دلوني على سوق المدينة


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأزواجه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد: السلام عليكم ورحمه الله وبركاته،،،

أيها الإخوةُ الأحبةُ الكرام: هذا الدرس الثامن والثمانون من سلسلة الدروس العلمية العامة، بالجامع الكبير بـبريدة، في هذه الليلة ليلة الإثنين (18 ذي القعدة، لسنة 1413هـ).

وعنوانه: (دلوني على سوق المدينة).

وقد كنت أعلنتُ عن هذا الدرس على مدى أسبوعين، ثم تأجل لأسبابٍ طارئة، وهذا أوان الوفاء بما كنت قد وعدتكم به، ومما هو جديرٌ بالذكر، أنني علمت بعد أن ذكرت لكم عنوان الدرس، أن أخي فضيلة الشيخ عبد الوهاب بن ناصر الطريري خطب خطبةً ووضع لها هذا العنوان وهو "دلوني على السوق".

وحقاً لم أعلم بذلك إلا بعد أن غادرت المسجد، فكان هذا محض اتفاقٍ وقدر، والحمد لله على ذلك، فإنه يدل على أن هذه الفكرة التي نتحدث عنها، وندعو إليها، هي همٌ مشترك بين مجموعات من طلبة العلم.

العصر الذي نعيشه عصر صراعٍ في مجالات عدة

إن هذا العصر الذي نعيشه، هو عصر صراعٍ في مجالاتٍ عدة، منها المجال الاقتصادي، سواء على مستوى الدول أم غيرها، فـأمريكا وأوروبا مثلاً، تعيشان صراعاً تجارياً واقتصادياً كبيراً، وكذلك الحال بالنسبة لـأمريكا مع اليابان، أو مع الصين، أو مع الدول النفطية التي أصبح الغرب يضغط عليها، ويفرض عليها الضرائب، وآخر ذلك ضريبة النفط، التي تصل إلى ثلاث دولارات على البرميل الواحد، وقد تزيد إلى عشرة دولارات على مدى سنوات.

الاقتصاد من أهم أسباب قيام الدول أو انهيارها

هذا الاقتصاد الذي نتحدث عنه، هو من أهم أسباب قيام الدول أو انهيارها، وعلى سبيل المثال: فإن الدول الشيوعية التي تهاوت كما تتهاوى أوراق الخريف، كان من أسباب سقوطها الفشل والانهيار الاقتصادي، ولم ينفعها وقد انهار اقتصادها، أن تملك أكثر من ثلاثمائة ألف رأس نووي، بل أصبحت هذه الرءوس النووية، وتلك الملايين من الجنود، عبئاً على اقتصادها، وساهمت في مزيدٍ من تفككها وانهيارها.

الرجل الغربي مثقلاً بالديون

فإن مما يلحظه الدارسون لأوضاع المجتمعات، أن الرجل الغربي اليوم، أصبح مثقلاً بالديون إلى رأسه، وأصبح كل مرتبه يصرف في سداد ديونٍ عليه، فدينٌ بسبب السيارة، ودينٌ للمنـزل، ودينٌ بسبب أعمالٍ خاصة يقوم بها، وهكذا بحيث يُقدَّر أن هذا الرجل يموت وهو في سداد الدين، وهذا من الظواهر الخطيرة التي تنذر بانهيار تلك المجتمعات الغربية الضالة والشاردة عن سواء السبيل.

المسلمون اليوم هم الأغنى والأفقر

إن المسلمين اليوم هم الأغنى، وهم الأفقر في الوقت نفسه، فبلاد الإسلام وهبها الله تعالى الخيرات الاقتصادية، والثروات الطبيعية المختلفة، التي أصبح الغرب بأمسِّ الحاجة إليها، وليس النفط إلاَّ واحداً منها، ومع ذلك فإن أكثر من (60%) من فقراء العالم، ومشرديه، ولاجئيه هم ممن ينتسبون إلى هذه الرقعة الإسلامية، وذلك يدل على تقصيرهم في استثمار ما وهبهم الله تعالى من الخيرات، والبركات.

المال عصب الحياة

وأخيراً: فإن المال كما يُقال عصب الحياة، وهو سرٌ من أسرار النجاح، للفرد والجماعة والأمة، فالاقتصاد يجب أن يوظف لخدمة الدين، والدعوة إلى الله عز وجل، وإغناء المسلمين عن الكافرين، والإفادة مما وهب الله تعالى في هذه الدار، قال سفيان الثوري رحمه الله: ما كانت العِدة أو العُدة في زمانٍ أصلح منها في هذا الزمان، والأثر رواه أبو نعيم.

ومعنى كلام سفيان -رحمه الله-: أن إعداد المال، واقتناءه ربما كان محتاجاً إليه في كلِّ وقت، لكن في زمانه على سبيل الخصوص زادت الحاجة!! لأن به يحفظ الإنسان عن إراقة ماء وجهه فيما لا يحل، أو التعرض للسؤال، أو الضعف، أو الحاجة إلى من بيدهم المال، فإذا كان هذا الكلام في زمان سفيان، فما بالكم بوقتنا هذا الذي يتنافس العالم فيه، في مجالِ الاقتصاد وفي مضماره.

إننا محتاجون إلى أن نتحدث طويلاً عن هذا الهم؛ الهم الاقتصادي، وهذا الدرس هو الدرس الثاني بعد الدرس الأول، الذي كان بعنوان (دعوةٌ للإنفاق) وهناك إن شاء الله تعالى، مجموعةٌ أخرى أسأل الله تعالى أن يوفقنا إليها.

إن هذا العصر الذي نعيشه، هو عصر صراعٍ في مجالاتٍ عدة، منها المجال الاقتصادي، سواء على مستوى الدول أم غيرها، فـأمريكا وأوروبا مثلاً، تعيشان صراعاً تجارياً واقتصادياً كبيراً، وكذلك الحال بالنسبة لـأمريكا مع اليابان، أو مع الصين، أو مع الدول النفطية التي أصبح الغرب يضغط عليها، ويفرض عليها الضرائب، وآخر ذلك ضريبة النفط، التي تصل إلى ثلاث دولارات على البرميل الواحد، وقد تزيد إلى عشرة دولارات على مدى سنوات.

هذا الاقتصاد الذي نتحدث عنه، هو من أهم أسباب قيام الدول أو انهيارها، وعلى سبيل المثال: فإن الدول الشيوعية التي تهاوت كما تتهاوى أوراق الخريف، كان من أسباب سقوطها الفشل والانهيار الاقتصادي، ولم ينفعها وقد انهار اقتصادها، أن تملك أكثر من ثلاثمائة ألف رأس نووي، بل أصبحت هذه الرءوس النووية، وتلك الملايين من الجنود، عبئاً على اقتصادها، وساهمت في مزيدٍ من تفككها وانهيارها.

فإن مما يلحظه الدارسون لأوضاع المجتمعات، أن الرجل الغربي اليوم، أصبح مثقلاً بالديون إلى رأسه، وأصبح كل مرتبه يصرف في سداد ديونٍ عليه، فدينٌ بسبب السيارة، ودينٌ للمنـزل، ودينٌ بسبب أعمالٍ خاصة يقوم بها، وهكذا بحيث يُقدَّر أن هذا الرجل يموت وهو في سداد الدين، وهذا من الظواهر الخطيرة التي تنذر بانهيار تلك المجتمعات الغربية الضالة والشاردة عن سواء السبيل.

إن المسلمين اليوم هم الأغنى، وهم الأفقر في الوقت نفسه، فبلاد الإسلام وهبها الله تعالى الخيرات الاقتصادية، والثروات الطبيعية المختلفة، التي أصبح الغرب بأمسِّ الحاجة إليها، وليس النفط إلاَّ واحداً منها، ومع ذلك فإن أكثر من (60%) من فقراء العالم، ومشرديه، ولاجئيه هم ممن ينتسبون إلى هذه الرقعة الإسلامية، وذلك يدل على تقصيرهم في استثمار ما وهبهم الله تعالى من الخيرات، والبركات.

وأخيراً: فإن المال كما يُقال عصب الحياة، وهو سرٌ من أسرار النجاح، للفرد والجماعة والأمة، فالاقتصاد يجب أن يوظف لخدمة الدين، والدعوة إلى الله عز وجل، وإغناء المسلمين عن الكافرين، والإفادة مما وهب الله تعالى في هذه الدار، قال سفيان الثوري رحمه الله: ما كانت العِدة أو العُدة في زمانٍ أصلح منها في هذا الزمان، والأثر رواه أبو نعيم.

ومعنى كلام سفيان -رحمه الله-: أن إعداد المال، واقتناءه ربما كان محتاجاً إليه في كلِّ وقت، لكن في زمانه على سبيل الخصوص زادت الحاجة!! لأن به يحفظ الإنسان عن إراقة ماء وجهه فيما لا يحل، أو التعرض للسؤال، أو الضعف، أو الحاجة إلى من بيدهم المال، فإذا كان هذا الكلام في زمان سفيان، فما بالكم بوقتنا هذا الذي يتنافس العالم فيه، في مجالِ الاقتصاد وفي مضماره.

إننا محتاجون إلى أن نتحدث طويلاً عن هذا الهم؛ الهم الاقتصادي، وهذا الدرس هو الدرس الثاني بعد الدرس الأول، الذي كان بعنوان (دعوةٌ للإنفاق) وهناك إن شاء الله تعالى، مجموعةٌ أخرى أسأل الله تعالى أن يوفقنا إليها.

ثانياً: سُنةٌ مأثورة:

عبد الرحمن بن عوف والكسب الحلال

روى البخاري -رحمه الله- في صحيحه عن أنسٍ قال: [[قدم عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه المدينة، فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فقال له سعد بن الربيع: اختر إحدى "زوجاتي" فأنـزل لك عنها، واختر من مالي ما شئت!! فقال له عبد الرحمن بن عوف: بارك الله لك في أهلك، ومالك، دُلوني على السوق]].

لا يريد أن يأخذ شيئاً من مال أخيه، ولا من أهله؛ ولكن دلوني على السوق، فأتى السوق، فربح شيئاً من أقطٍ، وشيئاً من سمنٍ، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أيامٍ وعليه وضرٌ من صفرة، عليه طيبٌ خلوف، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {مهيم يا عبد الرحمن! (ما الخبر، ما القصة؟) قال: تزوجت يا رسول الله امرأةً من الأنصار، قال: فما أصدقتها؟ قال: وزنَ نواةٍ من ذهب، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: أو لم ولو بشاةٍ} نعم، أنت تلحظ روح الاحترام عند عبد الرحمن بن عوف، وهو رجلٌ من أهل مكة من المهاجرين، ومكة كانت مركزاً تجارياً في الجاهلية، ثم صارت بعد ذلك في الإسلام يجيء إليها العرب في المواسم، وفي الحج، والعمرة، وفي غيرها، فيأتون بألوانٍ من الخيرات، كما قال الله تعالى ممتناً على أهل هذا البلد: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت:67] وفي الآية الأخرى قال: يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ [القصص:57].

فكانت مكة مركزاً تجارياً وزراعياً على مستوى الجزيرة العربية كلها، ولذلك كان أهلها خبراء ومحترفين في التجارة، فكان عبد الرحمن بن عوف لأنه مكيٌ مهاجريٌ، من أول ما نـزل المدينة قال: "دلوني على السوق"، وبخبرته نـزل السوق، ولم يكن معه قرشٌ ولا ريالٌ، ولا درهمٌ ولا دينار؛ ولكنه ضاربَ وما هي إلا أيام، حتى ربح شيئاً من إقطٍ، وشيئاً من سمنٍ، ثم على مدى أسبوعٍ تزوج عن غِنى، ولم يكن محتاجاً إلى لجنةٍ خيرية، ولا إلى محسنٍ متصدق، ولكن أغناه الله تعالى بالضرب في الأسواق، والسبق فيها بما أحل، حتى استغنى وأغنى بإذن الله عز وجل.

الدعم النبوي لأصحابه بالتجارة

فأنت تلحظ ذلك، ثم تلحظ الدعم النبوي من الرسول صلى الله عليه وسلم لـعبد الرحمن بن عوف، ولسائر المهاجرين والأنصار، الدعم النبوي لهم بالتجارة، ولذلك دعا له النبي صلى الله عليه وسلم، بارك الله لك، وأمره أن يولمَ ولو بشاةٍ ليطعم المهاجرين والأنصار، من طيّب الطعام، بما أفاء الله عليه من المال، وبما أنعم عليه من الزوجة: {أولم ولو بشاة }.

وهذا يذكرنا أيضاً، بقصة عروة بن الجعد الأزدي البارقي رضي الله عنه وله قصةٌ شهيرة، هي في صحيح البخاري: {أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً وقال: اشترِ لي شاةً، فذهب واشترى شاتين، ثم باع إحداهما بالثمن نفسه، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بماله وبشاته، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم فكان لا يُضارب في صفقةٍ، إلاَّ ربِح فيها، حتى اعتقد الصحابة رضي الله عنهم أنه لو باع التراب لربح فيه} فأنت تلحظ هنا أيضاً، روح الاحترام عند عروة البارقي، والخبرة في التجارة، والتعرف على الأسباب، والبحث عن الفرص، ثم تلحظ دعماً نبوياً من النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه أن يكونوا أغنياء عن الناس، فقراء إلى الله رب الناس جلَّ وعلا.

إنها جزءٌ من حياة الجيل الأول كلهم، لا تخطئك في أي واحدٍ منهم، وعلى سبيل المثال: أبو بكر رضي الله عنه خرج تاجراً إلى الشام وإلى البصرة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كما أخرجه الزبير بن بكار في الموفقيات، ولم يمنعه الرسول صلى الله عليه وسلم وحب الجلوس معه من ذلك، ولا منع النبي صلى الله عليه وسلم محبة أبي بكر والحرص على صحبته من الإذن له بالتجارة إلى البصرة، أما عمر رضي الله عنه ففي الصحيحين في قصة أبي موسى رضي الله عنه لما استأذن عليه، وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فإن أذن له وإلا فليرجع} فطلب عمر البينة على ما قال أبو موسى، فجاءه ببعض الأنصار فشهدوا له، فقال عمر رضي الله عنه: [[خفي عليَّ هذا من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألهاني عنه الصفقُ في الأسواق]].

وحقيقةً كان عمر كثير الصحبة للنبي صلى الله عليه وسلم حتى إنه كان عليه الصلاة والسلام كثيراً ما يقول: {ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، جئت أنا وأبو بكر وعمر، وهما السمع والبصر} كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر وعمر: {هذان السمع والبصر} وقلما تركه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لكن خفيت عليه هذه السنة، فرجع يلوم نفسه ويعاتبها، ويقول: ألهاني عنه الصفق في الأسواق، أي: الشغلُ بالتجارة.

أما علي رضي الله عنه فقد ذكر عنه الخلال كما في كتابه، الحث على التجارة، ذكر أنه كان على علي إزارٌ غليظ، اشتراه بخمسةِ دراهم فقط، أمير المؤمنين عليه إزارُُ غليظ، قيمته خمسة دراهم فقط! ثم يقول رضي الله عنه: [[اشتريته بخمسة دراهم، لو أربحني فيه رجلٌ درهماً واحداً لبعته عليه]].

إذاً هو مستعدٌ أن يتاجر حتى في ثوبه الذي على جلده، ولو أربحه فيه إنسانٌ درهماً واحداً! هذه روح التجارة لمثل هؤلاء الرجال الفضلاء، وهكذا كان سائر الصحابة من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم.

ولقد قدم المهاجرون المدينة بالمئات، ثم بالألوف، جم غفير، فهل عانت المدينة يا ترى.. أزمةً اقتصاديةً بسبب هذا العدد الكبير، الذي نـزل فيها، ولم تكن فرص العمل مواتية؟!!

وهل عانت المدينة أزمةً في الوظائف الحكومية؟! كلا!

السلف الصالح والتجارة

بل قد كان المهاجرون والأنصار، يعملون في الزراعة، أوفي التجارة أو في الحطب، أو في الاستيراد، أو في غير ذلك، وكلهم كانوا مثل عبد الرحمن بن عوف، حتى نتج عن ذلك نشاطٌ اقتصاديٌ واسعُ النطاق، وكان الأنباط يتبادلون السلع والبضائع مع المدينة، كما هو معروفٌ في قصة كعب بن مالك وهي في الصحيحين، في قصة النبطي الذي كان يسأل عن كعب بن مالك.

ولهذا كان أهل العلم، والجهاد، والدين، يتواصون بالعمل في التجارة، لا أقول أهل الدنيا، ولا أقول أهل المال، ولا أقول أهل السلطة، وإنما أقول أهل العلم، والدعوة، والجهاد، كانوا يتواصون بذلك.

وهذا أبو قلابة رضي الله عنه يوصي أيوب السختياني، فيقول له: الزم السوق، فإن الغنى من العافية، وهذا الأثر رواه عبد الرزاق، وابن أبي شيبة والبيهقي وغيرهم وسنده صحيح.

وهذا إسحاق بن يسار يمر بالبزازين الذين يبيعون الثياب، فيقول لهم: يا معشر البزازين! الزموا تجارتكم.

هل تراه وقف عليهم ليقول لهم: القوا ما أنتم فيه، واتركوا ذلك، واذهبوا إلى الكهوف والمغارات لتعتزلوا فيها؟! كلا بل يقول: يا معشر البزازين، الزموا تجارتكم فإن أباكم إبراهيم عليه السلام كان بزازاً، أي: يبيع الثياب، وهذا الأثر رواه أبو نعيم وسنده جيد.

وشعبة رضي الله عنه وهو من أتباع التابعين، يقول لتلاميذه يربيهم على العلم، وعلى العبادة، وعلى الخير والجهاد، ومن ضمن كمال التربية أنه يعطيهم تعليماتٍ صريحة يقول لهم: الزموا السوق، وهذا الأثر مروي في الجعديات، وسنده صحيح.

وقال رجلٌ للإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-: إني رجل غني، وذو كفاية، فماذا ترى لي؟ قال له الإمام أحمد: الزم السوق، تصلُ به الرحم، وتعودُ به على عيالك، وهذا الأثر رواه الخلال وابن الجوزي، رحمه الله تعالى.

أما سفيان الثوري -رحمه الله- فيقول لك: عليك بعمل الأبطال.

ونحن نعرف أن الأبطال يخوضون المعارك، وأن الأبطال يقولون كلمة الحق، ونعرف أنهم يموتون في سبيل الله؛ ولكن سفيان يقدم لك تعريفاً جديداً للأبطال، وهو صحيحٌ أيضاً.

(عليك بعمل الأبطال، الكسب من الحلال، والإنفاق على العيال).

روى البخاري -رحمه الله- في صحيحه عن أنسٍ قال: [[قدم عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه المدينة، فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فقال له سعد بن الربيع: اختر إحدى "زوجاتي" فأنـزل لك عنها، واختر من مالي ما شئت!! فقال له عبد الرحمن بن عوف: بارك الله لك في أهلك، ومالك، دُلوني على السوق]].

لا يريد أن يأخذ شيئاً من مال أخيه، ولا من أهله؛ ولكن دلوني على السوق، فأتى السوق، فربح شيئاً من أقطٍ، وشيئاً من سمنٍ، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أيامٍ وعليه وضرٌ من صفرة، عليه طيبٌ خلوف، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {مهيم يا عبد الرحمن! (ما الخبر، ما القصة؟) قال: تزوجت يا رسول الله امرأةً من الأنصار، قال: فما أصدقتها؟ قال: وزنَ نواةٍ من ذهب، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: أو لم ولو بشاةٍ} نعم، أنت تلحظ روح الاحترام عند عبد الرحمن بن عوف، وهو رجلٌ من أهل مكة من المهاجرين، ومكة كانت مركزاً تجارياً في الجاهلية، ثم صارت بعد ذلك في الإسلام يجيء إليها العرب في المواسم، وفي الحج، والعمرة، وفي غيرها، فيأتون بألوانٍ من الخيرات، كما قال الله تعالى ممتناً على أهل هذا البلد: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت:67] وفي الآية الأخرى قال: يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ [القصص:57].

فكانت مكة مركزاً تجارياً وزراعياً على مستوى الجزيرة العربية كلها، ولذلك كان أهلها خبراء ومحترفين في التجارة، فكان عبد الرحمن بن عوف لأنه مكيٌ مهاجريٌ، من أول ما نـزل المدينة قال: "دلوني على السوق"، وبخبرته نـزل السوق، ولم يكن معه قرشٌ ولا ريالٌ، ولا درهمٌ ولا دينار؛ ولكنه ضاربَ وما هي إلا أيام، حتى ربح شيئاً من إقطٍ، وشيئاً من سمنٍ، ثم على مدى أسبوعٍ تزوج عن غِنى، ولم يكن محتاجاً إلى لجنةٍ خيرية، ولا إلى محسنٍ متصدق، ولكن أغناه الله تعالى بالضرب في الأسواق، والسبق فيها بما أحل، حتى استغنى وأغنى بإذن الله عز وجل.