شرح كتاب الإيمان لأبي عبيد [3]


الحلقة مفرغة

قال المصنف: [ وعلى هذا كل مخاطبة كانت لهم فيها أمر أو نهي بعد الهجرة، وإنما سماهم بهذا الاسم بالإقرار وحده، إذ لم يكن هناك فرض غيره، فلما نزلت الشرائع بعد هذا وجبت عليهم وجوب الأول سواء لا فرق بينهما؛ لأنها جميعاً من عند الله وبأمره وبإيجابه، فلو أنهم عند تحويل القبلة إلى الكعبة أبوا أن يصلوا إليها، وتمسكوا بذلك الإيمان الذي لزمهم اسمه، والقبلة التي كانوا عليها لم يكن ذلك مغنياً عنهم شيئاً، ولكان فيه نقض لإقرارهم؛ لأن الطاعة الأولى ليست بأحق باسم الإيمان من الطاعة الثانية، فلما أجابوا الله ورسوله إلى قبول الصلاة كإجابتهم إلى الإقرار صارا جميعاً معاً هما يومئذ الإيمان، إذ أضيفت الصلاة إلى الإقرار ].

يقرر المؤلف رحمه الله مذهب جماهير أهل السنة والجماعة، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة والعلماء: أن الإيمان تصديق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالقلب وبالجوارح، وأن مسمى الإيمان يشمل هذه الأمور كلها، وهو الذي تدل عليه النصوص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وذكر المؤلف أيضاً: أن المؤمنين في أول الأمر لما كانوا مستضعفين في مكة وفي أول بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فرض الله عليهم سبحانه وتعالى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر، وفرض عليهم أن يوحدوا الله وأن يخلصوا له العبادة، ولم يفرض شيئاً من الشرائع، لا الصلاة ولا الزكاة ولا الصوم ولا الحج، ثم لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وهاجر المسلمون إلى المدينة، فرض الله الفرائض من الأذان وصلاة الجماعة والصوم والحج بعد ذلك كما شرعت بقية الحدود.

فالمسلمون قبلوا ذلك، وآمنوا بذلك، فكان هذا من الإيمان، ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كانت الصلاة إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر شهراً، ثم بعد ذلك حولت القبلة إلى الكعبة فقبل المسلمون ذلك، وصار هذا من الإيمان، فلو أن أحداً امتنع من الصلاة إلى الكعبة بعد أن حولت لصار ناقضاً لإيمانه الأول، وكذلك لو أن أحداً لم يقبل الصلاة، ولم يقبل شرعية الصلاة، وشرعية الصوم، وشرعية الزكاة، وشرعية الحج، لكان عدم قبوله ناقضاً لإيمانه الأول ولإقراره الأول، ففي الأول كان المؤمن في مكة هو الموحد الذي لا يشرك بالله شيئاً، ولم تفرض الصلاة إلا قبيل الهجرة بسنة أو بسنتين أو بثلاث، ولم تفرض الزكاة ولم يفرض الصوم، فصار المؤمن والموحد هو الذي وحد الله وآمن برسوله، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة شرعت الشرائع، فخاطب الله المؤمنين بقوله: (يا أيها الذين آمنوا)، ففي الأوامر خاطبهم بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا [الحج:77]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6]، وفي النواهي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة:95]، فهذا كله داخل في مسمى الإيمان.

قول المؤلف: (وعلى هذا كل مخاطبة كانت لهم فيها أمر أو نهي بعد الهجرة) كله داخل في مسمى الإيمان، (وإنما سماهم بهذا الاسم) يعني: الإيمان، (بالإقرار وحده لما لم يكن هناك فرض غيره) لما كانوا في مكة سماهم المؤمنين بالإقرار وحده، وهو التصديق والتوحيد والإيمان، ولم يكن هناك شروط، فلم تفرض الصلاة، ولم يفرض الصوم، ولم يفرض الحج، (فلما نزلت الشرائع بعد هذا) أي: فلما فرضت الفرائض، وحدت الحدود، وشرعت الشرائع في المدينة، (وجبت عليهم وجوب الأول سواء) يعني: وجب عليهم أن يقبلوا شرع الله ودينه، يقبلوا شرعية الصلاة وشرعية الصوم، كما قبلوا في مكة الإيمان والتوحيد؛ لأن هذين (لا فرق بينهما؛ لأنهما جميعاً من عند الله بأمره وإيجابه) كما أن الله أمرهم بالإيمان وحده في مكة، أمرهم في المدينة بالصلاة والزكاة والصوم والحج، فلا فرق بينها؛ لأنها جميعاً من عند الله، وبأمره وإيجابه.

قوله: (فلو أنهم عند تحويل القبلة إلى الكعبة أبوا أن يصلوا إليها، وتمسكوا بذلك الإيمان الذي لزمهم اسمه، والقبلة التي كانوا عليها) يعني: لو أن أحداً قال: أنا أكتفي بالإيمان الأول في مكة، ولا أقبل الشرائع التي نزلت في المدينة، وأكتفي بالتوجه إلى بيت المقدس، ولا أقبل التوجه إلى الكعبة، يقول المؤلف: (لم يكن ذلك مغنياً عنهم شيئاً، ولكان فيه نقض لإقرارهم) يعني: لو قال أحد هذا لانتقض إيمانه، وانتقض تصديقه، وانتقض توحيده السابق؛ (لأن الطاعة الأولى ليست بأحق باسم الإيمان من الطاعة الثانية) فالطاعة الأولى وهي الإيمان في مكة ليست بأحق باسم الإيمان من الطاعة الثانية، وهي الشرائع التي شرعت في المدينة، (فلما أجابوا الله ورسوله إلى قبول الصلاة) يعني: في المدينة، (كإجابتهم إلى الإقرار) يعني: الإيمان في مكة، (صارا جميعاً معاً هما يومئذ الإيمان) يعني: لما كان الإيمان في مكة هو التصديق فقط، فلما هاجر المسلمون إلى المدينة شرع الله الشرائع التي شرعت في المدينة، صارا جميعاً معاً هما يومئذ الإيمان، لا فرق بينها، (إذ أضيفت الصلاة إلى الإقرار)؛ لأن الصلاة أضيفت إلى الإقرار، يعني: التصديق والإيمان.

إذاً: شرع الله الشرائع فصار قبولها من الإيمان، وصار الإيمان والتوحيد الذي قبلوه بمكة إضافة إلى الشرائع التي شرعت في المدينة، صارا جميعاً معاً هما يومئذ الإيمان، فصار التوحيد والإيمان الذي في مكة والشرائع التي نزلت في المدينة كلها من الإيمان لا فرق بينهما، فإذا أضيفت الصلاة إلى الإقرار صارت من التصديق والإيمان.

بيان معنى قول الله تعالى: (وما كان الله ليضيع إيمانكم)

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والشهيد على أن الصلاة من الإيمان قول الله عز وجل: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [البقرة:143] ].

لعله أراد بالشهيد: الشاهد الذي هو الدليل، فالدليل على أن الصلاة من الإيمان قول الله عز وجل: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [البقرة:143]، ويتبين هذا بمعرفة سبب نزول هذه الآية الكريمة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وهاجر المسلمون وجههم الله إلى بيت المقدس للصلاة ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر شهراً، ثم حولت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة فتوجه المسلمون إلى الكعبة، حتى إن أهل قباء لم يبلغهم تحويل القبلة إلا في صلاة الفجر، وقد كان تحويل القبلة في صلاة العصر، فذهب ذاهب إلى أهل قباء فوجدهم يصلون إلى بيت المقدس، فقال: أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حولت القبلة إلى الكعبة، فاستداروا وهم في الصلاة إلى الكعبة، فكانوا في أول صلاتهم متجهين إلى بيت المقدس وفي آخرها متجهين إلى الكعبة، فلما تحولوا صارت النساء مكان الرجال، وصار الرجال مكان النساء.

وسمي هذا المسجد بمسجد القبلتين، وهذا من كمال طاعتهم لله ولرسوله، وفيه دليل على قبول خبر الواحد.

وقد مات بعض الصحابة قبل أن تحول القبلة إلى الكعبة، فقال بعض المسلمين: كيف حال إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس وقد حولت القبلة إلى الكعبة؟ فأنزل الله هذه الآية: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [البقرة:143]، والمراد بقوله: (إيمانكم) أي: صلاتكم إلى بيت المقدس، فسمى الصلاة إيماناً، فالمسلمون الذين توفاهم الله وهم يصلون إلى بيت المقدس لا لوم عليهم؛ لأنهم ممتثلون لأمر الله، وإيمانهم وعملهم صحيح في ذلك الوقت، وهو مشروع، فلهم إيمانهم ولهم عملهم، والله لا يضيع إيمانهم.

وهذه الآية من أقوى الأدلة في الرد على المرجئة الذين يقولون: إن الأعمال ليست داخلة في مسمى الإيمان، فإن الله سمى الصلاة إيماناً وهي عمل.

والمرجئة -كما سبق- طائفتان: مرجئة محضة، وهم الجهمية، ومرجئة الفقهاء، وهم أهل الكوفة.

فـأبو حنيفة وأصحابه يرون أن الأعمال ليست داخلة في مسمى الإيمان، ولكنها مطلوبة، وأما المرجئة المحضة فيرون أن الأعمال ليست مطلوبة، فالآية فيها رد على الطائفتين من المرجئة، وذلك أن الله تعالى سمى الصلاة إيماناً، والصلاة عمل، فدل على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: والشهيد -أي: الدليل- على أن الصلاة من الإيمان قول الله عز وجل: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143] أي: صلاتكم إلى بيت المقدس.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وإنما نزلت في الذين توفوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم على الصلاة إلى بيت المقدس، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية ].

والحديث ثابت في صحيح البخاري .

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فأي شاهد يلتمس على أن الصلاة من الإيمان بعد هذه الآية؟! ].

يعني: فأي دليل يطلب على أن الصلاة من الإيمان بعد هذه الآية؟! فهذه الآية صريحة وواضحة في أن الأعمال من الإيمان؛ لأن الله سمى الصلاة إيماناً وهي عمل، فدل على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وهذا يرد قول المرجئة الذين يقولون: إن الأعمال ليست من الإيمان.

دلالة قرن الزكاة بالصلاة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فلبثوا بذلك برهة من دهرهم، فلما أن داروا إلى الصلاة مسارعة وانشرحت لها صدورهم أنزل الله فرض الزكاة في إيمانهم إلى ما قبلها فقال: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43]، وقال تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103] ].

يقول المؤلف رحمه الله: لبث المسلمون بعد هجرتهم إلى المدينة برهة من دهرهم -أي: وقتاً من الزمان- وقد قبلوا الصلاة وتوجهوا إلى بيت المقدس، ثم نسخ الله توجههم إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة، وقبلوا شرع الله وسارعوا إلى مرضاته، وامتثلوا أمره وانشرحت لذلك صدورهم، ورضيت به نفوسهم، وبعد ذلك أنزل الله فرض الزكاة في السنة الثانية من الهجرة، فصار قبول فرض الزكاة والإيمان والتصديق بذلك من الإيمان، فأضافه الله إلى إيمانهم فصار داخلاً في مسمى الإيمان، ولهذا قال رحمه الله: [ أنزل الله فرض الزكاة في إيمانهم إلى ما قبلها ] يعني: من فرضية الصلاة، يعني: ضم فرضية الزكاة إلى فرضية الصلاة في الإيمان، فأنزل الله: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43] فقرن الله الزكاة بالصلاة، وقد قرن الله تعالى الزكاة بالصلاة في مواضع كثيرة من كتابه، فهي أختها، ولهذا يقول القحطاني رحمه الله في نونيته:

فصلاتنا وزكاتنا أختان

وقال سبحانه في بيان وجوب الزكاة وفرضيتها مخاطباً النبي عليه الصلاة والسلام: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة:103]، يعني: الزكاة. تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103]، فهذا أمر من الله تعالى بأخذ الزكاة.

وقوله: (تطهرهم) يعني: تزكي نفوسهم، فالزكاة تطهر نفس المزكي من أدران الشح والبخل واللؤم، وتطهر المال وتحفظه، ولهذا قال: تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا .

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والشهيد على أن الصلاة من الإيمان قول الله عز وجل: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [البقرة:143] ].

لعله أراد بالشهيد: الشاهد الذي هو الدليل، فالدليل على أن الصلاة من الإيمان قول الله عز وجل: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [البقرة:143]، ويتبين هذا بمعرفة سبب نزول هذه الآية الكريمة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وهاجر المسلمون وجههم الله إلى بيت المقدس للصلاة ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر شهراً، ثم حولت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة فتوجه المسلمون إلى الكعبة، حتى إن أهل قباء لم يبلغهم تحويل القبلة إلا في صلاة الفجر، وقد كان تحويل القبلة في صلاة العصر، فذهب ذاهب إلى أهل قباء فوجدهم يصلون إلى بيت المقدس، فقال: أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حولت القبلة إلى الكعبة، فاستداروا وهم في الصلاة إلى الكعبة، فكانوا في أول صلاتهم متجهين إلى بيت المقدس وفي آخرها متجهين إلى الكعبة، فلما تحولوا صارت النساء مكان الرجال، وصار الرجال مكان النساء.

وسمي هذا المسجد بمسجد القبلتين، وهذا من كمال طاعتهم لله ولرسوله، وفيه دليل على قبول خبر الواحد.

وقد مات بعض الصحابة قبل أن تحول القبلة إلى الكعبة، فقال بعض المسلمين: كيف حال إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس وقد حولت القبلة إلى الكعبة؟ فأنزل الله هذه الآية: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [البقرة:143]، والمراد بقوله: (إيمانكم) أي: صلاتكم إلى بيت المقدس، فسمى الصلاة إيماناً، فالمسلمون الذين توفاهم الله وهم يصلون إلى بيت المقدس لا لوم عليهم؛ لأنهم ممتثلون لأمر الله، وإيمانهم وعملهم صحيح في ذلك الوقت، وهو مشروع، فلهم إيمانهم ولهم عملهم، والله لا يضيع إيمانهم.

وهذه الآية من أقوى الأدلة في الرد على المرجئة الذين يقولون: إن الأعمال ليست داخلة في مسمى الإيمان، فإن الله سمى الصلاة إيماناً وهي عمل.

والمرجئة -كما سبق- طائفتان: مرجئة محضة، وهم الجهمية، ومرجئة الفقهاء، وهم أهل الكوفة.

فـأبو حنيفة وأصحابه يرون أن الأعمال ليست داخلة في مسمى الإيمان، ولكنها مطلوبة، وأما المرجئة المحضة فيرون أن الأعمال ليست مطلوبة، فالآية فيها رد على الطائفتين من المرجئة، وذلك أن الله تعالى سمى الصلاة إيماناً، والصلاة عمل، فدل على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: والشهيد -أي: الدليل- على أن الصلاة من الإيمان قول الله عز وجل: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143] أي: صلاتكم إلى بيت المقدس.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وإنما نزلت في الذين توفوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم على الصلاة إلى بيت المقدس، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية ].

والحديث ثابت في صحيح البخاري .

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فأي شاهد يلتمس على أن الصلاة من الإيمان بعد هذه الآية؟! ].

يعني: فأي دليل يطلب على أن الصلاة من الإيمان بعد هذه الآية؟! فهذه الآية صريحة وواضحة في أن الأعمال من الإيمان؛ لأن الله سمى الصلاة إيماناً وهي عمل، فدل على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وهذا يرد قول المرجئة الذين يقولون: إن الأعمال ليست من الإيمان.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فلبثوا بذلك برهة من دهرهم، فلما أن داروا إلى الصلاة مسارعة وانشرحت لها صدورهم أنزل الله فرض الزكاة في إيمانهم إلى ما قبلها فقال: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43]، وقال تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103] ].

يقول المؤلف رحمه الله: لبث المسلمون بعد هجرتهم إلى المدينة برهة من دهرهم -أي: وقتاً من الزمان- وقد قبلوا الصلاة وتوجهوا إلى بيت المقدس، ثم نسخ الله توجههم إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة، وقبلوا شرع الله وسارعوا إلى مرضاته، وامتثلوا أمره وانشرحت لذلك صدورهم، ورضيت به نفوسهم، وبعد ذلك أنزل الله فرض الزكاة في السنة الثانية من الهجرة، فصار قبول فرض الزكاة والإيمان والتصديق بذلك من الإيمان، فأضافه الله إلى إيمانهم فصار داخلاً في مسمى الإيمان، ولهذا قال رحمه الله: [ أنزل الله فرض الزكاة في إيمانهم إلى ما قبلها ] يعني: من فرضية الصلاة، يعني: ضم فرضية الزكاة إلى فرضية الصلاة في الإيمان، فأنزل الله: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43] فقرن الله الزكاة بالصلاة، وقد قرن الله تعالى الزكاة بالصلاة في مواضع كثيرة من كتابه، فهي أختها، ولهذا يقول القحطاني رحمه الله في نونيته:

فصلاتنا وزكاتنا أختان

وقال سبحانه في بيان وجوب الزكاة وفرضيتها مخاطباً النبي عليه الصلاة والسلام: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة:103]، يعني: الزكاة. تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103]، فهذا أمر من الله تعالى بأخذ الزكاة.

وقوله: (تطهرهم) يعني: تزكي نفوسهم، فالزكاة تطهر نفس المزكي من أدران الشح والبخل واللؤم، وتطهر المال وتحفظه، ولهذا قال: تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا .

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فلو أنهم ممتنعون من الزكاة عند الإقرار، وأعطوا ذلك بالألسنة، وأقاموا الصلاة غير أنهم ممتنعون من الزكاة كان ذلك مزيلاً لما قبله، وناقضاً للإقرار والصلاة، كما كان إباء الصلاة قبل ذلك ناقضاً لما تقدم من الإقرار ].

يبين المؤلف رحمه الله في هذا: أن قبول فرضية الزكاة من الإيمان وأنه لابد منه، وأن من لم يقبلها وامتنع كان ناقضاً لإيمانه الأول وتصديقه وقبوله بالصلاة؛ لأن الجميع من الله عز وجل، فالذي يقبل فرضية الصلاة ولا يقبل فرضية الزكاة ينتقض إيمانه، فلو أنهم امتنعوا من الزكاة بعد فرضيتها واكتفوا بالإيمان بها بالألسنة فقط وأقاموا الصلاة، لكان امتناعهم عن الزكاة وعدم قبولهم لها مزيلاً لما قبله من الإيمان، وناقضاً للإقرار والصلاة، فعدم قبول فرضية الزكاة وعدم الإيمان بذلك ينقض إيمانهم السابق بالله، وإيمانهم بفرضية الصلاة، فكما أن إيتاء الصلاة لو لم يقبله أحد لكان ناقضاً لما تقدمه من الإيمان، فكذلك عدم قبول الزكاة ينقض ما تقدمه من قبول الصلاة والإيمان.

جهاد مانعي الزكاة كجهاد أهل الشرك

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والمصدق لهذا جهاد أبي بكر الصديق رحمة الله عليه بالمهاجرين والأنصار على منع العرب الزكاة كجهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الشرك سواء، لا فرق بينهما في سفك الدماء وسبي الذرية واغتنام المال، فإنما كانوا مانعين لها غير جاحدين بها ].

يقول المؤلف رحمه الله: الدليل على أن من لم يقبل فرضية الزكاة ينتقض إيمانه قتال الصديق والصحابة رضوان الله عليهم لمانعي الزكاة من أهل الردة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ارتد كثير من قبائل العرب، وهم على أنواع: فمنهم من أنكر نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: لو كان نبياً ما مات، ومنهم من أقر بنبوة مسيلمة -وهم بنو حنيفة- فقال: إنه شريك للنبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من عبد الأصنام والأوثان، ومنهم من امتنع عن أداء الزكاة فقال: لا نؤديها إلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقاتلهم الصديق والصحابة رضوان الله عليهم، وسموهم كلهم مرتدين ولم يفرقوا بينهم، فالمؤلف رحمه الله يقول: (المصدق -يعني الدليل- على ما ذكرته لك من أن من امتنع من الزكاة ينتقض إيمانه بفرضية الصلاة وتوحيده: جهاد أبي بكر الصديق رحمة الله عليه بالمهاجرين والأنصار على منع العرب الزكاة، فجاهدوهم وقاتلوا من منع الزكاة كما قاتلوا أهل الشرك وعباد الأوثان.

فالمؤلف يرى أن من امتنع عن الزكاة فإنه يقاتل كما يقاتل أهل الشرك، ولهذا يقول: إن الصديق والصحابة قاتلوا مانعي الزكاة كما قاتلوا أهل الشرك، ولا فرق بينهم في سفك الدماء وسبي الذرية واغتنام المال، واعتبروهم مرتدين، فالذي عبد الأصنام، والذي أنكر نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، والذي أقر بنبوة مسيلمة، والذي منع الزكاة كلهم قاتلهم الصحابة واعتبروهم مشركين، وسبوا ذراريهم، وغنموا أموالهم.

وقوله: [ فإنما كانوا مانعين لها غير جاحدين بها ] يعني: الذين منعوا الزكاة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إنما كانوا ممتنعين عن أدائها غير جاحدين بها، هذا ما ذهب إليه المؤلف، والصواب في المسألة: أن الذين منعوا الزكاة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم منعوها وقاتلوا على منعها، ولما منعوها وقاتلوا على منعها صار قتالهم عليها في حكم الجاحد لها، بل هو دليل على جحودهم لها، فصاروا من أهل الردة، أما لو منعوها ولم يقاتلوا عليها فإنها تؤخذ منهم بالقوة ويؤدبون، فالصواب في هذه المسألة: أن مانع الزكاة فيه تفصيل: فإن كان جاحداً للزكاة فهو كافر مرتد؛ لأنه أنكر معلوماً من الدين بالضرورة.

وإن منعها دون قتال عليها فهذا تؤخذ منه ويؤدب، فإن منعها وقاتل عليها صار مرتداً؛ لأن قتاله عليها يدل على جحوده لها، وهذه حال أهل الردة، فأهل الردة منعوا الزكاة وقاتلوا عليها، ولو أنهم منعوها ولم يقاتلوا عليها لأخذها منهم الصحابة وأدبوهم ولم يقاتلوهم، لكن لما منعوها وقاتلوا عليها صار قتالهم دليلاً على جحودهم، وهذا هو الصواب في هذه المسألة.

وظاهر كلام المؤلف: أنهم كانوا مانعين لها غير جاحدين، لكن الصواب: أنهم لما قاتلوا عليها صاروا جاحدين لها، وأما من كان مقراً بوجوبها لكن منعها بخلاً وتهاوناً فإنها تؤخذ منه ويعزر ويؤدب، ولا يقتل على الصحيح من أقوال أهل العلم، بخلاف الصلاة، فإن الصواب في تركها: أنه كفر وردة؛ لما ورد في فرضية الصلاة من النصوص التي لم ترد في غيرها، فقد ثبت في صحيح البخاري من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله) والذي يحبط العمل هو: الكفر، وقال عليه الصلاة والسلام: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة) فأتى بالكفر معرفاً.

وفي الحديث في النهي عن الخروج على الأمراء والولاة (قيل: يا رسول الله! أفلا ننابذهم بالسيف؟! قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة) فدل على أنهم إذا لم يقيموا الصلاة فهم كفار ينابذون بالسيف.

والصلاة قد ورد في شأنها من النصوص ما لم يرد في غيرها، فالصواب: أن ترك الصلاة -ولو أقر تاركها بوجوبها- كسلاً وتهاوناً كفر وردة، بخلاف الزكاة فإنه لا يكفر إلا إذا جحدها أو قاتل على منعها.

شمول اسم الإيمان لما نزل من شرائع الإسلام

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ثم كذلك كانت شرائع الإسلام كلها، كلما نزلت شريعة صارت مضافة إلى ما قبلها لاحقة بها، ويشملها جميعاً اسم الإيمان، فيقال لأهلها: مؤمنون ].

أي: بعد فرضية الزكاة فرضت بقية الشرائع، ففرض الأذان، وفرض السجود، وفرض الحج بعد ذلك، فكانت شرائع الإسلام كلها يجب على المسلم الذي بلغه الحكم الشرعي فيها أن يقبله وأن يلتزم به، فكلما نزلت شريعة صارت مضافة إلى ما قبلها لاحقة بها ويشملها جميعاً اسم الإيمان، فيقال لأهلها: مؤمنون، فكلها داخلة في مسمى الإيمان.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والمصدق لهذا جهاد أبي بكر الصديق رحمة الله عليه بالمهاجرين والأنصار على منع العرب الزكاة كجهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الشرك سواء، لا فرق بينهما في سفك الدماء وسبي الذرية واغتنام المال، فإنما كانوا مانعين لها غير جاحدين بها ].

يقول المؤلف رحمه الله: الدليل على أن من لم يقبل فرضية الزكاة ينتقض إيمانه قتال الصديق والصحابة رضوان الله عليهم لمانعي الزكاة من أهل الردة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ارتد كثير من قبائل العرب، وهم على أنواع: فمنهم من أنكر نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: لو كان نبياً ما مات، ومنهم من أقر بنبوة مسيلمة -وهم بنو حنيفة- فقال: إنه شريك للنبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من عبد الأصنام والأوثان، ومنهم من امتنع عن أداء الزكاة فقال: لا نؤديها إلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقاتلهم الصديق والصحابة رضوان الله عليهم، وسموهم كلهم مرتدين ولم يفرقوا بينهم، فالمؤلف رحمه الله يقول: (المصدق -يعني الدليل- على ما ذكرته لك من أن من امتنع من الزكاة ينتقض إيمانه بفرضية الصلاة وتوحيده: جهاد أبي بكر الصديق رحمة الله عليه بالمهاجرين والأنصار على منع العرب الزكاة، فجاهدوهم وقاتلوا من منع الزكاة كما قاتلوا أهل الشرك وعباد الأوثان.

فالمؤلف يرى أن من امتنع عن الزكاة فإنه يقاتل كما يقاتل أهل الشرك، ولهذا يقول: إن الصديق والصحابة قاتلوا مانعي الزكاة كما قاتلوا أهل الشرك، ولا فرق بينهم في سفك الدماء وسبي الذرية واغتنام المال، واعتبروهم مرتدين، فالذي عبد الأصنام، والذي أنكر نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، والذي أقر بنبوة مسيلمة، والذي منع الزكاة كلهم قاتلهم الصحابة واعتبروهم مشركين، وسبوا ذراريهم، وغنموا أموالهم.

وقوله: [ فإنما كانوا مانعين لها غير جاحدين بها ] يعني: الذين منعوا الزكاة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إنما كانوا ممتنعين عن أدائها غير جاحدين بها، هذا ما ذهب إليه المؤلف، والصواب في المسألة: أن الذين منعوا الزكاة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم منعوها وقاتلوا على منعها، ولما منعوها وقاتلوا على منعها صار قتالهم عليها في حكم الجاحد لها، بل هو دليل على جحودهم لها، فصاروا من أهل الردة، أما لو منعوها ولم يقاتلوا عليها فإنها تؤخذ منهم بالقوة ويؤدبون، فالصواب في هذه المسألة: أن مانع الزكاة فيه تفصيل: فإن كان جاحداً للزكاة فهو كافر مرتد؛ لأنه أنكر معلوماً من الدين بالضرورة.

وإن منعها دون قتال عليها فهذا تؤخذ منه ويؤدب، فإن منعها وقاتل عليها صار مرتداً؛ لأن قتاله عليها يدل على جحوده لها، وهذه حال أهل الردة، فأهل الردة منعوا الزكاة وقاتلوا عليها، ولو أنهم منعوها ولم يقاتلوا عليها لأخذها منهم الصحابة وأدبوهم ولم يقاتلوهم، لكن لما منعوها وقاتلوا عليها صار قتالهم دليلاً على جحودهم، وهذا هو الصواب في هذه المسألة.

وظاهر كلام المؤلف: أنهم كانوا مانعين لها غير جاحدين، لكن الصواب: أنهم لما قاتلوا عليها صاروا جاحدين لها، وأما من كان مقراً بوجوبها لكن منعها بخلاً وتهاوناً فإنها تؤخذ منه ويعزر ويؤدب، ولا يقتل على الصحيح من أقوال أهل العلم، بخلاف الصلاة، فإن الصواب في تركها: أنه كفر وردة؛ لما ورد في فرضية الصلاة من النصوص التي لم ترد في غيرها، فقد ثبت في صحيح البخاري من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله) والذي يحبط العمل هو: الكفر، وقال عليه الصلاة والسلام: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة) فأتى بالكفر معرفاً.

وفي الحديث في النهي عن الخروج على الأمراء والولاة (قيل: يا رسول الله! أفلا ننابذهم بالسيف؟! قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة) فدل على أنهم إذا لم يقيموا الصلاة فهم كفار ينابذون بالسيف.

والصلاة قد ورد في شأنها من النصوص ما لم يرد في غيرها، فالصواب: أن ترك الصلاة -ولو أقر تاركها بوجوبها- كسلاً وتهاوناً كفر وردة، بخلاف الزكاة فإنه لا يكفر إلا إذا جحدها أو قاتل على منعها.


استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح كتاب الإيمان لأبي عبيد [2] 1898 استماع
شرح كتاب الإيمان لأبي عبيد [14] 1830 استماع
شرح كتاب الإيمان لأبي عبيد [9] 1749 استماع
شرح كتاب الإيمان لأبي عبيد [8] 1743 استماع
شرح كتاب الإيمان لأبي عبيد [10] 1659 استماع
شرح كتاب الإيمان لأبي عبيد [11] 1653 استماع
شرح كتاب الإيمان لأبي عبيد [5] 1611 استماع
شرح كتاب الإيمان لأبي عبيد [6] 1436 استماع
شرح كتاب الإيمان لأبي عبيد [12] 1419 استماع
شرح كتاب الإيمان لأبي عبيد [1] 1290 استماع