خطب ومحاضرات
يا أهل الكويت
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أما بعد..
أيها الإخوة الكرام: هذا هو الدرس السابع عشر من الدروس العلمية العامة، وإن كان هو الدرس الأول في هذا المسجد، ونسأل الله تعالى أن تكون نقلته إلى هذا المسجد نقلةً مباركة، وهذه ليلة التاسع والعشرين من شهر المحرم لعام 1411 للهجرة.
أيها الإخوة: لقد تحدثت في المجلس السابق عن جانب من الأحداث التي عصفت بمنطقة الخليج وما حولها، وقلبت الموازين في نفوس كثيرٍ من الناس، وأحدثت هزةً لكثيرٍ من المجتمعات، وكان أول ضحيةٍ لهذه الفعلة هو شعب الكويت، وهو جزءٌ لا يتجزأ من هذه الأمة، نرتبط معه برابطة الدين، والعقيدة أولاً، ثم برابطة الجوار ثانياً، ثم رابطة النسب ثالثاً؛ ولذلك فقد رأيت من المناسب أن أخصص هذه الحلقة للحديث مع أولئك الإخوة، ومن ثم جعلت عنوانها (يا أهل الكويت).
أهل الكويت وأبناء العمومة هل تشكون جرحاً فلا نشكو له ألما |
إذا حزنتم حزناً في القلوب لكم كالأم تحمل من همِّ ابنها سقما |
وكم نظرنا بكم نعماً يجسمها لنا السرور فكانت عندنا نعما |
ونبذل المال لم نُحمل عليه كما يرعى الكريم حقوق الأهل والذمما |
صبراً على الدهر إن جلت مصائبه إن المصائب مما يوقظ الأمما |
إذا المقاتل من أخلاقهم سلمت فكل شيء على آثارها سلما |
هل سمعتم بإنسان ٍيُرَحَّبُ به في داره، وبيته، ومنـزله، إن الترحيب إنما يكون بالغريب البعيد أو الضيف الطارئ، أما الأهل فهم يرحبون ويحيُّون، ولكن هذه الحدود، والسدود، والعوازل المصطنعة التي رسمها الاستعمار، ومزقت المسلمين شر ممزق، وفرقت بين بعضهم بعضاً، وأوجبت علينا أن نقول لكم: مرحباً، وإننا إذ نفسح لكم في قلوبنا، وفي بيوتنا ونتقاسم معكم ما ملكت أيدينا، إنما نرد إليكم بعض الجميل الذي قدمتموه لنا، ونقضي لكم بعض الديون.
ولقد علم المطلعون على أحوال الشعوب الإسلامية في المشرق والمغرب، أن أموال الأثرياء الصالحين من أهل الكويت، كانت وراء قيام كثيرٍ من المشاريع الخيرية الدعوية، فكم من مسجد بنت، ومدارس أسست، ومستشفيات أقامت، وحفرت من آبار، وطبعت من كتب، ووظفت من دعاة، فهذه صنائع المعروف التي قدمتموها يا أهل الكويت، وهي بإذن الله تقيكم مصارع السوء، فتكون نوراً لكم في طريقكم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم: {والصبر ضياء، والصدقة برهان}.
الابتلاء سنة الله في خلقه
<<
قال تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:26] وقال سبحانه يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29] قال أبو الدرداء رضي الله عنه: [[ من شأنه أن يغفر ذنباً، ويفرج كرباً، ويرفع قوماً، ويضع آخرين، ويجيب داعياً، ويعطي سائلاً، ويفك عارياً، ويشفي سقيماً ]].
إن المؤمن ينتظر هذا وذاك، فإن اغتنى ووسع الله تبارك وتعالى عليه، لم يصبه الأشر والبطر، ولم ينس حق الله سبحانه وتعالى في المال، وإن افتقر، ولم يحزن ولم يجزع؛ بل هو يعبد الله تعالى بالصبر على الضراء، والشكر على النعماء، عن أبى يحيى صهيب بن سنان رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له} رواه مسلم.
ابتلاء المؤمن
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ويبتلي الله بعض القوم بالنعم |
ولهذا لما حدث لسليمان عليه السلام ما حدث من نعمة الله تعالى، وأعطاه الله ملكاً عظيماً لم يكن لأحدٍ من قبله ولا لمن بعده كما دعا بقوله: قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [ص:35] وسخر الله له الشياطين يعملون بأمره، وسخر له الريح تجرى بأمره رخاءً فقال: قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ [النمل:40] وكذلك لما سمع عليه السلام كلام النمل وهمس بعضها لبعض وهي تقول: يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل:18] فشعر بجليل نعمة الله تعالى عليه، إذ سخر له ما سخر، وعلمه منطق الطير، فعرف ما تقول النمل، فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل:19].
الابتلاء بالحسنات والسيئات
وقال الله تعالى عن بني إسرائيل في آياتٍ تزلزل الجبال الراسيات وفي سياقٍ يهز القلوب هزاً، وهو ذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد، قال سبحانه: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف:163] انظر كيف حرم الله تبارك وتعالى عليهم أن يصطادوا السمك في يوم السبت، وأحله لهم فيما وراء ذلك، فكانت السمك تأتي في يوم السبت كثيرة، ظاهرةً على سطح الماء، كبيرةً مغرية، أما فيما عدا يوم السبت، فإنه لا يأتيهم شيءٌ ابتلاءً لهم على كفرهم، وعنادهم، فَنُهوا عن صيدها في ذلك اليوم فلم ينتهوا، فعاقبهم الله عز وجل، قال سبحانه: وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف:164-165] فذكر الله عز وجل نجاة الآمرين بالمعروف الناهين عن السوء، وذكر هلاك الباغين المعتدين الفاسقين، وسكت عن الساكتين، فلم يبين هل هم في الناجين أم في الهالكين، قال تعال: فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف:165-168].
إن الله تعالى يبتلي بالحسنات كما يبتلي بالسيئات، ويبتلي بالغنى، ويبتلي بالفقر، يبتلي بالصحة، ويبتلي بالمرض، يبتلي بالنصر، ويبتلي بالهزيمة، يبتلي بالقوة، ويبتلي بالضعف، كل ذلك ابتلاءٌ وامتحان ولذلك قال عز وجل: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35] وقال تعالى: فَأَمَّا الْأِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ [الفجر:15-16] كلا! ليس هذا هو المقياس، فالغنى يكون للمؤمن والكافر، والصحة تكون للطائع والعاصي، والمال يكون للفاسق والمؤمن، وأما المقياس الحق فهو الإيمان بالله وتقواه وتصريف هذه النعم فيما يرضي الله سبحانه.
المصيبة مصيبة الدين
عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ما يصيب المؤمن من نصبٍ ولا وصبٍ ولا همٍ ولا حزنٍ ولا غمٍ ولا أذى إلا كفر الله بها من خطاياه حتى الشوكة يشاكها}متفق عليه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تعالى: {ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صَفِيَّهُ من أهل الدنيا ثم احتسب إلا الجنة} رواه البخاري.
وكتب عقيل بن أبي طالب إلى أخيه علي رضي الله عنه يسأله كيف أنت؟ فرد عليه علي من قلب المحنة، ولب المصيبة بأبياتٍ من الشعر يقول فيها:
فإن تسألنِّي كيف أنت فإنني جليدٌ على عرض الزمان صليب |
عزيز عليَّ أن تُرى بي كآبة فيفرح واشٍ أو يساء حبيب |
فأنا أتحمل المصائب، وأتجلد لها فلا يظهر على وجهي حزنٌ أو كآبةٌ، يحزن لها صديقٌ أو يسر لها عدو.
وكان رجل من أهل الأندلس يعيش في نعمةٍ ما بعدها نعمة، مالٌ، وأهلٌ، وولد، وحبورٌ، وقصورٌ، وجمالٌ، وكمال، فزالت عنه هذه الأشياء كلها فكان يقول:
صبرت على الأيام لما تولَّت وألزمت نفسي صبرها فاستمرت |
فيا عجباً للقلب كيف اصطباره وللنفس بعد العز كيف استذلت |
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى فإن طمعت تاقت وإلا استذلت |
وكانت على الأيام نفسي عزيزة فلما رأت صبري على الذل ذلت |
وقلت لها يا نفس موتي كريمةً فقد كانت الدنيا لنا ثم ولت |
إذاً يتذكر الإنسان هذه المعاني، فيدرك أن هذا منطق من يبتلى أو يصاب بعد أن يكون الله تعالى وسع عليه في يوم من الدهر.
ولذلك يقول ابن الوردي أيضا وهو من شعراء بني أمية، يصف حاله بعد أن تغير، وتقلبت به الأيام يقول:
ملكنا أقاليم البلاد فأذعنت لنا رغبة أو رهبة عظماؤها |
فلما انتهت أيامنا علقت بنا شدائد أيام قليل رخاؤها |
وصرنا نلاقي النائبات بأوجه رقاق الحواشي كاد يقطر ماؤها |
إذا ما هممنا أن نبوح بما جنت علينا الليالي لم يدعنا حياؤها |
وكان إلينا في السرور ابتسامها فصار علينا في الهموم بكاؤها |
يا أهل الكويت: إن ما أصابكم ليس بدعة من الأمر، ولا غريباً من السنن؛ بل هو سنة الله تعالى في عباده قال تعالى: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140].
<<
قال تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:26] وقال سبحانه يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29] قال أبو الدرداء رضي الله عنه: [[ من شأنه أن يغفر ذنباً، ويفرج كرباً، ويرفع قوماً، ويضع آخرين، ويجيب داعياً، ويعطي سائلاً، ويفك عارياً، ويشفي سقيماً ]].
إن المؤمن ينتظر هذا وذاك، فإن اغتنى ووسع الله تبارك وتعالى عليه، لم يصبه الأشر والبطر، ولم ينس حق الله سبحانه وتعالى في المال، وإن افتقر، ولم يحزن ولم يجزع؛ بل هو يعبد الله تعالى بالصبر على الضراء، والشكر على النعماء، عن أبى يحيى صهيب بن سنان رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له} رواه مسلم.
واعلم أخي المسلم أن الله تعالى قد ينعم على العبد بالبلوى فيكون المرض، أو الخوف، أو الحزن، أو فقدان المال، أو الأهل، أو بعض ما في اليد، يكون ذلك سبباً في نعمٍ كثيرةٍ للعبد، وكم من نقمةٍ في طيها ألفُ نعمة، فقد يكون ذلك سبباً في توبةٍ إلى الله، أو مراجعةِ حساب، أو تصحيح مسيرة، أو تعديل خطأ، (وربما صحت الأبدان بالعلَلِ) كما أن الله تعالى قد يبتلي آخرين بالنعم، يسوقها إليهم سوقاً، ويصبها عليهم صباً؛ لينظر كيف يعملون.
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ويبتلي الله بعض القوم بالنعم |
ولهذا لما حدث لسليمان عليه السلام ما حدث من نعمة الله تعالى، وأعطاه الله ملكاً عظيماً لم يكن لأحدٍ من قبله ولا لمن بعده كما دعا بقوله: قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [ص:35] وسخر الله له الشياطين يعملون بأمره، وسخر له الريح تجرى بأمره رخاءً فقال: قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ [النمل:40] وكذلك لما سمع عليه السلام كلام النمل وهمس بعضها لبعض وهي تقول: يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل:18] فشعر بجليل نعمة الله تعالى عليه، إذ سخر له ما سخر، وعلمه منطق الطير، فعرف ما تقول النمل، فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل:19].
والابتلاء سنة الله تبارك وتعالى، يبتلي الناس بالحسنات والسيئات، كما قال عز وجل وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157].
وقال الله تعالى عن بني إسرائيل في آياتٍ تزلزل الجبال الراسيات وفي سياقٍ يهز القلوب هزاً، وهو ذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد، قال سبحانه: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف:163] انظر كيف حرم الله تبارك وتعالى عليهم أن يصطادوا السمك في يوم السبت، وأحله لهم فيما وراء ذلك، فكانت السمك تأتي في يوم السبت كثيرة، ظاهرةً على سطح الماء، كبيرةً مغرية، أما فيما عدا يوم السبت، فإنه لا يأتيهم شيءٌ ابتلاءً لهم على كفرهم، وعنادهم، فَنُهوا عن صيدها في ذلك اليوم فلم ينتهوا، فعاقبهم الله عز وجل، قال سبحانه: وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف:164-165] فذكر الله عز وجل نجاة الآمرين بالمعروف الناهين عن السوء، وذكر هلاك الباغين المعتدين الفاسقين، وسكت عن الساكتين، فلم يبين هل هم في الناجين أم في الهالكين، قال تعال: فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف:165-168].
إن الله تعالى يبتلي بالحسنات كما يبتلي بالسيئات، ويبتلي بالغنى، ويبتلي بالفقر، يبتلي بالصحة، ويبتلي بالمرض، يبتلي بالنصر، ويبتلي بالهزيمة، يبتلي بالقوة، ويبتلي بالضعف، كل ذلك ابتلاءٌ وامتحان ولذلك قال عز وجل: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35] وقال تعالى: فَأَمَّا الْأِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ [الفجر:15-16] كلا! ليس هذا هو المقياس، فالغنى يكون للمؤمن والكافر، والصحة تكون للطائع والعاصي، والمال يكون للفاسق والمؤمن، وأما المقياس الحق فهو الإيمان بالله وتقواه وتصريف هذه النعم فيما يرضي الله سبحانه.
يا أهل الكويت: إن العاقل من يقول: إن أصبتُ في مالي، أو رزئت في أهلي، أو تضررت في بدني، فلن أصاب في ديني وصبري واحتسابي، ولسوف أصبر حتى أحول هذه المحنة إلى منحةٍ من الله تعالى، والمغبون كل الغبن هو من خسر دنياه، أو بعض دنياه، ثم جزع وتأفف وتضجر، وتسخط على قضاء الله تعالى وقدره، فدمر آخرته بيده، وأخرب بيته بيمناه، فلا دنياه رجعت، ولا آخرته سلمت، أما المؤمن الصابر، فقد فاز بالصبر كما فاز بالأجر.
عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ما يصيب المؤمن من نصبٍ ولا وصبٍ ولا همٍ ولا حزنٍ ولا غمٍ ولا أذى إلا كفر الله بها من خطاياه حتى الشوكة يشاكها}متفق عليه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تعالى: {ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صَفِيَّهُ من أهل الدنيا ثم احتسب إلا الجنة} رواه البخاري.
وكتب عقيل بن أبي طالب إلى أخيه علي رضي الله عنه يسأله كيف أنت؟ فرد عليه علي من قلب المحنة، ولب المصيبة بأبياتٍ من الشعر يقول فيها:
فإن تسألنِّي كيف أنت فإنني جليدٌ على عرض الزمان صليب |
عزيز عليَّ أن تُرى بي كآبة فيفرح واشٍ أو يساء حبيب |
فأنا أتحمل المصائب، وأتجلد لها فلا يظهر على وجهي حزنٌ أو كآبةٌ، يحزن لها صديقٌ أو يسر لها عدو.
وكان رجل من أهل الأندلس يعيش في نعمةٍ ما بعدها نعمة، مالٌ، وأهلٌ، وولد، وحبورٌ، وقصورٌ، وجمالٌ، وكمال، فزالت عنه هذه الأشياء كلها فكان يقول:
صبرت على الأيام لما تولَّت وألزمت نفسي صبرها فاستمرت |
فيا عجباً للقلب كيف اصطباره وللنفس بعد العز كيف استذلت |
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى فإن طمعت تاقت وإلا استذلت |
وكانت على الأيام نفسي عزيزة فلما رأت صبري على الذل ذلت |
وقلت لها يا نفس موتي كريمةً فقد كانت الدنيا لنا ثم ولت |
إذاً يتذكر الإنسان هذه المعاني، فيدرك أن هذا منطق من يبتلى أو يصاب بعد أن يكون الله تعالى وسع عليه في يوم من الدهر.
ولذلك يقول ابن الوردي أيضا وهو من شعراء بني أمية، يصف حاله بعد أن تغير، وتقلبت به الأيام يقول:
ملكنا أقاليم البلاد فأذعنت لنا رغبة أو رهبة عظماؤها |
فلما انتهت أيامنا علقت بنا شدائد أيام قليل رخاؤها |
وصرنا نلاقي النائبات بأوجه رقاق الحواشي كاد يقطر ماؤها |
إذا ما هممنا أن نبوح بما جنت علينا الليالي لم يدعنا حياؤها |
وكان إلينا في السرور ابتسامها فصار علينا في الهموم بكاؤها |
إن مما يساعد المؤمن على الصبر في النكبات والأزمات والمحن والملمات أمور:
اللجوء إلى الله تعالى والانكسار بين يديه
تصور حدوث مصيبة أعظم
وقد يدفع الله تبارك وتعالى عنك بهذه المصيبة شراً لم تكن تتصوره أو تتوقعه، تصور معي أن شعباً هُجِّرَ من بلده، وأخرج من داره بغير حق، وشرد من وطنه، فربما كان هذا الوطن بعد حينٍ ميداناً لحربٍ تقضي على الأخضر واليابس، أو محلاً لأسلحةٍ كيماوية تدمر الإنسان تدميراً، أو ميداناً لقنابل جرثومية لا تبقي ولا تذر، فحينئذٍ يتذكر الإنسان أن كل مصيبة يمكن أن يكون في طيها نعمة، وأنه إذا ما ابتلي بمصيبةٍ يتذكر ما هو أكبر منها.
احمد الله على نعمٍ كثيرة
ولذلك لما قيل لـعروة بن الزبير رضي الله عنه بعد أن مات أحد أولاده بالفجأة، وأفاق من عملية جراحية قطعت فيها رجله من الآكلة فقيل له: احتسب عند الله ولدك فلاناً، فرفع رأسه إلى السماء وقال: [[ اللهم لك الحمد، اللهم إن كنت قد أخذت فقد أعطيت، وإن كنت قد ابتليت فقد عافيت ]] نعم أخذ الله تعالى منه عضواً وأعطاه أربعة، وأخذ منه ولداً وأعطاه بنين عددا، فلذلك شكر الله تبارك وتعالى، ولم ينس نعمه الأخرى.
معرفة أجر الصابر
حتى إن أهل العافية في الدنيا إذا صاروا إلى موقف القيامة، ورأوا ما أعطى الله تبارك وتعالى الصابرين، من أنه يصب عليهم الجزاء والأجر صباً بلا حسابٍ، ولا وزنٍ، ولا كيلٍ، يتمنى أهل العافية حينئذٍ أن تكون جلودهم قرضت بالمقاريض، وأن يكونوا عاشوا في هذه الدنيا على جمرٍ، حتى يكون لهم مثل ذلك الأجر.
الجزع لا يرد الذاهب
الصبر من أسباب زوال المكروه
إذاً، الصابر يملك قلباً قوياً، يستطيع به أن يقاوم الشدائد ويبدأ به حياةً جديدة، ويصابر ويثابر حتى يصل إلى ما يريد، أما الجزوع فإنه ذو قلبٍ يائس، وقلب محطم، وقلب لعبت فيه العواصف، ولعبت فيه المحن، وقلب لعبت فيه الشدائد، وقلبٌ لا يملك التوكل على الله عز وجل فيأويه، ويرده ذلك إلى اليأس والقنوط من رحمة الله عز وجل.
الأمل يعيين على الصبر
أعلل النفس بالآمال أرقبها ما أضيق العيش لولا فسحةُ الأمل |
لا يأس مع الحياة، ولا حياة مع اليأس، اليائس ميت، واليأس كفر، وينبغي للإنسان مهما حصل له؛ أن يدرك أنه يعيش على آمال عريضةً يعلقها بالله عز وجل، وينتظر من الله تبارك وتعالى كل ما يرجو ويأمل، ويحذر منه كل ما يخاف.
النفس وما تعودت
والنفس طامعةٌ إذا أطمعتها وإذا ترد إلى قليلٍ تقنع |
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أنه صلى الله عليه وسلم قال: {ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغني يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحدٌ عطاءً خيراً وأوسع من الصبر} فإن العبد إذا عود نفسه على الصبر والتحملُ؛ اعتادت وصبرت وتحملت {ومن يتصبر يصبره الله} أي: أن الصبر عطاءٌ يعطيه الله تبارك وتعالى من يعلم أنهم يجاهدون قلوبهم على الصبر، ولذلك قال: {وما أعطي أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر}.
المصيبة ليست مصيبة الكويت فقط
أفي الضحى وعيون الجند ناظرة تسبى النساء ويؤذى الأهل والحشم |
ويسفك الدم في أرض الكويت ضحىً وتستباح بها الأعراض والحرم |
ويستحف عقول الناس طاغية أعداؤه الدين والأخلاق والشيم |
مَوِّهْ على الناس أو غَالِطْهُمُ عبثاً فليس تكتمهم ما ليس ينكتم |
كفا الجزيرة ما جروا لها سفهاً وما يحاول في أطرافها العجم |
إنه جرح في قلب كل مسلم تصديقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنه وأرضاه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكي منه عضوٌ تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى}.
انتظار الفرج عبادة
قال الله عز وجل مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن:11] أي: أن من يصبر على المصيبة؛ يصبره الله عز وجل، ويجعل في قلبه روحاً، وطِيباً، ويقيناً، ويسليه عما فقد، ومن ذلك الدعاء الخاشع المتضرع لله عز وجل، فإنه من الانكسار بين يدي الله تعالى ومن أقرب الأسباب والزلفى إليه.
استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
أحاديث موضوعة متداولة | 5155 استماع |
حديث الهجرة | 5026 استماع |
تلك الرسل | 4157 استماع |
الصومال الجريح | 4148 استماع |
مصير المترفين | 4126 استماع |
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة | 4054 استماع |
وقفات مع سورة ق | 3979 استماع |
مقياس الربح والخسارة | 3932 استماع |
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية | 3874 استماع |
العالم الشرعي بين الواقع والمثال | 3836 استماع |