خطب ومحاضرات
التأصيل في علم التجويد [4]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين.
نستذكر مواطن الزيادة التي ذكرناها في الدرس السابق وهي:
أول شيء: التسميات وهي: المصطلحات، ثم التقسيمات، ثم التقديرات، ثم التحريرات، ثم ما يتعلق ببعض المخارج والصفات، كالغنة، والمد، والتفخيم.
نبدأ بذكر قضية داخلة في باب التحريرات وهي قضية القياس في الروم والإشمام عند الوقف على أواخر الكلم، هل ثبت الروم والإشمام في الوقف على أواخر الكلم أم لا؟
نقول: إن الوقف على أواخر الكلم الأصل فيه السكون، فمثلاً الوقف على قوله تعالى: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ [قريش:1]، يكون على السكون، لكن الشين مكسورة، وما دامت مكسورة فإنه يقع فيها الروم، ولو كانت مضمومة يقع فيها الروم والإشمام، لكن هل ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على كل لفظة يصلح فيها الروم والإشمام بالروم والإشمام؟
الجواب: لا! لكن ثبت الأصل ثم يقاس عليه، وهذا أشبه بباب التحريرات.
ننتقل إلى موضوع آخر وهو تنظيم معلومات كتب التجويد، معلوم أن علماء التجويد يقسمون كتب التجويد، إلى: المخارج والصفات، وأحكام النون الساكنة والتنوين، وأحكام المد والقصر، والوقف على أواخر الكلم، والمقطوع والموصول، وتاء التأنيث، والوقف والابتداء، وهمزة الوصل فهذه جمهور مسائل كتب التجويد.
ومعلوم أيضاً أن بعضها يرجع إلى النحو واللغة، وبعضها يرجع إلى معرفة الرسم، وبعضها يرجع إلى المعنى.
مسائل علم التجويد وعلاقتها بالنحو واللغة
أما ما يرجع إلى النحو واللغة فقد ذكرنا نقلاً مطولاً عن سيبويه في قضية الغنة وما يتعلق بها من الأحكام، أي: قضية النون الساكنة والتنوين وما يتعلق بها من الأحكام، وقضية المخارج والصفات أيضاً، وذكرنا أن كل من جاء بعد سيبويه اعتمد على سيبويه في باب المخارج والصفات، وشيخه الخليل بن أحمد ناقش ما يتعلق بالمخارج وبعض الصفات في مقدمة كتاب العين؛ لأنه كتاب سيعتمد على مفردات اللغة، وكذلك المبرد في المقتضب، و الفراء وغيره، تكلموا عن الصفات والمخارج أيضاً، فمنهم من وجد كلامه، ومنهم من ينقل ويحكى كلامه حكاية عامة، كما نقل عن الفراء و الجرمي و قطرب و ابن كيسان أنهم يقولون: إن مخارج الحروف أربعة عشر، وليس عندنا نصوص مدونة عنهم في قضية التفصيل في هذه المخارج وما قالوا فيها، لكن هذا قيل عنهم وحكي أنهم يرون أن النون واللام والراء من مخرج واحد.
المقصود من هذا أن عموم هذه المباحث ترجع إلى لغة العرب، وهي المخارج والصفات، وأحكام النون الساكنة والتنوين، وأحكام الميم الساكنة، وما يتعلق بالإظهار والإدغام، وما يدخل بينهما من الإخفاء والإقلاب، وما يتعلق بإدغام التماثل والتجانس والتقارب، وما يتعلق بالمد والقصر، وتختلف هذه المباحث من جهة البحث اللغوي، فمثلاً المد والقصر موجود بتفاريعه عند علماء التجويد، لكن أصل المد والقصر والكلام عنه موجود عند علماء النحو واللغة، فيمكن أن ترجع كل هذه المباحث إلى أصل اللغة، وأنها مباحث نحوية لغوية، بحثها علماء النحو واللغة في كتبهم.
مسائل علم التجويد وعلاقتها بالرسم
النوع الثاني: الوقف على أواخر الكلم، والمقطوع والموصول، وتاء التأنيث كل هذه ترجع إلى علم الرسم؛ وذلك لأنها تعرف من خلال الرسم، فمثلاً في قوله تعالى: إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ [الذاريات:5]، لفظة (إِنَّمَا) هل هي موصولة أو مفصولة؟ لا أحد يستطيع أن يعرف إلا لو كان حافظاً لها، لكن لو قلنا افتح المصحف فانظر! سيعرف أهي موصولة أو مقطوعة.
إذاً: اكتشفنا أنها موصلة بالنظر، مع أن حقها هنا الفصل؛ لأنها ليست الكافة والمكفوفة التي حقها الوصل، بمعنى: إن الذي توعدون لصادق، وهذه إن واسمها، إذاً قولنا: إنه علم من جهة الرسم، من هذه الحيثية.
لكن ما هي علاقته بالتجويد؟
قلنا: إن التجويد ضبط اللفظ العربي، وكيفية نطق اللفظ العربي؟ داخل في علم الأداء العام، بمعنى أن الأداء لا يتأثر عندما تكون مفصولة أو موصولة ومادام لا يتأثر فالأصل أنها ليست من علم التجويد، لكن علماء التجويد اعتنوا بهذا أيضاً؛ لأن بحثهم لا يتعلق بالحرف، بل هو بعموم الأداء، ولهذا عند قراءة فهارس بعض كتب التجويد نجد اختلاف أنظار العلماء فيما يدخل في كتبهم، ولا ينبهون القارئ عليه، إذاً فمعرفة هذه الأمور مهمة لمن يقرأ القرآن؛ لأنها مبني عليها معرفة الوقف من عدمه، ومعنا قاعدة مهمة في هذا: أنه في باب الموصول والمفصول، وباب تاء التأنيث، لا يوقف عليها اختياراً. بمعنى: أنها ليست مواطن وقف، ولا يصلح عليها الوقف أصلاً، فمثلاً: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، الوقف على قوله: رَبِّ الْعَالَمِينَ )) صالح؛ لأنه جملة تامة مفهومة معلومة، لكن أي مقطوع أو موصول، أي تاء تأنيث مرسومة بالتاء المفتوحة، لا تصلح للوقف.
فإذاً: الوقف عليها إما اضطراراً وإما اختباراً.
وهذا يصل بنا إلى قضية مهمة مرتبطة بالرسم، ولها أثر في هذا وهي: هل القراءة أصل، أم الرسم؟ أيهما أسبق من الثاني؟
والجواب: أن القراءة أسبق، إذاً القراءة هي الأصل، وهي أسبق من الرسم، والرسم إنما هو تصوير للملفوظ، ولا يمكن في أي لغة من لغات العالم أن يتوافق المرسوم مع الملفوظ، وهذه قاعدة في الرسم: لا يمكن أن يتوافقا المرسوم مع الملفوظ بحذافيره وإنما يقع إما زيادة وإما نقص، لكن الأداء اللفظي هو الذي يعبر عن هذا الكلام، بمعنى أنه لو أن إنساناً يقرأ بالمصحف دون أن يكون عنده سند، فإنه سيقرأ اللفظ خطأً، لأنه يقرأ مثلاً: الصلوات، وهي الصلاة؛ لأنه يقرأ من المصحف مباشرة، لكن كيف عرفنا أنها الصلاة؟ لأن الذي سمعناه يقرأ قرأها: الصلاة، وكون الرسم خالف صورة الملفوظ ليس فيه إشكال؛ لأن هذه قاعدة في الرسم في جميع لغات العالم، وقد قام عالم روسي فطبق هذه القاعدة على قرابة ثلاثمائة لغة، فوجد أنه لا يمكن أن يتوافق المرسوم مع الملفوظ، وهذا هو الطبيعي؛ لأن مطابقة الرسم للفظ في كل شيء لا يمكن، ولذا نجد بعض الناس يكتب (الرحمان) بألف، وبعضهم يكتب (الرحمن) بدون ألف، لكن لما ينطقونها، كلهم ينطقها: (الرحمان)، فإذاً الأصل هو الملفوظ، وهذا المرسوم الذي هو المقطوع والموصول لما نبحث عن علل له، لا يمكن أن نجد عللاً علمية معنوية، بمعنى أنه لا يمكن القول: إن الصحابة لما رسموا قصدوا كذا، ولما فصلوا هنا قصدوا كذا، ولما وصلوا هنا قصدوا كذا، لكن المسألة جاءت على سبيل التنوع في هذا، يعني تنوع الرسم عندهم كما يتنوع الرسم اليوم، وهذا ليس لها أثر معنوي.
أما ما يتعلق بالتاء المفتوحة، فيمكن أن نذكر لها علة، وهي أن بعض العرب تقف على التاء المربوطة بالتاء المفتوحة، فيقولون: (حمزت)، و(طلحت)، و(رحمت) (بقيت) (فاطمت).. إلخ، بمعنى أنهم يفتحون التاء، وهذه اللهجة لا زالت موجودة إلى اليوم، في بعض النطق العربي الموجود الآن في اللهجات المعاصرة.
إذاً: يمكن أن نقول: إنه ما كتب رسماً بالتاء المفتوحة، وحقه أن يكون من التاء المربوطة، أنه نظراً إلى هذه اللهجة، فمثلاً لو قرأت: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ [التحريم:11]؟ تقول: امرأت بالتاء المفتوحة، لكن في مكان آخر، وَإِنِ امْرَأَةٌ [النساء:128]، تقول: (وَإِنِ امْرَأَةٌ)، بالهاء، فنقف هناك بالهاء وهنا بالتاء المفتوحة، فهذا كأن فيه إشارة إلى لغة من يقف بهذه الطريقة.
وأما المقطوع والموصول فليس له علل أكثر من أن يكون تنوعاً في الرسم، ومن رام البحث عن العلل المعنوية فإنه سيتكلف في محل لا يحتاج إلى تكلف؛ لأنه لا بد أن يتكلف.
ارتباط مسائل علم التجويد بالمعنى
وأما علم الوقف والابتداء، فهو علم مرتبط بالمعنى، ومادام مرتبطاً بالمعنى صار له أثر من آثار المعنى الذي هو التفسير.
إذاً: الوقف والابتداء في حقيقته جزء من علم التفسير، أو أثر من آثار علم التفسير، وليس أثراً من آثار علم التجويد، ولا نوعاً من أنواع علم التجويد، فلو أن قارئاً قرأ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ[الأنفال:2]، ثم وقف فإن المعنى لم يتم، ولو ابتدأ فقال: وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2]، نقول: من هم الذين وجلت قلوبهم؟ فالبدء أيضاً غير صحيح، فنجد أن هذا المبحث ليس له علاقة بتحسين اللفظ، لكنه داخل ضمن علم الأداء القرآني، وهو موجود في كتب التجويد، ففي أول كتاب يقال: إنه من كتب التجويد وهي قصيدة أبي مزاحم الخاقاني المتوفى سنة ثلاثمائة وخمس وعشرين، نجد في الفهرس أنه قال: [ ذكر الوقف]، يعني أن ذكر الوقف من تمام تجويد أو تحسين القارئ لتلاوته، إذاً: يجب أن نفرق بين أمرين: أمر مرتبط بالتجويد من حيث هو صناعة مرتبطة بتحسن الألفاظ وطريقة نطق هذه الألفاظ، وهذا ما نسميه تجويداً؛ وأمر مرتبط بالأداء القرآني، يعني بعموم التلاوة وهذه يدخل فيها الوقف والابتداء، والمقطوع والموصول، وتاء التأنيث.
فإذاً: هذا المبحث في حقيقته، ليس من صلب علم التجويد، لكنه يحسن بالقارئ أن يعرف ذلك، ليكون أداؤه لكتاب الله سبحانه وتعالى على المعنى الأتم، فلو سمعت إنساناً يضبط المواقف، وآخر لا يضبط المواقف، فإن النفس ترتاح إلى من يضبط المواقف، أما الذي لا يضبط المواقف، ويقف كيف ما اتفق، لا يعطيك معان، ولا تحس بحسن القراءة، مع أنه قد يكون صوته حسناً، وأداؤه التجويدي حسن.. إلخ، لكن فيه نقص من جهة أداء المعاني، ومن جهة التلاوة.
ونضرب مثالاً على ذلك فيما لو قرأ قارئ: إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى [الأنعام:36] ثم وقف، فإنه يقع في خلل؛ لأنه أدخل الموتى في من يسمع وهذا ليس هو مراد الله، بدليل أنه لو بدأ فقرأ: (يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ)، فإن المعنى لا يكون واضحاً؛ لأنه منهم الذين يبعثهم الله؟ سيكون منهم (الْمَوْتَى).
إذاً: الأحسن أن يقول: إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ [الأنعام:36] ويقف، ثم يقول: (وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ))[الأنعام:36]، حتى يكون هناك فصل في المعاني.
ومن جهة أخرى لو قرأ: إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ [الأنعام:36]، ووصل، فإن المعنى يكون متضحاً ولا أحد يستشكل أو يقول: إن الموتى يدخلون فيمن يستجيب عند الوصل، إذاً الإشكالية فيما لو وقف على الموتى، ومن ثم وضع الوقف اللازم على: إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ [الأنعام:36]، وهذا فيه نظر؛ لأن الشي الذي يخشى منه هو فيما لو وقف على (الْمَوْتَى) ليس فيما لو وصل، فإذاً: موطن (الْمَوْتَى) أن يقال: الأولى ألا تقف، وهذا من المواضع التي تستدرك على السجاوندي رحمه الله تعالى عندما وضع على: إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ [الأنعام:36] الوقف اللازم، وتبعه بعد ذلك كثير ممن كتب في الوقف اللازم، وأيضاً ممن سجل وقوفه في المصاحف، ولا زال إلى اليوم يوجد مثل هذا الحكم على: إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ [الأنعام:36]، مع أنه في حال الوصل لا يكون هناك إشكال، إذاً نلاحظ أن ما ذكرناه مرتبط بالمعنى، ليس له علاقة بالأداء.
هذا ما يتعلق بهذه القضايا التي طرحها علماء التجويد وإرجاع كل قضية إلى العلم الذي تتعلق به، فإذاً: عرفنا أن أغلب هذا العلم يرجع إلى تجويد اللفظ وتحسينه، وهو ما يسمى: بالتجويد، وبعضها يرجع إلى الرسم، وبعضها يرجع إلى المعنى، وكلها دونه علماء التجويد في كتبهم وأشاروا إليه، على اختلاف بينهم في بعض المسائل هذه ما يدخلها وبعضهم يدخلها، لكن جمهور من كتب خصوصاً المتأخرون أدخلوا هذه المسائل في علم التجويد.
رسم المصحف توقيفي أم اجتهادي
وهنا يرد علينا سؤال مهم جداً يقول: المقطوع والموصول هل هو من الصحابة أم هو توقيفي؟ وهل التاء المفتوحة والمربوطة اجتهاد من الصحابة أم توقيفي؟
لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يعرف الكتابة والقراءة، إذاً لا يقال في الرسم: توقيفي؛ لأن المصطلح التوقيفي: هو ما أسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو ما أسند إلى الله تعالى، وهذا الرسم ليس مسنداً لا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولا إلى رب العالمين، وإنما هو اصطلاح اصطلح عليه الصحابة فكتبوا المصحف على ما هو متعارف عندهم، ولم يخترعوا شيئاً جديداً، لكن هذا الذي تعلموه فيه اختلاف تنوع، فبعضهم يكتب الكلمة كذا، وبعضهم يكتب الكلمة كذا، وليس هذا من سوء كتابة المتقدمين كما ذهب إليه الفراء في قوله: (لا أَذْبَحَنَّهُ)، قال: إن هذا من سوء كتابة المتقدمين؛ لأن هذا اصطلاح، يكتبون: (لا أَذْبَحَنَّهُ) والمراد (لَأَذْبَحَنَّهُ)، ولو كنا نأخذ بكلام الفراء وكان عندنا خط للفراء نفسه، فسنقول هذا من سوء اصطلاح الفراء ؛ لأنه أكيد يخالف الرسم الذي عندنا، فـالفراء لما ناقش: (لَأَذْبَحَنَّهُ)، وأمثالها، انتقد رسم: (لا أَذْبَحَنَّهُ)، هو عنده قياس يقيس عليه فما هو القياس الذي يقيس عليه الفراء ؟
نقول: الرسم الذي كان عند الفراء تطور على الذي عند الصحابة، والفراء يقيس ما كتبه الصحابة على ما وصل إليه الرسم في عصره، ولو قسنا رسم الفراء على ما وصل إليه عصرنا، فسنجد فيه أغلاطاً كثيرة بالنسبة لنا، فمثلاً الآن (الحارث) يكتبونها لو قرأناها قلنا: (الحرث)، و(سفيان)، يكتبونه (سفين) لما نقرأها يمكن نقرأها: (سفين)؛ وذلك لأنهم يسقطون الألفات، وأمثالها كثير، إذاً فالرسم يتطور، وهو اصطلاح يصطلح عليه أهل كل عصر، وهذا يعرفه من قرأ في المخطوطات، لكن الإعراب لا يتغير أما الرسم فيختلف باصطلاح من عصر إلى عصر، فهي إذاً ليس لها علاقة بالتوقيف، فالصحابة كتبوه كما هو متعارف عندهم، وحصل عندهم اختلاف تنوع في الرسم، ولهذا عائشة رضي الله عنها لما عرض عليها بعض رسوم المصحف اعترضت عليه، بمعنى أن عائشة رضي الله عنها كانت تعرف نوعاً من الرسم ولا تعرف هذا النوع، فأنكرت ما لا تعرفه، وهذا طبيعي أن ينكر الإنسان ما لا يعرف، كما أنكرت القراءة التي في آخر سورة يوسف: حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا [يوسف:110]، في قراءة: (كُذّبوا)، أنكرتها، إذاً فالإنسان سواء كان صحابياً أو غير صحابي إذا أنكر ما لا يعرف فهو أمر طبيعي، لكن لا يكون قوله حجة على غيره، لأن غيره ثابت، وكذلك عثمان لما قال: إني أرى فيه لحناً ستقيمه العرب بألسنتها، أي: مثل هذه الأمور، التي يكون فيها الرسم مخالف للنطق، أما العرب ينطقونها صحيحة، ما فيها إشكالية.
وعموماً فإن الصحيح الآن ألا نتجاوز رسم عثمان ؛ لأنه صار إجماعاً، يعني أجمع الصحابة على هذا الرسم وانتهى، فنحن نظرنا إلى الرسم على أنه إجماع، ليس على أنه توقيف، فإذاً لا يبدل ولا يغير، وأي إنسان يكتب مصحفاً، أو يكتب سورة على أنها من المصحف، أو يكتب آية على أنها رسم المصحف لا يجوز له أن يخالف هذا الرسم، لكن لو أن إنساناً يكتب بحثاً مثلاً ومرت به آية يكتبها بالإملاء المعتاد، لا مانع من ذلك؛ لأنه لم يقصد رسم المصحف، هذا باختصار ما يتعلق برسم المصحف.
أهمية دراسة المخارج في علم التجويد
ننتقل إلى الكلام على المخارج، وأهمية دراستها لعلم التجويد، فنقول: الأصل أن مجموعة من المخارج ومجموعة من الحروف لا إشكال فيها عند دارس علم التجويد، ولهذا نجد بعض الناس يقول: كلنا عرب، ننطق باءاً وميماً وسيناً، وهذا الكلام صحيح، لكن هناك أحرف تحتاج إلى نطق صحيح فمثلاً: (القاف) أو (الكاف) أو (الخاء) أو (الغين)، قد يقع في نطقها إشكال، مثلاً في بعض البلاد عند قراءة قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]. فإنهم يقرءون بترقيق القاف وهذه تعتبر لهجة من اللهجات، فهل يصحح له الخطأ أم لا؟
لا شك أننا نصحح له ذلك، إذا سمع: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] بترقيق القاف، نقول له: المستقيم، بتفخيم القاف؛ لأننا سمعناهم يقرءون: المستقيم، بتفخيم القاف، الذين هم أهل الأداء، فهم المرجع في هذا، ولو قال أهل الأداء (المستقيم) صحيح بترقيق القاف لأجزناها؛ لأنهم المرجع في ذلك.
فإذاً ثبت أنه قد يقع في بعض الحروف خلل فنحتاج إلى علم المخارج لبيان ذلك، لكن ما هي الحروف التي يحدث فيها خلل؟ هذه الحروف تختلف باختلاف المناطق، فقد يكون الاختلاف بين أبناء البلد الواحد فنجد نطق الذي في الشمال غير الذي في الوسط غير الذي في الجنوب، وكذلك في الدول العربية فيما بيننا، فالذي في الكويت أو في السودان نطقهم لبعض الأحرف لا شك أنه يختلف عن نطق مثلاً أهل الجزيرة وهكذا.
فإذاً لا نستطيع أن نحدد ما هو الحرف الذي يقع فيه الخلل، أو الحرف الذي لا يقع فيه خلل، هذا يختلف باختلاف المناطق، فمثلاً: (الجيم) حينما ننطقها نقول: (أج)، هكذا، لكن نجد أن بعض من ينطقها يقول: (أج) بتداخل بين الشين والجيم، وهذا فيه خلل إذاً: لا بد من دراسة عموم الحروف، وإن كانت غالب الحروف لا يمكن أن يقع فيها خطأ، والأصل فيها السلامة، إلا أن بعض الحروف تحتاج إلى ذلك وتختلف باختلاف الأشخاص.
وأما موضوع ألقاب الحروف، بمعنى أن نعرف أن هذه الحروف لهوية مثلاً، وهذه شفوية، وهكذا فلا نحتاج إلى معرفتها؛ لأنه ليس لها أثر في النطق.
أهمية دراسة الصفات في علم التجويد وبيان أثرها في النطق
وأما موضوع الصفات، فنحتاج إلى الكلام عنها، فهي مهمة ولها أثر في النطق من حيث الجملة، ولنبدأ بقول ابن الجزري في منظومته:
مهموسها فحثه شخص سكت..
يعني حروف: (فحثه شخص سكت)، هي حروف الهمس، وما عدا ذلك فهي حروف الجهر، لكن ما هو الهمس؟ الهمس: هو خروج النفس عند النطق بالحرف لضعف الاعتماد على المخرج.
الذي يهمنا من هذا التعريف هو قوله: (خروج النفس عند النطق بالحرف)، يعني أن النفس يخرج عند النطق بالحرف، ومثال ذلك لو أخذنا حرف السين مثلاً، في قوله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ [التكوير:17]، لو وضع الشخص يده أمام فمه وهو يقرأ: (عَسْعَسَ)، يلاحظ خروج هواء من فمه، ولو أخذنا حرفاً آخر ليس موجوداً في (فحثه شخص سكت) مثل الميم في قوله تعالى: سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:181]، نجد أنه لا يخرج هواء، ماذا يحصل لو أننا أعدمنا الهمس في الأحرف هذه؟ فمثلاً لو وقفنا على: (عليك)، نجد في بعض مبالغات القراء، يقول: (عليك)، بهمس شديد، يكاد يحول الكاف إلى قاف.
وهذا النطق نجده عند الذي لسانه أصله أعجمي، في مثل شبه القارة الهندية: الهند وباكستان وبنجلادش، ولهذا لو سمعت إلى قارئ يقرأ من هذه البلاد، تجد أن أحرف الهمس عنده غير واضحة؛ لأنه الهمس ما هو موجود في هذه الأحرف عندهم، لما ينطق (الكاف)، يقول: (أك) يشبه القاف وهذه خطأ في النطق.
فإذاً نستطيع أن نلاحظ أن النطق العجمي أثر على هذه الحروف، إما بطريقة النطق، وإما أنه لا يخرج صوت حرف.
ننتقل إلى صفة الرخاوة والشدة والبينية، حيث يقول:
مهموسها فحثه شخص سكت شديدها لفظ أجد قط بكت
فما هي الشدة؟ الشدة هي: انحباس الصوت.
والرخاوة هي: جريان الصوت، والصوت هو ما يكون للحرف نفسه، ولننظر في صفة الرخاوة حتى تتبين صفة الشدة، ولنأخذ حرف الصاد أو السين وهي من حروف الرخاوة؛ لأنها ليست في قوله: أجد قط بكت، فعندما نقف على (مَحِيصٍ)، نجد أن الصاد فيها جريان صوت، وقابلة أيضاً للجريان؛ أي: قابلة للامتداد، لكن عند أحد حروف الشدة كالوقف على (السَّمَاءِ) لا يمكن مد الصوت بالهمزة، أو بالتاء في قوله: (فَمَا بَكَتْ)، أو بالكاف في: (عليك)، ليست قابلة للامتداد، بل منقطع، بمعنى أن الزمن الذي يخرج به حرف الصاد أكثر من الزمن الذي يخرج به حرف التاء، لأن فيه جرياناً، وذاك فيه انحباس، والبينية بينهما.
ومما سبق نجد أنه لا يمكن أن يسأل عن الخلل في نطق هذه الصفة؛ لأنه لا يمكن أن يقال لقارئ: أنت ما شديت على هذا الحرف، أو ما أرخيت هذا الحرف، أو ما جعلته بينياً، وإذا كان لا يقع السؤال عنه، فهل له أثر في النطق أو لا؟
لا شك أن له أثراً في النطق، ومثاله عندما نقف على الجيم في قوله تعالى: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ [البروج:1].
نجد أن الجيم فيها جهر وفيها شدة أيضاً، والجهر: انحباس النفس، والشدة: انحباس الصوت، إذاً حرف الجيم فيه انحباسان: انحباس الصوت والنفس معاً.
وكذلك الوقوف على الباء في: (مُنِيبٍ)، يكون الوقوف على انحباسين أيضاً، وكذلك الطاء في: (مُحِيطٌ) فيه انحباسان، كذلك الدال في: (بعيد)، والقاف في: (يحيق)، نجد أن هذه الحروف الخمسة يجمعها صفة القلقلة، فإذاً لما وجد الانحباسان: انحباس النفس والصوت ينعدم الحرف معهما، وهذا الاضطراب في المخرج الذي نسميه القلقلة يظهر الحرف، إذاً القلقلة نتيجة للانحباسين، فصدر عندنا حكم القلقلة، ولهذا إذا وقفنا على: (يحيق)، أو (بعيد)، أو (قريب) أو (البروج) (بالقلقلة)، ظهر الحرف، فإذاً وجود هذين الانحباسين عن طريق معرفة الشدة والرخاوة له أثر في نطق مثل هذه الحروف.
ثم ننتقل إلى صفة الاستعلاء والاستفال؛ حيث قال ابن الجزري في الاستعلاء:
وسبع علو (خص ضغط قظ) حصر
فهل هذه الصفة لها أثر في الصوت أو لا؟ وهل يقع الخطأ فيها أو لا؟
الملاحظ أن باب التفخيم والترقيق مبني كله على الاستفال والاستعلاء، إذاً يقع الخلل في الاستعلاء وفي الاستفال، فقد يرقق المستعلي، وقد يفخم المستفل، مثل الميم في: (أمر الله)، الراء مفخمة، والهمزة والميم مرققة، فلما نقول (أمر) تكون مفخمة، فإذاً: معنى ذلك أنه يقع التصحيف في هذين الصفتين، وهي من أهم الصفات؛ لأنه ما من حرف إلا أن يكون إما مفخماً وإما مرققاً، يعني: استعلاء أو استفال، فإذاً لا شك أنها صفة مهمة جداً.
ثم ننتقل إلى الإطباق، وحروف الإطباق أربعة هي: الصاد والضاد والطاء والظاء، والبقية منفتحة، وقد عرف الإطباق على أنه: ارتفاع جزء من اللسان إلى الحنك الأعلى.
فهل له أثر في النطق أي: هل سمعت أحداً من القراء يقول: يا فلان ! ما أطبقت في الصاد؟ ما فتحت النون؟
لا يقع هذا ولكن لها أثر في قوة الحرف، بمعنى أنه هذه الصفة لا يقع خطأ من التالي أو من القارئ فيها، قد نقول له: أنت ما فخمت! أنت ما رققت، لكن لا نقول له: ما أطبقت! ما فتحت! لكنا نحتاجها فيما لو أردنا أن نبين الصفات القوية من الضعيفة.
علاقة صفة الإصمات والذلاقة بعلم التجويد
وكذلك صفة الذلاقة، والإصمات، أما الحروف المذلقة فهي (فر من لب)، والإصمات هي ما عدا ذلك، وهذه الحروف المذلقة والمصمتة هل لها علاقة بالتجويد؟ يعني: ما هي فائدة معرفة الحروف المذلقة والمصمتة؟
ننقل كلاماً من كتاب البرهان لـمحمد الصادق قمحاوي ، لما جاء عند الذلاقة، قال في الإصمات: امتناع حروفه من الانفراد أصولاً في الكلمات الرباعية والخماسية، بمعنى: أنه لا تتكون من هذه كلمات من غير أن يكون فيها حرف من حروف الذلاقة، ولذلك كل كلمة رباعية أو خماسية أصولاً لا يوجد فيها حرف من حروف الذلاقة فهي غير عربية، كلفظ عسجد اسم للذهب، وحروف الإصمات ثلاثة وعشرين...
فما هي علاقة هذه الصفة بعلم التجويد؟ هل لها علاقة بالنطق أم لا؟
الملاحظ أنه ليس لها علاقة بالنطق، ولكن لها علاقة باللغة العربية، ولهذا الخليل بن أحمد ذكرها في صفات الحروف؛ لأنه يتكلم عن مفردات اللغة، فهو يريد أن يبين ما هو عربي وما ليس بعربي. إذاً هي صفة للحروف نعم، لكنها ليس لها علاقة بالتجويد، وليس أي أثر إطلاقاً في النطق، ولهذا أرى أن هذه الصفة من الأولى ألا تدرس في علم التجويد.
أما ما يرجع إلى النحو واللغة فقد ذكرنا نقلاً مطولاً عن سيبويه في قضية الغنة وما يتعلق بها من الأحكام، أي: قضية النون الساكنة والتنوين وما يتعلق بها من الأحكام، وقضية المخارج والصفات أيضاً، وذكرنا أن كل من جاء بعد سيبويه اعتمد على سيبويه في باب المخارج والصفات، وشيخه الخليل بن أحمد ناقش ما يتعلق بالمخارج وبعض الصفات في مقدمة كتاب العين؛ لأنه كتاب سيعتمد على مفردات اللغة، وكذلك المبرد في المقتضب، و الفراء وغيره، تكلموا عن الصفات والمخارج أيضاً، فمنهم من وجد كلامه، ومنهم من ينقل ويحكى كلامه حكاية عامة، كما نقل عن الفراء و الجرمي و قطرب و ابن كيسان أنهم يقولون: إن مخارج الحروف أربعة عشر، وليس عندنا نصوص مدونة عنهم في قضية التفصيل في هذه المخارج وما قالوا فيها، لكن هذا قيل عنهم وحكي أنهم يرون أن النون واللام والراء من مخرج واحد.
المقصود من هذا أن عموم هذه المباحث ترجع إلى لغة العرب، وهي المخارج والصفات، وأحكام النون الساكنة والتنوين، وأحكام الميم الساكنة، وما يتعلق بالإظهار والإدغام، وما يدخل بينهما من الإخفاء والإقلاب، وما يتعلق بإدغام التماثل والتجانس والتقارب، وما يتعلق بالمد والقصر، وتختلف هذه المباحث من جهة البحث اللغوي، فمثلاً المد والقصر موجود بتفاريعه عند علماء التجويد، لكن أصل المد والقصر والكلام عنه موجود عند علماء النحو واللغة، فيمكن أن ترجع كل هذه المباحث إلى أصل اللغة، وأنها مباحث نحوية لغوية، بحثها علماء النحو واللغة في كتبهم.
استمع المزيد من صفحة د. مساعد الطيار - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
التأصيل في علم التجويد [2] | 3078 استماع |
التأصيل في علم التجويد [5] | 2053 استماع |
التأصيل في علم التجويد [3] | 1807 استماع |
التأصيل في علم التجويد [1] | 1423 استماع |