بعض أخطائنا في التربية


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد: أيها الأحبة الكرام! فسلام الله تعالى عليكم ورحمته وبركاته..

أيها الأحبة.. إن الإنسان لا يكون أحقر في عين نفسه ممن هو في مثل هذا الموقف, فإن هذه الأعداد الكبيرة منكم التي أسرعت وأحسنت الظن، فجاءت لتستمع إلى مثل هذه الكلمات؛ إنها تنبئ عن فقر عظيم في هذه الأمة؛ فقر إلى الرجال الأكفاء, وفقر إلى العلماء, والمصلحين.

وإلا فأي معنى لأن تتهالك هذه الأمة على كل متحدث, وكل قائل, وكل مُبيِّن أو متكلم، لمجرد أنه ألقى درساً أو قام بمحاضرة, أو أنه تكلم! إن ذلك لدليل على فقر الأمة إلى الرجال الأفذاذ الحقيقيين, وأنها تعيش فعلاً في فترة من أحلك فتراتها.

وإنني أقولها لكم صريحة -ويعلم الله تعالى حقيقة ما أقول حسبما أعتقده- إننا على يقين أن الله تعالى لا يدع الصحوة, ولا يدع الدعوة لأمثالنا من المقصرين والمسرفين على أنفسهم؛ بل إن الله تعالى يختار لها من الصادقين المخلصين من يكون فيهم الرشد والكفاية, إلا أن يصلح الله تعالى الأحوال ويتدارك بمنه وفضله ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ [المائدة:54], أما بعد:

فحديثي إليكم هذه الليلة هو عن بعض أخطائنا في التربية, وهذه ليلة الجمعة الخامس من شهر جمادى الأولى من سنة ألف وأربعمائة وثلاث عشرة للهجرة, وهذا جامع الراجحي بـالرياض.

التربية -أيها الإخوة- لها مفهوم أوسع وأعمق، إن التربية هي: الحياة بكل تفاصيلها، وبكل أشخاصها، وبكل مؤسساتها, والحياة تعني وجود الإنسان من يوم أن ظهر على ظهر الأرض, وإلى أن يغادرها, فهي تبدأ مع الإنسان بشهادة الميلاد، وتنتهي مع الإنسان بشهادة الدفن.

وإذا عرفنا أن التربية هي: المعنى الشامل للإنسان من يوم أن ولد إلى يوم أن يموت, أدركنا أن الحياة هذه أو التربية ليست أمرا مقصوراً على وجود الإنسان في منـزله, أو بيته, ولا وجوده في مدرسته, أو حارته أو حيه أو مسجده, بل هي وجود الإنسان في الحياة كلها بكل مؤسساتها: من بيت، ومدرسة، ومسجد، وإعلام، وصحة، وغير ذلك, بل وجود الإنسان من خلال الأَنَاسِيِّ الذين يقابلونه في حياته, بكل تناقضهم، فهذا يحييه ويسلم عليه, وذاك يعيره ويشتمه, وهذا يحادثه, وهذا يبايعه أو يشاريه, وهذا يعلمه أو يتعلم منه, وهذا يوافقه, وهذا يخالفه, وهذا يمدحه, وهذا يذمه.

فالتربية تشمل الحياة كلها, وإذا أدركنا هذا أيضاً، أدركنا أنه لا يمكن أن يستقل جهاز من الأجهزة، أو مؤسسة من المؤسسات بتربية الإنسان, فإن الإنسان كائن مؤثر متأثر, ولا يمكن أن نستهين بشيء يواجه الإنسان, فالجو العام في المجتمع مثلاً هو عبارة عن تيار كتيار الماء أو تيار البحر يجتاح الإنسان -وأحياناً- يكون الإنسان مخالفاً للتيار, فيكون كأنه يسبح ضد الموج, يتقدم بقوته الضعيفة أمتاراً ثم يدفعه الموج إلى الوراء عشرات الأمتار.

ولهذا جاء الشرع بتحميل الإنسان مسئوليته الفردية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وجاء الشرع أيضاً بتحميل المجتمع مسئولية القيام بالحسبة, كأمة مؤمنة لا يميزها إلا الإيمان بالله تعالى، الذي عليه اجتمعت, ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, الذي به قوامها وبقاؤها كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110] ويقول الله عز وجل: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة:71] الآية, ولذلك فإن الإنسان محتاج إلى المجتمع كله من حوله, ليتأثر بهم، وينتفع منهم، وينظر ما عندهم من خير فيقتبسه, أو خطأ فيجتنبه، أو نصيحة يعمل بها, ثم هو محتاج أيضاً إلى المؤسسات الموجودة في المجتمع، والتي يتربى من خلالها, فهو يتربى قاعداً في المسجد ينتظر الصلاة, ويتربى وهو في مدرسته, ويتربى وهو في سوقه, ويتربى وهو في بيته, حتى والإنسان في متجره هو يتربى.

يتربى على الأخلاق الإسلامية في المعاملة، والبيع والشراء، والأخذ والعطاء، وغير ذلك, وحين يفسد الزمان، وبمعنى أصح وبالاصطلاح الشرعي، ينحرف الناس، يؤمر الإنسان باعتزالهم, حتى يسلم من شرهم، أو يسلمهم من شره, كما في الحديث المتفق عليه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه،وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل: أي الناس خير؟ قال: {مؤمن مجاهد في سبيل الله تعالى بماله ونفسه, قيل ثم أي؟ قال: مؤمن في شِعْب من الشعاب معتزل يعبد ربه، ويَدَعُ الناس من شره}.

فإنه إنسان غير قادر على التربية، لا يستفيد من الناس علماً وعملاً وأخلاقاً, ولا يستفيد الناس منه أيضاً, فهذا كان الأجدر في حقه أن يعتزل الناس ويدع الناس من شره, ليس من الناس إلا في خير.

فالتربية إذاً: عملية ضخمة وكبيرة, تبدأ مع الإنسان من يوم ولد, لا بل أقول تبدأ قبل الميلاد. ومن الطرائف والنكت أن رجلاً جاء لأحد العلماء, فقال له: أنا قد تزوجت, وحَمَلَتْ زوجتي وهي في الشهر الرابع, وأريد أن تعطيني بعض التعليمات في أسلوب تربية هذا الطفل, فقال له: هذا الطفل قد فات عليك مادام في الشهر الرابع, لكن أعطيك تعليمات للطفل القادم, وهذه لا شك نكته, ولكنها لها دلالتها ولها معناها.

والمقصود أن التربية تبدأ حتى من يوم اختيار الزوجة, فإن الزوجة هي المحضن السليم المناسب الذي ينشأ معه الطفل, ويتربى في أحضانها, ويقتبس من أخلاقها, فهي تبدأ قبل أن يولد الإنسان وفى صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال: بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن قُضي بينهما ولد لم يضره الشيطان}.

فالشيطان يفر من ذكر الله تعالى, والتربية تبدأ مبكرة جداً, إنها تبدأ من هذا الأوان ولا تنتهي إلا بأن يموت الإنسان قال الله عز وجل: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99], أي: الموت, ثم هي ليست عملية مقصورة على جانب واحد من جوانب النفس الإنسانية, فهي تربية تتعلق بالخلق, وتتعلق بالعقيدة, وتتعلق بالعلم, وتتعلق بالعمل, وتتعلق بالجسم, وتتعلق بالعبادة.

وهي أيضاً ليست مسئولية جهة بعينها فحسب, فالبيت وحده لا يمكن أن يستقل بالتربية, والمسجد وحده لا يستقل بها, والمدرسة وحدها لا تستقل بها, والزملاء والأصدقاء والصالحون أيضاً, وإنما المجتمع كله بكل مؤسساته، وكل أفراده، وكل أجهزته هو مسئول عن التربية.

لقد بعث الرسل عليهم الصلاة والسلام, وأنـزلت الكتب من السماء إلى البشر, من أجل تقويم هذا الإنسان, من أجل أن يترقى حتى يتأهل لجنة عرضها السماوات والأرض, بل حتى يتأهل لرؤية الله تعالى في جنة عدن. قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23], فهي تتمتع بالنظر إلى وجه الله تعالى الكريم في جنة عدن.

إن الإنسان يترقى بالتربية حتى يتأهل لهذا المستوى الرفيع: وقد ينحط حتى يصبح حطباً ووقوداً لجنهم مع الحجارة, وشبيها بالأنعام، قال الله عز وجل: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [البقرة:24], وقال سبحانه: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44], وفي آيه أخرى: أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الأعراف:179].

إذاً بالتربية: يرتقي الإنسان حتى يصبح أهلاً لرؤية الله تعالى في الجنة, وبنقص التربية أو تضييعها ينحط حتى يصبح حطباً لجهنم.

إذاً: بناء الإنسان -أيها الأحبة- هو محط الاهتمام، وهذه القضية الكبرى التي يجب أن نرفع شعارها, ونتحدث عنها, ونملأ بها مجالسنا, هي قضية الإنسان, إن بناء الإنسان أهم من بناء الجسور, وأهم من تعبيد الطرق, وأهم من تشييد العمارات الشاهقة, وأهم من توفير الخدمات, مع أنني لا أهون من بناء الجسور وتعبيد الطرق وتشييد العمارات وتوفير الخدمات, ولكن لا قيمة لهذه الأشياء كلها في ظل غياب الإنسان.

إن هذه الأشياء كلها لا تعدو أن تكون تيسيرات وتسهيلات للإنسان, فقل لي بربك أي معنى للإنسان، حسن البزة، حسن الثياب، جميل الهيئة، بهي الطلعة، ممتلئ الجسم، معتدل الصحة، ولكنه يرسف في قيوده، في أسره وسجنه؟! وأي قيمة لإنسانٍ هذا شأنه إذا كان بلا عقل؟! وأي قيمة لإنسانٍ هذا شأنه إذا كان بلا دين، ولا خلق، ولا عقيدة؟!.

إن الإنسان هو المقصد الأول من الوسائل التربوية كلها, ولا قيمة لإنسان لا يعبد ربه, ولا يسجد لله تعالى, ولا يُمَرِّغُ جبهته خضوعاً لرب العالمين, ولا يسبح بحمد ربه عز وجل, إنه في دنياه يعيش الشقاء بكل صوره وألوانه, وفي آخرته إلى نار لا يخبو قرارها كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً [الإسراء:97].

إن تحقيق وجود الإنسان بالمعنى الشرعي تحقيقٌ لكل المكاسب الأخرى, فلنفترض -مثلاً-: أننا أمة فقيرة, ليس همنا أننا نطلب المال, لأن بناء الإنسان الصالح سيجعله قادراً بإذن الله تعالى على تحصيل المال, لنفترض أننا أمة متأخرة في المجال الصناعي والتقني، كما هو الواقع فعلاً, إن بناء الإنسان الصالح العاقل العالم الرشيد هو السبيل إلى تطويع الصناعة, وإلى الحصول على أسرار التصنيع، وإلى الوصول إلى أعلى المستويات في الحضارة المادية, لنفترض أننا أمة متخلفة في كافة مجالات الحياة الاجتماعية، والمالية، والاقتصادية، وغيرها. فإن الإنسان إذا بُنِىَ وأُصْلِح وأُعِدَّ إعداداً صحيحاً، فإنه هو الذي يستطيع أن يخطو تلك الخطوات التي تحتاجها الأمة، فهو الذي يحصل على المال, وهو الذي يبني ويصنع ويفكك أسرار العلم, ويستطيع أن يُطَوِّعَها بإذن الله عز وجل.

إذاً المخرج من كل أزماتنا ومصائبنا التي نعيشها وتعيشها الأمة معنا, هو بناء الإنسان، تتعدد الحلول ولكنها تتفق على أن الذي يمكن أن يتولى تمثيل هذه الحلول هو الإنسان ذاته.

وأقولها لك صريحة: لن يحصل الإنسان على كرامته الحقيقية, إلا بالتزامه بدين الله تعالى, وذلك بسبب واضح تزيدنا به الأيام بصيرة, وهو: أن الإسلام هو كلمة الخالق أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14], على حين تعترف كل الدراسات النفسية والتربوية في هذا العصر، تعترف بجهلها بحقيقة الإنسان, وعجزها عن إدراك خفاياه وأسراره, وأنها تبحث في ميدان مجهول, أما الشرع فنـزل من عند حكيم حميد، يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير.

أما حديثى الرابع: فهو بعنوان "أزمات تربوية" وهذه الأزمات أزمات عامة ليست أزمات في البيت فحسب, ولا في المدرسة، بل تستطيع أن تقول: إنها أزمة في أزمة في الأمة كلها, تبدأ من البيت وهو الدائرة الصغيرة، وتنتهي بالأمة في وجودها العام.

وهذه الأزمات متعددة لها أسبابها ومظاهرها ونتائجها, وأذكر شيئاً منها دون استيعاب.

أزمة غياب الثقة داخل الأمة

هناك أزمة نستطيع أن نعبر عنها بأزمة الثقة, غياب الثقة داخل الأمة، فهناك أزمة ثقة بين الحاكم والمحكوم، تبادل المخاوف والشك والظن وعدم الثقة. هناك أزمة ثقة بين الطالب والمدرس, هناك أزمة ثقة بين الناصح والمنصوح, بين جيل الشباب والشيوخ, بين الرجل والمرأة, بين المدير والموظف.. وهكذا.

وكل هذه الأزمة مبنية على سوء الظن يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات:12], جعلت الأمة تتمزق إلى طوائف شتى, وإلى فرق مختلفة, وإلى طبقات متناحرة, لا يثق بعضها في بعض, ولا يتعاون بعضها مع بعض.

وترتب على ذلك تعطيل المهارات والكفايات وقدرات الأفراد, وأصبحت هذه الأزمة, أزمة الثقة، تكبل الفرد عن الإبداع والإنتاج والاجتهاد والتعاون, وهذا مصداق ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم حينما قال لـمعاوية: {لا تتبع عورات الناس، فإنك إن تتبعت عوراتهم أفسدتهم أو كدت تفسدهم}.

إن تتبع العورات من قبل المدرس -مثلاً- الذي يتتبع عورة الطالب, أو الابن الذي يتتبع عورة أبيه, أو الحاكم الذي يتتبع عورات الرعية, أو الرجل الذي يتتبع عورة المرأة, أو العكس في ذلك كله, إنه دليل على فقدان الثقة, بحيث أصبح الإنسان يبحث عن العيوب, وإذا لم يجدها حاول أن يصطنعها ويختلقها، وهكذا يقع الفساد العريض في المجتمع.

أزمة غياب القدوة

نموذج آخر: أزمة القدوة, القدوة التي لا يمكن أن تحقق التربية إلا بوجودها لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21], فهذه هي القدوة العظمى، الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم, الذي هو المثل الكامل في هديه وأقواله وأفعاله وأخلاقه وعبادته عليه الصلاة والسلام, ثم ما دون ذلك من القدوات، التي يمكن أن تحرك الإنسان فقط إلى عمل صالح متفق عليه، كما يومئ إلى ذلك حديث جرير -وهو في الصحيح- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من سَنَّ في الإسلام سنة حسنة؛ فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده إلى يوم القيامة} هو لم يأت بشيء من عنده, إنما أحيا سنة قد أميتت، وأثارها، وحركها، ودعا الناس إليها بقوله وفعله, فاقتدوا به، واندفعوا إليه بصدقة, أو إلى جهاد, أو إلى علم, أو إلى عمل, بسبب أنهم رأوا فلاناً فعل فقلدوه وحاكوه في ذلك، وذكرهم بما كان غائباً عن وجدانهم.

أزمة القدوة: القدوة الحية -التي هي أصل التربية والسلوك- لم تعد تتوافر في المجتمع, فأحياناً لا توجد القدوة في المنـزل عند الأب بالنسبة للولد, أو عند الأم بالنسبة للبنت, لا توجد في الإعلام، فالإعلام قد يقدم -مثلاً- الفنان على أنه قدوة, أو يقدم اللاعب على أنه قدوة, أو يقدم الوجيه والثري على أنه قدوة, أو يقدم الشخصيات المرموقة اجتماعياً بغض النظر عن كفاءتها, وبغض النظر عن موقعها في دين الله عز وجل, وبغض النظر عن التزامها في السلوك والأخلاق.

ولهذا أنت لو أمسكت بأصغر طفلٍ, وقلت له: ماذا تتمنى أن تكون؟ ما كان له إلا أن ينطق بأولئك الأشخاص الذين يبجلهم المجتمع، ويفرح بهم ويعظمهم ويقدرهم ويوقرهم, فهو يحب أن يكون مثلهم.

التعامل والسلوك في المدرسة لا تقدم القدوة الصالحة -أحياناً- بل تتوفر على النقيض من ذلك ألوان من القدوات السيئة في هذه المرافق وفى غيرها, وهنا فراغ الساحة من القدوة، يعني: انعدام العمق التربوي لدى الأفراد, وتنازع الفرد بين أكثر من نمط من الأنماط الغازية, فهو في ذهنه فلان وفلان وفلان, وكل هؤلاء ليسوا أهلاً لأن يكونوا قدوة حسنة وغاب عنه أولئك الرجال الأفذاذ.

أزمة غياب الحوافز

ومن الأزمات: أزمة الحوافز.

الحوافز التي تدعو الإنسان أن يعمل, وإلى أن يضحي, وإلى أن يبذل, وإلى أن يشارك, وأنت تجد في شريعة الله تعالى أولاً: الأجر والثواب فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [الزلزلة:7-8] فهذا من الحوافز والأجر عند الله للأعمال الصالحة.

أما العقوبة عند الله تعالى على الأعمال السيئة, وكنموذج -أيضاً- حين تنظر إلى عمل كالجهاد وما فيه من نـزيف الدماء, وإطاحة الرءوس, وعقر الجواد, وفقدان الحياة, تجد أن الشرع جعل للإنسان حوافز في هذا العمل, منها حوافز شرعية في فضل الجهاد والمجاهدين, وما أعد الله تعالى لهم في الدار الآخرة.

حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح مسلم-: {إن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجة والأخرى كما بين السماء والأرض، أعدها الله تعالى للمجاهدين في سبيله}, وبالمقابل هناك حوافز دنيوية سريعة أيضاً مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم -كما في غزوة حنين وغيرها-: {من قتل قتيلاً فله سلبه} أي: له ما معه من السلاح والعتاد, -كما هو معروف- في تنفيل السرايا، وإعطائها جزءاً من الغنيمة: الربع أو الخمس، على ما هو معروف تفصيله.

إن هذا نموذج من الحوافز, ولابد أن يكون للمجتمع حوافز, فالمجتمعات الإسلامية اليوم تعاني من أزمة, يعني نقصاً حاداً, وأحياناً غياباً كاملاً, فالحوافز التي تدعو الإنسان إلى العمل، إلى الجهاد، إلى الدعوة، إلى النصيحة، إلى البذل, لابد من حوافز للعلماء والمبدعين تدعوهم إلى ذلك, حوافز للمربين والمدرسين, حوافز للمجتهدين, حوافز للمخترعين والباحثين, حوافز لكل أصحاب المواهب؛ بل لا أقول إن المجتمعات الإسلامية تخلو من الحوافز, إنما -أحياناً- نجد المسلمين في كل بلادهم ربما لا يميزون المبدع عن الخامل, أو عن النائم, ولا تتوافر لديهم أساليب لضمان حقوق أولئك الأشخاص, سواء كانت هذه الحقوق مالية أو معنوية أو غيرها.

أزمة غياب الحقوق الشرعية

ومن ألوان الأزمات:أزمة الحقوق الشرعية أو ما يعبر عنها بعضهم في العصر الحاضر: بأزمة الحرية, وهذا الاصطلاح غير وارد بهذا اللفظ بالمعنى المقصود, فالأولى أن يعبر عنه بأزمة الحقوق الشرعية, إنه لا عمل في الدنيا بدون تشجيع, ولا إبداع في الدنيا بدون حرية, -كما يقول بعضهم- والحرية يعنون بها: الحق الشرعي المنضبط.. الضمانة الصحيحة لتصحيح الأخطاء وتلافي العيوب, وهي إشعار للإنسان بآدميته وكرامته التي بينها الله عز وجل وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [الإسراء:70].

إن أخطر ما تعانيه المجتمعات الإسلامية الحرية العوراء, الحرية الناقصة، التي تمنح لفئة من فئات المجتمع, على حساب فئات أخرى, أو تعطى لاتجاه دون آخر، خاصة حين يكون أولئك الذين منحت لهم الحرية, وأعطوا الحق كاملاً، هم من الفئات المنحرفة, التي تحمل أفكاراً مخالفة للأسس التي قامت عليها هذه الأمة, كالأفكار العلمانية مثلاً, أو الأفكار الحداثية, أو الأفكار الإلحادية, فيكون للإنسان الحرية في طرحها والحديث عنها، وترويجها بالكتاب، والمجلة،،والتلفاز والإذاعة، والنادي، والمنتدى، والأمسية وغير ذلك على حين لا يملك أصحاب الحق الشرعي, وأصحاب العلم, وأصحاب الدعوة, وأصحاب التوجيه, وأصحاب الريادة, وحملة الهدي السماوي, لا يملكون الحق ذاته.

ومن نتائج فقدان الحرية، أو فقدان الحق الشرعي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

من آثار ذلك الكَبْتُ والانطواء، والعزلة، والنكوص، وعدم التأقلم مع المجتمع, بل وربما يترتب على ذلك نمو مجتمعات داخل المجتمعات الإسلامية, مجموعات ترفض هذا الواقع وتحاربه, فضلا عن فُشُو الكراهية والبغضاء بين الناس.

أزمة غياب الإتقان والإحسان

ومن ألوان الأزمات: أزمة الإتقان والإحسان وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195], إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128] أي شيء هو الإحسان؟ إنه الإتقان، كما عند البيهقي بسند حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه}, وفي الحديث الآخر -حديث شداد بن أوس وهو في الصحيح-: {إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة}هذا من الإحسان! حتى المقتول الذي يغادر الحياة تقتله قتلاً حسناً, {وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته}.

إن من عدم الإتقان ضعف الإنسان في العبادة، مثلاً: تأخير الصلاة, أو التقصير فيها, أو التقصير في الطهارة, أو عدم الصلاة مع الجماعة, أو التفريط فيها, أو التفريط في الصيام, أو في الحج, أو في غير ذلك من العبادات التي أمر الله تعالى بها, ورسوله صلى الله عليه وسلم.

ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: {الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك} فما بالك بعبد يعبد ربه وكأنه ينظر إلى الله عز وجل, ويراه بعينه فيكون مقبلاً عليه، معرضاً عما سواه صادقاً خاشعاً، لا يلتفت إلى المخلوقين طرفة عين, فهذا هو الإحسان في عبادة الله تعالى.

وهناك لون آخر: وهو فقدان الإحسان فيما يتعلق بحقوق العباد, مثل عدم إتقان الأعمال المنوطة بك أيها الإنسان! إهدارها وتضييعها، والحرص على شكلية العمل ومظهريته، دون حقيقته، ومعناه: نمو الخواء أساليب التحايل والغش والخداع، والنقص في العمل, وعدم الحرص على إنجاز الأمور, أي أنك حريص على ألا تساءل عن عملك، لا يعاتبك المدير -مثلاً- على أنك تأخرت, ولا يعاتبك المسئول على أن هذه المعاملة ما نـزل عندك ولكن ما وراء ذلك، فإنك لا تلتفت إلى أحد، وهناك آلاف الأساليب والطرق التي يستطيع الإنسان فيها بالحيلة أن يتخلص من العتاب من الآخرين, ومن المسئولية، ومن المحاسبة, ولكنه يعلم في قرارة نفسه أنه ما قام بالواجب.

أزمة غياب الكفاءة والمحسوبية

أزمة الكفاءة، أو المحسوبية، أو الطبقية، أو التميز القبلي بين الناس، أو التميز العنصري, وعدم جعل المعيار في التقويم والتقديم والتوظيف والرعاية, عدم جعل المعيار هو المعيار الشرعي, إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ [القصص:26], فالقوة والأمانة، القوة في الدين، والقوة في العلم، والقوة في الخلق، والإتقان والأمانة, هذا من أزمة الكفاءة, ومنه: إبعاد الجادين والمصلحين والصادقين, لصالح الأقرباء والأصدقاء، وبني العم وبني الخال، والزملاء والجيران وسكان البلد أو المنطقة التي أنا منها.

ومن آثاره إهدار الثروات العظيمة التي على رأسها الإنسان وإثارة البغضاء والشحناء بين الناس, وتضييع الأمانة بإيكالها إلى غير أهلها, وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم -لمن سأله عن الساعة-: {إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة, قيل: ومتى إضاعتها؟! -قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح-: إذا وُسِدَ الأمر إلى غير أهله, فانتظر الساعة}.

أزمة غياب التخطيط

أزمة التخطيط: والتخطيط مطلب شرعي، حتى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعتمده كثيراً، وحادثة الهجرة مثلٌ ذلك في هذا المجال, ومثل -أيضاً- لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم قال: -كما في صحيح مسلم- {أحصوا لي من يلفظ بالإسلام} وهو من حديث حذيفة, فأجرى النبي صلى الله عليه وسلم عملية إحصائية لعدد المسلمين, وهذا كله يتعلق بموضوع التخطيط، ومحاولة الإعداد للمستقبل, التخطيط لحل المشكلات التي يمكن أن تنجم, التخطيط لتنمية المجتمع, التخطيط لبناء النفس, التخطيط للوقاية من الأخطاء والأخطار المقبلة. ونحن نعرف أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتخوفون وهم في المدينة من غسّان، حتى أن رجلاً لما طرق على عمر خرج إليه عمر، وقال له: ما لك؟ قال: افتح، حصل أمر عظيم! قال: ماذا، هل جاءت غسان؟! قال: كنا نتسامع أنهم ينعلون الخيل لحربنا, وقد امتلأت قلوبنا منهم رعباً, قال: لا، الأمر أعظم من ذلك, طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، والحديث طويل معروف.

والشاهد: أن تَوَقُع الأخطار المستقبلية والاستعداد لمدافعتها وإزالتها جزء مما هو مطلوب من المسلم, ولكن انعدام الشعور الصادق بالمسؤولية, وانعدام المؤسسات والدراسات والاستطلاعات, وعدم توفر البيانات الصادقة الضرورية للعمل, وإبعاد الكفاءات المخلصة, واستيراد المخططين الأجانب من خارج دائرة المنتفعين والمستفيدين, بل من خارج أبناء الأمة كلها, كل هذا أوجد أزمة في التخطيط على مستوى الأمة، في كل مدنها، ودولها، ومناطقها, وأنتج ذلك عواقب منها:

استمرار التخبط, وعدم انتظام الأمة, وعدم تحقيقها لما تطمح إليه وتصبوا إليه, ومثله أن الأمة أصبحت تتعرض دائماً وأبداً لمفاجآت غير محسوبة, ونكبات لم تكن تنتظرها, وأهدر المال والجهد في أشياء لا تنتفع الأمة في حاضرها ولا في مستقبلها, وكم ندمت الأمة على مالٍ بذلته, أو علاقة بنتها, أو خطة رسمتها, أو غير ذلك من الأشياء!

أزمة غياب الأمن

أمن الإنسان على نفسه، أو على مستقبله، أو على دينه -قبل ذلك كله- أو على فكره، أو على ماله، أو على ولده، أو جاهه، أو منصبه، أو مكانه، أو كرامته، أو سمعته، إلى غير ذلك, ويجب أن نعلم أن الخائف لا يعمل شيئاً، ولا ينتج شيئاً، ولا يتعاون مع أحد, ولا يوجد أمن للإنسان دون وجود حدود فاصلة له- واضحة وواقعية- تبين ما للإنسان فيه حق فيفعله, وما ليس للإنسان فيه حق فيتركه, وما لم توجد الإجراءات الكافية لحفظ حقوق الإنسان، إذا ظلم، أو إذا اعتدي عليه، أو قصر في حقه، كائن من كان هذا الظالم، ومهما كان حجم الواقع عليه.

أزمة غياب المنهج

الأمة كثيراً ما تغيبت عن وعيها, ولا تعرف هويتها وحقيقتها وانتماءها, أو تغيبت عنها قبلتها التي أمرت أن تتجه إليهاصحيح! يعلم الناس أن الكعبة هي البيت الحرام فيصلون إليها في أحيان كثيرة, لكنهم قد لا يعرفون إلى أين يتجهون في تفكيرهم! وإلى أين يتجهون في اقتصادهم! وإلى أين يتجهون في سياستهم! وإلى أين يتجهون في إعلامهم! والإسلام دين جاء ليهيمن على الحياة كلها, ولتدور في فلكه كل الأعمال والأفكار والتصورات والمواقف.

لقد ظل جزء من الأمة يركض وراء الشيوعية حتى فوجئ بسقوطها, ولا زالت أجزاء كبيرة من الأمة تركض وراء التغريب, ووراء النظام الدولي الجديد, ووراء أمريكا بنظمها وسياساتها وخططها وأفكارها ومناهجها, ولا زالت أجزاء كبيرة من الأمة تنادي بـالعلمانية وفصل الدين عن الحياة وعن كل المجالات العلمية المثمرة.

ومثل ذلك: التبعية لبعض المذاهب أو النظريات القديمة, ولو كانت موجودة في تاريخنا أو تراثنا, فإن تاريخنا يوجد فيه الآراء المنحرفة..آراء الفلاسفة, وآراء الجهمية, وآراء المعتزلة, آراء الأمم الكثيرة التي نقلها بعض المسلمين وترجموها وتأثروا بها, فلا بد من تحرير التبعية، وأن يكون المعيار في المنهج للقرآن الكريم والسنة النبوية -لا غير- وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7].

إن هذا المقياس يقضي على كل صور التناقض في الأمة, فما وجدناه موافقاً للحق الوارد في القرآن الكريم والحديث الصحيح أخذنا به، بغض النظر عن مصدره, وما وجدناه مخالفاً رفضناه، ولو كان ظهر من بيننا ومن بلادنا.

من مظاهر انعدام المنهج أو ضعفه أو أزمته تذبذب الشباب وترددهم، وانعدام الانسجام الفكري والثقافي، وأزمة الثقة أيضاً بين الشباب.

أزمة غياب التدين

وأخيراً من الأزمات: أزمة التدين: بل لعلها أهم الأزمات, ولذلك جعلتها هي الأخيرة، أزمة غياب مراقبة الله عز وجل وغياب الخوف من لقائه, وأي معنى لحياة إنسان غاب عنه الإيمان بالدار الآخرة؟! قال تعالى عن بعض عباده المخلصين إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ [ص:46], فذكر الدار الآخرة واعتبارها في عمل الإنسان وقوله وفعله، هو الذي يضبط المعيار والميزان في نفسه, يجعله يقبل الخير بطواعية, ويعرض عن الشر بطواعية. فهذا يوسف عليه الصلاة السلام تتيسر له كل الأسباب في بيت امرأة العزيز, وهي سيدة البيت، وقد أغلقت الباب، وفي خلوة، وقالت هَيْتَ لَكَ [يوسف:23] وفى قراءة (هئتُ لك), قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [يوسف:23].

فالخوف من الله والتدين -أمر عظيم- يجعل الإنسان يعرض عن الحرام، حتى ولو كان في متناول يده, ويفعل الطاعة والخير حتى ولو كان فيه حتفه وعطبه.

أولئك الذين يخوضون المعارك, وتتساقط رءوسهم, هل كانوا يجهلون ذلك المصير؟ كلا. ما جاء إنسان للمعركة وهو يعتقد أنه ذهب إلى نـزهة أو سياحة, لقد عرف أنه ذاهب إلى ميدان حرب, ولكنه يعلم أن تلك الضربة التى يطير بها رأسه إن كان صابراً محتسباً، مقبلاً غير مدبر, هي التي يدخل بها الجنة، برحمة الله عز وجل وإذنه.

إن أزمة: غياب التدين، وضعف مراقبة الله تعالى، وعدم الخوف منه, لهي أهم من كل ما سبق؛ بل هي السبب الرئيس في كل ما سبق, فذلك المسئول الذي فَرَّطَ في عمله، أو المدرس، أو الطالب، أو الأب، أو الزوج، كل هؤلاء ما فرطوا إلا بسبب ضعف التدين, وهذا السبب له نتائج:

من مظاهرها: جفاف الإنسان في روحه, في محبته لله، وفي إيمانه وفي إشراق قلبه، وتوقده, وإيمان الكثيرين بالماديات حتى كأنها كل شيء, فأنت حينما تحدث الإنسان التاجر -مثلاً- عن البركة يلوي رأسه كأنه لا يؤمن بذلك, إنما يؤمن بالحسابات والدراسات الاستشارية, والأمور المبنية على حقائق عملية لها نتائج, وينسى وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف:96].

فينـزل الله تعالى البركة على عباده المؤمنين إذا صدقوا وآمنوا واتقوا.

ومن نتائج ذلك: اضمحلال النية الصادقة في عمل الإنسان، وفي أموره كلها, فلا يعمل إلا ما يرى أن له فيه مصلحه دنيوية عاجلة.

ومن أثار ذلك: ضعف الإذعان لأمر الله وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم, فأصبح الكثيرون يسمعون الأوامر ثم يخالفونها, ويسمعون النواهي ثم يأتونها, لماذا؟! لأن ذلك القلب المندفع إلى الطاعة قد ضعف فيه الدافع والحافز.

ومثل ذلك نسيان حقوق الله تعالى كلها, بل نسيان حقوق العباد، أيضاً.

هناك أزمة نستطيع أن نعبر عنها بأزمة الثقة, غياب الثقة داخل الأمة، فهناك أزمة ثقة بين الحاكم والمحكوم، تبادل المخاوف والشك والظن وعدم الثقة. هناك أزمة ثقة بين الطالب والمدرس, هناك أزمة ثقة بين الناصح والمنصوح, بين جيل الشباب والشيوخ, بين الرجل والمرأة, بين المدير والموظف.. وهكذا.

وكل هذه الأزمة مبنية على سوء الظن يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات:12], جعلت الأمة تتمزق إلى طوائف شتى, وإلى فرق مختلفة, وإلى طبقات متناحرة, لا يثق بعضها في بعض, ولا يتعاون بعضها مع بعض.

وترتب على ذلك تعطيل المهارات والكفايات وقدرات الأفراد, وأصبحت هذه الأزمة, أزمة الثقة، تكبل الفرد عن الإبداع والإنتاج والاجتهاد والتعاون, وهذا مصداق ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم حينما قال لـمعاوية: {لا تتبع عورات الناس، فإنك إن تتبعت عوراتهم أفسدتهم أو كدت تفسدهم}.

إن تتبع العورات من قبل المدرس -مثلاً- الذي يتتبع عورة الطالب, أو الابن الذي يتتبع عورة أبيه, أو الحاكم الذي يتتبع عورات الرعية, أو الرجل الذي يتتبع عورة المرأة, أو العكس في ذلك كله, إنه دليل على فقدان الثقة, بحيث أصبح الإنسان يبحث عن العيوب, وإذا لم يجدها حاول أن يصطنعها ويختلقها، وهكذا يقع الفساد العريض في المجتمع.

نموذج آخر: أزمة القدوة, القدوة التي لا يمكن أن تحقق التربية إلا بوجودها لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21], فهذه هي القدوة العظمى، الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم, الذي هو المثل الكامل في هديه وأقواله وأفعاله وأخلاقه وعبادته عليه الصلاة والسلام, ثم ما دون ذلك من القدوات، التي يمكن أن تحرك الإنسان فقط إلى عمل صالح متفق عليه، كما يومئ إلى ذلك حديث جرير -وهو في الصحيح- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من سَنَّ في الإسلام سنة حسنة؛ فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده إلى يوم القيامة} هو لم يأت بشيء من عنده, إنما أحيا سنة قد أميتت، وأثارها، وحركها، ودعا الناس إليها بقوله وفعله, فاقتدوا به، واندفعوا إليه بصدقة, أو إلى جهاد, أو إلى علم, أو إلى عمل, بسبب أنهم رأوا فلاناً فعل فقلدوه وحاكوه في ذلك، وذكرهم بما كان غائباً عن وجدانهم.

أزمة القدوة: القدوة الحية -التي هي أصل التربية والسلوك- لم تعد تتوافر في المجتمع, فأحياناً لا توجد القدوة في المنـزل عند الأب بالنسبة للولد, أو عند الأم بالنسبة للبنت, لا توجد في الإعلام، فالإعلام قد يقدم -مثلاً- الفنان على أنه قدوة, أو يقدم اللاعب على أنه قدوة, أو يقدم الوجيه والثري على أنه قدوة, أو يقدم الشخصيات المرموقة اجتماعياً بغض النظر عن كفاءتها, وبغض النظر عن موقعها في دين الله عز وجل, وبغض النظر عن التزامها في السلوك والأخلاق.

ولهذا أنت لو أمسكت بأصغر طفلٍ, وقلت له: ماذا تتمنى أن تكون؟ ما كان له إلا أن ينطق بأولئك الأشخاص الذين يبجلهم المجتمع، ويفرح بهم ويعظمهم ويقدرهم ويوقرهم, فهو يحب أن يكون مثلهم.

التعامل والسلوك في المدرسة لا تقدم القدوة الصالحة -أحياناً- بل تتوفر على النقيض من ذلك ألوان من القدوات السيئة في هذه المرافق وفى غيرها, وهنا فراغ الساحة من القدوة، يعني: انعدام العمق التربوي لدى الأفراد, وتنازع الفرد بين أكثر من نمط من الأنماط الغازية, فهو في ذهنه فلان وفلان وفلان, وكل هؤلاء ليسوا أهلاً لأن يكونوا قدوة حسنة وغاب عنه أولئك الرجال الأفذاذ.

ومن الأزمات: أزمة الحوافز.

الحوافز التي تدعو الإنسان أن يعمل, وإلى أن يضحي, وإلى أن يبذل, وإلى أن يشارك, وأنت تجد في شريعة الله تعالى أولاً: الأجر والثواب فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [الزلزلة:7-8] فهذا من الحوافز والأجر عند الله للأعمال الصالحة.

أما العقوبة عند الله تعالى على الأعمال السيئة, وكنموذج -أيضاً- حين تنظر إلى عمل كالجهاد وما فيه من نـزيف الدماء, وإطاحة الرءوس, وعقر الجواد, وفقدان الحياة, تجد أن الشرع جعل للإنسان حوافز في هذا العمل, منها حوافز شرعية في فضل الجهاد والمجاهدين, وما أعد الله تعالى لهم في الدار الآخرة.

حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح مسلم-: {إن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجة والأخرى كما بين السماء والأرض، أعدها الله تعالى للمجاهدين في سبيله}, وبالمقابل هناك حوافز دنيوية سريعة أيضاً مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم -كما في غزوة حنين وغيرها-: {من قتل قتيلاً فله سلبه} أي: له ما معه من السلاح والعتاد, -كما هو معروف- في تنفيل السرايا، وإعطائها جزءاً من الغنيمة: الربع أو الخمس، على ما هو معروف تفصيله.

إن هذا نموذج من الحوافز, ولابد أن يكون للمجتمع حوافز, فالمجتمعات الإسلامية اليوم تعاني من أزمة, يعني نقصاً حاداً, وأحياناً غياباً كاملاً, فالحوافز التي تدعو الإنسان إلى العمل، إلى الجهاد، إلى الدعوة، إلى النصيحة، إلى البذل, لابد من حوافز للعلماء والمبدعين تدعوهم إلى ذلك, حوافز للمربين والمدرسين, حوافز للمجتهدين, حوافز للمخترعين والباحثين, حوافز لكل أصحاب المواهب؛ بل لا أقول إن المجتمعات الإسلامية تخلو من الحوافز, إنما -أحياناً- نجد المسلمين في كل بلادهم ربما لا يميزون المبدع عن الخامل, أو عن النائم, ولا تتوافر لديهم أساليب لضمان حقوق أولئك الأشخاص, سواء كانت هذه الحقوق مالية أو معنوية أو غيرها.


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 5137 استماع
حديث الهجرة 5016 استماع
تلك الرسل 4156 استماع
الصومال الجريح 4147 استماع
مصير المترفين 4124 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4053 استماع
وقفات مع سورة ق 3978 استماع
مقياس الربح والخسارة 3931 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3873 استماع
العالم الشرعي بين الواقع والمثال 3834 استماع