التأصيل في علم التجويد [5]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين.

نستذكر المصادر التي ذكرناها سابقاً لعلم التجويد وهي: كتب النحو واللغة، كتب مفردة في القضايا الصوتية، كتب القراءات، كتب التجويد المتخصصة، كتب عيوب القراءة، وممكن أن يضاف إليها الكتب المعاصرة في علم الصوتيات، خصوصاً الذي تعرض منها لما يتعلق بالتجويد؛ لأنها مصدر يمكن الاستفادة منه فيما يتعلق بالتجويد.

الكتب المتعلقة بالتجويد من ناحية النحو واللغة

بداية نستعرض أو نستقرئ ما يتعلق بكتب التجويد من ناحية كتب النحو واللغة، أول كتاب وأهم كتاب في هذا هو كتاب سيبويه توفي مائة وثمانين، وقد انطلق كبعض العلماء من باب الإدغام، فقال: هذا باب الإدغام، ثم قال: هذا باب عدد الحروف العربية ومخارجها ومهموسها ومجهورها وأحوال مجهورها ومهموسها واختلافها، فأصبحوا في العربية تسعة وعشرين، ثم استمر يتكلم عن مخارج الحروف وعن الصفات.

وهنا تنبيه: في صفحة أربعمائة وثلاث وثلاثين تحقيق عبد السلام هارون ، سقط مخرج اللام، حيث قال في مخرج الضاد: (ومن بين أول حافة اللسان وما يليها من الأضراس مخرج الضاد)، ثم قال: (ومن حافة اللسان من أدناها إلى منتهى طرف اللسان وما بينها وما يليها من الحنك الأعلى ومن وسط الثنايا مخرج النون)، بينهما مخرج اللام لم يذكر، فيستدرك من الطبعات الأخرى.

ومن الكتب أيضاً أي كتاب عني به كتاب سيبويه، من الشروح أو التعليقات فإنه سيكون مفيداً فيما يتعلق بالتجويد، مثل شرح السيراتي أو غيره، وعموم كتب النحو المستوعبة التي كتبت بعد سيبويه تشير إلى المخارج والصفات وغيرها من قضايا التجويد، لكن المطلوب العناية بمرحلة ما قبل تدوين كتب التجويد والقراءات، ومعرفة ما قالة علماء العربية من أصول كلام العرب، من منظور عربي مستقر عندهم، وأن ما ذكره علماء التجويد لن يخالف هذه الأصول العربية الموجودة عند علماء العربية، وإنما زادوا عليه ما يتعلق بقضية التقديرات بالذات، وإن كان هناك مسائل أخرى، لكن أهم شيء، وأميز ما تميز به علماء القراءات هي قضية التقديرات.

ومن كتب اللغة أيضاً كتاب العين لشيخ سيبويه الخليل بن أحمد ، فهو كتاب مهم في هذا الباب.

وأيضاً من كتب اللغة كتاب الجمهرة لـابن دريد ، والكلام هذا كله عن مقدمات الكتب، يعني مقدمة كتاب العين للخليل بن أحمد توفي قرابة المائة ما بين السبعين إلى خمس وسبعين، ومقدمة كتاب الجمهرة لـابن دريد توفي ثلاثمائة وإحدى وعشرين، وكذلك مقدمة كتاب تهذيب اللغة للأزهري توفي ثلاثمائة وسبعين، فكانت وفاتهم في هذه الفترة المتقاربة.

من الكتب أيضاً المهمة في النحو كتاب المقتضب للمبرد ، توفي سنة مائتين واثنين وثمانين، فيه كلام عن قضايا المخارج والصفات والإشمام والروم.. إلخ، القضايا التي ذكرها سيبويه ؛ لأن المبرد بنى كتابه على كتاب سيبويه واستفاد منه كثيراً، وأحياناً قد يعترض عليه.

هذه فقط إشارة إلى بعض كتب النحو واللغة، وقد نجد قضايا مرتبطة بالصوتيات مفرقة في كتب اللغويين، في غير الكتب المعاجم، ولو رجعنا إلى معاني القرآن للفراء ومعاني القرآن للأخفش ، فسنجد فيها أيضاً إشارات إلى بعض الأحكام، لكنها ما جاءت أصالة وإنما جاءت كمبحث استطرادي، فـالفراء قد تكلم عن قضايا صوتية مرتبطة بالتجويد في كتابه معاني القرآن، وكذلك الأخفش تكلم عن أحكام النون الساكنة وفصل فيها في كتابه أيضاً، فيمكن أن توجد لكنها مسائل استطرادية؛ لأنه لم تكن مقصودة، بخلاف كتاب سيبويه ، أو الخليل بن أحمد ، فقد تكلموا عنها أصالة؛ لأنها من صلب موضوعاتهم التي يدرسونها، وهي دراسة لغة العرب، ونحو العرب، فهذه إشارة إلى بعض الكتب المرتبطة بكتب العربية.

ومن الكتب المهمة أيضاً كتاب ابن جني ، واسمه: سر صناعة الإعراب، وهذا كتاب مهم جداً لمن أراد أن يقرأ في التجويد، خصوصاً فيما يتعلق بتجويد الحروف، توفي ابن جني سنة ثلاثمائة واثنتين وتسعين، قال في كتابه وهو يتكلم عن صفات الحروف: (اعلم أن الطاء حرف مجهور مستعل يكون أصلاً وبدلاً ولا يكون زائداً)، يلاحظ أنه يناقش قضايا عربية لا يناقش تجويداً، لكن من خلال كلامه يمكن أن يؤخذ منه قضايا كثيرة مرتبطة بالقراءة، ثم قال: (فإذا كان أصلاً وقع فاءً وعيناً ولاماً، فالفاء نحو: طبل، وطحن، والعين نحو قطر وخطب، واللام نحو: قرط وخبط، وأما البدل فإن تاء افتعل إذا كانت فاؤه صاداً أو ضاداً أو طاء أو ظاء تقلب طاءً ألبتة لا بد)، وذكر أمثلة مثل: اصطبر واضطرب.. إلخ وكلامه فيما يتعلق بحرف الطاء، ويورد ما تكلم به العلماء عن هذا الحرف، وما يحصل باللغة مما يتعلق بهذا الحرف، يعني كأنه يتكلم عن لغة العرب من خلال الحروف، ثم يقول بعده على حرف الظاء: (حرف مجهور يكون أصلاً وبدلاً.. إلخ)، ثم يتكلم عن حرف الظاء وما فيه، ثم حرف العين، ثم حرف الغين.. وهكذا إلى آخر الكتاب، يتكلم عنها حرفاً حرفاً، ثم تكلم في الأخير عن قضايا مرتبطة بالمخارج أيضاً، فهو كتاب مهم ونفيس لمن أراد أن يقرأ في كتاب العربية.

الكتب المفردة المتعلقة بعلم التجويد

أما الكتب المفردة فهناك رسالتان في تجويد القرآن لـأبي الحسن علي بن جعفر السعيدي ، الرسالة الأولى وهي مطبوعة في دار عمار، تحقيق الدكتور غانم قدوري ، وهذا الكتاب أوله كتاب التنبيه على اللحن الجلي واللحن الخفي، ومن ميزة هذا الكتاب أن طبق ما يتعلق باللحن الجلي والخفي على سورة الفاتحة، بعدما ذكر تعريف اللحن الجلي والخفي حيث قال: (وأنا ذاكر في جملة ذلك حروفاً يسيره، تدل على سائر ما في القرآن).

قوله تعالى: (( بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ ))، ينبغي أن يلفظ بالباء قبل السين مخففة، ولا تضغط في مخرجها، ولا يزاد على لفظها، وكذلك الباء في (نعبد)، نتوقى فيها من التشديد؛ لأنها شديدة بنفسها، فيسرع اللفظ بها بعد الساكن لتسلم من التشديد، فإن القارئ ربما لفظ بها وقدر أنها مخففة وقد شددها بعض التشديد، وكذلك إذا كان قبلها نون ساكنة مثل: (أَنْبِئْهُمْ ) (أَنْبِئُونِي) (مَنْ أَنْبَأَكَ) (فَانْبَجَسَتْ) (مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) وما أشبهها؛ لأن النون تصير بعدها ميماً تقول: عنبر، وقنبر، منبر، فتقلب النون ميماً.. إلى آخر) كلامه فيما يتعلق بتجويد هذه السورة، يعني أخذ السورة كلمة كلمة وناقش ما فيها، وهذه من لطائف هذا الكتاب، ثم ذكر أمثلة فيما يتعلق بالياء إذا انفتحت وما قبلها مكسور، والواو إذا انفتحت وما قبلها مضموم، وباب: الواوين إذا اجتمعا والأولى ساكنة والثانية مضمومة، أمثلة كثيرة ذكرها في هذا الرسالة الصغيرة.

أما الرسالة الثانية له كتاب: اختلاف القراء في اللام والنون، وناقش في هذه الرسالة أحكام النون الساكنة والتنوين، وتكلم في اللام وتفخيم اللام في مثل لفظ الجلالة، متى تفخم؟ متى ترقق؟ وتكلم أيضاً في مسألة إظهار النون الساكنة والتنوين عند حروف الحلق، وإخفائها عند بعض الحروف، وحكمها في القياس واحد، وغيرها من المواضيع، وقد كان السعيدي حياً إلى قرابة الأربعمائة وعشرة، كما حققه الدكتور غانم قدوري الحمد ، يعني أنه توفي في بداية القرن الخامس قرابة الأربعمائة وعشرة، وهذا لكي نعرف تواريخ تطور علم التجويد.

الكتب المتعلقة بالتجويد من ناحية القراءات

وأما كتب القراءات، فإن أول كتاب ممكن أن نضع له مثالاً هو كتاب الإقناع في القراءات السبع لـابن الباذش، ولنأخذ من صفحة مائة وست وسبعين من المجلد الأول حيث قال: (حروف يخاف على القارئ اللحن فيها بالإدغام، ونذكر أشياء جرت عادة القراء بذكرها للخلاف الواقع في بعضها ولتخوفهم على القارئ اللحن بالإدغام) وذكر منها الفاء، قال: (لا يجوز إدغامها في الميم والواو والباء)، ثم بدأ يتكلم عن خوف الإدغام في الفاء، ونذكر ما يتعلق بالميم، قال: (ومن ذلك الميم عند الباء، نحو: (وَكَذَّبْتُمْ بِهِ)، و(وآمَنتُمْ بِهِ)، (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ)، (أَنْ بُورِكَ)، (هَنِيئًا بِمَا)، و (صُمٌّ بُكْمٌ) ونحوه كثير)، يلاحظ أنه أدخل القلب مع ما يسمى بالإخفاء الشفوي، قال: (فاختلفت عبارات القراء عنه بعد إجماعهم، إلا من شذ، وسنذكر أن الإدغام لا يجوز)، يعني أنهم أجمعوا على أن الإدغام لا يجوز في مثل هذه الحال، ثم قال: (فقال ابن مجاهد : والميم لا تدغم في الباء، لكنها تخفى؛ لأن لها صوتاً من الخياشيم تواخي به النون الخفيفة، قال: وهو قول سيبويه ) ثم ذكر كلام سيبويه في هذه المسألة، ثم قال: (وإلى هذا ذهب أبو الحسن الأنطاكي و أبو الفضل الخزاعي و عثمان بن سعيد الداني وبه كان يأخذ أصحابه، فيما ذكر لي أبي رضي الله عنه؛ لأن أباه كان أيضاً من علماء القراءة، وكذلك أخذ علي عياش بن خلف عن قراءته على محمد بن عيسى ، ويحكى أنه مذهب الفراء ، وقال أبو الحسين بن المنادي وأحمد بن يعقوب التائب وعبد الباقي بن الحسن وطاهر بن غلبون وغيرهم: هي مظهرة غير مخفاة)، (وقال لي عياش بن خلف : قد روي هذا أيضاً على ابن مجاهد نصاً.

وحدثنا أبو داود قال: قال لنا عثمان بن سعيد : رواه أحمد بن صالح عن ابن مجاهد ، وقال لي أبو الحاكم بن شريح فيه بالإظهار، ولفظ لي به فأطبق شفتيه على الحرف إطباقاً واحداً، وروى أحمد بن سريج عن الكسائي إدغام الميم في الباء والفاء، قال الخزاعي : وإدغامها في الفاء اختيار خلف في رواية الحلواني عنه، وقرئ على أبي القاسم وأنا أسمع عن أبي معشر عن الحسن بن علي عن الخزاعي ، قال: سمعت أبا بكر الشذائي يقول: إدغام الميم في الفاء لحن. قال لي أبي رضي الله عنه: المعول عليه إظهار الميم عند الفاء والواو والباء، ولا يتجه إخفائها عندهم إلا بأن يزال مخرجها من الشفه، ويبقى مخرجها في الخيشوم كما يفعل ذلك في النون المخفاة، وإنما ذكرك سيبويه الإخفاء في النون دون الميم، ولا ينبغي أن تحمل الميم في هذا؛ لأن النون هي الداخلة على الميم في البدل، في قولهم: شمباء، وعنبر، و(صُمٌّ بُكْمٌ)، فحمل الميم عليها غير متجه؛ لأن النون تصرفاً ليس للميم، إلا أنها تدغم ويدغم فيها، والميم يدغم فيها ولا تدغم إلا أن يريد القائلون بالإخفاء انطباق الشفتين على الحرفين انطباقاً واحداً، وذلك ممكن في الباء وحدها في نحو: أكرم بزيد، فأما في الفاء والواو فغير ممكن فيها الإخفاء إلا بإزالة مخرج الميم من الشفتين، وقد تقدم امتناع ذلك، فإن أرادوا بالإخفاء أن يكون الإظهار رفيقاً غير عنيف، فقد اتفقوا على المعنى واختلفوا في تسميته إظهاراً أو إخفاءً ولا تأثير لذلك، وأما الإدغام المحض فلا وجه له.. إلخ)

والمشهور في حكم التقاء الميم مع الباء هو الإخفاء؛ لأنه جرى العمل عليها عند المتأخرين، وإلا فإن فيها حكماً آخر صحيحاً ومحكياً عند القراء هو: جواز الإظهار، والأمثلة على هذا كثيرة، ثم ذكر في آخر الكتاب أيضاً صفحة خمسمائة واثنتين وخمسين عنواناً هو: (اختلاف مذاهبهم في كيفية التلاوة وتجويد الأداء) وهذا مبحث مستقل نفيس ومهم أن يقرأ، يعني معرفة كيف كان يجود القراء، وهو من المباحث النفيسة التي تكلم عنها بعض علماء القراءة.

ثم جاء بعده أبو الكرم المبارك بن الحسن الشهرزوري المتوفى سنة خمسمائة وخمسين، له كتاب اسمه: المصباح الزاهر في القراءات العشر البواهر وهذا الكتاب من الكتب النفيسة في القراءات، وقد حقق جزء منه في رسالة دكتوراه أعدها الشيخ المقرئ إبراهيم بن سعيد الدوسري ، ومما ذكره أبو الكرم مبحث أو مباحث متعلقة بالقراءة والتجويد، فمثلاً: عقد في أول الكتاب مبحثاً عن المخارج، ثم عاد وعقد مبحثاً عن المد والقصر، وذكر المقادير والكلام عليها، ثم عقد باباً سماه: (الباب الثاني عشر في التجويد)، وذكر التجويد عند أئمة القراءة، وذكر فيه الترتيل والإمالة وألقاب الحروف وصفات الحروف، وصفة قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ومذاهب القراءة في كيفية القراءة ومراتبها عندهم.. إلى آخر هذه الأحكام في تجويد الحروف مفردة ومركبة أيضاً، فمثلاً: يأتي إلى حرف ويتكلم فيقول: (وصف الصاد وأعطها حقها إذا سكنت عند الطاء وإلا صارت سيناً، كقوله تعالى: وَاصْطَنَعْتُكَ [طه:41]، وكقوله: (يَسْطُونَ) (تَصْطَلُونَ) وشبه ذلك) بمعنى أن الصاد إذا لم تصف تميل إلى السين، وهذا حاصل عند كثير ممن يقرءون قد يقع عندهم هذا الخطأ، وهذا تنبيه على الأخطاء.

ثم قال: وبين همس التاء إذا جاورت حرفاً من حروف الإطباق في كلمة وخلصها من الطاء وإلا صارت طاءً، مثل قوله: (فَاخْتَلَطَ بِهِ) (مَنِ اسْتَطَعْتَ) و(يَسْتَطِيعُونَ). إلى آخر هذا المبحث وهو مهم ونفيس.

ثم عقد مبحثاً لإعراب القرآن، ثم مبحثاً في اللحن الجلي واللحن الخفي، واعتمد على كلام الإمام أبي الحسن علي بن جعفر بن محمد الرازي السعيدي وذكر شيئاً مما ذكره السعيدي في كتابه، ثم ذكر تجويد الفاتحة، كما فعل السعيدي ، ثم ذكر القصيدة الخاقانية وسنأتي عليها لاحقاً.

ثم نذكر بعده كتاب: الكامل في القراءات الخمسين، لـأبي القاسم الهذلي ، وهذا الكتاب لازال مخطوطاً، عقد فيه كتاباً سماه: كتاب التجويد، مع أن الكتاب في القراءات، واسمه الكامل في القراءات الخمسين، إلا أنه عقد باباً خاصاً في التجويد، وذكر مسائل متعلقة بالتجويد، من المخارج والصفات، ومما يحذر منه من بعض الأخطاء التي تقع في التجويد.

ومن لطائف هذا الكتاب، أنه أشار إلى مسألة وإن كانت جزئيةً، لكنها مفيدة وهي ما ذكر عن عدد المخارج عند الخليل بن أحمد ، فقيل: ستة عشر؛ لأن هناك كتباً متأخرةً تنسب هذا القول للخليل ، وهو يقول: (وقد ذكر الخليل ستة عشر مخرجاً، وهي التي ذكرنا)، وأيضاً أبو حيان في تذكرة النحاة ذكر عن الأخفش وهو تلميذ أيضاً للخليل ، ذكر عن الأخفش أنها ستة عشر حيزاً، يعني مخرجاً، وفي الحقيقة أن يكون قول سيبويه موافق لقول الخليل في مثل هذه المسألة أقرب من أن يكون مخالفاً له، فهذا يدلنا على أنه كما نسب إليه أن المخارج سبعة عشر مخرجاً فيوجد هناك من ينسب إليه أيضاً أنها ستة عشر، مثلما هو مذهب سيبويه.

ثم نذكر بعده كتاب: الإيضاح في القراءات، لـأحمد بن أبي عمر الأندرابي ، توفي سنة أربعمائة وسبعين، وهذا الكتاب من كتب -مقدمته بالذات- من أنفس كتب القراءات، مثل كتاب المصباح الزاهر للشهرزوري ، ذكر فيه مسائل متعلقة بعلوم القرآن -وهي لا تعنينا- وذكر في الباب الرابع والعشرين صفة قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيهم رضي الله عنهم أجمعين، وفي الباب الخامس والعشرين: ما يستحب للقارئ من تحسين اللفظ وتزيين الصوت بقراءة القرآن، والباب السادس والعشرين: في ذكر الحدر والترتيل وغير ذلك مما يحتاج إليه القارئ، وفي الباب السابع والعشرين ذكر، اللحن الخفي ومقالات أرباب الصناعة، والباب الثامن والعشرين: في ذكر مخارج الحروف، وهي المواضع التي تنشأ منها حروف العربية، والباب التاسع والعشرين: في ذكر أجناس الحروف وأصنافها وصفاتها وألقابها، والباب الثلاثين: في ذكر ما ينبغي للقارئ والمقرئ، ثم ذكر بعد ذلك موضوعات متعلقة بالقراءات.

وكذلك كتاب النشر عقد باباً في التجويد، مع أن اسمه: النشر في القراءات العشر.

الكتب المتخصصة في علم التجويد

ننتقل إلى كتب التجويد المتخصصة، أي: التي قصد المؤلف أن تكون في التجويد، فأول كتاب في التجويد قصيدة لـأبي المزاحم الخاقاني ، توفي سنة ثلاثمائة وخمس وعشرين، وقد ذكر فيها القراءات السبع، ومراتب القراءة، ومعرفة اللحن، وحقيقة التجويد وميزانه، وتلقي القرآن عشراً عشراً، والإدغام والإخفاء والفرق بينهما، وذكر المد والهمز والترقيق -ترقيق الراء واللام- وتنعيم العين والهاء، وذكر الوقف، وذكر المد اللازم الكلمي المثقل، والإظهار الحلقي، هذه هي المسائل التي ذكرها الخاقاني في قصيدته.

ولنأخذ على سبيل المثال ما ذكره في الوقف حيث قال:

وقف عند إتمام موافقاً لمصحفنا المتلو في البر والبحر

فهذه إشارة إلى ما يتعلق بالوقف والابتداء في هذا البيت فقط؛ لأنه قصدية قصيرة جداً، وهي مبتكرة مبتدأة، ولهذا قال عنها لما بدأ يتكلم عنها في أول كلامه:

أقول مقالاً معجباً لأولي الحجر ولا فخر إن الفخر يدعو إلى الكبر

أعلم في القول التلاوة عائذاً بمولاي من شر المباهاة والفخر

وأساله عوني على ما نويته وحفظي في ديني إلى منتهى عمري

وذكر أنه ابتكرها ولم يسبق إلى هذا الفن في الكتابة فيه، فهي تعتبر أول كتاب في التجويد.

ثم نذكر بعده كتاب: أسباب حدوث الحرف لـابن سينا الفيلسوف الطبيب المعروف، توفي سنة أربعمائة وثمان وعشرين، وهذا الكتاب له علاقة بالصوتيات، وذكر مسائل مرتبطة بالمخارج والصفات، وذكر دراسة قديمة ومبتكرة عند العرب في قضية الحنجرة واللسان تسمى الدراسة التشريحية، تكلم عنها من جهة علمه بالعربية، ومن جهة كونه طبيباً.

ثم نذكر بعده كتاباً من أنفس كتب التجويد، وهو كتاب مكي بن أبي طالب، المتوفى سنة أربعمائة وسبع وثلاثين، وأهم ما يمتاز به هذا الكتاب أن المؤلف حاول أن يجمع فيه متفرقات هذا العلم، وذكر أنه لم يسق إلى تأليف هذا الكتاب، أو للتأليف في التجويد، وذكر مصطلح التجويد أيضاً في صفحة إحدى وخمسين، ثم ذكر منهجه، فقال: (فأذكر الحروف واحداً بعد واحد، على رتبة المخارج مع جملة من صفته، ثم نذكر مع كل حرف ألفاظاً من كتاب الله جل ذكره، تنبه على تجويد لفظ ذلك الحرف فيها، وفي مثلها مما وقع ذلك الحرف فيها، مقارناً لغيره.. إلخ).

إذاً: منهج المؤلف أنه سيأخذ الحروف حرفاً حرفاً، وهذا منهج من مناهج كتب التجويد الآن، أن تأخذ الحروف ويناقش كل ما في الحرف وما يتعلق به، من مخرج، أو صفة، أو إدغام، أو فك ، أو مد ..إلخ، فمثلاً الألف سيتكلم عن كل ما يتعلق بها من المد في موطنها، الهمزة سيتكلم عن كل ما يتعلق بالهمزة في موطنها.. وهكذا.

ثم ذكر شرط التجويد عنده، والفرق بين التجويد والقراءات، ثم ذكر أنه لم يسبق بهذا التأليف، قال: (وما علمت أحداً من المتقدمين سبقني إلى تأليف مثل هذا الكتاب.. إلخ)، ثم ذكر تسمية كتابه، وعموماً فهذا الكتاب مهم ونفيس؛ لأنه يعتبر بالفعل أول كتاب محرر وجامع لمسائل علم التجويد، و الخاقاني وإن كان سابقاً بالنظم إلا أن هذا الكتاب يعتبر نفيس من هذه الجهة، من جهة أنه دون هذا العلم بأسلوب جمع المتفرق، وطريقته واضحة في تبويب كتابه أنه لم يمش على أسلوب المتأخرين في ذكر أحكام المخارج والصفات، وأحكام النون الساكنة التنوين، وأحكام الميم الساكنة، والمدود وهكذا، وإنما مشى على الحروف، ثم ذكر بعد ذلك جملة من المسائل المتعلقة بتجويد بعض الحروف، مثل: باب المشددات، وباب الوقف على المشدد، باب بيان أحكام النون الساكنة والتنوين -جعله متأخر جداً- باب الاختلاف في المخارج والغنة -جعله متأخراً جداً- وذكر كثيراً من الصفات، حتى أوصلها إلى أكثر من أربعين صفة.

ثم نذكر بعده كتاباً اسمه: التحديد في الإتقان والتجويد، للداني ؛ أبي عمرو عثمان بن سعيد ، توفي أبو عمرو سنة أربعمائة وأربع وأربعين، والمباحث التي طرحها، من الناحية التفصيلية، تشبه كثيراً المباحث التي طرحها صاحب الرعاية، وقد حققه الدكتور غانم قدوري، وله تحقيق آخر، والكتاب موجود في دار عمار، لكن ولا بأس أن نقرأ من بداية الكتاب، ما الذي دعا أبا عمرو إلى تأليفه؟ حيث يقول: (أما بعد: فقد حداني ما رأيته من إهمال قراء عصرنا ومقرئي دهرنا تجويد التلاوة وتحقيق القراءة، وتركهم استعمال ما ندب الله تعالى إليه، وحث نبيه صلى الله عليه وسلم وأمته عليه، من تلاوة التنزيل بالترسل والترتيل أن أعملت نفسي في رسم كتاب خفيف المحمل، قريب المأخذ، في وصف علم الإتقان والتجويد، وكيفية الترتيل والتحقيق على السبيل التي أداها المشيخة من الخلف عن الأئمة من السلف، واجتهدت في بيان ذلك وبذلت طاقتي، وبالغت في إيضاح عنايتي، وأفصحت عن جليه وظاهره، ودللت على خفيه وداثره، وأودعته الوارد من السنن والأخبار في معناه على حسب ما إلينا أداه من لقيناه من العلماء، وشاهدناه من الفهماء عن الأئمة الماضين.. إلخ).

نلاحظ ما ذكره في سبب التأليف، وذكر أيضاً شيئاً من منهجه، وهو أنه سيورد أسانيد مرتبطة بالتجويد، فلو تأملنا الباب الذي بعده: ذكر البيان عن معنى التجويد وحقيقة التحقيق والترتيل، وما جاء من السنن والآثار في الحث على استعمال ذلك والأخذ به، فقد ذكر الأسانيد، الآثار الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة ومن بعدهم، وهذا مما يتميز به كتاب أبي عمرو .

ثم ذكر بعده باب: ذكر الوارد في قراءة التحقيق وتجويد الألفاظ ورياضة الألسن، وذكر خبراً عزيزاً عن أبي بن كعب بسنده، أنه قرأ بالتحقيق، وأخبره أن قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً بالتحقيق، وهذا سند من الأسانيد العزيزة عنده.

ثم لو نظرنا إلى الفهرس، سنجد كيف بنى المؤلف كتابه، حيث ذكر بياناً عن حقائق الألفاظ وحدود النطق بالحروف، فذكر بعض القضايا الصوتية، مثل: المحرك، والمسكن، والمختلس، والمرام، والمشم، والمهموز، والممدود، والمبين، والمدغم، والمخفى، والمفتوح، والممال، فجمع جمعاً موضوعياً للأفراد المشتتة، ثم بدأ يذكر مخارج الحروف المعجمة وتفصيلها، وصفات الحروف فقال: (ذكر الحروف التي يلزم استعمال تجويدها، وتعمد بيانها وتلخيصها لتنفصل من مشابهه على مخارجها)، ثم بدأ يذكر الحروف التي يرى أنها بحاجة إلى عناية في النطق، والأخطاء التي تقع عند كل حرف، يعني: كيف يجود؟ ما هو مخرجه ؟ ما هي صفته؟ ما هي الكلمات التي يقع فيها إشكال في القراءة ؟ أوردها كلمة كلمة إلى أن انتهى من الكتاب بذكر أحوال الحركات من الوقف وبيان الروم والإشمام، ثم عقد فصلاً في المد، ثم عقد فصلاً في الوقف وبيان أقسامه، وهذا الفصل الذي ذكره من أوسع الفصول التي كتبت في الوقت ولم يذكر الخاقاني ، وصاحب الرعاية الوقف مثلما ذكره مكي ، فقد ذكر باب الوقف التام والكافي والحسن، ولخصه على حسب ما ذكره في كتابه: المقتفى في الوقف والابتداء، للوقوف الأربعة المعروفة المشهورة: التام، والكافي، والحسن، والقبيح، وبناءً عليه من يأتي بعده ممن استفاد منه وضع علم الوقف في علم التجويد.

الفرق بين التحريريات والقياس

هنا سؤال ورد في قضية مفهوم التحريرات، ما الفرق بين التحريرات والقياس؟

للجواب عن هذا السؤال نذكر تعريف التحريرات ونبين المقصود بها، التحريرات هي: الأوجه القرائية المحتملة الجائزة، بين السورة والسورة، أو في حال جمع القراءات، وهذه الأوجه قياسية بمعنى أنها اجتهادية، فعلى سبيل المثال: لو وصل الفاتحة بالبقرة، الأصل هو الانفصال، وهذا هو الوجه المعمول به، أي: أنه يقرأ ثم يقف ثم يبسمل ثم يقف ثم يبدأ بـ (ألم)، هذا وجه، وهناك وجه آخر هو وصل الجميع؟

ووجه ثالث: قطع الأول ووصل الثاني بالثالث، ووجه رابع: وصل الأول بالثاني، ثم البدء بالثالث، إلا أنه قيل: إنه يكره؛ لكي لا يفهم أن البسملة من السورة التي قبلها، وهكذا.

فإذاً: باب التحريرات كله قائم على الاجتهاد؛ لأنه النظر إلى ماذا يجوز فيما لو وصلنا هذا بهذا، وكذلك إذا اجتمع مثلاً: مد منفصل مع المد العارض للسكون، أو اجتمع المنفصل مع المتصل، إذا قصر المنفصل مثلاً لنا في المتصل أربع وخمس، إذا كان المنفصل مقدار أربع حركات لنا أيضاً في المتصل أربع وخمس، لكن إذا قرأنا المنفصل بخمس لنا في المتصل خمس في حالة الوصل، هذا نسميه تحريرات، يعني النظر إلى الأوجه الجائزة في حال القراءة، وإذا انتقلنا إلى القراءات زادت التحريرات، كلما أضفنا قراءة تزيد هذه التحريرات؛ لأنه نظر إلى الأوجه الجائزة في القراءة، هذا باختصار ما يتعلق بالتحريرات.

تابع الكتب المتخصصة في علم التجويد

ننتقل لنتحدث عن كتاب اسمه: الموضح في التجويد لـعبد الوهاب بن محمد القرطبي ، توفي سنة أربعمائة وإحدى وستين، حققه الدكتور غانم قدوري الحمد ، وهو موجود في دار عمار، هذا الكتاب بدأه مؤلفه بما يتعلق باللحن الجلي والخفي، وناقش فيه ما يتعلق بهذا الموضوع، ثم ذكر: الكلام على بسيط الحروف، وذكر فيه مخارج الحروف، وألقاب الحروف، والحروف الفرعية المستحسنة، والحروف الفرعية غير المستحسنة، ثم ذكر صفات الحروف عموماً.

ثم ذكر الحروف التي لا تدغم فيما قاربها، والحروف التي تدغم، وذكر لام (أل)، ثم بدأ يذكر الحروف حرفاً حرفاً، الألف.. الباء.. التاء.. الثاء.. الجيم.. الحاء.. على نفس الأسلوب الذي ذهب إليه مثلاً مكي و الداني .

ثم ذكر ما يعرض في هذه الحروف من الأحكام عند ائتلافها وتركيب ألفاظها، ثم ذكر مجموعة من القضايا، مثل ما يتعلق بأحكام المد، وعقد باباً للتشديد، وذكر مسائل طويلة فيما يتعلق بالتجديد، ثم ذكر باباً في اللينين، يعني: أحكام الواو والياء، ثم ذكر الإظهار والإخفاء، ثم ذكر النون الساكنة، ثم أحكام الإطباق، ثم أمثلة للإخفاء، وفي النهاية ذكر ما يتعلق ببعض عيوب النطق ومنها مثلاً: الرثة، والحبسة، واللتغة، والهفهفة، والهتهتة، والتعتعة.. وذكر أمثلة كثيرة من هذه العيوب، فإذاً هذا الكتاب نجد أنه عقد باباً خاصاً بما يتعلق بعيوب النطق، وهذه أمور مهمة للمقرئ أن يعرفها؛ لأنه أحياناً بعض العيوب يمكن أن تعالج، لكنها تحتاج أن يتدرب عليها الطالب المعالج، وبعض العيوب لا يمكن أن تعالج.

ثم ذكر الأضرب المنهي عنها من الإقراء بها مثل: الترعيد والترقيص والتلحين والتطريب والتحزين، والتي يجوز القراءة بها، وذكر منها الحدر والتجويد والتمطيط والتحقيق، وعموماً فهذا كتاب نفيس وفيه فوائد كثيرة، وفيه نقاش في مسائل، وهو من الكتب المهمة من كتب المتقدمين.

وكذلك هناك كتاب خاص بمخارج الحروف وصفاتها لـابن الطحان ، المتوفى سنة خمسمائة وستين، وهو من الكتب التي لها علافة بالتجويد أيضاً.

ثم جاء بعده كتاب: التمهيد في معرفة التجويد، لـأبي العلاء الحسن بن أحمد الهمداني العطار ، توفي سنة خمسمائة وتسع وستين، حققه الدكتور غانم قدوري الحمد ، وطبعته دار عمار.

وأهم ميزة لهذا الكتاب أنه مليء بالآثار، يعني قلّ أثر أو حديث نبوي إلا وهو يورده بسنده، وأيضاً تكلم عن قضايا متعلقة بآداب التلاوة، على سبيل المثال: ذكر اجتناب ما يكره ريحه نحو: الثوم والبصل والكراث، وشمل بعض ما يتعلق باستعمال السواك، التخلل بعد الأكل، ثم بدأ يتكلم عن تعريف التجويد، وما ورد من الأحاديث من تزيين الصوت بالقراءة، وذكر بعد ذلك تفسير الآيات التي مضت بصدر الكتاب، وفسر الآيات المرتبطة بالتلاوة، وهي: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل:4]، وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا [الفرقان:32]، لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ [القيامة:16]، وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ [الإسراء:106]، وأورد فيه الآثار الواردة عن السلف، ثم ذكر فضل القراءة، والقرّاء الماهرين الحادرين منهم والمحققين، ثم ذكر صفة قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، وصف قراءته ذات المد، وصف قراءته ذات الترديد والترجيع، وصف قراءته ذات الترسل والترتيل، وصف قراءته ذات الزمزمة، وصف صوته صلى الله عليه وسلم، ثم القول في معاني الترديد، والحدر، والتحقيق، ثم وصف قراءة القراء العشرة بين التحقيق والترتيل، ثم الحث على قراءة الكتاب، وعلى الاجتهاد في طلب الإعراب، وذكر أحاديث في ذلك، ثم ذكر اللحن الجلي واللحن الخفي، ثم ذكر معرفة أسماء الحروف ومخارجها، وبعد ذلك كيفية التلفظ حال القراءة بها، ثم ذكر حروف فواتح السور، كما ذكرها قبله الداني ، و مكي .

ومن لطائف هذا الكتاب ما ذكره في الباب السابع، ذكر السند عن الربيع قال سمعت الشافعي يقول: سأل رجل رجلاً: يا شوال تعجبك أو يعجبك؟ فقال له الشافعي : وقد صحت عندك الأولى حتى تشك في الآخرة.

يقصد بقوله: شوال تعجبك، قوله تعالى: (بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ)، فهو قرأ بسؤال: يا شوال، ووقف في الثاني: هل هي تعجبك أو يعجبك؟ مشكلته في هذا الثاني فقط.

ثم بعد هذا الكتاب نقرأ قصيدة لـعلم الدين السخاوي ، موجودة ضمن كتاب: جمال القراء وكمال الإقراء، وهذا من الكتب النفيسة جداً فيما يتعلق بعلوم القرآن، أو بما يتعلق بالإقراء بالذات، توفي سنة ستمائة وثلاث وأربعين، هذه القصيدة التي في الكتاب، هي بعنوان: كتاب التجويد، فقد قسم كتابه هذا إلى عشرة كتب، فذكر كتاب العدد، وكتاب الوقف والابتداء، وكل كتاب يسميه باسم، فمثلاً كتاب الوقف والابتداء سماه: علم الاهتداء في الوقف والابتداء، فبعضهم أخذ كتاب جمال القراء وكمال الإقراء، وقسم هذه الكتب فجعل كل كتاب مستقل، وبعض من يترجم للسخاوي يقول: وله كتاب: علم الاهتداء في الوقف والابتداء، وهو في الحقيقة جزء من كتاب: جمال القراء.

والكتاب التاسع سماه: منهاج التوفيق إلى معرفة التجويد والتحقيق، وتكلم عن صفة قراءة النبي صلى الله عليه وسلم الواردة، ثم تكلم عن إتقان التجويد واستفاد كثيراً من كتاب أبي عمرو الداني : التحديد، وفي آخر هذا الكتاب، ذكر القصيدة التي سماها بقوله: وهذه عمدة المفيد وعدة المجيد في معرفة التجويد، هذه القصيدة أفردت وشرحت كغيرها، شرحها مجموعة من العلماء، بدأها بقوله:

يا من يروم تلاوة القرآن ويرود شأو أئمة الإتقان

لا تحسب التجويد مداً مفرطاً أو مد مالا مد فيه لواني

أو أن تشدد بعد مد همزة أو أن تلوك الحرف كالسكران

ثم بدأ يتكلم عن موضوع التجويد، وقد حققهما وشرحهما الدكتور أبو عاصم عبد العزيز بن عبد الفتاح القاري ، وتسمى نونية السخاوي ، ذكر فيها حقيقة التجويد وميزانه، ثم بدأ الهمز والمد والهاء وحروف الحلق والقاف والكاف والجيم، يعني قسمها على الحروف، ثم في الأخير تكلم عن الحقيقة في الترتيل والنهي عما يجيء به ذووا الألحان من مثل في التلاوة.

وأيضاً كتاب آخر من كتب التجويد اسمه: عقود الجمان في تجويد القرآن، للشيخ الإمام برهان الدين إبراهيم بن عمر الجعبري، توفي سنة سبعمائة واثنتين وثلاثين، وهو يعتبر من كتب التجويد المهمة؛ لأن الجعب

بداية نستعرض أو نستقرئ ما يتعلق بكتب التجويد من ناحية كتب النحو واللغة، أول كتاب وأهم كتاب في هذا هو كتاب سيبويه توفي مائة وثمانين، وقد انطلق كبعض العلماء من باب الإدغام، فقال: هذا باب الإدغام، ثم قال: هذا باب عدد الحروف العربية ومخارجها ومهموسها ومجهورها وأحوال مجهورها ومهموسها واختلافها، فأصبحوا في العربية تسعة وعشرين، ثم استمر يتكلم عن مخارج الحروف وعن الصفات.

وهنا تنبيه: في صفحة أربعمائة وثلاث وثلاثين تحقيق عبد السلام هارون ، سقط مخرج اللام، حيث قال في مخرج الضاد: (ومن بين أول حافة اللسان وما يليها من الأضراس مخرج الضاد)، ثم قال: (ومن حافة اللسان من أدناها إلى منتهى طرف اللسان وما بينها وما يليها من الحنك الأعلى ومن وسط الثنايا مخرج النون)، بينهما مخرج اللام لم يذكر، فيستدرك من الطبعات الأخرى.

ومن الكتب أيضاً أي كتاب عني به كتاب سيبويه، من الشروح أو التعليقات فإنه سيكون مفيداً فيما يتعلق بالتجويد، مثل شرح السيراتي أو غيره، وعموم كتب النحو المستوعبة التي كتبت بعد سيبويه تشير إلى المخارج والصفات وغيرها من قضايا التجويد، لكن المطلوب العناية بمرحلة ما قبل تدوين كتب التجويد والقراءات، ومعرفة ما قالة علماء العربية من أصول كلام العرب، من منظور عربي مستقر عندهم، وأن ما ذكره علماء التجويد لن يخالف هذه الأصول العربية الموجودة عند علماء العربية، وإنما زادوا عليه ما يتعلق بقضية التقديرات بالذات، وإن كان هناك مسائل أخرى، لكن أهم شيء، وأميز ما تميز به علماء القراءات هي قضية التقديرات.

ومن كتب اللغة أيضاً كتاب العين لشيخ سيبويه الخليل بن أحمد ، فهو كتاب مهم في هذا الباب.

وأيضاً من كتب اللغة كتاب الجمهرة لـابن دريد ، والكلام هذا كله عن مقدمات الكتب، يعني مقدمة كتاب العين للخليل بن أحمد توفي قرابة المائة ما بين السبعين إلى خمس وسبعين، ومقدمة كتاب الجمهرة لـابن دريد توفي ثلاثمائة وإحدى وعشرين، وكذلك مقدمة كتاب تهذيب اللغة للأزهري توفي ثلاثمائة وسبعين، فكانت وفاتهم في هذه الفترة المتقاربة.

من الكتب أيضاً المهمة في النحو كتاب المقتضب للمبرد ، توفي سنة مائتين واثنين وثمانين، فيه كلام عن قضايا المخارج والصفات والإشمام والروم.. إلخ، القضايا التي ذكرها سيبويه ؛ لأن المبرد بنى كتابه على كتاب سيبويه واستفاد منه كثيراً، وأحياناً قد يعترض عليه.

هذه فقط إشارة إلى بعض كتب النحو واللغة، وقد نجد قضايا مرتبطة بالصوتيات مفرقة في كتب اللغويين، في غير الكتب المعاجم، ولو رجعنا إلى معاني القرآن للفراء ومعاني القرآن للأخفش ، فسنجد فيها أيضاً إشارات إلى بعض الأحكام، لكنها ما جاءت أصالة وإنما جاءت كمبحث استطرادي، فـالفراء قد تكلم عن قضايا صوتية مرتبطة بالتجويد في كتابه معاني القرآن، وكذلك الأخفش تكلم عن أحكام النون الساكنة وفصل فيها في كتابه أيضاً، فيمكن أن توجد لكنها مسائل استطرادية؛ لأنه لم تكن مقصودة، بخلاف كتاب سيبويه ، أو الخليل بن أحمد ، فقد تكلموا عنها أصالة؛ لأنها من صلب موضوعاتهم التي يدرسونها، وهي دراسة لغة العرب، ونحو العرب، فهذه إشارة إلى بعض الكتب المرتبطة بكتب العربية.

ومن الكتب المهمة أيضاً كتاب ابن جني ، واسمه: سر صناعة الإعراب، وهذا كتاب مهم جداً لمن أراد أن يقرأ في التجويد، خصوصاً فيما يتعلق بتجويد الحروف، توفي ابن جني سنة ثلاثمائة واثنتين وتسعين، قال في كتابه وهو يتكلم عن صفات الحروف: (اعلم أن الطاء حرف مجهور مستعل يكون أصلاً وبدلاً ولا يكون زائداً)، يلاحظ أنه يناقش قضايا عربية لا يناقش تجويداً، لكن من خلال كلامه يمكن أن يؤخذ منه قضايا كثيرة مرتبطة بالقراءة، ثم قال: (فإذا كان أصلاً وقع فاءً وعيناً ولاماً، فالفاء نحو: طبل، وطحن، والعين نحو قطر وخطب، واللام نحو: قرط وخبط، وأما البدل فإن تاء افتعل إذا كانت فاؤه صاداً أو ضاداً أو طاء أو ظاء تقلب طاءً ألبتة لا بد)، وذكر أمثلة مثل: اصطبر واضطرب.. إلخ وكلامه فيما يتعلق بحرف الطاء، ويورد ما تكلم به العلماء عن هذا الحرف، وما يحصل باللغة مما يتعلق بهذا الحرف، يعني كأنه يتكلم عن لغة العرب من خلال الحروف، ثم يقول بعده على حرف الظاء: (حرف مجهور يكون أصلاً وبدلاً.. إلخ)، ثم يتكلم عن حرف الظاء وما فيه، ثم حرف العين، ثم حرف الغين.. وهكذا إلى آخر الكتاب، يتكلم عنها حرفاً حرفاً، ثم تكلم في الأخير عن قضايا مرتبطة بالمخارج أيضاً، فهو كتاب مهم ونفيس لمن أراد أن يقرأ في كتاب العربية.

أما الكتب المفردة فهناك رسالتان في تجويد القرآن لـأبي الحسن علي بن جعفر السعيدي ، الرسالة الأولى وهي مطبوعة في دار عمار، تحقيق الدكتور غانم قدوري ، وهذا الكتاب أوله كتاب التنبيه على اللحن الجلي واللحن الخفي، ومن ميزة هذا الكتاب أن طبق ما يتعلق باللحن الجلي والخفي على سورة الفاتحة، بعدما ذكر تعريف اللحن الجلي والخفي حيث قال: (وأنا ذاكر في جملة ذلك حروفاً يسيره، تدل على سائر ما في القرآن).

قوله تعالى: (( بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ ))، ينبغي أن يلفظ بالباء قبل السين مخففة، ولا تضغط في مخرجها، ولا يزاد على لفظها، وكذلك الباء في (نعبد)، نتوقى فيها من التشديد؛ لأنها شديدة بنفسها، فيسرع اللفظ بها بعد الساكن لتسلم من التشديد، فإن القارئ ربما لفظ بها وقدر أنها مخففة وقد شددها بعض التشديد، وكذلك إذا كان قبلها نون ساكنة مثل: (أَنْبِئْهُمْ ) (أَنْبِئُونِي) (مَنْ أَنْبَأَكَ) (فَانْبَجَسَتْ) (مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) وما أشبهها؛ لأن النون تصير بعدها ميماً تقول: عنبر، وقنبر، منبر، فتقلب النون ميماً.. إلى آخر) كلامه فيما يتعلق بتجويد هذه السورة، يعني أخذ السورة كلمة كلمة وناقش ما فيها، وهذه من لطائف هذا الكتاب، ثم ذكر أمثلة فيما يتعلق بالياء إذا انفتحت وما قبلها مكسور، والواو إذا انفتحت وما قبلها مضموم، وباب: الواوين إذا اجتمعا والأولى ساكنة والثانية مضمومة، أمثلة كثيرة ذكرها في هذا الرسالة الصغيرة.

أما الرسالة الثانية له كتاب: اختلاف القراء في اللام والنون، وناقش في هذه الرسالة أحكام النون الساكنة والتنوين، وتكلم في اللام وتفخيم اللام في مثل لفظ الجلالة، متى تفخم؟ متى ترقق؟ وتكلم أيضاً في مسألة إظهار النون الساكنة والتنوين عند حروف الحلق، وإخفائها عند بعض الحروف، وحكمها في القياس واحد، وغيرها من المواضيع، وقد كان السعيدي حياً إلى قرابة الأربعمائة وعشرة، كما حققه الدكتور غانم قدوري الحمد ، يعني أنه توفي في بداية القرن الخامس قرابة الأربعمائة وعشرة، وهذا لكي نعرف تواريخ تطور علم التجويد.

وأما كتب القراءات، فإن أول كتاب ممكن أن نضع له مثالاً هو كتاب الإقناع في القراءات السبع لـابن الباذش، ولنأخذ من صفحة مائة وست وسبعين من المجلد الأول حيث قال: (حروف يخاف على القارئ اللحن فيها بالإدغام، ونذكر أشياء جرت عادة القراء بذكرها للخلاف الواقع في بعضها ولتخوفهم على القارئ اللحن بالإدغام) وذكر منها الفاء، قال: (لا يجوز إدغامها في الميم والواو والباء)، ثم بدأ يتكلم عن خوف الإدغام في الفاء، ونذكر ما يتعلق بالميم، قال: (ومن ذلك الميم عند الباء، نحو: (وَكَذَّبْتُمْ بِهِ)، و(وآمَنتُمْ بِهِ)، (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ)، (أَنْ بُورِكَ)، (هَنِيئًا بِمَا)، و (صُمٌّ بُكْمٌ) ونحوه كثير)، يلاحظ أنه أدخل القلب مع ما يسمى بالإخفاء الشفوي، قال: (فاختلفت عبارات القراء عنه بعد إجماعهم، إلا من شذ، وسنذكر أن الإدغام لا يجوز)، يعني أنهم أجمعوا على أن الإدغام لا يجوز في مثل هذه الحال، ثم قال: (فقال ابن مجاهد : والميم لا تدغم في الباء، لكنها تخفى؛ لأن لها صوتاً من الخياشيم تواخي به النون الخفيفة، قال: وهو قول سيبويه ) ثم ذكر كلام سيبويه في هذه المسألة، ثم قال: (وإلى هذا ذهب أبو الحسن الأنطاكي و أبو الفضل الخزاعي و عثمان بن سعيد الداني وبه كان يأخذ أصحابه، فيما ذكر لي أبي رضي الله عنه؛ لأن أباه كان أيضاً من علماء القراءة، وكذلك أخذ علي عياش بن خلف عن قراءته على محمد بن عيسى ، ويحكى أنه مذهب الفراء ، وقال أبو الحسين بن المنادي وأحمد بن يعقوب التائب وعبد الباقي بن الحسن وطاهر بن غلبون وغيرهم: هي مظهرة غير مخفاة)، (وقال لي عياش بن خلف : قد روي هذا أيضاً على ابن مجاهد نصاً.

وحدثنا أبو داود قال: قال لنا عثمان بن سعيد : رواه أحمد بن صالح عن ابن مجاهد ، وقال لي أبو الحاكم بن شريح فيه بالإظهار، ولفظ لي به فأطبق شفتيه على الحرف إطباقاً واحداً، وروى أحمد بن سريج عن الكسائي إدغام الميم في الباء والفاء، قال الخزاعي : وإدغامها في الفاء اختيار خلف في رواية الحلواني عنه، وقرئ على أبي القاسم وأنا أسمع عن أبي معشر عن الحسن بن علي عن الخزاعي ، قال: سمعت أبا بكر الشذائي يقول: إدغام الميم في الفاء لحن. قال لي أبي رضي الله عنه: المعول عليه إظهار الميم عند الفاء والواو والباء، ولا يتجه إخفائها عندهم إلا بأن يزال مخرجها من الشفه، ويبقى مخرجها في الخيشوم كما يفعل ذلك في النون المخفاة، وإنما ذكرك سيبويه الإخفاء في النون دون الميم، ولا ينبغي أن تحمل الميم في هذا؛ لأن النون هي الداخلة على الميم في البدل، في قولهم: شمباء، وعنبر، و(صُمٌّ بُكْمٌ)، فحمل الميم عليها غير متجه؛ لأن النون تصرفاً ليس للميم، إلا أنها تدغم ويدغم فيها، والميم يدغم فيها ولا تدغم إلا أن يريد القائلون بالإخفاء انطباق الشفتين على الحرفين انطباقاً واحداً، وذلك ممكن في الباء وحدها في نحو: أكرم بزيد، فأما في الفاء والواو فغير ممكن فيها الإخفاء إلا بإزالة مخرج الميم من الشفتين، وقد تقدم امتناع ذلك، فإن أرادوا بالإخفاء أن يكون الإظهار رفيقاً غير عنيف، فقد اتفقوا على المعنى واختلفوا في تسميته إظهاراً أو إخفاءً ولا تأثير لذلك، وأما الإدغام المحض فلا وجه له.. إلخ)

والمشهور في حكم التقاء الميم مع الباء هو الإخفاء؛ لأنه جرى العمل عليها عند المتأخرين، وإلا فإن فيها حكماً آخر صحيحاً ومحكياً عند القراء هو: جواز الإظهار، والأمثلة على هذا كثيرة، ثم ذكر في آخر الكتاب أيضاً صفحة خمسمائة واثنتين وخمسين عنواناً هو: (اختلاف مذاهبهم في كيفية التلاوة وتجويد الأداء) وهذا مبحث مستقل نفيس ومهم أن يقرأ، يعني معرفة كيف كان يجود القراء، وهو من المباحث النفيسة التي تكلم عنها بعض علماء القراءة.

ثم جاء بعده أبو الكرم المبارك بن الحسن الشهرزوري المتوفى سنة خمسمائة وخمسين، له كتاب اسمه: المصباح الزاهر في القراءات العشر البواهر وهذا الكتاب من الكتب النفيسة في القراءات، وقد حقق جزء منه في رسالة دكتوراه أعدها الشيخ المقرئ إبراهيم بن سعيد الدوسري ، ومما ذكره أبو الكرم مبحث أو مباحث متعلقة بالقراءة والتجويد، فمثلاً: عقد في أول الكتاب مبحثاً عن المخارج، ثم عاد وعقد مبحثاً عن المد والقصر، وذكر المقادير والكلام عليها، ثم عقد باباً سماه: (الباب الثاني عشر في التجويد)، وذكر التجويد عند أئمة القراءة، وذكر فيه الترتيل والإمالة وألقاب الحروف وصفات الحروف، وصفة قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ومذاهب القراءة في كيفية القراءة ومراتبها عندهم.. إلى آخر هذه الأحكام في تجويد الحروف مفردة ومركبة أيضاً، فمثلاً: يأتي إلى حرف ويتكلم فيقول: (وصف الصاد وأعطها حقها إذا سكنت عند الطاء وإلا صارت سيناً، كقوله تعالى: وَاصْطَنَعْتُكَ [طه:41]، وكقوله: (يَسْطُونَ) (تَصْطَلُونَ) وشبه ذلك) بمعنى أن الصاد إذا لم تصف تميل إلى السين، وهذا حاصل عند كثير ممن يقرءون قد يقع عندهم هذا الخطأ، وهذا تنبيه على الأخطاء.

ثم قال: وبين همس التاء إذا جاورت حرفاً من حروف الإطباق في كلمة وخلصها من الطاء وإلا صارت طاءً، مثل قوله: (فَاخْتَلَطَ بِهِ) (مَنِ اسْتَطَعْتَ) و(يَسْتَطِيعُونَ). إلى آخر هذا المبحث وهو مهم ونفيس.

ثم عقد مبحثاً لإعراب القرآن، ثم مبحثاً في اللحن الجلي واللحن الخفي، واعتمد على كلام الإمام أبي الحسن علي بن جعفر بن محمد الرازي السعيدي وذكر شيئاً مما ذكره السعيدي في كتابه، ثم ذكر تجويد الفاتحة، كما فعل السعيدي ، ثم ذكر القصيدة الخاقانية وسنأتي عليها لاحقاً.

ثم نذكر بعده كتاب: الكامل في القراءات الخمسين، لـأبي القاسم الهذلي ، وهذا الكتاب لازال مخطوطاً، عقد فيه كتاباً سماه: كتاب التجويد، مع أن الكتاب في القراءات، واسمه الكامل في القراءات الخمسين، إلا أنه عقد باباً خاصاً في التجويد، وذكر مسائل متعلقة بالتجويد، من المخارج والصفات، ومما يحذر منه من بعض الأخطاء التي تقع في التجويد.

ومن لطائف هذا الكتاب، أنه أشار إلى مسألة وإن كانت جزئيةً، لكنها مفيدة وهي ما ذكر عن عدد المخارج عند الخليل بن أحمد ، فقيل: ستة عشر؛ لأن هناك كتباً متأخرةً تنسب هذا القول للخليل ، وهو يقول: (وقد ذكر الخليل ستة عشر مخرجاً، وهي التي ذكرنا)، وأيضاً أبو حيان في تذكرة النحاة ذكر عن الأخفش وهو تلميذ أيضاً للخليل ، ذكر عن الأخفش أنها ستة عشر حيزاً، يعني مخرجاً، وفي الحقيقة أن يكون قول سيبويه موافق لقول الخليل في مثل هذه المسألة أقرب من أن يكون مخالفاً له، فهذا يدلنا على أنه كما نسب إليه أن المخارج سبعة عشر مخرجاً فيوجد هناك من ينسب إليه أيضاً أنها ستة عشر، مثلما هو مذهب سيبويه.

ثم نذكر بعده كتاب: الإيضاح في القراءات، لـأحمد بن أبي عمر الأندرابي ، توفي سنة أربعمائة وسبعين، وهذا الكتاب من كتب -مقدمته بالذات- من أنفس كتب القراءات، مثل كتاب المصباح الزاهر للشهرزوري ، ذكر فيه مسائل متعلقة بعلوم القرآن -وهي لا تعنينا- وذكر في الباب الرابع والعشرين صفة قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيهم رضي الله عنهم أجمعين، وفي الباب الخامس والعشرين: ما يستحب للقارئ من تحسين اللفظ وتزيين الصوت بقراءة القرآن، والباب السادس والعشرين: في ذكر الحدر والترتيل وغير ذلك مما يحتاج إليه القارئ، وفي الباب السابع والعشرين ذكر، اللحن الخفي ومقالات أرباب الصناعة، والباب الثامن والعشرين: في ذكر مخارج الحروف، وهي المواضع التي تنشأ منها حروف العربية، والباب التاسع والعشرين: في ذكر أجناس الحروف وأصنافها وصفاتها وألقابها، والباب الثلاثين: في ذكر ما ينبغي للقارئ والمقرئ، ثم ذكر بعد ذلك موضوعات متعلقة بالقراءات.

وكذلك كتاب النشر عقد باباً في التجويد، مع أن اسمه: النشر في القراءات العشر.

ننتقل إلى كتب التجويد المتخصصة، أي: التي قصد المؤلف أن تكون في التجويد، فأول كتاب في التجويد قصيدة لـأبي المزاحم الخاقاني ، توفي سنة ثلاثمائة وخمس وعشرين، وقد ذكر فيها القراءات السبع، ومراتب القراءة، ومعرفة اللحن، وحقيقة التجويد وميزانه، وتلقي القرآن عشراً عشراً، والإدغام والإخفاء والفرق بينهما، وذكر المد والهمز والترقيق -ترقيق الراء واللام- وتنعيم العين والهاء، وذكر الوقف، وذكر المد اللازم الكلمي المثقل، والإظهار الحلقي، هذه هي المسائل التي ذكرها الخاقاني في قصيدته.

ولنأخذ على سبيل المثال ما ذكره في الوقف حيث قال:

وقف عند إتمام موافقاً لمصحفنا المتلو في البر والبحر

فهذه إشارة إلى ما يتعلق بالوقف والابتداء في هذا البيت فقط؛ لأنه قصدية قصيرة جداً، وهي مبتكرة مبتدأة، ولهذا قال عنها لما بدأ يتكلم عنها في أول كلامه:

أقول مقالاً معجباً لأولي الحجر ولا فخر إن الفخر يدعو إلى الكبر

أعلم في القول التلاوة عائذاً بمولاي من شر المباهاة والفخر

وأساله عوني على ما نويته وحفظي في ديني إلى منتهى عمري

وذكر أنه ابتكرها ولم يسبق إلى هذا الفن في الكتابة فيه، فهي تعتبر أول كتاب في التجويد.

ثم نذكر بعده كتاب: أسباب حدوث الحرف لـابن سينا الفيلسوف الطبيب المعروف، توفي سنة أربعمائة وثمان وعشرين، وهذا الكتاب له علاقة بالصوتيات، وذكر مسائل مرتبطة بالمخارج والصفات، وذكر دراسة قديمة ومبتكرة عند العرب في قضية الحنجرة واللسان تسمى الدراسة التشريحية، تكلم عنها من جهة علمه بالعربية، ومن جهة كونه طبيباً.

ثم نذكر بعده كتاباً من أنفس كتب التجويد، وهو كتاب مكي بن أبي طالب، المتوفى سنة أربعمائة وسبع وثلاثين، وأهم ما يمتاز به هذا الكتاب أن المؤلف حاول أن يجمع فيه متفرقات هذا العلم، وذكر أنه لم يسق إلى تأليف هذا الكتاب، أو للتأليف في التجويد، وذكر مصطلح التجويد أيضاً في صفحة إحدى وخمسين، ثم ذكر منهجه، فقال: (فأذكر الحروف واحداً بعد واحد، على رتبة المخارج مع جملة من صفته، ثم نذكر مع كل حرف ألفاظاً من كتاب الله جل ذكره، تنبه على تجويد لفظ ذلك الحرف فيها، وفي مثلها مما وقع ذلك الحرف فيها، مقارناً لغيره.. إلخ).

إذاً: منهج المؤلف أنه سيأخذ الحروف حرفاً حرفاً، وهذا منهج من مناهج كتب التجويد الآن، أن تأخذ الحروف ويناقش كل ما في الحرف وما يتعلق به، من مخرج، أو صفة، أو إدغام، أو فك ، أو مد ..إلخ، فمثلاً الألف سيتكلم عن كل ما يتعلق بها من المد في موطنها، الهمزة سيتكلم عن كل ما يتعلق بالهمزة في موطنها.. وهكذا.

ثم ذكر شرط التجويد عنده، والفرق بين التجويد والقراءات، ثم ذكر أنه لم يسبق بهذا التأليف، قال: (وما علمت أحداً من المتقدمين سبقني إلى تأليف مثل هذا الكتاب.. إلخ)، ثم ذكر تسمية كتابه، وعموماً فهذا الكتاب مهم ونفيس؛ لأنه يعتبر بالفعل أول كتاب محرر وجامع لمسائل علم التجويد، و الخاقاني وإن كان سابقاً بالنظم إلا أن هذا الكتاب يعتبر نفيس من هذه الجهة، من جهة أنه دون هذا العلم بأسلوب جمع المتفرق، وطريقته واضحة في تبويب كتابه أنه لم يمش على أسلوب المتأخرين في ذكر أحكام المخارج والصفات، وأحكام النون الساكنة التنوين، وأحكام الميم الساكنة، والمدود وهكذا، وإنما مشى على الحروف، ثم ذكر بعد ذلك جملة من المسائل المتعلقة بتجويد بعض الحروف، مثل: باب المشددات، وباب الوقف على المشدد، باب بيان أحكام النون الساكنة والتنوين -جعله متأخر جداً- باب الاختلاف في المخارج والغنة -جعله متأخراً جداً- وذكر كثيراً من الصفات، حتى أوصلها إلى أكثر من أربعين صفة.

ثم نذكر بعده كتاباً اسمه: التحديد في الإتقان والتجويد، للداني ؛ أبي عمرو عثمان بن سعيد ، توفي أبو عمرو سنة أربعمائة وأربع وأربعين، والمباحث التي طرحها، من الناحية التفصيلية، تشبه كثيراً المباحث التي طرحها صاحب الرعاية، وقد حققه الدكتور غانم قدوري، وله تحقيق آخر، والكتاب موجود في دار عمار، لكن ولا بأس أن نقرأ من بداية الكتاب، ما الذي دعا أبا عمرو إلى تأليفه؟ حيث يقول: (أما بعد: فقد حداني ما رأيته من إهمال قراء عصرنا ومقرئي دهرنا تجويد التلاوة وتحقيق القراءة، وتركهم استعمال ما ندب الله تعالى إليه، وحث نبيه صلى الله عليه وسلم وأمته عليه، من تلاوة التنزيل بالترسل والترتيل أن أعملت نفسي في رسم كتاب خفيف المحمل، قريب المأخذ، في وصف علم الإتقان والتجويد، وكيفية الترتيل والتحقيق على السبيل التي أداها المشيخة من الخلف عن الأئمة من السلف، واجتهدت في بيان ذلك وبذلت طاقتي، وبالغت في إيضاح عنايتي، وأفصحت عن جليه وظاهره، ودللت على خفيه وداثره، وأودعته الوارد من السنن والأخبار في معناه على حسب ما إلينا أداه من لقيناه من العلماء، وشاهدناه من الفهماء عن الأئمة الماضين.. إلخ).

نلاحظ ما ذكره في سبب التأليف، وذكر أيضاً شيئاً من منهجه، وهو أنه سيورد أسانيد مرتبطة بالتجويد، فلو تأملنا الباب الذي بعده: ذكر البيان عن معنى التجويد وحقيقة التحقيق والترتيل، وما جاء من السنن والآثار في الحث على استعمال ذلك والأخذ به، فقد ذكر الأسانيد، الآثار الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة ومن بعدهم، وهذا مما يتميز به كتاب أبي عمرو .

ثم ذكر بعده باب: ذكر الوارد في قراءة التحقيق وتجويد الألفاظ ورياضة الألسن، وذكر خبراً عزيزاً عن أبي بن كعب بسنده، أنه قرأ بالتحقيق، وأخبره أن قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً بالتحقيق، وهذا سند من الأسانيد العزيزة عنده.

ثم لو نظرنا إلى الفهرس، سنجد كيف بنى المؤلف كتابه، حيث ذكر بياناً عن حقائق الألفاظ وحدود النطق بالحروف، فذكر بعض القضايا الصوتية، مثل: المحرك، والمسكن، والمختلس، والمرام، والمشم، والمهموز، والممدود، والمبين، والمدغم، والمخفى، والمفتوح، والممال، فجمع جمعاً موضوعياً للأفراد المشتتة، ثم بدأ يذكر مخارج الحروف المعجمة وتفصيلها، وصفات الحروف فقال: (ذكر الحروف التي يلزم استعمال تجويدها، وتعمد بيانها وتلخيصها لتنفصل من مشابهه على مخارجها)، ثم بدأ يذكر الحروف التي يرى أنها بحاجة إلى عناية في النطق، والأخطاء التي تقع عند كل حرف، يعني: كيف يجود؟ ما هو مخرجه ؟ ما هي صفته؟ ما هي الكلمات التي يقع فيها إشكال في القراءة ؟ أوردها كلمة كلمة إلى أن انتهى من الكتاب بذكر أحوال الحركات من الوقف وبيان الروم والإشمام، ثم عقد فصلاً في المد، ثم عقد فصلاً في الوقف وبيان أقسامه، وهذا الفصل الذي ذكره من أوسع الفصول التي كتبت في الوقت ولم يذكر الخاقاني ، وصاحب الرعاية الوقف مثلما ذكره مكي ، فقد ذكر باب الوقف التام والكافي والحسن، ولخصه على حسب ما ذكره في كتابه: المقتفى في الوقف والابتداء، للوقوف الأربعة المعروفة المشهورة: التام، والكافي، والحسن، والقبيح، وبناءً عليه من يأتي بعده ممن استفاد منه وضع علم الوقف في علم التجويد.