خطب ومحاضرات
حديث الساعة
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، وخيرته من خلقه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الإخوة الأحبة الكرام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إن هذه الليلة التي نرجو الله تعالى أن تكون ليلة مباركة علينا وعليكم، وعلى جميع المسلمين، هي ليله الثلاثاء لعله الثامن والعشرون أو التاسع والعشرون، ولا نريد أن نؤرخ بالتاريخ الميلادي، وإن كان التاريخ الميلادي أصبح معروفاً عندكم بلا شك في هذه الليلة خاصة، حتى إن أحد الشباب من الرياض كتب إلي رسالة؛ يقترح أن يكون موضوع هذه المحاضرة (خمسة عشر يناير) يقول: لأن هذا العنوان لا يسمعه أحد إلا تعجب، وأحب أن يدرك ما وراءه.
أيها الإخوة: حديث الساعة، هو عن القضايا التي يعيشها المسلمون في هذه الأيام، بل في هذه الشهور، بل في هذه السنين، ولعل من أعظم ما ابتليت به الأمة الإسلامية اليوم -أيها الأحبة- أنها أصبحت أمة معزولة عن قضاياها، ومشاكلها، وأمورها الكلية، فأصبح الفرد العادي في الأمة الإسلامية صاحب اهتمامات هامشية وفرعية وجزئية، ومشغولاً بقضايا لا قيمة لها عن القضايا الخطيرة والمؤثرة في حاضره ومستقبله.
الفن وما شاكله
إنك لو ناديت أي صبي صغير، وطلبت منه أن يقرأ عليك أغنية، لقرأها دون أن يتردد أو يخطئ في حرف منها، لكن ربما لو طلبت منه أن يقرأ سورة من القرآن، لتلكأ وتردد وعجز عن ذلك، حتى أصبح الفن قضية كلية، وأصبح أصحابه يسمون نجوماً وأبطالاً، وما ذلك إلا لأن الأمة قد عظّمت هذا اللون، ولعلكم أيها الإخوة تلاحظون أننا في هذه الأيام نسمع جميعاً أخبار توبة الفنان المعروف محمد عبده، وتتناقل الصحف أخباراً مؤيدة أو معارضة، بحسب مزاج الصحيفة ورغبتها وطريقتها في العرض، ولا شك أن كل مسلم يسر بتوبة هذا الرجل أو غيره، وقد كنت كغيري ننتظر مثل هذا الخبر؛ لأن الرجل -كما سمعنا- فيه خير كثير إن شاء الله، ونرجو الله عز وجل أن يصحح توبته ويثبتنا وإياه بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
أقول: كل مسلم يسمع هذا الخبر يسر له، وكل مسلم يسمع قراءة الرجل لآخر سورة البقرة، وما فيها من التأثر لا يملك عينيه، وهو يرى هذا الرجل يقرأ آيات الله تعالى فيتأثر ويبكي، ويظهر هذا في صوته، ولا حرج في هذا، بل هذا هو الأمر الطبيعي، ولكن الأمر الذي أحب أن أتوقف عنده، إننا نجد في هذه الأيام، بل ومنذ زمن أن التائبين الراجعين إلى الله عز وجل يعدون بالألوف، بل بعشرات الألوف من كافة الأصناف وكافة الطوائف.
فربما تاب -مثلاً- عالم ذري كبير، وربما تاب مهندس عظيم، وربما تاب إنسان ذو مكانة كبيرة أو مسئول أو موظف، فلا يكاد يسمع بخبره أحد، فضلاً عن جماهير الشباب التي تئوب إلى الله عز وجل ولا يدري بها أحد، ولا يكترث لها أحد، فما هو سر اهتمام الأمة كلها بتوبة رجل؟ كما تهتم -مثلاً- بتوبة لاعب أو صلاحه واستقامته فتتناقل الناس في مجالسهم أخباره وأحاديثه وقصصه، وتكترث له أشد الاكتراث، السر هو أن الأمة أصلاً عظمت هذا اللون من الناس، فأصبحت تهتم بأخبارهم، وتتابعها أولاً بأول، وتعتني بها، وأصبح الخبر الذي يتعلق بهم، حتى لو كان خبراً عادياً، أصبح الناس يتناقلونه، فإذا كان الناس -مثلاً- يتناقلون جلسة فنية جديدة لفنانٍ ما، أو يتناقلون زيَّاً جديداً صنعه صانع معين، فما بالك إذا كان هناك خبر غير عادي، مثل خبر توبة هذا الإنسان، لا شك أن الدواعي تتوافر على تناقل هذا الخبر، وما ذلك إلا لأن الأمة قد كبرت الاهتمامات الهامشية والشكلية والجزئية في عقلها وحياتها وضخمتها فأصبحنا نسمى أهل الكرة أبطالاً! وذلك لأن مفهوم البطولة قد اختل عندنا. ولا شك أن هذا جانب.
الركض وراء لقمة العيش
الطموحات الدنيوية
الاهتمام بقضايا هامشية
أيها الإخوة: أرأيتم يوم دخلت الأمة الإسلامية، بل لا أقول: الأمة الإسلامية بل وإنما دخلت الأمة العربية، أو دخلت بعض الدول العربية الحرب مع إسرائيل عام (1956م) و(1967م) وغيرها، هل دخلتها باسم الإسلام؟! هل شعرت الأمة بأن المعركة معركتها؟! أبدا دخلت باسم العروبة، وكانت بعض الإذاعات العربية بدلاً من أن تعلن التوبة، والرجوع إلى الله عز وجل تقول عن طائرتها الميراج:
ميراج علت واعتلت في الجو تتحدى القدر |
كأنها تتحدى الله عز وجل، في الوقت الذي هي أحوج ما تكون فيه إلى نصر الله عز وجل، وإلى عونه عز وجل، وإلى أن تكون مشاعر المسلمين معها، فكانت تعلن مثل هذا الكلام الكافر الفاجر.
فالأمة ذات اهتمامات مهمشة ومعزولة عن قضاياها الكبيرة، فضلاً عن القضايا الصغيرة، ومشغولة بمثل هذه الأمور -التي أشرت إليها- ولا شك أن المسئولية الحقيقية في الإسلام هي مسئولية الجميع، حتى الأتباع يسألون، وأنت حين تقرأ القرآن الكريم تجد قول الله عز وجل: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * = 6000173>وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ[البقرة:166-167] ويقول: وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ [غافر:47-48] وفي الآية الأخرى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ [إبراهيم:21] ويقول الله عز وجل حكاية لكلام أهل النار: وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُم لَعْناً كَبِيراً [الأحزاب:67-68] وكذلك يقول الله عز وجل عن فرعون وقومه: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِين فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ [الزخرف:54-55] ويقول سبحانه: وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً [الأنعام:129].
إذاً: ليس صحيحاً أبداً أن الإنسان غير مسئول، أو لا علاقة له بالأمر، أو لا دخل له بهذه القضايا، كلا، بل كل مسلم مسئول عن قضايا الأمة، دقت أم جلت، صغرت أم كبرت، ولا يعفيه من المسئولية أن يقول: ليس بيدي شيء، أو ما أشبه ذلك من الألفاظ.
لعلك تجد أن كثيراً من المسلمين اليوم شباباً وشيباً، رجالاً ونساءً مشغولين -مثلاً- بقضايا الفن والفنانين.
إنك لو ناديت أي صبي صغير، وطلبت منه أن يقرأ عليك أغنية، لقرأها دون أن يتردد أو يخطئ في حرف منها، لكن ربما لو طلبت منه أن يقرأ سورة من القرآن، لتلكأ وتردد وعجز عن ذلك، حتى أصبح الفن قضية كلية، وأصبح أصحابه يسمون نجوماً وأبطالاً، وما ذلك إلا لأن الأمة قد عظّمت هذا اللون، ولعلكم أيها الإخوة تلاحظون أننا في هذه الأيام نسمع جميعاً أخبار توبة الفنان المعروف محمد عبده، وتتناقل الصحف أخباراً مؤيدة أو معارضة، بحسب مزاج الصحيفة ورغبتها وطريقتها في العرض، ولا شك أن كل مسلم يسر بتوبة هذا الرجل أو غيره، وقد كنت كغيري ننتظر مثل هذا الخبر؛ لأن الرجل -كما سمعنا- فيه خير كثير إن شاء الله، ونرجو الله عز وجل أن يصحح توبته ويثبتنا وإياه بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
أقول: كل مسلم يسمع هذا الخبر يسر له، وكل مسلم يسمع قراءة الرجل لآخر سورة البقرة، وما فيها من التأثر لا يملك عينيه، وهو يرى هذا الرجل يقرأ آيات الله تعالى فيتأثر ويبكي، ويظهر هذا في صوته، ولا حرج في هذا، بل هذا هو الأمر الطبيعي، ولكن الأمر الذي أحب أن أتوقف عنده، إننا نجد في هذه الأيام، بل ومنذ زمن أن التائبين الراجعين إلى الله عز وجل يعدون بالألوف، بل بعشرات الألوف من كافة الأصناف وكافة الطوائف.
فربما تاب -مثلاً- عالم ذري كبير، وربما تاب مهندس عظيم، وربما تاب إنسان ذو مكانة كبيرة أو مسئول أو موظف، فلا يكاد يسمع بخبره أحد، فضلاً عن جماهير الشباب التي تئوب إلى الله عز وجل ولا يدري بها أحد، ولا يكترث لها أحد، فما هو سر اهتمام الأمة كلها بتوبة رجل؟ كما تهتم -مثلاً- بتوبة لاعب أو صلاحه واستقامته فتتناقل الناس في مجالسهم أخباره وأحاديثه وقصصه، وتكترث له أشد الاكتراث، السر هو أن الأمة أصلاً عظمت هذا اللون من الناس، فأصبحت تهتم بأخبارهم، وتتابعها أولاً بأول، وتعتني بها، وأصبح الخبر الذي يتعلق بهم، حتى لو كان خبراً عادياً، أصبح الناس يتناقلونه، فإذا كان الناس -مثلاً- يتناقلون جلسة فنية جديدة لفنانٍ ما، أو يتناقلون زيَّاً جديداً صنعه صانع معين، فما بالك إذا كان هناك خبر غير عادي، مثل خبر توبة هذا الإنسان، لا شك أن الدواعي تتوافر على تناقل هذا الخبر، وما ذلك إلا لأن الأمة قد كبرت الاهتمامات الهامشية والشكلية والجزئية في عقلها وحياتها وضخمتها فأصبحنا نسمى أهل الكرة أبطالاً! وذلك لأن مفهوم البطولة قد اختل عندنا. ولا شك أن هذا جانب.
الجانب الآخر الموجود عند أكثر الشعوب الإسلامية، هو الركض وراء لقمة العيش، فتجد كثيراً من المسلمين في كثير من البلاد، وإن شئت فقل في جميع البلاد إلا ما قل، أصبح الواحد منهم يركض وراء لقمة العيش، فالطوابير الطويلة مصفوفة تنتظر الخبز، وطوابير أخرى مثلها على المواد التموينية، وبعضهم في بعض البلاد يصرفون بطاقات ينتظرون لها أوقاتاً، ويصرفون فيها أعماراً، فأصبح الفرد المسلم مشغولاً بلقمة العيش، وكيف يستطيع الحصول عليها له ولزوجته ولبنيه ولبناته، ولذلك لا مجال عنده للتفكير بأمور الأمة، ولا بالقضايا المهمة؛ لأنه مشغول بلقمة العيش.
أما آخرون وهم كثير فأصبح كل همهم أو جل همهم الطموحات الدنيوية، ولو أنك سألت فصلاً من الفصول الدراسية في مستوى متوسط أو ثانوي أو جامعي عن آمال وطموحات هؤلاء الشباب، لوجدت كثيراً منهم لا تتعدى طموحاتهم الأشياء القريبة، مثل أن يتمنى الواحد منهم مسكناً واسعاً، أو سيارةً فارهةً، أو زوجة حسناء جميلة، أو مرتباً فخماً ضخماً، أو وظيفةً مريحةً، أو ما أشبه ذلك، أما أن نفكر في قضايا الأمة، ويكون عند الواحد منا طموح أن يكون له دور في إصلاح الأمة، وتصحيح مسيرتها؛وهذا قد لا يفكر فيه إلا الأفراد القلائل.
هل نحن نلوم الأمة بهذا الكلام؟ نعم، لا شك نلوم الأمة، ولكنني أقول: مع لوم الأمة فإننا لا نشك في أن هذا الواقع الذي صرنا إليه، إنما هو نتاج جهود كبيرة من غيرنا، ممن حاولوا أن يقولوا لنا: دعوا التفكير في قضايا الأمة لغيركم، ولا تتدخلوا فيما لا يعنيكم، ويكفيكم أن تأكلوا وتشربوا، وتنعموا بالملبس والمأكل والمركب والمسكن، وبعد ذلك دعوا القيادة ودعوا التفكير في أمور الأمة، ودعوا النظر في قضاياها لغيركم، واعتبروا هذا الأمر شيئاً من تدخل الإنسان فيما لا يعنيه، فقضايا الأمة مهمشة، والأمة معزولة عن قضاياها، حتى القضايا الكبيرة الخطيرة!!
أيها الإخوة: أرأيتم يوم دخلت الأمة الإسلامية، بل لا أقول: الأمة الإسلامية بل وإنما دخلت الأمة العربية، أو دخلت بعض الدول العربية الحرب مع إسرائيل عام (1956م) و(1967م) وغيرها، هل دخلتها باسم الإسلام؟! هل شعرت الأمة بأن المعركة معركتها؟! أبدا دخلت باسم العروبة، وكانت بعض الإذاعات العربية بدلاً من أن تعلن التوبة، والرجوع إلى الله عز وجل تقول عن طائرتها الميراج:
ميراج علت واعتلت في الجو تتحدى القدر |
كأنها تتحدى الله عز وجل، في الوقت الذي هي أحوج ما تكون فيه إلى نصر الله عز وجل، وإلى عونه عز وجل، وإلى أن تكون مشاعر المسلمين معها، فكانت تعلن مثل هذا الكلام الكافر الفاجر.
فالأمة ذات اهتمامات مهمشة ومعزولة عن قضاياها الكبيرة، فضلاً عن القضايا الصغيرة، ومشغولة بمثل هذه الأمور -التي أشرت إليها- ولا شك أن المسئولية الحقيقية في الإسلام هي مسئولية الجميع، حتى الأتباع يسألون، وأنت حين تقرأ القرآن الكريم تجد قول الله عز وجل: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * = 6000173>وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ[البقرة:166-167] ويقول: وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ [غافر:47-48] وفي الآية الأخرى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ [إبراهيم:21] ويقول الله عز وجل حكاية لكلام أهل النار: وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُم لَعْناً كَبِيراً [الأحزاب:67-68] وكذلك يقول الله عز وجل عن فرعون وقومه: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِين فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ [الزخرف:54-55] ويقول سبحانه: وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً [الأنعام:129].
إذاً: ليس صحيحاً أبداً أن الإنسان غير مسئول، أو لا علاقة له بالأمر، أو لا دخل له بهذه القضايا، كلا، بل كل مسلم مسئول عن قضايا الأمة، دقت أم جلت، صغرت أم كبرت، ولا يعفيه من المسئولية أن يقول: ليس بيدي شيء، أو ما أشبه ذلك من الألفاظ.
أيها الإخوة: لو نظرنا في الأجيال القدوة، الأجيال السابقة من المؤمنين، سواء قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، أم في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، أم في الأجيال اللاحقة من المؤمنين؛ لوجدنا أنهم يتعاملون مع القضايا بطريقة أخرى مختلفة تماماً، ولعلي أضرب لكم بعض الأمثلة، فيما يتعلق بالأجيال من الأمم السابقة، يحكى لنا الله عز وجل عدة أخبار من أخبار هؤلاء الأقوام، فيها عبرة فمثلاً يقول الله عز وجل في سورة "يس": وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ [يس:20-23].
إنه رجل من أقصى المدينة يسعى يركض ركضاً، لماذا يأتي؟ لإنقاذ الموقف، لإعلان كلمة الحق يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينََ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ [يس:20-21] ليس له غرض، ولم يكن سعيه خوفاً من فوات صفقة تجارية -مثلاً- ولا خوفاً على نفسه أو روحه، بل بالعكس كان يسعى إلى حتفه وهو يعلم ذلك، لأنه قتل بسبب جهره بكلمة الحق، وتعزيزه لموقف النبيين المرسلين، فقتل فقيل له: ادخل الجنة، فدخل الجنة: قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ [يس:26-27].
إذاً: هذا رجل واحد، لكنه يركض؛ لأنه يشعر أنه مسئول، وكأنه يرى أن هذا الأمر لابد أن يبلِّغه قبل أن يموت،
أو يهلك دونه، فجاء من أقصى المدينة يسعى.
كذلك الحال بالنسبة لقصة موسى عليه الصلاة والسلام، فإن الله عز وجل ذكر فيها: وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ [القصص:20] هذا الرجل الآن يريد أن يخبر موسى عليه الصلاة والسلام، وهو الداعية النبي الرسول، يريد أن يخبره بأن هناك مؤامرة ضدك يا موسى، فعجل بالخروج، وانظر لنفسك مهرباً مما يحاك ويدبر في الخفاء، فهذا الرجل ربما كان يتعرض لخطر كبير، حين كشف القضية وفضحها، وبيّن الأمر لموسى، وربما يمسك القوم به، ويقولون: ما دام نجا موسى بسببك فلابد أن نأخذك أنت عوضاً عنه، ولكنه تجاهل كل هذه المخاوف، وجاء يركض ركضاً إلى موسى ليبلغه بالخبر قبل أن يقع موسى في هذه المؤامرة، فقال له يا موسى: إن الملأ -من هم الملأ؟ العلية، علية القوم والكبراء والأمراء والزعماء- يأتمرون بك ليقتلوك، فاخرج إني لك من الناصحين، فيخرج موسى عليه الصلاة والسلام خائفاً يترقب -كما ذكر الله عز وجل-.
لم يقل هذا الرجل هذه قضية لا شأن لي بها، وهذه قضية تخص علية القوم، تخص الملأ والكبراء، لا، بل رأى أنه ما دام علم بالخبر، وعلم بالمؤامرة التي تحاك ضد نبيٍ من أنبياء الله، ووليٍ من أولياء الله؛ فلابد أن يبلغه، ويقوم بواجبه في هذا الأمر، ولو قال: لا شأن لي بالأمر، ولا علاقة لي بالموضوع، وأنا خارج الدائرة، ما كان بلغ موسى خبر هذه المؤامرة عليه.
هناك أمثلة كثيرة من حياه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أكتفي بنماذج سريعة منها، تدل على أن كل فرد منهم، حتى صبيانهم كانوا يشعرون بنوع من الارتباط بقضايا الإسلام، وأنهم لا بد أن يشاركوا فيها بوجه أو بآخر.
فكم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حضروا المعارك وقاتلوا، وهم دون الحلم، كان بعضهم أبناء عشر وإحدى عشرة سنة، ومع ذلك كانوا يحملون السلاح، ويخوضون المعارك، وما خبر معاذ ومعوذ ابني عفراء عنا ببعيد، وهو خبر معروف في الصحيحين، ومثل عبيد بن أبي وقاص، وغيرهم كثير، أما أبناء أربع عشرة، وخمس عشرة، فحدث ولا حرج.
وكان الواحد منهم إذا رده الرسول عليه الصلاة والسلام عن المعركة لصغر سنه، كان يرجع إلى أمه يبكي وكأنه منع من أن يخرج في رحلة ممتعة مع زملائه وأقرانه، حتى استقبالهم للرسول عليه الصلاة والسلام لما جاء مهاجراً عليه الصلاة والسلام من مكة، كان الأنصار يخرجون من كبار السن من الشيوخ، وحتى الأطفال ينتظرون مقدم النبي صلى الله عليه وسلم خارج المدينة، حتى إذا ارتفع النهار، واشتدت الشمس ولم يأت قطعوا الأمل من مجيئه، رجعوا إلى بيوتهم وهكذا، وحتى لما كان النبي عليه الصلاة والسلام يقدم من إحدى المعارك، كان الصبيان الصغار يستقبلون الرسول عليه الصلاة والسلام بالأهازيج، والأناشيد، التي يعبرون بها عن حبهم له، وفرحهم بمقدمه، وقصيدة طلع البدر علينا المشهورة، كانوا يقولونها عند مقدمه صلى الله عليه وسلم من تبوك:
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع |
أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع |
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع |
حتى الصبيان كانوا يرددونها، وحتى النساء كانت تـتباشر، وتـتخابر بمقدم النبي عليه الصلاة والسلام سواء في حادثة الهجرة، أم في غير حادثة الهجرة، بل إنك تجد أدواراً بارزة لصغار السن، قد لا يقوم بها الكبار، وما دور أسماء بنت أبي بكر في نقل الطعام للرسول صلى الله عليه وسلم حين كان في الغار هو وأبوها؛ ما هو بخافٍ على أحد.
بل لقد حفظ لنا التاريخ أشياء أشبه ما تكون بالأعاجيب، حتى إنني أذكر أنني قرأت في ترجمة، أو في تاريخ نور الدين محمود أنه قام يوماً من الأيام فخطب على المنبر، ودعا الناس إلى الجهاد ضد الصليبيين، فخرج الناس إلى بيوتهم، وربما كان منهم من يقول مثل ما نقول اليوم: لا شأن لنا بالموضوع!! وكانت امرأة تسمع الخطبة فتأثرت وبكت وانفعلت، ثم رجعت إلى بيتها، فبدأت تحاسب نفسها، وتقول: ما هو الدور الذي يجب أن أعمله؟ فكرت وقدرت، فرأت أنها لا تملك شيئاً، تقول الرواية والقصة: فلم تجد إلا أنها قطعت جديلتها (أي: شعر رأسها وضفيرتها) وبعثت بها إلى الأمير، وقالت له: إني لا أملك إلا هذه فضعها لفرسك، أو لفرس أحد جنودك، وبغض النظر عن كون تصرف المرأة خطأً أم صواباً، نحن لا نصوب هذا العمل الآن، لكنني أقول: المهم هو الفكرة نفسها، هو أن امرأة شعرت بأنها يجب أن تصنع شيئاً، وحينئذ تتفتق الحيلة عن أسباب ووسائل وطرق لم تكن تخطر على بال.
فربما أنا، وأنت، والثاني، والثالث نعجز عن ذكرها، لكن لو أن الأمة فكرت كلها، وكل فرد فيها فكر ماذا يجب أن أعمل؟ لكان عندنا مليون أو عشرة ملايين أو مائة مليون عقل كلها تفكر في أمر واحد، ولابد أن تخرج بنتائج مما لا تخطر على بال أحد.
أما نحن هذا الجيل المعاصر، الذي أثرت فيه مخططات أعدائه الداخليين والخارجيين، بسبب ضعف الإيمان والتقوى وضعف الصبر، فإن هذا الجيل أصبح جيلاً متواكلاً، يكتفي أن يلقى بالمسئولية على الآخرين، فنحن نلقي بالمسئولية على الحكام، وأحياناً نلقى بالمسئولية على العلماء، ولا شك أن الحكام مسئولون، والعلماء مسئولون، ولكن نحن -أيضاً- جزء من المسئولية على أعناقنا قال تعالى: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً [آل عمران:120] وقال: وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً [الأنعام:129] وقال: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ [الزخرف:54] والعالم جزء من الأمة، والحاكم جزء من الأمة0
المؤسف أيها الأحبة أننا حين ننظر إلى الأمم الأخرى الكافرة، كـاليهودية -مثلاً- أو النصارى، الأمم الغربية والشرقية، نجد أن هذه الأمم تهتم بقضاياها، بل تهتم بقضايانا اهتماماً كبيراً، ففي كل قضية -كالقضايا التي نعيشها اليوم- تجد هؤلاء القوم في ذروة الاهتمام، فهم لا ينتقلون -مثلاً- من مؤتمر إلا إلى مؤتمر آخر، والدراسات تشتغل صباح مساء، ومراكز الأبحاث والإحصائيات والجلسات والمناقشات والتحليلات الإخبارية والتنقلات، والرحلات والتجمعات واستبيانات الرأي العام -كما تسمى- جهود كبيرة، بل إن هناك وسائل حية تنقل الأحداث أولاً بأول -وعلى سبيل المثال- الكل أصبح يعرف الـ"سي إن إن" التي هي عبارة عن وكالة تلفزة أمريكية، مهمتها نشر الأخبار على مدى أربع وعشرين ساعة، وعن طريق الأقمار الصناعية، ويتابعون الأخبار أولاً بأول، ويصنعون رأي الناس من خلال أخبارهم، وفضلاً عما تقوم به مراكز الأبحاث المختصة، من دراسات موسعة فضلاً عن الاستبيانات والإحصائيات الكبيرة التي يجرونها في بلادهم، ولذلك يرصدون يوماً بعد يوم تغيرات الرأي العام، فأحياناً يقولون -مثلاً-: الشعب الفلاني يؤيد الحرب بنسبة كذا وكذا، وأحيانا يقولون: لا يؤيد الحرب بنسبة كذا وكذا، وأحياناً ترتفع النسبة، وأحياناً تنحدر.
فهم يتابعون أولاً بأول، من خلال وسائل معينه معروفة، يتابعون رأي الفرد العادي، حتى شعر الفرد العادي بأن له دوراً، وأن رأيه مؤثر، وسارت مظاهرات في شوارعهم ترفع اللافتات والأصوات تعبر عن رأي أو رأي آخر معارض له.
المهم أن هذه الشعوب الغربية، أصبحت تحس بأن هذه القضايا قضاياها، وأنها يجب أن تفكر فيها، ويجب أن تقدم رأياً فيها، وأنه ليس من حق ساستها وزعمائها أن يقطعوا أمراً دونها، ولا أن يقودوها إلى أي وجهة إلا بعد أن يأخذوا أراء الأمة في مثل هذه الأمور.
استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
أحاديث موضوعة متداولة | 5157 استماع |
حديث الهجرة | 5026 استماع |
تلك الرسل | 4157 استماع |
الصومال الجريح | 4148 استماع |
مصير المترفين | 4126 استماع |
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة | 4054 استماع |
وقفات مع سورة ق | 3979 استماع |
مقياس الربح والخسارة | 3932 استماع |
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية | 3874 استماع |
العالم الشرعي بين الواقع والمثال | 3836 استماع |