من هنا وهناك


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. هذا الدرس الخامس والخمسون من سلسلة الدروس العلمية العامة ينعقد في هذه الليلة، ليلة الإثنين الثامن والعشرين من شهر شعبان، لسنة ألف وأربعمائة واثنتي عشرة للهجرة.

أيها الأحبة، كنت قد أخبرتكم أن عنوان هذا الدرس سيكون: (من هنا وهناك) ولعل مضمون الدرس واضح من عنوانه، فإنه كان يمر بي خلال فترة طويلة مضت كثير من الأوراق والرسائل والأسئلة والقصاصات والاقتراحات وغيرها.

فكنت أود أن أجد لها فرصة في مثل هذه الدروس، لكن الوقت يمضي والأحداث تتوالى، فتكاثرت فرأيت أن أفرد لها مثل هذا المجلس بين الفينة والأخرى.

وبناءً عليه، فإن هذا المجلس سيكون عبارة عن أشياء موزعة ومتفرقة وأمور عديدة، مما يكون فيه تواصل بيني وبينكم، وتعاون على البر والتقوى، وتناقش فيما يكون فيه مصلحة للجميع.

وأرجو أن يكون في ذلك خير وبركة، وأن يكون مجلساً عامراً، فيه من المتعة والفائدة ما فيه.

ولعل أول نقطة لابد أن أبدأ بها الآن وقد قارب شهر رمضان على القدوم، هي: الحديث عن شهر رمضان.

ففي خلال هذا الأسبوع يستقبل المسلمون هذا الشهر الكريم، الذي خصه الله تعالى بالذكر في كتابه، وأنـزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، هذا الشهر الكريم أيها الأحبة.. هو:

رمضان فرصة لوحدة المسلمين

أولاً: فرصة للوحدة الصادقة بين المسلمين المتبعين للرسول صلى الله عليه وسلم، الملتزمين بمنهج الكتاب والسنة، إذ أنه يوحد بينهم في الصيام والفطر والصلاة، وغير ذلك من الأعمال.

فهل يعي المسلمون ذلك؟ وقد تشتت بهم السبل، وتفرقت بهم الأهواء، واختلفت قلوبهم فصاروا هكذا كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، أهواء شتى، وقلوب متفرقة، وآراء مختلفة، هذا بين من يلتزمون بالمنهج الصحيح، دعك من أهل البدع فلنا معهم حديث آخر، دعك من الضالين والمنحرفين، لكننا نوجه هذا الحديث إلى المسلمين المتبعين للرسول صلى الله عليه وسلم.

إن الله تعالى إذا حرم قوماً بركة العمل سلط عليهم الجدل، ولهذا جاء في الحديث المروي: {ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل} فأنت تجد الفرص والمناسبات، التي إنما شرعت وأحدثت لتعميق الوحدة بين المسلمين الصادقين، وتأليف قلوبهم، وإزالة الوحشة والشحناء والبغضاء من نفوسهم، وتصفية ضمائرهم، تجد أنها في كثير من الأحيان تحولت عندهم إلى نوع من الجدل، الذي لا يزيد القلوب إلا تفرقاً، ولا يزيد الخلاف إلا اشتعالاً، فإذا قدم رمضان وجدت جدلاً عظيماً بين المسلمين في كل مسجد في أمور كثيرة، في صلاة التراويح، وكم تصلى؟! ثم في زكاة الحلي للنساء، وهل فيها زكاة أو ليس فيها زكاة؟ ثم في إثبات دخول الشهر وكيف يتم إثبات دخوله بالرؤية أم بالحساب؟ وهل يصوم المسلمون كلهم جميعاً؟ أم كل بلد له رؤيته الخاصة؟ إلى غير ذلك من المسائل والأمور!

ونحن لا نعترض أبداً -وأقولها بوضوح؛ لئلا يفهم الكلام خطأ- على البحث العلمي الجاد في كل هذه المسائل.

فإنه لا يملك أحد أن يحجر على قلوب الناس، وألسنتهم، وعقولهم، ودراساتهم، كلا. وما زال العلماء يبحثون في مثل هذه الأمور وفي غيرها منذ القديم، ولكنها لم تكن يوماً من الأيام مجالاً للاختلاف والتطاحن، وللقيل والقال، وللتخطئة على رءوس الأشهاد، وإيجاد أشياء كثيرة في نفوس العامة.

فإنهم لا يدرون ماذا يأخذون وماذا يدعون، أرأيت -مثلاً- في كل مسجد من المساجد يدور جدل كم نصلي التراويح؟ فيقول قوم نصليها خمساً، ويقول آخر نصليها عشراً، ويقول آخر: غير ذلك، ويحدث اختلاف، حتى إن بعضهم يترك المسجد ولا يصلي ويذهب إلى غيره ليصلي، إلى غير ذلك من الأمور!

وأجزم أيها الأحبة، أن اجتماع المسلمين في مسجد من المساجد على صلاة التراويح -مثلاً- على الصورة المفضولة أولى من اختلافهم وتناحرهم، وكثرة القيل والقال، وارتفاع الأصوات في المساجد واللغط وغير ذلك، وأشد من ذلك كله اختلاف القلوب، ووجود البغضاء والشحناء على أمور لا يدعو الأمر إليها.

فقد اختلف الصحابة في هذا الأمر، واختلف التابعون فيه، وتجادلوا فيه بالحسنى، ولم ينقل أن أحداً منهم ضلل أو فسق أو بدع لأجل ذلك، ولا هجر أحداً لأجل ذلك، ولا ترك الصلاة خلفه لأجل ذلك، ولا أن هذا الأمر أدى إلى اختلاف في القلوب وتناحر وتطاحن.

فمتى يعي المسلمون ذلك؟ وتتحول هذه المناسبات إلى مجال لتقريب القلوب وتصفيتها! فإن من أعظم ما يعبد الله تعالى به صفاء القلوب على المسلمين.

والحديث الذي رواه أحمد والطبراني وغيرهم، وسنده حسن، في قصة عبد الله بن عمرو بن العاص معروف مشهور، وفيه {أن الرسول صلى الله عليه وسلم بشر رجلاً من الأنصار بالجنة، فلم يجد عبد الله بن عمرو بن العاص من عمل هذا الرجل، كبير صوم ولا صلاة، إلا أنه يبيت، وليس في قلبه غل على مسلم على فضل أعطاه الله تعالى إياه}.

فلنعبد الله تعالى بالقلوب النظيفة، والنفوس السليمة، التي لا تحمل لمسلم صادق غلاً، ولا غشاً، ولا حقداً، ولا حسداً، ولا كراهية، ولا بغضاء، وما أعز مثل هذا في نفوس الناس.

قد يلتبس هذا الأمر أحياناً بصورة الغيرة على الدين، أو بصورة الغضب لمسألة علمية، أو بصورة الغيرة على الوحدة الإسلامية، أو بصورة البحث عن المصلحة، يلبس أزياء شتى ولكن حقيقته واحدة.

فإذا جاء الحج، الذي هو فرصة لوحدة المسلمين الصادقين، الملتزمين بمنهج الكتاب والسنة، تراهم يقفون في صعيد واحد، ويفيضون في وقت واحد، إلى غير ذلك من الأعمال، ويجتمعون في مكان واحد، ليتدارسوا أمورهم، وجدت أن كثيراً من المسلمين يأتيهم الداء مرة أخرى فيشتغلون بجدل عظيم حول أمور كثيرة، وآخر ما يشغلهم هو ما شرع الحج لأجله! وأعظم ذلك هو تعميق وحدانية الله تعالى في القلوب.

والذي يقرأ سورة الحج -مثلاً- يعرف أن من أعظم أهداف مشروعية الحج؛ تحقيق التوحيد في قلوب العباد.

قال تعالى: حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31] وقد أخذنا شعائر الحج عن نبينا صلى الله عليه وسلم، وكانت كثير من هذه الشعائر يعمل بها أبونا إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهو سيد الحنفاء والموحدين، فليتفطن لذلك، ولنعمل جميعاً على أن نجعل من مثل هذه المناسبات فرصة لتحقيق الوحدة بين المسلمين الصادقين، بين الملتزمين بمنهج الكتاب والسنة.

رمضان فرصة لإصلاح القلوب

ثانياً: إن رمضان فرصة للإقبال على إصلاح الباطن وتطهير القلوب، فنحن نعلم جميعاً أن الصوم لم يشرع من أجل الجوع والعطش، وأن الصلاة لم تشرع من أجل السهر والتعب، وكذلك العمرة التي يؤديها الناس في رمضان وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـأم العلاء الأنصارية: {إذا كان في رمضان فاعتمري، فإن عمرة في رمضان تعدل حجة} وفي رواية: {حجة معي}.

فهذه العمرة لم تشرع لضياع المال والجهد وتعب السفر ولأوائه! كلا. ولكن ذلك كله شرع حتى يكون قلب الإنسان سليماً، لينجو يوم القيامة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

ولذلك فالعبرة بثمرة العمل ونتيجته، ورب ركعتين يركعهما الإنسان بإخلاص، وصدق مع الله عز وجل لا رياء فيها ولا سمعة يكتب الله بها نجاة العبد، ورب عمل طويل كثير، عمله الإنسان رياءً أو سمعة أو ما أشبه ذلك، يكب الله صاحبه على وجهه في النار.

قال الله تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [الماعون:4-7].

ما معنى -مثلاً- أن تجد من المسلمين من يصوم وهو لا يصلي، حتى لا يصلي الصلوات الخمس ولا في بيته، وما معنى أن يصوم الإنسان في النهار عن الطعام والشراب، وأن يفطر في الليل على ما حرم الله، فتجدهم يسكرون، وربما يجتمعون على لهو ولعب وباطل من القول والفعل والنظر والسماع.

وما معنى أن يصوم الإنسان عن الطعام والشراب، ويفطر على أعراض المسلمين، فيأتي وقد نهش هذا وطعن هذا، وشتم هذا، وتكلم في هذا واتهم هذا، وقال في هذا بغير حق، وهذا هو المفلس كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح مسلم: {أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا يا رسول الله من لا درهم له ولا متاع، قال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصوم وحج ويأتي وقد شتم هذا، وضرب هذا، وأخذ مال هذا وسفك دم هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار}.

رمضان فرصة لتجديد الحياة

ثالثاً: رمضان فرصة لتجديد الحياة، وكسر روتينها الممل، فرمضان شهر له شخصيته الخاصة من بين شهور السنة، حتى الأطفال الصغار يعرفون لرمضان طعماً خاصاً، وحتى الفساق يعرفون كيف يكون رمضان.

بل حتى الشياطين يأخذون لرمضان هماً ثقيلاً لأنهم يسلسلون فيه ويصفدون، ولذلك تجد أن البلاد التي اندرست أو كادت أن تندرس فيها آثار الإسلام ومعالمه، وعبثت فيها العلمانية، تجد أن تلك البلاد إذا جاء رمضان تغيرت أشكالها -سبحان الله- وتغير الناس تغيراً كبيراً، فلا يزال رمضان يحتفظ بشخصيته المستقلة الخاصة المميزة من بين جميع الشهور.

ولذلك فإن من المناسب جداً أن تحشد كل المؤثرات، لتوجيه الناس إلى شرف هذا الشهر فضل العبادة فيه، والتوبة والإقبال على الله عز وجل، ووجوب الخروج من المظالم، وتربية الناس على التقوى والإيمان، وعلى كل معاني الدين التي جاء الرسل عليهم الصلاة والسلام بتقريرها.

ويتم ذلك من خلال دروس المساجد -مثلاً- الموجهة للرجال والنساء على حد سواء، من خلال خطب الجمعة والمحاضرات، ومن خلال النشاطات والبرامج التي تقيمها مكاتب الدعوة والإفتاء وغيرها، بل من خلال الكتب والأشرطة التي ينبغي أن تغتنم فرصة اجتماع الناس في المساجد رجالاً ونساء لتوزيعها.

وأخص الحديث عن النساء، لأن النساء تجتمع في المساجد في رمضان ما لا تجتمع في غيره، فتوجيه الحديث لهن ونصحهن وإرشادهن، وبيان حدود ما أنـزل الله للنساء، وتوزيع الكتب والأشرطة وغيرها، من أهم الأنشطة والأعمال التي ينبغي أن تلفت إليها الأنظار.

وحين نقول: إنه ينبغي حشد الجهود لتوجيه الناس إلى هذا الشهر الكريم، وما فيه من العبادة والقدسية، لا يعني هذا أبداً الغفلة عن أن الإسلام دين الشمول، وأننا نرفض بكل مناسبة، المفهوم الكنسي للإسلام، الذي يحاول البعض أن يلصقوه بهذا الدين.

المفهوم الذي يعتبر العمل في الدنيا -مثلاً- خطيئة، فتجد الواحد في رمضان يكف عن العمل، بل العمل جزء مما كلف الإنسان به في هذه الدنيا، ولو أن إنساناً ترك العمل حتى جاع أو جاع أولاده، لكان آثماً بذلك عند الله تعالى يوم القيامة.

أو المفهوم الذي يفصل بين الدين وبين الحياة، فيعتبر أن الدين لله -كما قال أحدهم، وقد نشر هذا المقال في مجلة اليمامة أو غيرها، وكان فيه كلمة تشير إلى أن (الدين لله والوطن للجميع)- وهذا مفهوم غريب، فإن الله تعالى له كل شيء، له الآخرة والأولى، وله السماوات والأرض، وله الحكم وإليه ترجعون، وبيده مقاليد كل شيء، وهو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم.

فالدين لله والوطن لله، واجتماع الناس يجب أن يكون على أساس الأخوة الدينية، لا على أساس الأخوة الوطنية.

فالفصل بين الدين والحياة أمر مرفوض، والدين ما جاء إلا ليحكم حياة الناس من الألف إلى الياء -كما سبق أن بينا- فالدين يتحكم في المولود يوم يولد ماذا يسمى، وتحنيك المولود، وما يتعلق بالعقيقة إلى غير ذلك، ويتحكم في الميت حين يدفن في المقبرة كيف يدفن؟

وما هي الأشياء المشروعة عند دفنه؟ وعند الصلاة عليه وغسله، وغير ذلك.

وما بين ذلك من أحوال الفرد والجماعة والمجتمع والأمة والدولة، كلها لا يمكن أن يخرج منها شيء عن حكم الله تعالى ورسوله.

ليس في الدنيا شيء يقع إلا ولله ولرسوله فيه حكم، علمه من علمه وجهله من جهله.

ولذلك يكون من الأمور المستغربة، ما تسامع به الكثير من الناس في خطبة أذيعت في الإذاعة مرة أو أكثر، وتحدث ذلك الخطيب فيها عن الخطب، وانتقد تناول الموضوعات السياسية في الخطبة -مثلاً- وقال: إن الخطب تحولت إلى منتديات سياسية، وإن الخطيب يخطب حتى يحتشد الناس حوله، أو حتى يذكر، أو حتى تباع أشرطته في محلات التسجيلات.

ولكن فاته أن يقول: أو يخطب لتذاع خطبته في الإذاعة أو يخطب ليتزلف بذلك إلى سلطان أو غيره.

كما أنه قال إن الخطبة لم تشرع لذلك، ولكنها شرعت للتربية الإيمانية!!

وأقول: إذا كانت الخطبة شرعت للتربية الإيمانية، فهل يمكن أن نعتبر هجومه على الخطباء الذين يتحرقون لآلام المسلمين، من التربية الإيمانية؟!

وإذا لم تكن الخطبة شرعت لمعالجة أحوال المسلمين وأوضاعهم، ودراسة أمورهم، فهل شرعت للنيل من الدعاة وطلبة العلم والخطباء على رءوس المنابر؟!

وإذا كان الناس يختارون الخطيب الذي يستمعون إليه، ويأتونه من مكان بعيد؛ لأنهم يجدون الكلمة الصادقة، والتوجيه السليم، والألم والحرقة، والكلام الذي يربطهم بواقعهم، ويشعرهم بالدور الذي يمكن أن يقوموا به، فهل على الخطباء من لوم أو تثريب إذا انفض الناس عن غيرهم وجاءوا إليهم؟! هل قال لهم الخطيب: تعالوا إليّ واتركوا فلاناً وفلاناً؟!

كلا، والخطيب لا يستطيع أن يضع على أبواب المساجد شرطةً يمنعون الناس من الدخول، بل وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

ونحن نعتبر من مظاهر يقظة الأمة وصحوتها؛ أن تقبل على الخطباء الذين تجد عندهم الكلمة الهادفة، وليس صحيحاً أن المسألة مجرد إثارة، كلا ثم كلا، بل القضية قضية أن هناك خطباء يلامسون الجرح الذي يعانيه المسلمون.

وما معنى -أيها الإخوة- أن يكون المسلمون يعيشون هموماً كبيرة في وقت، ثم يتحدث الخطيب في ميدان آخر؟

أرأيت خطيباً -وأضرب مثلاً يناسب حال ذلك الخطيب- أرأيت يوم حصل الاجتياح العراقي للكويت، واهتم الناس بهذا الأمر، وأقض مضاجعهم وأزعجهم وأقلقهم، هل كان من المناسب أن يأتي الخطيب إلى جمهور من الناس، يريد أن يسمع حكم الله ورسوله فيما جرى، ويريد أن يعرف ماذا يجب علينا أن نعمل، ويريد أن يسمع كلمة عزاء لمصاب، أو كلمة دعاء على ظالم، ثم يأتي الخطيب ويتجاهل هذا الواقع كله ويذهب ليتحدث عن قضية تاريخية حصلت في القرن الأول أو القرن الثاني؟!

أو يتحدث عن قضية بعيدة كل البعد عن هذا الموضوع؟!

أو يتحدث عن أحكام تتعلق بالطهارة يمكن أن يتحدث عنها في أي وقت آخر؟!

لا شك أن من أهم أسباب نجاح الخطيب، بل من الأهداف المشروعة للخطبة، أن تعالج الخطبة ما يمس واقع الناس، وما يحتاجون إليه.

ولو تساءلنا: كيف خطب الرسول صلى الله عليه وسلم؟ ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته؟ ألم تكن خطب الرسول صلى الله عليه وسلم -وكثير منها محفوظ كله أو جله- ألم تكن رفضاً لشرك العرب في الجاهلية؟ ألم تكن دعوةً إلى التوحيد؟ بلى، ولما آمن الناس كانت الخطب تربية لهم على الإيمان، وبياناً للأحكام الشرعية، ولما توفى الرسول صلى الله عليه وسلم قام أبو بكر فخطب فماذا قال؟

الآن الناس يعيشون حدثاً كبيراً، هو حدث وفاة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقلوبهم مشدوهة، ونفوسهم مشحونة، وعيونهم دامعة، وأيديهم ضارعة، فماذا قال أبو بكر؟

لم يأتِ ليخطب عن قضية بعيدة، بل خطب في الموضوع نفسه، وقال كلمته المشهورة التي نفع الله بها نفعاً عظيماً فقال: [[من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت]].

ثم تلا قول الله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144]

إذاً الخطبة ينبغي أن تكون مرتبطة بالواقع، حتى تربية الناس التربية الإيمانية، ينبغي أن تنبثق من الواقع ومن الأحداث.

وقد كان الله تعالى، يربي أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بهذا القرآن، من خلال الأحدث، فإذا وقع حدث ما، نـزل القرآن بالكلام عن هذا الحدث وبيان أسبابه.

حصلت معركة أحد، فانهزم المسلمون، وبدءوا يتساءلون لماذا هزمنا، ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم، ومعنا الحق؟ فنـزل القرآن، يقول الله تعالى أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165].

والآية التي بعدها وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران:166] إلى غير ذلك، والقرآن كثير منه له أسباب نـزول من هذا القبيل.

إذاً التربية الإيمانية ينبغي أن تكون مرتبطة بواقع الناس.

ثم إن شئون المسلمين وهمومهم وقضاياهم واحدة، ولم يحرم الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم على أحد أن يقول كلمة الحق، بل أمر بها وأوجبها، ولو لم تقل الأمة كلمة الحق فقد تُودّع منها، ويحل عليها عقاب الله تعالى: فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ [هود:116].

إن الخطيب قد يقول كلمة حق يرفعه الله تعالى بها في الدنيا والآخرة، ويدخله بها الجنة، ويكون في هذه الدنيا محل حفاوة الناس وحبهم وتكريمهم، وقد يقول الخطيب كلمة متجنية، يحترق بها في الدنيا ويسقط من أعين الناس، أما الحساب في الدار الآخرة فلسنا ممن يتكلم عنه فإن الله تعالى هو ولي ذلك.

رمضان فرصة للإنفاق في سبيل الله

رابعاً: شهر رمضان فرصة للإنفاق في سبيل الله، ورعاية المستضعفين في كل مكان.

المستضعفون -أيها الأحبة- كثير، ولعل مما يدمي القلوب، أن تعلموا أنه في الوقت الذي يمتلك المسلمون فيه أكثر الثروات في العالم، فإن أكثر الفقراء في العالم، بل وأفقر الفقراء في العالم، هم في بلاد المسلمين.

وهناك بلاد لا يجد المسلم فيها قوت يومه، ولقد رأيت ورأى غيري -والله الذي لا إله غيره- أجساداً من الكبار والصغار، كأنهم هياكل بشرية، ولولا أن الإنسان رآهم ما كان يصدق أنه يوجد أناس بمثل هذه الصورة، وما يتسامع به المسلمون مما يجري للاجئين الإريتريين في السودان -مثلاً- أو في بنجلاديش أو في كشمير، أو في الجزائر أيضاً، أو غيرها من ذلك الكثير والكثير.

فأين المحسنون؟ أين المتصدقون؟ أين من أنعم الله عليهم بالأموال؟ هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا [محمد:38] -أي: بترك النفقة في سبيل الله- يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38].

يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم كما في حديث عياض بن حمار المجاشعي كما في صحيح مسلم: {أنفق فسننفق عليك} و{ما من يوم تطلع شمسه، إلا وملكان يناديان: اللهم أعط منفقاً خلفاً، وأعط ممسكاً تلفاً}.

فيا أيها التجار، ويا أيها الأثرياء، ويا أنصاف التجار وأنصاف الأثرياء، ويا من يجدون سعة فيما أعطاهم الله تبارك وتعالى، أين أنتم من الإنفاق؟! أين أنتم من العطاء الذي يدفع الله به عنكم ميتة السوء والبلاء، ويدخلكم به الله الجنة! ويرضى به عنكم! ويوفقكم، فتكسو عارياً، أو تعين محتاجاً، أو تشبع جائعاً، أو تروي عطشاناً، أو تعلم جاهلاً، أو تهدي ضالاً، إلى غير ذلك.

وأقول بهذه المناسبة: إنني وغيري من الإخوان وطلبة العلم، لدينا استعداد أن نتقبل كل من يرغب أن نكون وسطاء، في إيصال الزكاة والتبرعات وغيرها، ومكتبنا يقوم بصرفها لمستحقيها، سواء في داخل المملكة أو في غيرها من بلاد المسلمين.

أولاً: فرصة للوحدة الصادقة بين المسلمين المتبعين للرسول صلى الله عليه وسلم، الملتزمين بمنهج الكتاب والسنة، إذ أنه يوحد بينهم في الصيام والفطر والصلاة، وغير ذلك من الأعمال.

فهل يعي المسلمون ذلك؟ وقد تشتت بهم السبل، وتفرقت بهم الأهواء، واختلفت قلوبهم فصاروا هكذا كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، أهواء شتى، وقلوب متفرقة، وآراء مختلفة، هذا بين من يلتزمون بالمنهج الصحيح، دعك من أهل البدع فلنا معهم حديث آخر، دعك من الضالين والمنحرفين، لكننا نوجه هذا الحديث إلى المسلمين المتبعين للرسول صلى الله عليه وسلم.

إن الله تعالى إذا حرم قوماً بركة العمل سلط عليهم الجدل، ولهذا جاء في الحديث المروي: {ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل} فأنت تجد الفرص والمناسبات، التي إنما شرعت وأحدثت لتعميق الوحدة بين المسلمين الصادقين، وتأليف قلوبهم، وإزالة الوحشة والشحناء والبغضاء من نفوسهم، وتصفية ضمائرهم، تجد أنها في كثير من الأحيان تحولت عندهم إلى نوع من الجدل، الذي لا يزيد القلوب إلا تفرقاً، ولا يزيد الخلاف إلا اشتعالاً، فإذا قدم رمضان وجدت جدلاً عظيماً بين المسلمين في كل مسجد في أمور كثيرة، في صلاة التراويح، وكم تصلى؟! ثم في زكاة الحلي للنساء، وهل فيها زكاة أو ليس فيها زكاة؟ ثم في إثبات دخول الشهر وكيف يتم إثبات دخوله بالرؤية أم بالحساب؟ وهل يصوم المسلمون كلهم جميعاً؟ أم كل بلد له رؤيته الخاصة؟ إلى غير ذلك من المسائل والأمور!

ونحن لا نعترض أبداً -وأقولها بوضوح؛ لئلا يفهم الكلام خطأ- على البحث العلمي الجاد في كل هذه المسائل.

فإنه لا يملك أحد أن يحجر على قلوب الناس، وألسنتهم، وعقولهم، ودراساتهم، كلا. وما زال العلماء يبحثون في مثل هذه الأمور وفي غيرها منذ القديم، ولكنها لم تكن يوماً من الأيام مجالاً للاختلاف والتطاحن، وللقيل والقال، وللتخطئة على رءوس الأشهاد، وإيجاد أشياء كثيرة في نفوس العامة.

فإنهم لا يدرون ماذا يأخذون وماذا يدعون، أرأيت -مثلاً- في كل مسجد من المساجد يدور جدل كم نصلي التراويح؟ فيقول قوم نصليها خمساً، ويقول آخر نصليها عشراً، ويقول آخر: غير ذلك، ويحدث اختلاف، حتى إن بعضهم يترك المسجد ولا يصلي ويذهب إلى غيره ليصلي، إلى غير ذلك من الأمور!

وأجزم أيها الأحبة، أن اجتماع المسلمين في مسجد من المساجد على صلاة التراويح -مثلاً- على الصورة المفضولة أولى من اختلافهم وتناحرهم، وكثرة القيل والقال، وارتفاع الأصوات في المساجد واللغط وغير ذلك، وأشد من ذلك كله اختلاف القلوب، ووجود البغضاء والشحناء على أمور لا يدعو الأمر إليها.

فقد اختلف الصحابة في هذا الأمر، واختلف التابعون فيه، وتجادلوا فيه بالحسنى، ولم ينقل أن أحداً منهم ضلل أو فسق أو بدع لأجل ذلك، ولا هجر أحداً لأجل ذلك، ولا ترك الصلاة خلفه لأجل ذلك، ولا أن هذا الأمر أدى إلى اختلاف في القلوب وتناحر وتطاحن.

فمتى يعي المسلمون ذلك؟ وتتحول هذه المناسبات إلى مجال لتقريب القلوب وتصفيتها! فإن من أعظم ما يعبد الله تعالى به صفاء القلوب على المسلمين.

والحديث الذي رواه أحمد والطبراني وغيرهم، وسنده حسن، في قصة عبد الله بن عمرو بن العاص معروف مشهور، وفيه {أن الرسول صلى الله عليه وسلم بشر رجلاً من الأنصار بالجنة، فلم يجد عبد الله بن عمرو بن العاص من عمل هذا الرجل، كبير صوم ولا صلاة، إلا أنه يبيت، وليس في قلبه غل على مسلم على فضل أعطاه الله تعالى إياه}.

فلنعبد الله تعالى بالقلوب النظيفة، والنفوس السليمة، التي لا تحمل لمسلم صادق غلاً، ولا غشاً، ولا حقداً، ولا حسداً، ولا كراهية، ولا بغضاء، وما أعز مثل هذا في نفوس الناس.

قد يلتبس هذا الأمر أحياناً بصورة الغيرة على الدين، أو بصورة الغضب لمسألة علمية، أو بصورة الغيرة على الوحدة الإسلامية، أو بصورة البحث عن المصلحة، يلبس أزياء شتى ولكن حقيقته واحدة.

فإذا جاء الحج، الذي هو فرصة لوحدة المسلمين الصادقين، الملتزمين بمنهج الكتاب والسنة، تراهم يقفون في صعيد واحد، ويفيضون في وقت واحد، إلى غير ذلك من الأعمال، ويجتمعون في مكان واحد، ليتدارسوا أمورهم، وجدت أن كثيراً من المسلمين يأتيهم الداء مرة أخرى فيشتغلون بجدل عظيم حول أمور كثيرة، وآخر ما يشغلهم هو ما شرع الحج لأجله! وأعظم ذلك هو تعميق وحدانية الله تعالى في القلوب.

والذي يقرأ سورة الحج -مثلاً- يعرف أن من أعظم أهداف مشروعية الحج؛ تحقيق التوحيد في قلوب العباد.

قال تعالى: حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31] وقد أخذنا شعائر الحج عن نبينا صلى الله عليه وسلم، وكانت كثير من هذه الشعائر يعمل بها أبونا إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهو سيد الحنفاء والموحدين، فليتفطن لذلك، ولنعمل جميعاً على أن نجعل من مثل هذه المناسبات فرصة لتحقيق الوحدة بين المسلمين الصادقين، بين الملتزمين بمنهج الكتاب والسنة.

ثانياً: إن رمضان فرصة للإقبال على إصلاح الباطن وتطهير القلوب، فنحن نعلم جميعاً أن الصوم لم يشرع من أجل الجوع والعطش، وأن الصلاة لم تشرع من أجل السهر والتعب، وكذلك العمرة التي يؤديها الناس في رمضان وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـأم العلاء الأنصارية: {إذا كان في رمضان فاعتمري، فإن عمرة في رمضان تعدل حجة} وفي رواية: {حجة معي}.

فهذه العمرة لم تشرع لضياع المال والجهد وتعب السفر ولأوائه! كلا. ولكن ذلك كله شرع حتى يكون قلب الإنسان سليماً، لينجو يوم القيامة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

ولذلك فالعبرة بثمرة العمل ونتيجته، ورب ركعتين يركعهما الإنسان بإخلاص، وصدق مع الله عز وجل لا رياء فيها ولا سمعة يكتب الله بها نجاة العبد، ورب عمل طويل كثير، عمله الإنسان رياءً أو سمعة أو ما أشبه ذلك، يكب الله صاحبه على وجهه في النار.

قال الله تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [الماعون:4-7].

ما معنى -مثلاً- أن تجد من المسلمين من يصوم وهو لا يصلي، حتى لا يصلي الصلوات الخمس ولا في بيته، وما معنى أن يصوم الإنسان في النهار عن الطعام والشراب، وأن يفطر في الليل على ما حرم الله، فتجدهم يسكرون، وربما يجتمعون على لهو ولعب وباطل من القول والفعل والنظر والسماع.

وما معنى أن يصوم الإنسان عن الطعام والشراب، ويفطر على أعراض المسلمين، فيأتي وقد نهش هذا وطعن هذا، وشتم هذا، وتكلم في هذا واتهم هذا، وقال في هذا بغير حق، وهذا هو المفلس كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح مسلم: {أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا يا رسول الله من لا درهم له ولا متاع، قال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصوم وحج ويأتي وقد شتم هذا، وضرب هذا، وأخذ مال هذا وسفك دم هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار}.

ثالثاً: رمضان فرصة لتجديد الحياة، وكسر روتينها الممل، فرمضان شهر له شخصيته الخاصة من بين شهور السنة، حتى الأطفال الصغار يعرفون لرمضان طعماً خاصاً، وحتى الفساق يعرفون كيف يكون رمضان.

بل حتى الشياطين يأخذون لرمضان هماً ثقيلاً لأنهم يسلسلون فيه ويصفدون، ولذلك تجد أن البلاد التي اندرست أو كادت أن تندرس فيها آثار الإسلام ومعالمه، وعبثت فيها العلمانية، تجد أن تلك البلاد إذا جاء رمضان تغيرت أشكالها -سبحان الله- وتغير الناس تغيراً كبيراً، فلا يزال رمضان يحتفظ بشخصيته المستقلة الخاصة المميزة من بين جميع الشهور.

ولذلك فإن من المناسب جداً أن تحشد كل المؤثرات، لتوجيه الناس إلى شرف هذا الشهر فضل العبادة فيه، والتوبة والإقبال على الله عز وجل، ووجوب الخروج من المظالم، وتربية الناس على التقوى والإيمان، وعلى كل معاني الدين التي جاء الرسل عليهم الصلاة والسلام بتقريرها.

ويتم ذلك من خلال دروس المساجد -مثلاً- الموجهة للرجال والنساء على حد سواء، من خلال خطب الجمعة والمحاضرات، ومن خلال النشاطات والبرامج التي تقيمها مكاتب الدعوة والإفتاء وغيرها، بل من خلال الكتب والأشرطة التي ينبغي أن تغتنم فرصة اجتماع الناس في المساجد رجالاً ونساء لتوزيعها.

وأخص الحديث عن النساء، لأن النساء تجتمع في المساجد في رمضان ما لا تجتمع في غيره، فتوجيه الحديث لهن ونصحهن وإرشادهن، وبيان حدود ما أنـزل الله للنساء، وتوزيع الكتب والأشرطة وغيرها، من أهم الأنشطة والأعمال التي ينبغي أن تلفت إليها الأنظار.

وحين نقول: إنه ينبغي حشد الجهود لتوجيه الناس إلى هذا الشهر الكريم، وما فيه من العبادة والقدسية، لا يعني هذا أبداً الغفلة عن أن الإسلام دين الشمول، وأننا نرفض بكل مناسبة، المفهوم الكنسي للإسلام، الذي يحاول البعض أن يلصقوه بهذا الدين.

المفهوم الذي يعتبر العمل في الدنيا -مثلاً- خطيئة، فتجد الواحد في رمضان يكف عن العمل، بل العمل جزء مما كلف الإنسان به في هذه الدنيا، ولو أن إنساناً ترك العمل حتى جاع أو جاع أولاده، لكان آثماً بذلك عند الله تعالى يوم القيامة.

أو المفهوم الذي يفصل بين الدين وبين الحياة، فيعتبر أن الدين لله -كما قال أحدهم، وقد نشر هذا المقال في مجلة اليمامة أو غيرها، وكان فيه كلمة تشير إلى أن (الدين لله والوطن للجميع)- وهذا مفهوم غريب، فإن الله تعالى له كل شيء، له الآخرة والأولى، وله السماوات والأرض، وله الحكم وإليه ترجعون، وبيده مقاليد كل شيء، وهو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم.

فالدين لله والوطن لله، واجتماع الناس يجب أن يكون على أساس الأخوة الدينية، لا على أساس الأخوة الوطنية.

فالفصل بين الدين والحياة أمر مرفوض، والدين ما جاء إلا ليحكم حياة الناس من الألف إلى الياء -كما سبق أن بينا- فالدين يتحكم في المولود يوم يولد ماذا يسمى، وتحنيك المولود، وما يتعلق بالعقيقة إلى غير ذلك، ويتحكم في الميت حين يدفن في المقبرة كيف يدفن؟

وما هي الأشياء المشروعة عند دفنه؟ وعند الصلاة عليه وغسله، وغير ذلك.

وما بين ذلك من أحوال الفرد والجماعة والمجتمع والأمة والدولة، كلها لا يمكن أن يخرج منها شيء عن حكم الله تعالى ورسوله.

ليس في الدنيا شيء يقع إلا ولله ولرسوله فيه حكم، علمه من علمه وجهله من جهله.

ولذلك يكون من الأمور المستغربة، ما تسامع به الكثير من الناس في خطبة أذيعت في الإذاعة مرة أو أكثر، وتحدث ذلك الخطيب فيها عن الخطب، وانتقد تناول الموضوعات السياسية في الخطبة -مثلاً- وقال: إن الخطب تحولت إلى منتديات سياسية، وإن الخطيب يخطب حتى يحتشد الناس حوله، أو حتى يذكر، أو حتى تباع أشرطته في محلات التسجيلات.

ولكن فاته أن يقول: أو يخطب لتذاع خطبته في الإذاعة أو يخطب ليتزلف بذلك إلى سلطان أو غيره.

كما أنه قال إن الخطبة لم تشرع لذلك، ولكنها شرعت للتربية الإيمانية!!

وأقول: إذا كانت الخطبة شرعت للتربية الإيمانية، فهل يمكن أن نعتبر هجومه على الخطباء الذين يتحرقون لآلام المسلمين، من التربية الإيمانية؟!

وإذا لم تكن الخطبة شرعت لمعالجة أحوال المسلمين وأوضاعهم، ودراسة أمورهم، فهل شرعت للنيل من الدعاة وطلبة العلم والخطباء على رءوس المنابر؟!

وإذا كان الناس يختارون الخطيب الذي يستمعون إليه، ويأتونه من مكان بعيد؛ لأنهم يجدون الكلمة الصادقة، والتوجيه السليم، والألم والحرقة، والكلام الذي يربطهم بواقعهم، ويشعرهم بالدور الذي يمكن أن يقوموا به، فهل على الخطباء من لوم أو تثريب إذا انفض الناس عن غيرهم وجاءوا إليهم؟! هل قال لهم الخطيب: تعالوا إليّ واتركوا فلاناً وفلاناً؟!

كلا، والخطيب لا يستطيع أن يضع على أبواب المساجد شرطةً يمنعون الناس من الدخول، بل وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

ونحن نعتبر من مظاهر يقظة الأمة وصحوتها؛ أن تقبل على الخطباء الذين تجد عندهم الكلمة الهادفة، وليس صحيحاً أن المسألة مجرد إثارة، كلا ثم كلا، بل القضية قضية أن هناك خطباء يلامسون الجرح الذي يعانيه المسلمون.

وما معنى -أيها الإخوة- أن يكون المسلمون يعيشون هموماً كبيرة في وقت، ثم يتحدث الخطيب في ميدان آخر؟

أرأيت خطيباً -وأضرب مثلاً يناسب حال ذلك الخطيب- أرأيت يوم حصل الاجتياح العراقي للكويت، واهتم الناس بهذا الأمر، وأقض مضاجعهم وأزعجهم وأقلقهم، هل كان من المناسب أن يأتي الخطيب إلى جمهور من الناس، يريد أن يسمع حكم الله ورسوله فيما جرى، ويريد أن يعرف ماذا يجب علينا أن نعمل، ويريد أن يسمع كلمة عزاء لمصاب، أو كلمة دعاء على ظالم، ثم يأتي الخطيب ويتجاهل هذا الواقع كله ويذهب ليتحدث عن قضية تاريخية حصلت في القرن الأول أو القرن الثاني؟!

أو يتحدث عن قضية بعيدة كل البعد عن هذا الموضوع؟!

أو يتحدث عن أحكام تتعلق بالطهارة يمكن أن يتحدث عنها في أي وقت آخر؟!

لا شك أن من أهم أسباب نجاح الخطيب، بل من الأهداف المشروعة للخطبة، أن تعالج الخطبة ما يمس واقع الناس، وما يحتاجون إليه.

ولو تساءلنا: كيف خطب الرسول صلى الله عليه وسلم؟ ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته؟ ألم تكن خطب الرسول صلى الله عليه وسلم -وكثير منها محفوظ كله أو جله- ألم تكن رفضاً لشرك العرب في الجاهلية؟ ألم تكن دعوةً إلى التوحيد؟ بلى، ولما آمن الناس كانت الخطب تربية لهم على الإيمان، وبياناً للأحكام الشرعية، ولما توفى الرسول صلى الله عليه وسلم قام أبو بكر فخطب فماذا قال؟

الآن الناس يعيشون حدثاً كبيراً، هو حدث وفاة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقلوبهم مشدوهة، ونفوسهم مشحونة، وعيونهم دامعة، وأيديهم ضارعة، فماذا قال أبو بكر؟

لم يأتِ ليخطب عن قضية بعيدة، بل خطب في الموضوع نفسه، وقال كلمته المشهورة التي نفع الله بها نفعاً عظيماً فقال: [[من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت]].

ثم تلا قول الله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144]

إذاً الخطبة ينبغي أن تكون مرتبطة بالواقع، حتى تربية الناس التربية الإيمانية، ينبغي أن تنبثق من الواقع ومن الأحداث.

وقد كان الله تعالى، يربي أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بهذا القرآن، من خلال الأحدث، فإذا وقع حدث ما، نـزل القرآن بالكلام عن هذا الحدث وبيان أسبابه.

حصلت معركة أحد، فانهزم المسلمون، وبدءوا يتساءلون لماذا هزمنا، ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم، ومعنا الحق؟ فنـزل القرآن، يقول الله تعالى أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165].

والآية التي بعدها وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران:166] إلى غير ذلك، والقرآن كثير منه له أسباب نـزول من هذا القبيل.

إذاً التربية الإيمانية ينبغي أن تكون مرتبطة بواقع الناس.

ثم إن شئون المسلمين وهمومهم وقضاياهم واحدة، ولم يحرم الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم على أحد أن يقول كلمة الحق، بل أمر بها وأوجبها، ولو لم تقل الأمة كلمة الحق فقد تُودّع منها، ويحل عليها عقاب الله تعالى: فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ [هود:116].

إن الخطيب قد يقول كلمة حق يرفعه الله تعالى بها في الدنيا والآخرة، ويدخله بها الجنة، ويكون في هذه الدنيا محل حفاوة الناس وحبهم وتكريمهم، وقد يقول الخطيب كلمة متجنية، يحترق بها في الدنيا ويسقط من أعين الناس، أما الحساب في الدار الآخرة فلسنا ممن يتكلم عنه فإن الله تعالى هو ولي ذلك.

رابعاً: شهر رمضان فرصة للإنفاق في سبيل الله، ورعاية المستضعفين في كل مكان.

المستضعفون -أيها الأحبة- كثير، ولعل مما يدمي القلوب، أن تعلموا أنه في الوقت الذي يمتلك المسلمون فيه أكثر الثروات في العالم، فإن أكثر الفقراء في العالم، بل وأفقر الفقراء في العالم، هم في بلاد المسلمين.

وهناك بلاد لا يجد المسلم فيها قوت يومه، ولقد رأيت ورأى غيري -والله الذي لا إله غيره- أجساداً من الكبار والصغار، كأنهم هياكل بشرية، ولولا أن الإنسان رآهم ما كان يصدق أنه يوجد أناس بمثل هذه الصورة، وما يتسامع به المسلمون مما يجري للاجئين الإريتريين في السودان -مثلاً- أو في بنجلاديش أو في كشمير، أو في الجزائر أيضاً، أو غيرها من ذلك الكثير والكثير.

فأين المحسنون؟ أين المتصدقون؟ أين من أنعم الله عليهم بالأموال؟ هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا [محمد:38] -أي: بترك النفقة في سبيل الله- يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38].

يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم كما في حديث عياض بن حمار المجاشعي كما في صحيح مسلم: {أنفق فسننفق عليك} و{ما من يوم تطلع شمسه، إلا وملكان يناديان: اللهم أعط منفقاً خلفاً، وأعط ممسكاً تلفاً}.

فيا أيها التجار، ويا أيها الأثرياء، ويا أنصاف التجار وأنصاف الأثرياء، ويا من يجدون سعة فيما أعطاهم الله تبارك وتعالى، أين أنتم من الإنفاق؟! أين أنتم من العطاء الذي يدفع الله به عنكم ميتة السوء والبلاء، ويدخلكم به الله الجنة! ويرضى به عنكم! ويوفقكم، فتكسو عارياً، أو تعين محتاجاً، أو تشبع جائعاً، أو تروي عطشاناً، أو تعلم جاهلاً، أو تهدي ضالاً، إلى غير ذلك.

وأقول بهذه المناسبة: إنني وغيري من الإخوان وطلبة العلم، لدينا استعداد أن نتقبل كل من يرغب أن نكون وسطاء، في إيصال الزكاة والتبرعات وغيرها، ومكتبنا يقوم بصرفها لمستحقيها، سواء في داخل المملكة أو في غيرها من بلاد المسلمين.

الوقفة الثالثة في ضمن هذه الجلسة، فهي تعقيبات على أحداث الجزائر، وقد كنت تناولتها تفصيلاً في الجلسة الماضية، ولكن جاءتني أسئلة واستفسارات كثيرة، أحببت أن أقف منها على أمور يسيرة، بقدر ما يتسع له الوقت.

دور الشيعة في أحداث الجزائر

أولاً: دور الشيعة في أحداث الجزائر.

وأقول: إن إيران التي تتبنى المذهب الشيعي معتقداً -ولا بد أن نقول هذه الكلمة- قد نجحت في الدعوة إلى مذهبها، وتحمست له، واستطاعت أن تمد الجسور في كل مكان، فوزراؤها يوماً في اليمن، ويوماً آخر في الأردن، ويوماً ثالثاً في سوريا، ويوماً رابعاً في مصر، وخامساً في الجمهوريات الإسلامية التي تفرعت بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، ويوماً هنا ويوماً هناك، أخطبوط متواصل من الاتصالات التي لا تنقطع، وجهود مكثفة غريبة، ونشاطات ومؤسسات ومشاريع اقتصادية، وتسليح وإعداد يطول منه العجب.

وإضافة إلى هذا فإن إيران قد أعلنت نفسها كقيادة للعالم الإسلامي كله، وهذه كارثة عظمى، لا بد أن نعترف بالحقيقة، أن المد الشيعي يتقدم الآن بسرعة، لماذا يتقدم؟ لأنه لا منافس له.

المد الشيعي يتقدم، وينجح الشيعة حتى في احتواء الحركات الإسلامية السنية، وإظهارها كما لو كانت أثراً من نشاط الشيعة في إيران، أو امتداداً لحركة الخميني.

وعلى سبيل المثال أحداث الجزائر -مثلاً- قلت سابقاً: ليس في جبهة الإنقاذ شيعي واحد، بل أعتقد أن الجزائر كلها ليس فيها شيعة مطلقاً، وهي حركة سنية سلفية واضحة نقية، ومع ذلك أتساءل أين أهل السنة؟

أين هم عن نصرة إخوانهم ولو بالكلمة الطيبة؟ هم عن ذلك عاجزون، ومنهم من لا يعرف أصلاً؛ لأنه غير مهتم بالموضوع، والذي يعرف يقول: في فمي ماء وهل ينطق من في فيه ماء؟

وهكذا خذلت القضية من قبل أهلها، لكن الشيعة ليس في أفواههم ماء فهم يتكلمون بملء أفواههم عن هذه القضية، ويتحدثون عنها تحليلاً، ويناصرون المسلمين في الجزائر، ويتكلمون عنهم، ويتهجمون على مناوئيهم، ويكشفونهم، ويقولون كلاماً لا يملك العاقل إذا سمعه إلا أن يقول هذا الكلام في ذاته حق، ولكنه حق أريد به باطل، فإلى الله المشتكى من جور المبتدعة وضعف المنتسبين إلى السنة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

كما أن الكثيرين يتساءلون عن أوجه التشابه بين الجزائر وإيران، وأقول: بينهما بُعد المشرقين، فـالجزائر ليست إيران من وجوه كثيرة، منها: أن الجزائر أمة سنية سلفية، وإيران ليست كذلك.

ومنها: أن المسلمين في الجزائر لديهم وعي كبير، وارتباط بإخوانهم المسلمين في العالم الإسلامي بخلاف الإيرانيين فإن هناك عزلة رهيبة وكبيرة أحدثها انتماؤهم بل وتعصبهم للمذهب الشيعي الجعفري الإثنى عشري.

ومنها: أن الأوضاع في إيران أيام الثورة الخمينية، كانت تنذر بمثل هذا الحدث الذي جرى، أما الأوضاع في الجزائر، فإنه لا يتوقع أن يحدث فيها ما حدث، ولكننا مع ذلك كله نتوقع بل نجزم -إن شاء الله- أن الله تعالى ناصر دينه ومعلي كلمته، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر، في بلاد الجزائر أولاً، وفي كل بلاد الإسلام ثانياً.

إيجابيات الأحداث في الجزائر

ثانياً: إيجابيات الحدث: الحدث الذي جرى في الجزائر، من إلغاء الانتخابات، والقضاء أو محاولة القضاء على الجبهة الإسلامية للإنقاذ، والزج بما يزيد على ثلاثين ألف معتقل في السجون حتى امتلأت السجون ففتحت لهم المعتقلات في الصحراء وفي ظل الهجير الحار، حتى يخشى على بعضهم من الموت، وتقول تقارير موثقة إن عدد الموقوفين وصل إلى ما يزيد على خمسين ألفاً، ثم أطلق منهم قرابة خمسة عشر ألفاً، وبقي نحو خمسة وثلاثون ألفاً في غياهب السجون.

ولا زال العدد يتزايد باستمرار، فإذا كانت هذه الإحصائية التي أقولها الآن منذ أيام، مع أنه ربما زاد العدد كثيراً بعد ذلك، فهذا الحدث الذي جرى بما فيه من الحيلولة بين دعاة الإسلام، وبين تطبيق شريعة الله تعالى وحكمه، لا بد أن له إيجابيات، والخير فيما يختاره الله عز وجل، واختيار الله تعالى لنا خير من اختيارنا لأنفسنا.

فمن إيجابيات هذا الحدث: فضح دعاوى الديمقراطية العربية والغربية، التي طالما طنطنوا بها وتحدثوا عنها وقالوا إنه لا بد من فرض الديمقراطية، وأن النظام العالمي الجديد، جاء لفرض الديمقراطية على الشعوب العربية، وإخراجهم من حكم الفرد إلى الحكم الديمقراطي، والمقصود بـالديمقراطية في النمط الغربي، أن يكون الحكم للشعب، فالشعب هو الذي يحلل ويحرم وهو مصدر السلطات كما يقولون.

فهذا هو المفهوم الديمقراطي في الأصل -أي: المفهوم الديمقراطي الغربي- وإن كان البعض يستخدمونها بمفهوم آخر.

المقصود أن الذي جرى في الجزائر، فضح للناس دعاوى الديمقراطية الغربية والعربية، وبين للناس أن هذه الديمقراطية ليست إلا ستاراً لتسلل هؤلاء إلى الحكم مستغلين في ذلك غفلة الناس، أو وجود الأهواء في نفوسهم، أو التغرير بهم من خلال وسائل الإعلام أو غير ذلك.

فلما كانت النتيجة خلاف ما يتوقعون؛ ذبحوا الديمقراطية بسكين الديمقراطية، وقضوا عليها.

على سبيل المثال: الغرب حجب المعونة عن السودان -وقد قرأت هذا في جريدة الشرق الأوسط- أن أمريكا حجبت المعونة عن جمهورية السودان، وعندما سألوهم لماذا حجبتم المعونة عن السودان؟ قالوا: لأن السودان بلد أصولي، أي: يعني يحكم فيه رجال أصوليون أو رجال الدين، وأن هذا البلد قامت فيه ثورة عسكرية ولم ترجع الديمقراطية على مدى ستة أشهر، وعندنا نظام وقانون أن أي بلد لا تعود الديمقراطية فيه بعد ستة أشهر من الحكم العسكري نقطع المعونة عنه.

قلنا لهم: فما بال تأييدكم للجزائر؟ وإعلان الدول الأوروبية أنها مع ما يجرى في الجزائر وتؤيد الإجراءات التي اتخذتها الحكومة في الجزائر؟!

وما معنى الدعم المباشر وغير المباشر للجزائر، مع أنها أعلنت أن قانون الطوارئ سوف يظل جارياً لمدة سنة، ومع ذلك ليست القضية فقط أنه عدم إعادة الديمقراطية، بل القضاء والانتهاك لحقوق الإنسان وخاصة الإنسان المسلم دون أن يكون هناك أحد يملك المساءلة والاعتراض؟!

فما بالكم تكيلون بمكيالين، وتزنون بميزانين؟ وتعاملون هؤلاء بأسلوب وأولئك بأسلوب آخر؟! القضية افتضحت وبانت، ونحن يكفينا أن يعي المسلمون حقيقة الغرب، وأن الغرب صليبـي حاقد متعصب للنصرانية، يحارب الإسلام والمسلمين سراً وعلانية، ولو تظاهر بأنه غرب علماني وأن الدين لا يعنيه، ولا فرق عنده بين المسجد والكنيسة.

نقول: لا أبداً، الغرب متعصب لمسيحيته، وكنيسته، ونصرانيته أشد التعصب، وحين يشعر بأن الإسلام هو الخصم، تثور عصبيته أكثر وأكثر، وهذا أمر معروف.

ولأضرب لكم مثلاً قريباً، قد يوجد إنسان منتسب إلى الإسلام، لا يصلي الصلوات الخمس، ولا يصوم رمضان، ولا يحج، بل ربما والعياذ بالله يسب الدين وأهله، ولكن هذا الإنسان لو رأى عدواً من الخارج يهجم على قومه وبني جنسه، أو يهددهم؛ فإنه يثور ويغضب ويدافع، لا ديناً، ولكن حمية لقومه وبني جنسه الذين يشترك معهم في الانتساب الأصلي إلى الدين، ولو كان في المقاييس الشرعية خارجاً عن الدين.

فهكذا كثير من الغربيين. قد لا يكون لهم صلة بالكنيسة فعلاً، لا صلاة ولا عبادة ولا شيء مما يعمل قساوستهم، ولكن إذا شعروا بأن هناك خطراً يهدد الكنيسة أو يهدد النصرانية، فإنهم يغضبون لذلك ويتحمسون ويتأثرون.

ظهور الظلم الذي لحق بالإسلام والمسلمين في الجزائر

من إيجابيات الحدث أيضاً: ظهور الظلم الفادح الذي لحق بالإسلام ودعاته في الجزائر، وهذا يدعو إلى انتصار الباحثين عن الحقيقة لهم في كل مكان، فإنهم مظلومون بكل المقاييس، والمظلوم دائماً وأبداً ينتظر من الله تعالى الفرج، ويقيض الله تعالى له من ينصره ولو بعد حين، كما جاء في الحديث.

فظهور حملة الإسلام بمظهر الذين ظُلموا، وصودر اختيارهم، وأخذت حقوقهم بغير حق؛ هذا من أهم أسباب الانتصار- ولهذا ربنا تبارك وتعالى لما ذكر شرعية الجهاد والإذن به؛ ربطه بقضية الظلم: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ [الحج:39-40] إلى آخر الآيات.

إذاً الظلم الذي يقع على دعاة الإسلام، وحملته وحماته، من أهم بوادر وبشائر النصر، الذي سوف يحققه الله تعالى لهم.

ومن ذلك أيضاً تمكين محبة هؤلاء، والإصرار على اختيارهم في ضمير الشعب الجزائري، إذ يحس الشعب الجزائري أن اختياره لهذه الجبهة قد صودر وقضي عليه، ولذلك سوف يثأر ولو بعد حين.

ولو فرض أنهم قضوا على الجبهة، سيظل كل جزائري اختار الجبهة يشعر بأنه في يوم من الأيام كانت هناك الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وأنه صوّت لها فحيل بينه وبينها، هذا سوف يزيدهم استمساكاً بها وإصراراً على اختيارها، وسوف يصبح كل مسلم جزائري عضواً في الجبهة الإسلامية للإنقاذ.

وبناءً عليه، يستحيل أن يقضوا عليها، إلا إذا قضوا على الشعب الجزائري، والقضاء على الأمة الجزائرية أمر لا يمكن ولا يكون بداً.

إذاً هذا الأمر زاد من تعلق الناس بهم، وقد صرح بهذا أحد زعماء الأحزاب الاشتراكية فقال: إن الذي حدث فعلاً هو لصالح جبهة الإنقاذ، فقد زاد من تشبث الناس بهم، ورغبتهم فيهم وشعورهم بأنهم أصحاب حق، وأنه يجب أن يعودوا، ويجب أن يكون الأمر إليهم، وهذا أيضاً مكسب.

إعطاء الدعاة فرصة لتكوين البرامج والخطط

رابعاً: من إيجابيات الحدث: إعطاء أولئك الدعاة من حملة الإسلام، فرصة أطول وأقوى، لتكوين البرامج والخطط الكافية التي يستطيعون أن يحكموا بها بلاد الجزائر، سواءً البرامج الاقتصادية بالدرجة الأولى وتدبير أمورهم والإعداد الكافي أو غيرها.

وربما -والعلم عند الله تعالى- لو انتصروا لاصطدموا بأشياء كثيرة، منها: المديونية الهائلة والوضع الاقتصادي الصعب في أرض الجزائر، وهو وضع صعب جداً، وهو من أخطر ما يواجه الحكومة.

فلعل من رحمة الله تعالى أن يتأجل هذا الأمر لفترة، لأن هذا سوف يعطي أولئك المسلمين فرصة أوسع وأطول، لمزيد من الدراسة والخطط التي يستطيعون بها -بإذن الله عز وجل- أن ينقذوا شعب الجزائر من أزماته التي يعانيها، وبالدرجة الأولى الأزمة العقائدية والأخلاقية والاقتصادية، وغير ذلك.

وعلى كل حال، فكما جاء في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم {الله أغير منا} فهذا دين الله عز وجل، والله تعالى أغير منا على دينه.

ولكنها مشاعر البشر الذين لا يملكون إلا الفرح بانتصار الدين، والحزن بخذلان أهله، وإن كان الأمر لله من قبل ومن بعد.

دعوة أهل السنة ليست دعوة إلى العنف

أمر أود أن أؤكد عليه، وإن كنت أشرت إليه في الجلسة الماضية، وأقوله بعبارات واضحة صريحة، لأنني لا أحب أن يفهم مني أحد، أو يحاول أن يلبس على الناس ليفهمهم ما لم أقل.

أقول -أيها الإخوة-: نحن لا ندعو إلى العنف، ولم ندع إلى العنف يوماً من الأيام، ونحن لا نتحرق إلى استخدام القوة وإسالة الدماء، وقد تبين الآن من هم الذين يحاولون جر البلاد -كل البلاد- إلى الحروب الأهلية، وتبين من هم المستعدون للتضحية في سبيل حقن الدماء وحفظ أرواح المسلمين، لقد رمي المسلمون في هذا البلد، ورموا في الجزائر بأنهم يسعون إلى إشعال حرب أهلية، فتبين الآن لكل ذي عينين؛ من هو الذي يسعى إلى إشعال حرب أهلية هنا وهناك وفي كل مكان.

إن الذين يسعون إلى حرب أهلية، هم الذين قاموا بهذه الحركة، التي كان من الممكن أن تستفز الناس في الجزائر، وتدعوهم إلى الإصرار والنـزول إلى الشوارع، ونـزلوا بالجيش إلى الشوارع، وبناءً عليه فقد كان من الممكن أن يضرب المسلم الجزائري أخاه بالرصاص، وأن يتقاتلوا في الشوارع.

ولكن المسلمين هناك ضبطوا أنفسهم، وأشهد بالله أنهم كانوا على قدر كبير من الانضباط، وضبط النفس والأناة، بشكل ربما البعيدون عن الأحداث ما استطاعوا الصبر عليه، فكيف بالقريب الذي يواجه الأحداث ساعة ساعة ولحظة لحظة، ويواجه الضغوط من الناس، ومع ذلك كانوا في درجة عليا من الانضباط، والبعد عن الهيجان والغليان والاندفاع، وهذه شهادة أقولها لله تعالى، لا أرجو فيها جزاءً من أحد ولا شكوراً.




استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 5003 استماع
حديث الهجرة 4962 استماع
تلك الرسل 4144 استماع
الصومال الجريح 4140 استماع
مصير المترفين 4075 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4042 استماع
وقفات مع سورة ق 3968 استماع
مقياس الربح والخسارة 3921 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3860 استماع
التخريج بواسطة المعجم المفهرس 3821 استماع