهذا وجهه، وهو أنه يريد أصل الإيمان، أو يريد أن الأمر واسع على ما ذهب إليه إبراهيم وطاوس وابن سيرين والأوزاعي .

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد رأيت يحيى بن سعيد ينكره، ويطعن في إسناده؛ لأن أصحاب عبد الله على خلافه ].

هذا الأثر ضعيف؛ لأن في سنده رجلاً لم يسم، ولهذا يقول المؤلف: فقد رأيت يحيى بن سعيد ينكر هذا الأثر عن عبد الله، وهو أنه لما سئل قال: أنا مؤمن وسكت، فهذا لم يثبت عن عبد الله ؛ لأن يحيى بن سعيد أنكر هذا الأثر وطعن في إسناده، لأن أصحاب عبد الله بن مسعود على خلاف ذلك، وأنه لابد من الاستثناء، لكن لو صح فهو يحمل على أن المراد أصل الإيمان أو أن المراد أن الأمر واسع على مذهب ابن سيرين وطاوس وإبراهيم والأوزاعي، لكنه لا يصح؛ لأنه مطعون في سنده، ويدل على ذلك أن أصحاب عبد الله على خلاف ذلك.

توجيه كلام المجيزين ترك الاستثناء في الإيمان

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وكذلك نرى مذهب الفقهاء الذين كانوا يتسمون بهذا الاسم بلا استثناء، فيقولون: نحن مؤمنون، منهم عبد الرحمن السلمي وإبراهيم التيمي وعون بن عبد الله ومن بعدهم مثل: عمر بن ذر والصلت بن بهرام ومسعر بن كدام ومن نحا نحوهم، إنما هو عندنا منهم على الدخول في الإيمان لا على الاستكمال ].

مما يؤيد أن هذا الأثر لم يصح عن ابن مسعود، وأنه مطعون في سنده أن مذهب الفقهاء الذين يتسمون بهذا الاسم بلا استثناء -أي: الذين يقول الواحد منهم: أنا مؤمن ولا يستثني، ومقصودهم الإيمان العام بالدخول فيه لا الإيمان الكامل- منهم عبد الرحمن السلمي وإبراهيم التيمي وعون بن عبد الله وعمر بن ذر والصلت بن بهرام ومسعر بن كدام.

ثم أيد ذلك بتأييد بعده فقال رحمه الله تعالى: [ ألا ترى أن الفرق بينهم وبين إبراهيم وبين ابن سيرين وطاوس إنما كان أن هؤلاء كانوا لا يتسمون به أصلاً وكان الآخرون يتسمون به ].

يقول: مما يؤيد هذا أن الفرق بينهم -أي: بين الذين يطلقون الإيمان وبين الذين يستثنون- إنما كان أن هؤلاء كانوا لا يتسمون به أصلاً، وكان الآخرون يتسمون به، أي أن الذين منعوا من قول: (أنا مؤمن) إنما يقصدون إذا قصد كمال الإيمان واستكماله، فلابد من أن يقول: إن شاء الله، ومن أجاز وقال: أنا مؤمن إنما مراده التسمي بالإيمان والدخول فيه، فلا يلزمه الاستثناء، فيقول: أنا مؤمن، يعني: دخلت في الإيمان وتسميت به، وأما من أراد (أنا مؤمن) أي: استكملت الإيمان فلابد من أن يستثني.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال أبو عبيد : ولهذا كان يأخذ سفيان ومن وافقه الاستثناء فيه، وإنما كراهتهم عندنا أن يبتوا الشهادة بالإيمان مخافة ما أعلمتكم في الباب الأول من التزكية والاستكمال عند الله، وأما على أحكام الدنيا فإنهم يسمون أهل الملة جميعاً مؤمنين؛ لأن ولايتهم وذبائحهم وشهاداتهم ومناكحتهم وجميع سنتهم إنما هي على الإيمان، ولهذا كان الأوزاعي يرى الاستثناء وتركه جميعاً واسعين ].

هذا تعقيب من المؤلف رحمه الله على هذه الآثار ليبين وجه ذلك، فقال: [ولهذا كان يأخذ سفيان] أي: سفيان الثوري [ومن وافقه الاستثناء فيه] يعني: في الإيمان، فإذا قيل له: أمؤمن أنت؟ يقول: إن شاء الله، ولا يجزم، ويكره أن يقول: أنا مؤمن ويسكت، ووجه ذلك قوله: [ وإنما كراهتهم عندنا أن يبتوا الشهادة بالإيمان مخافة ما أعلمتكم به في الباب الأول من التزكية والاستكمال عند الله ]، فهذا وجه كونهم يستثنون، فهم يستثنون ولا يجزمون لأنفسهم بأنهم قد أدوا ما أوجب الله عليهم، وتركوا ما حرم الله عليهم، ويخشون من تزكية النفس؛ لأن الإنسان محل تقصير، فمتى قال: (أنا مؤمن) ولم يستثن فقد زكى نفسه، وشهد لنفسه بأنه تام كامل الإيمان عند الله، وهذا لا يستطيع الإنسان أن يجزم به.

قال: [ وأما على أحكام الدنيا فإنهم يسمون أهل الملة جميعاً مؤمنين ] أي: بالنسبة للأحكام فإنهم يقولون: إن الناس كلهم مؤمنون، الفاسق والعاصي والمطيع كلهم يسمونهم مؤمنين [ لأن ولايتهم وذبائحهم وشهاداتهم ومناكحتهم وجميع سنتهم إنما هي على الإيمان ] فولي المرأة الذي يعقد النكاح لها يشترط أن يكون مؤمناً، ولو كان فاسقاً ولو كان عاصياً، فالولاية ليست هي مجرد اسم الإيمان، وتصح ذبيحة المؤمن ولو كان عاصياً، والشهادة كذلك، وفي النكاح يزوج الرجل ولو كان عاصياً.

وقوله: [ وجميع سنتهم إنما هي على الإيمان ] أي: هذه الأحكام إنما تتعلق بأصل الإيمان، أعني الولاية، والذبائح، والشهادات، والنكاح، أما الجزم بأن الإنسان مؤمن وأنه أدى ما عليه فهذا لابد من الاستثناء فيه، قال: [ولهذا كان الأوزاعي يرى الاستثناء وتركه جميعاً واسعين ].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال أبو عبيد : حدثنا محمد بن كثير عن الأوزاعي قال: من قال: أنا مؤمن فحسن، ومن قال: أنا مؤمن إن شاء الله فحسن؛ لقول الله عز وجل: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح:27]، وقد علم أنهم داخلون ].

والجمهور من السلف والصحابة والتابعين يرون الاستثناء، وبعض العلماء كـالأوزاعي يرى أن الأمر واسع، فلك أن تستثني ولك ألا تستثني.

ولهذا روى أبو عبيد بالسند عن الأوزاعي أنه قال: من قال: أنا مؤمن -يعني: بدون استثناء- فحسن، ومن قال: أنا مؤمن إن شاء الله فحسن. يعني: فهو مخير، واستدل بقول الله عز وجل: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح:27]، وقد علم أنهم داخلون، فدل على أنه لا بأس بالاستثناء، فمن استثنى فقد استدل بالآية.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وهذا عندي وجه حديث عبد الله حين أتاه صاحب معاذ فقال: ألم تعلم أن الناس كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أصناف: مؤمن ومنافق وكافر، فمن أيهم كنت؟ قال: من المؤمنين. إنما نراه أراد أني كنت من أهل هذا الدين لا من الآخرين، فأما الشهادة بها عند الله فإنه كان عندنا أعلم بالله وأتقى له من أن يريده، فكيف يكون ذلك والله يقول: فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم:32] ].

قول المؤلف: [وهذا عندي وجه حديث عبد الله] هو ابن مسعود- [حين أتاه صاحب معاذ فقال له: ألم تعلم أن الناس كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أصناف: مؤمن ومنافق وكافر] هؤلاء: ذكرهم الله في أول سورة البقرة، فذكر المؤمنين باطناً وظاهراً في أربع آيات، والكفار ظاهراً وباطناً في آيتين، والمنافقين -وهم الكفار باطناً والمؤمنون ظاهراً- في ثلاث عشرة آية.

فقال له صاحب معاذ : فمن أيهم كنت؟ فقال: من المؤمنين: ولم يقل من المؤمنين إن شاء الله. يقول المؤلف وجه ذلك أنه على مذهب الأوزاعي يجوز الاستثناء وعدم الاستثناء، قال: [فإنما نراه أنه أراد أني كنت من أهل هذا الدين لا من الآخرين] فمقصوده: أني كنت من أهل الإيمان، لا من الآخرين المنافقين والكافرين؛ لأن الإيمان في مقابل الكفر والنفاق، وليس مقصوده أنه يشهد عند الله أنه مؤمن كامل الإيمان أو أنه يزكي نفسه، ولهذا قال: [ فأما الشهادة بها عند الله فإنه كان عندنا أعلم بالله وأتقى له من أن يريده ] أي: من أن يريد أنه كامل الإيمان، فكيف يكون ذلك والله يقول: فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم:32].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والشاهد على ما نظن أنه كان قبل هذا لا يقول: أنا مؤمن على تزكية ولا على غيرها، ولا نراه أنه كان ينكره على قائله بأي وجه كان، إنما كان يقول: آمنت بالله وكتبه ورسله، لا يزيد على هذا اللفظ، وهو الذي كان أخذ به إبراهيم وطاوس وابن سيرين ].

أي أن الشاهد على أنه يريد أصل الإيمان ولا يريد التزكية أنه كان قبل هذا لا يقول: أنا مؤمن يريد به تزكية ولا غيرها، قال: [ولا نراه أنه كان ينكره على قائله بأي وجه كان، إنما كان يقول: آمنت بالله وكتبه ورسله لا يزيد على هذا اللفظ]؛ لأن هذا أصل الإيمان، وأما إطلاق الإيمان بدون استثناء يريد به التزكية فهذا لا يمكن أن يظن به، وقوله: [ولا نراه أنه كان ينكر على قائله بأي وجه كان]؛ لأن الأوزاعي وجماعة يرون الاستثناء وعدمه سواء، وهو الذي أخذ به إبراهيم وطاوس وابن سيرين فكلهم يرون أنه يجوز الاستثناء وعدم الاستثناء.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ثم أجاب عبد الله إلى أن قال: أنا مؤمن، فإن كان الأصل محفوظاً عنه فهو عندي على ما أعلمتك ].

أي: في الأول كان ينكر أن يقول: أنا مؤمن، ثم أجاب فقال: أنا مؤمن، فإن صح هذا عنه وثبت فهذا وجهه، وهو أنه يريد أصل الإيمان، أو يريد أن الأمر واسع على ما ذهب إليه إبراهيم وطاوس وابن سيرين والأوزاعي .

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد رأيت يحيى بن سعيد ينكره، ويطعن في إسناده؛ لأن أصحاب عبد الله على خلافه ].

هذا الأثر ضعيف؛ لأن في سنده رجلاً لم يسم، ولهذا يقول المؤلف: فقد رأيت يحيى بن سعيد ينكر هذا الأثر عن عبد الله، وهو أنه لما سئل قال: أنا مؤمن وسكت، فهذا لم يثبت عن عبد الله ؛ لأن يحيى بن سعيد أنكر هذا الأثر وطعن في إسناده، لأن أصحاب عبد الله بن مسعود على خلاف ذلك، وأنه لابد من الاستثناء، لكن لو صح فهو يحمل على أن المراد أصل الإيمان أو أن المراد أن الأمر واسع على مذهب ابن سيرين وطاوس وإبراهيم والأوزاعي، لكنه لا يصح؛ لأنه مطعون في سنده، ويدل على ذلك أن أصحاب عبد الله على خلاف ذلك.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وكذلك نرى مذهب الفقهاء الذين كانوا يتسمون بهذا الاسم بلا استثناء، فيقولون: نحن مؤمنون، منهم عبد الرحمن السلمي وإبراهيم التيمي وعون بن عبد الله ومن بعدهم مثل: عمر بن ذر والصلت بن بهرام ومسعر بن كدام ومن نحا نحوهم، إنما هو عندنا منهم على الدخول في الإيمان لا على الاستكمال ].

مما يؤيد أن هذا الأثر لم يصح عن ابن مسعود، وأنه مطعون في سنده أن مذهب الفقهاء الذين يتسمون بهذا الاسم بلا استثناء -أي: الذين يقول الواحد منهم: أنا مؤمن ولا يستثني، ومقصودهم الإيمان العام بالدخول فيه لا الإيمان الكامل- منهم عبد الرحمن السلمي وإبراهيم التيمي وعون بن عبد الله وعمر بن ذر والصلت بن بهرام ومسعر بن كدام.

ثم أيد ذلك بتأييد بعده فقال رحمه الله تعالى: [ ألا ترى أن الفرق بينهم وبين إبراهيم وبين ابن سيرين وطاوس إنما كان أن هؤلاء كانوا لا يتسمون به أصلاً وكان الآخرون يتسمون به ].

يقول: مما يؤيد هذا أن الفرق بينهم -أي: بين الذين يطلقون الإيمان وبين الذين يستثنون- إنما كان أن هؤلاء كانوا لا يتسمون به أصلاً، وكان الآخرون يتسمون به، أي أن الذين منعوا من قول: (أنا مؤمن) إنما يقصدون إذا قصد كمال الإيمان واستكماله، فلابد من أن يقول: إن شاء الله، ومن أجاز وقال: أنا مؤمن إنما مراده التسمي بالإيمان والدخول فيه، فلا يلزمه الاستثناء، فيقول: أنا مؤمن، يعني: دخلت في الإيمان وتسميت به، وأما من أراد (أنا مؤمن) أي: استكملت الإيمان فلابد من أن يستثني.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فأما على مذهب من قال: كإيمان الملائكة والنبيين فمعاذ الله، ليس هذا طريق العلماء ].

أي: أما قول: أنا مؤمن إيماناً كاملاً كإيمان الملائكة وإيمان النبيين فمعاذ الله أن يقوله أحد من أهل العلم، وكيف يجزم الإنسان بأن إيمانه كإيمان النبيين والملائكة؟!

فمن قال: أنا مؤمن وسكت ليس مقصوده الإيمان الكامل كإيمان الملائكة والنبيين، وإنما مقصوده التسمي بالإيمان والدخول فيه، فلهذا قال: [فأما على مذهب من قال: كإيمان الملائكة والنبيين فمعاذ الله، ليس هذا طريق العلماء].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد جاءت كراهيته مفسرة عند عدة منهم ].

أي: جاءت كراهية إطلاق الإيمان بدون استثناء مفسرة عن عدة من علماء السلف.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا هشيم -أو حدثت عنه- عن جويبر عن الضحاك : أنه كان يكره أن يقول الرجل: أنا على إيمان جبريل وميكائيل عليهما السلام ].

وهذا الأثر دليل على أنه يكره أن يقول الإنسان: أنا مؤمن كإيمان جبريل وميكائيل، والمراد به المنع، أي: يمنع ويحرم، وقد تروى الكراهية عند السلف ويراد بها كراهة التحريم.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا سعيد بن أبي مريم المصري عن نافع عن عمر الجمحي قال : سمعت ابن أبي مليكة وقال له إنسان: إن رجلاً في مجالسك يقول: إن إيمانه كإيمان جبرائيل، فأنكر ذلك وقال: سبحان الله! كيف يقول ذلك والله قد فضل جبريل عليه السلام في الثناء على محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير:19-21] ].

أي: لما قال: إن إيمانه كإيمان جبرائيل وميكائيل أنكر عليه وقال: سبحان الله! متعجباً من ذلك، ثم قال: كيف يقول: إيماني كإيمان جبرائيل والله تعالى فضل جبريل بالثناء على محمد فقال: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير:19-21]؟! أي أنه سبحانه وصفه بهذه الأوصاف، ووصف نبيه بقوله: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ [الحاقة:40-41]، ومسألة تفضيل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم مسألة خلافية بين أهل العلم، أصلها: هل الأنبياء وصالحوا البشر أفضل من الملائكة أم الملائكة أفضل؟ والصواب أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من الملائكة، لكن ليس المقام مقام بحث هذه المسألة، إنما المقصود الإنكار على من قال: إيماني كإيمان جبريل.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال أبو عبيد : حدثنا عن ميمون بن مهران أنه رأى جارية تغني فقال: من زعم أن هذه على إيمان مريم بنت عمران فقد كذب ].

ميمون بن مهران رأى جارية تغني -والغناء معلوم أنه فسق، ولاسيما الغناء الذي يلهب النفوس- فقال: من زعم أنه هذه على إيمان مريم بنت عمران فقد كذب؛ لأن مريم بنت عمران صديقة، وإيمانها كامل، وهذه الجارية فاسقة إيمانها ناقص، فكيف يكون إيمان هذه الجارية الفاسقة التي تغني مثل إيمان مريم بنت عمران؟!

يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [ وكيف يسع أحداً أن يشبه البشر بالملائكة، وقد عاتب الله المؤمنين في غير موضع من كتابه أشد العتاب، وأوعدهم أغلظ الوعيد، ولا يعلم فعل بالملائكة من ذلك شيئاً فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [النساء:29-30]، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:278-279]، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:2]، وقال تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16].

فأوعدهم النار في آية، وآذنهم بالحرب في أخرى، وخوفهم بالمقت في ثالثة، واستبطأهم في رابعة، وهو في هذا كله يسميهم مؤمنين، فما تشبه هؤلاء من جبريل وميكائيل مع مكانهما من الله؟! إني لخائف أن يكون هذا من الاجتراء على الله والجهل بكتابه ].

هذا التعقيب على الأثر تعقيب جيد من المؤلف رحمه الله، ومناقشة حادة للمرجئة، وبيان واضح في بطلان مذهب المرجئة الذين يقولون: إن إيمان الملائكة وإيمان البشر واحد، وإيمان أفسق الناس وأتقى الناس واحد، فهنا المؤلف يناقشهم مناقشة حادة قوية مبنية على فهم النصوص من كتاب الله وسنة رسوله، فيقول: كيف يسع أحداً أن يقول: إن إيمان البشر مثل إيمان الملائكة؟! فالمرجئة يقولون: إيمان البشر مثل إيمان الملائكة، فيقول الواحد منهم: إيماني كإيمان جبريل وميكائيل، وكإيمان أبي بكر وعمر! فالمؤلف يتعجب مع استفهام إنكار ممن يستسيغ أن يشبه البشر بالملائكة ويقول: إن إيمان البشر مثل إيمان الملائكة! والملائكة إيمانهم كامل، فهو مطيعون لله، قال الله تعالى عنهم: لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء:27]، فهم لا يعصون الله طرفة عين، أما بنو آدم فيعصون الله في الأرض ويقصرون في الواجبات، ويرتكبون المحرمات، فكيف يشبه بني آدم الذين فيهم العصاة والظلمة والفساق بالملائكة ويقول: إن إيمانهم مثل إيمان الملائكة الذين: لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]؟ وقد عاتب الله المؤمنين في غير موضع من كتابه أشد العتاب وأوعدهم أغلظ الوعيد، ولا يعلم أنه توعد الملائكة أو أغلظ لهم أو فعل بهم من ذلك شيئاً، فقال في عتاب المؤمنين من البشر: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29]، فالذي يأكل المال بالباطل يعاتب، وقال: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [النساء:29] وهذا عتاب: إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29]، ثم قال: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا [النساء:30]، فتوعده الله بالنار وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [النساء:30]، ولم يتوعد الملائكة بشيء من ذلك، وقال أيضاً: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:178-179]، هذا وعيد، ولم يتوعد به الملائكة، وقال في الوعيد: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:2-3]، والمقت هو أشد البغض، ولم يقل هذا في الملائكة، وقال: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16]، فهم مع أفعالهم هذه هل هم مؤمنون كاملو الإيمان أم عندهم أصل الإيمان؟! فكيف نشبه هؤلاء العصاة بالملائكة؟! ولهذا قال: [فما تشبه هؤلاء من جبريل وميكائيل مع مكانهما من الله؟!] أي: كيف نشبه هؤلاء الذين توعدهم الله بإصلاء النار، وتوعدهم بالمقت، وآذنهم بالحرب بجبريل وميكائيل مع قربهما ومكانتهما من الله؟!

ثم قال: المؤلف رحمه الله: [إني لخائف أن يكون هذا من الاجتراء على الله والجهل بكتابه] أي: إني لخائف على المرجئة الذين يقول أحدهم: إيمان أفسق الناس مثل إيمان الملائكة من أن يكون هذا من الجرأة على الله ومن الجهل بكتابه.




استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح كتاب الإيمان لأبي عبيد [2] 1898 استماع
شرح كتاب الإيمان لأبي عبيد [14] 1829 استماع
شرح كتاب الإيمان لأبي عبيد [9] 1751 استماع
شرح كتاب الإيمان لأبي عبيد [8] 1743 استماع
شرح كتاب الإيمان لأبي عبيد [10] 1658 استماع
شرح كتاب الإيمان لأبي عبيد [11] 1653 استماع
شرح كتاب الإيمان لأبي عبيد [5] 1607 استماع
شرح كتاب الإيمان لأبي عبيد [12] 1420 استماع
شرح كتاب الإيمان لأبي عبيد [1] 1290 استماع
شرح كتاب الإيمان لأبي عبيد [4] 1237 استماع