الانتماء لله ورسوله


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

الانتماء لله ورسوله هو من أسباب انتصار السلف على أعدائهم وظهورهم عليهم، لذلك ينبغي للآباء أن يعلموا أبناءهم صدق الانتماء لله ورسوله، ونحن في زمان صار فيه ترك الانتماء قاعدة من قواعد البحث العلمي، وكتبت فيه رسائل دكتوراه وماجستير، وأطلقوا عليه اسم: الانحياز العلمي؛ حتى أصبحوا يحذرون منه ويقولون: لا تنحاز لفلان ولا علان.

هذا الحياز العلمي المزعوم هو الذي جعل رجلاً مثل الدكتور طه حسين -الذي صار عميد الأدب العربي مع وجود الأدباء الأفاضل مثل الرافعي مثلاً- هو الذي جعله يذهب إلى القول بأن القرآن الكريم ينبغي أن نعرضه للنقد ككتاب أدبي من كتب الشعر والنثر، وطرد من الأزهر وفصل، وكفروه، لكنه تاب والله أعلم.

الانتماء هو الذي رفع الغرب، فهم مع أنهم لا يعبدون الله لكن ينتمون إلى بلادهم محبون لها، لذلك صنعوا الأعاجيب لها.

الانتماء لله ورسوله الركن الذي ميز الصحابة، ووجد في هذا العصر من يعتدي عليهم بكلام لا يليق بهم وهؤلاء لو ركب بعضهم بعضاً حتى بلغوا عنان السماء ما وصلوا إلى شسع نعل أحدهم، وقد وجدت لأحدهم كتاباً يتحدث فيه عن الصحابة والجنس، ولما قرأت بعض كلامه اقشعر جلدي والله؛ فقد تكلم عن عمر بن الخطاب كلاماً لا يقوله كافر، مع ما لـعمر من المكانة عند جماهير المسلمين، فالذين يعتدون على الصحابة دمهم مباح.

ما هي جريمة عمر التي عرضها هذا الكاتب؟ قال في كتابه: إن عمر بن الخطاب لم يكن رجلاً نبيلاً؛ لأنه لما أراد أن يتزوج أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب وكانت فتاة صغيرة، استخدم سلطته كأمير المؤمنين، وكان يقول لـعلي بن أبي طالب : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل نسب مقطوع إلا نسبي، وكل سبب مقطوع إلا سببي) وأنا أريد أن يكون لي سبب ونسب بآل البيت، فكأن هذا الكاتب يريد أن يقول: إن عمر كاذب؛ لأنه يريد المتعة، وإنما قال ذلك ذريعة للوصول إلى هدفه.

يقول الكاتب: برغم معارضة الحسن وعقيل لهذا الزواج إلا أن جهود ابن الخطاب أثمرت، وهذه الأساليب المتباينة عهدناها من الحكام في كل زمان ومكان: أن أقوالهم تخالف أفعالهم؛ لأن ابن الخطاب قد وعظ الناس وأمرهم بتخفيف المهور، إلا أنه لما أراد أم كلثوم أمهرها أربعين ألفاً.

وقصة الاعتراض (أصابت امرأة وأخطأ عمر ) قصة منكرة كاذبة، ما كان لمثل عمر أن تخفى عليه الآية وتذكره امرأة وهو المعَلم، لا يصح سندها أبداً، لكن هذه هي مشكلتنا؛ وهي أننا نصدق كل ما يقال لنا، ويجب أن نعلم أنه ما من مبتدع ولا مبطل يحتج بحجة إلا تكون أحد شقين: إما صحيحة غير صريحة، وإما صريحة غير صحيحة.

يقول الكاتب: وبعد ذلك وافق علي بن أبي طالب ؛ لأن عمر بيده مقاليد الأمور، ويعطي للصحابة باجتهاده، فطعن في علي بن أبي طالب أيضاً بأن زوجه ابنته لأجل المال؛ حتى لا يمنع عطاءه من بيت المال.

وبعد ذلك يستمر الكاتب فيقول: وبعد ذلك جاءت أم كلثوم فلم يتحمل عمر على طول كشف عن ساقها -هذا الكلام يكتب عن عمر بن الخطاب - فقامت أم كلثوم، وقالت له: لولا أنك أمير المؤمنين لصككت عينيك.

هذا الجزء من القصة حدث فعلاً إلا أن لها تأويلاً وهو: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما أراد أن يصاهر علي بن أبي طالب للسبب المذكور، قال له علي بن أبي طالب : إن أعجبتك فهي امرأتك، فـعمر لم يأتِ لخطبتها إلا وقد أعجبته، فصارت بذلك زوجة لـعمر ، لكن أم كلثوم لم تكن تعلم بذلك.

كما أن هذا الكاتب يصور الصحابة الأجلاء على أنهم طائفة كان كل همهم النساء! يرمونهم بدائهم.

معاذ ومعوذ وصدق انتمائهما

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: بينما أنا في الصف يوم بدر إذ رأيت غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما -ما بين الاثني عشر سنة والأربعة عشر سنة- قال: فجاءني أحدهما فغمزني، وقال: يا عم! هل تعرف أبا جهل ؟ فقلت: يا ابن أخي! وما تريد منه؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده لئن التقى سوادي بسواده -أي: جسمي بجسمه أو شخصي بشخصه- ما أتركه حتى يموت الأعجل منا، يقول تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165] هذا هو دليل الانتماء (أشد حباً لله) وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه قال: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب الرجل أخاه لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يرجع إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار) هذا هو داعية الانتماء.

قال: لئن التقى سوادي بسواده لا أتركه حتى يموت الأعجل منا، قال: وجاءني الغلام الآخر فغمزني وقال لي مثلما قال الأول، وكل منهما حريص على أن يقتل أبا جهل قبل أخيه؛ لأن عدو الله ورسوله لا يجوز له أن يحيا بيننا أبداً، ولا يحل لنا أن نلقي إليه بالود أبداً، هذا قادح في المحبة والانتماء. قال: فلم أنشب -أي: لم يمر إلا وقت قصير- حتى رأيت أبا جهل يجول في الناس -أي: يضطرب، قلق، يذهب ويأتي ليس له مكان ثابت- قال: فلما رأيته، قلت لهما: هذا صاحبكما، قال: فابتدراه فضربه كل بسيفه فقتلاه، ثم اختصما على سلبه -السلب: ما يكون عند الرجل المقتول من المغانم، والمجاهد إذا قتل الكافر فله سلبه؛ متاع ويكون ملكاً للمجاهد الذي قتله، فاختصم هذان الغلامان فذهبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم كل يقول: أنا -لأن قتل عدو الله ورسوله شرف- فقال عليه الصلاة والسلام: (هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا. فقال: أرياني، فلما نظر إلى سيفهما، قال: كلاكما قتله).

الغلام الأول: معاذ بن عمرو بن الجموح ، والغلام الآخر: معاذ بن عفراء ، وفي رواية أخرى أن اللذين قتلا أبا جهل : هما معاذ بن عفراء ومعوذ بن عفراء .

فينبغي علينا أن نعلم أبناءنا صدق الانتماء لله ورسوله، وألا يأخذهم في الله لومة لائم؛ لأن الانتماء إنما هو موالاة الله ورسوله.

ومن صور الانتماء لله ورسوله: ما حدث في غزوة أحد (لما كانت الدولة للمشركين وصعد أبو سفيان -قبل أن يسلم- على قمة الجبل والنبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر أسفل الجبل، وقد أشاع الشيطان أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل، فصعد أبو سفيان على قمة الجبل، وقال: أفيكم محمد؟ فقال عليه الصلاة والسلام: لا تجيبوه، قال: أفيكم أبو بكر ؟ أفيكم عمر ؟ قال: لا تجيبوه، فلما ظن أن هؤلاء ماتوا -لأن قوام الإسلام كان بهم- قال: أُعل هبل، فحينئذٍ قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ألا تجيبوه؟ قالوا: وماذا نقول يا رسول الله؟ قال: قولوا الله أعلى وأجل، فقال: لنا العزى ولا عزى لكم، قال: ألا تجيبوه؟ قالوا: وكيف نقول يا رسول الله؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم).

هذا إظهار لعزة من عبده المسلمون، وإعلاء لجناب التوحيد، نهاهم أن يجيبوه أولاً، فأحسن جد الإحسان، وأمرهم أن يجيبوه ثانياً فأحسن جد الإحسان، إن ذواتنا ينبغي ألا يكون لها وزن في الله تبارك وتعالى، ذواتنا ينبغي أن تمحى، لأن هذا هو مقتضى تجريد الإخلاص لله عز وجل.

فينبغي للآباء أن يعلموا أبناءهم حب الله، وأن يظهروا نعمه التي أنعم بها عليهم، وقد قرأت آيات في سورة الفرقان يعدد الله فيها نعمه على عباده، قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا * وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا * وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا * وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا [الفرقان:47-54].

فانظر كيف يتحبب الله عز وجل إلى العباد بنعمه، ويرقق قلوبهم بها، ومع ذلك وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا [الفرقان:55].

وهذه من ألطف الآيات في مدح المؤمنين؛ لأن الكافر ظهير على ربه، فلا يرى عدواً لله عز وجل إلا وضع يده في يده، بخلاف المؤمنين.

وتأمل قوله تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ [الفرقان:55]، فالذي يعبد ما لا ينفعه إنما هو مجنون؛ لأن الإنسان لا يعبد إلا من ينفعه ويضره، فما وجه ذكر الضرر في الآية: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ [الفرقان:55] فكأن إلحاق الضرر بالمعبود نعمة، لأن الإله لا يكون إلهاً حتى يضر وينفع، فيضر كل نفس فيها داعية الألوهية، ولو خلي بين الجبار وبين ما في صدره لقال: أنا ربكم الأعلى، كما تجرأ فرعون على قولها فأظهرها وجبن غيره فأضمرها.

قال رجل مرة -وضرب بيده ضرباً شديداً على المنضدة وهو يخطب-: أنا الحاكم مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [ق:29]، هكذا قال وقد أهلكه الله وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [إبراهيم:20]، ما الذي جرأه على أن قال هذه المقولة التي تفرد بها الله تبارك وتعالى دون ملوك الأرض؟ فكل واحد منا عنده داعية الألوهية لأن يكون جباراً عنيداً، فحينئذٍ هذا لا ينفعه إلا إلحاق الضرر به، فيكون إلحاق الضرر به نعمة.

وقد كان هناك غلام ابن تسع سنين وأصيب بشلل في أطرافه الأربعة، وكان لا يستطيع أن يحرك إصبعاً واحداً، ثم امتن الله عز وجل عليه بالشفاء بالأسباب التي خلقها، فاسترد عافيته، والعجيب أنه أصبح يعمل أشق الأعمال بعد ذلك؛ وذهب إلى العراق وفعل كل شيء: زنى، وشرب الخمر ... أليس المرض في حقه كان نعمة؟ لو أنه بقي طريح الفراش طيلة عمره، أليس هذا أفضل من أن ترتد إليه العافية، فإلحاق الضرر بمثله نعمة ينبغي أن يشكر العبد ربه عليها، هو ضرر بالنسبة لنا، لكنه رحمة في علم الله عز وجل، إذاً: لا يستقل بمعرفة ما يصلح العباد مما يضرهم إلا الله عز وجل ورسله بتعليم الله إياهم.

القرآن مليء بهذه الآيات، قف على هذه الآيات واشرح لولدك نعم الله عز وجل وآلاءه، وإذا ذُكر الله عز وجل فينبغي أن يظهر ذلك على وجهك، وعلى طريقة جلستك، فإن كنت مضطجعاً فاعتدل في جلستك واجهر بتسبيح الله عز وجل، فالأولاد ليسوا أغبياء، فعيونهم كالكاميرات المسجلة تحفظ كل شيء تراه ثم يطبقونه فيما بعد، فهم في غاية الذكاء وإنما هم عاجزون عن التعبير.

وإذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ينبغي أن يظهر ذلك عليك، قال الإمام مالك رحمه الله: كان أيوب السختياني إذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم يبكي حتى نرحمه محبة له، هذا أصل الانتماء وأسه: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165] والصحابة عندما تمكن حب الله من قلوبهم استرخصوا كل غالٍ ونفيس في سبيل الله عز وجل، واليوم أصبح ترك الانتماء قاعدة في البحث العلمي، وهو ما يعرف بالحياز العلمي، والكفار لا يحيزون، ولو حازوا فليس عندهم من يعظمونه فينحازون إليه، ونحن نعلم أن المرء بغير انتماء لا يعمل أبداً، لأن الله عز وجل خلق الناس لهدف، فلا يمكن أن يكون هناك شخص لا يعمل لهدف، فمتى ترك الكافرون انتماءهم فهم ينتمون إلى التراب، ونحن ننتمي إلى العزيز الوهاب، فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنعام:81]، لا مساواة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه لما قال أبو سفيان : لنا العزى ولا عزى لكم، فعلمهم أن يقولوا: (الله مولانا ولا مولى لكم).

روى ابن ماجة في سننه بسند صحيح عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: (جئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاورة -والفتى الحزور: هو الذي ناهز الاحتلام- فتعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن) تعلموا الإيمان أولاً، لذلك لم يكذبوا الله ورسوله ولم يتوقفوا عند آية قط، ولم يقفوا عند حديث أبداً، ولا اعترضوا على الله بآرائهم، ولا ردوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم بمحض أهوائهم؛ لأنهم آمنوا أولاً، فهان عليهم ما يجدونه بعد ذلك، فالانتماء هو البوابة إلى الإيمان.

سلمة بن الأكوع وصدق الانتماء

أيها الإخوة الكرام! صدق الانتماء يطيل النَّفس في البذل والجهاد، قصرت أنفاس كثير من الناس بضعف الانتماء أو بعدم وجوده، وخذ هذا المثل الذي ما سمعته أذناك ولا رأته عيناك:

صحابي جليل لا يعرفه أكثر الناس، وهو سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قص قصة عجيبة وخبراً غريباً على شجاعته وبذله وقوة قلبه، وجرأة جنانه على الأحداث، وهذا الحديث حفظه لنا الإمام مسلم في صحيحه رحمة الله عليه، قال سلمة :

خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية وكنا أربعة عشر مائة-ألف وأربعمائة- فجاءوا على البئر وقد عطش الناس وعطش الظهر -الحيوانات- قال: فجاء النبي صلى الله عليه وسلم على جبل ركية -أي: على حافة البئر- فإما دعا وإما بصق، قال: فجاش الماء فسقينا واستقينا، ثم قفلوا راجعين إلى المدينة، قال: ودعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى البيعة تحت الشجرة فكنت في أوائل من بايع، ثم دعا الناس إلى البيعة، فقال لي: ألا تبايع يا سلمة ؟ قلت: يا رسول الله! قد بايعت في أوائل الناس، قال: وأيضاً، فبايعته فدعا الناس إلى البيعة ثالثاً، فقال لي: ألا تبايع يا سلمة ؟ قلت: يا رسول الله! بايعتك في أوائل الناس وفي وسط الناس، قال: وأيضاً، فبايعته للمرة الثالثة، وكان قد أعطاني حجفة أو درقة -وهي تشبه الترس الذي يستخدمه الرجل في القتال- لما رآني عزلاًًً من السلاح، قال: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين درقتك التي أعطيتك؟ قلت: يا رسول الله! لقيت عمي عامراً وهو عازل من السلاح فأعطيته إياها، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (إنك كالذي قال الأول: اللهم أبغني حبيباً هو أحب إليّ من نفسي) قال سلمة : وكنت تبيعاً لـطلحة بن عبيد الله أخدمه وأسقي فرسه، وقد تركت مالي وأهلي مهاجراً إلى الله ورسوله.

قال: وراسلنا المشركون في الصلح حتى اختلط بعضنا ببعض ومشى بعضنا في بعض -يعني: وضعت الحرب أوزارها- قال: فأتيت شجرة فكسحت الشوك التي تحتها -يعني: كنسته- واضطجعت، فجاء أربعة نفر من المشركين فوقعوا في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبغضتهم -لا يستطيع أن يقتلهم؛ لأن الحرب وضعت أوزارها وهم في معاهدة- قال: وتحولت إلى شجرة أخرى، ونام المشركون الأربعة تحت الشجرة وعلقوا سيوفهم.

قال: وبينما أنا مضطجع إذا بصارخ: قتل ابن جنيد -من المسلمين- قال: فحينئذٍ قمت فاخترطت سيفي وسللته،وأخذت سيوف المشركين فجعلتها ضغثاً في يدي -يعني: حزمة- ووقفت عليهم، فقلت: والذي كرم وجه محمد لو نظر إليّ منكم أحد لضربت الذي فيه عيناه، وأخذتهم أستاقهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا بعمي عامر أتى برجل من العبلات يقال له: مكرد ، على فرس مجفف -مكسو- ومعه سبعون من المشركين -أتى بهم أسرى- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعوهم يكن عليهم بدء الفجور وثناه)، وعفا عنهم -يبدءون هم بالفجور ونقض العهد، ويثنون أيضاً فتكون لنا الحجة البالغة في قتلهم- وتركهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقفلوا راجعين إلى المدينة، وهم راجعون إلى المدينة كان هناك جبل بين المسلمين وبين بني لحيان من المشركين؛ لأن هذا الجبل كانت عيون الرسول صلى الله عليه وسلم عليه يحرسون المسلمين، فكان الذي يرقى الجبل يستغفر له- قال سلمة : فرقيت الجبل في هذه الليلة مرتين أو ثلاث مرات، وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهره -والظهر هي: النوق التي تحمل الأثقال أرسله مع غلامه رباح ، ومع سلمة بن الأكوع -. قال: فلما أصبحنا إذا بـعبد الرحمن الفزاري -وكان رجلاً كافراً- يقتل راعي النبي صلى الله عليه وسلم ويأخذ كل الإبل، قال: فلما رأيت ذلك، أعطيت الفرس لـرباح وقلت: أوصل هذا الفرس إلى طلحة بن عبيد الله ، وقل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن المشركين قتلوا غلامه وأخذوا سلاحه.

ثم صعد على قمة الجبل ووجه صوته إلى المدينة وصرخ ثلاث مرات: واصباحاه .. قال: وانطلقت وراءهم وأنا أرميهم بالنبل -وكان سلمة أسرع من الخيل- قال: فجعلت أضرب رحالهم، فيسقط السهم بين أكتافهم فأقول لهم:

أنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع

-يقال عن اللئيم: راضع، وإنما سمي اللئيم راضعاً؛ لأن البخيل من العرب كان إذا أراد أن يشرب اللبن، يذهب إلى ثدي الناقة ويمصه حتى لا يسمع الجيران، فقيل: لئيم راضع- .

قال: وانطلقت وراءهم أضربهم بالسهم، قال: فوالله ما خلق الله بعيراً من ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: من النوق التي يملكها- إلا خلفته ورائي -تركوا كل شيء- قال: وتركوا ثلاثين بردة وثلاثين رمحاً يستخفون -يتخففون رجاء الفرار- قال: حتى وصلوا إلى مضيق جبل واحترزوا مني ولم تصل سهامي إليهم، فصعدت قمة الجبل وجعلت أرديهم بالحجارة، حتى جاء ابن بدر الفزاري فقال: ما لكم؟ قالوا: نحن في هذا البرح من الغلس فقال: ماذا تفعلون؟ قالوا: هذا الرجل قال: ألا يقوم أربعة إليه -وسلمة على قمة تل صغير يستمع- قال: فلما أمكنوني من الكلام، قلت لهم: تعرفونني؟ قالوا: لا. من أنت؟ قال: أنا سلمة بن الأكوع ، والله لا أريد منكم رجلاً إلا نلته، ولا تريدون مني شيئاً فتحصلوه مني.

فقال رجل: أظن ذلك، فلا نقدر عليه، قال: وجلسوا يتغدون، قال: فما تركتهم يأكلون -ضربهم بالسهام والنبال- فتركوا الغداء وفروا، فجاء فرسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أو أربعة أولهم: الأخرم الأسدي، وثانيهم: أبو قتادة الأنصاري، وثالثهم: المقداد بن الأسود ، قال: فلما جاء الأخرم أخذت بعنان فرسه، وقلت له: لا يقتطعونك، انتظر حتى يجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال: فقال لي الأخرم : يا سلمة ! إن كنت تعلم أن الله حق وأن النار حق وأن الجنة حق فلا تحل بيني وبين الشهادة.

قال: فتركته فتناجز هو وعبد الرحمن الفزاري الذي قتل راعي النبي عليه الصلاة والسلام، فقتل الأخرم فرس عبد الرحمن وقتل عبد الرحمن الأخرم ، وأخذ الفزاري الكافر فرس الأخرم وركبه وفر، قال: فلحقه أبو قتادة الأنصاري فقتله، قال: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقال: إنهم في بني غطفان، وبعد أن ظفر الرسول عليه الصلاة والسلام بظهره ذبح بلال له ناقة وجعل يشوي له من كبدها وسنامها -وكان كل هذا بالليل- فقال له سلمة : انتدبني مع مائة رجل نتبعهم، قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأيت نواجذه في النار -في ضوء النار- وقال: أأنت تفعل ذلك؟ قلت: أجل، فقال عليه الصلاة والسلام: (خير فرساننا اليوم أبو قتادة ، وخير رَجَّالتنا سلمة)، وقفلوا راجعين إلى المدينة.

قال: وكان رجل لا يسبق شداً -يعني: سريع جداً- فجعل يقول: ألا من مسابق .. ويكررها، فقال له سلمة : إنك لا تكرم كريماً ولا تهاب شريفاً، قال: نعم، إلا رسول الله، فقال: يا رسول الله! ائذن لي؟ قال: فاستبقنا، قال: فقفزت قفزتين ووقفت أستبقي نفسي ... إلخ.

فيجب علينا أن نمسك ألسنتنا عن الطعن في الصحابة؛ لأنه ليس هناك جيل يضاهيهم أبداً، فقد اختارهم الله لصحبة نبيه كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: نظر الله عز وجل في قلوب العالمين، فاصطفى قلب محمد صلى الله عليه وسلم لرسالته، ونظر في قلوب العالمين فاصطفى أصحاب محمد له.

هذه أمثلة قليلة يضيق عنها الحصر، وشجاعتهم أعظم، وبذلهم في الله عز وجل يضرب ببعضه المثل.

الانتماء قضية مصيرية؛ لأنه يبنى على هذا الانتماء دين المرء، ونحن في هذا العصر أحوج ما نكون إلى هذا الانتماء؛ لأنه في وقت ظهور الإسلام كان الناس بين مؤمن وكافر، وكان الوضع في مكة برغم شدته أخف من المدينة؛ لأنه ظهر في المدينة منافقون، يظهرون الإسلام ويكيدون ويوقعون بين الأحباب، وهذا لم يكن موجوداً في مكة، فصار العبء جسيماً وثقيلاً.

وفي عصرنا ظهر الكفر والنفاق معاً، ليس كفراً فقط، وليس نفاقاً فقط، إنما هو كفر ونفاق.

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: بينما أنا في الصف يوم بدر إذ رأيت غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما -ما بين الاثني عشر سنة والأربعة عشر سنة- قال: فجاءني أحدهما فغمزني، وقال: يا عم! هل تعرف أبا جهل ؟ فقلت: يا ابن أخي! وما تريد منه؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده لئن التقى سوادي بسواده -أي: جسمي بجسمه أو شخصي بشخصه- ما أتركه حتى يموت الأعجل منا، يقول تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165] هذا هو دليل الانتماء (أشد حباً لله) وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه قال: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب الرجل أخاه لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يرجع إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار) هذا هو داعية الانتماء.

قال: لئن التقى سوادي بسواده لا أتركه حتى يموت الأعجل منا، قال: وجاءني الغلام الآخر فغمزني وقال لي مثلما قال الأول، وكل منهما حريص على أن يقتل أبا جهل قبل أخيه؛ لأن عدو الله ورسوله لا يجوز له أن يحيا بيننا أبداً، ولا يحل لنا أن نلقي إليه بالود أبداً، هذا قادح في المحبة والانتماء. قال: فلم أنشب -أي: لم يمر إلا وقت قصير- حتى رأيت أبا جهل يجول في الناس -أي: يضطرب، قلق، يذهب ويأتي ليس له مكان ثابت- قال: فلما رأيته، قلت لهما: هذا صاحبكما، قال: فابتدراه فضربه كل بسيفه فقتلاه، ثم اختصما على سلبه -السلب: ما يكون عند الرجل المقتول من المغانم، والمجاهد إذا قتل الكافر فله سلبه؛ متاع ويكون ملكاً للمجاهد الذي قتله، فاختصم هذان الغلامان فذهبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم كل يقول: أنا -لأن قتل عدو الله ورسوله شرف- فقال عليه الصلاة والسلام: (هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا. فقال: أرياني، فلما نظر إلى سيفهما، قال: كلاكما قتله).

الغلام الأول: معاذ بن عمرو بن الجموح ، والغلام الآخر: معاذ بن عفراء ، وفي رواية أخرى أن اللذين قتلا أبا جهل : هما معاذ بن عفراء ومعوذ بن عفراء .

فينبغي علينا أن نعلم أبناءنا صدق الانتماء لله ورسوله، وألا يأخذهم في الله لومة لائم؛ لأن الانتماء إنما هو موالاة الله ورسوله.

ومن صور الانتماء لله ورسوله: ما حدث في غزوة أحد (لما كانت الدولة للمشركين وصعد أبو سفيان -قبل أن يسلم- على قمة الجبل والنبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر أسفل الجبل، وقد أشاع الشيطان أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل، فصعد أبو سفيان على قمة الجبل، وقال: أفيكم محمد؟ فقال عليه الصلاة والسلام: لا تجيبوه، قال: أفيكم أبو بكر ؟ أفيكم عمر ؟ قال: لا تجيبوه، فلما ظن أن هؤلاء ماتوا -لأن قوام الإسلام كان بهم- قال: أُعل هبل، فحينئذٍ قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ألا تجيبوه؟ قالوا: وماذا نقول يا رسول الله؟ قال: قولوا الله أعلى وأجل، فقال: لنا العزى ولا عزى لكم، قال: ألا تجيبوه؟ قالوا: وكيف نقول يا رسول الله؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم).

هذا إظهار لعزة من عبده المسلمون، وإعلاء لجناب التوحيد، نهاهم أن يجيبوه أولاً، فأحسن جد الإحسان، وأمرهم أن يجيبوه ثانياً فأحسن جد الإحسان، إن ذواتنا ينبغي ألا يكون لها وزن في الله تبارك وتعالى، ذواتنا ينبغي أن تمحى، لأن هذا هو مقتضى تجريد الإخلاص لله عز وجل.

فينبغي للآباء أن يعلموا أبناءهم حب الله، وأن يظهروا نعمه التي أنعم بها عليهم، وقد قرأت آيات في سورة الفرقان يعدد الله فيها نعمه على عباده، قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا * وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا * وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا * وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا [الفرقان:47-54].

فانظر كيف يتحبب الله عز وجل إلى العباد بنعمه، ويرقق قلوبهم بها، ومع ذلك وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا [الفرقان:55].

وهذه من ألطف الآيات في مدح المؤمنين؛ لأن الكافر ظهير على ربه، فلا يرى عدواً لله عز وجل إلا وضع يده في يده، بخلاف المؤمنين.

وتأمل قوله تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ [الفرقان:55]، فالذي يعبد ما لا ينفعه إنما هو مجنون؛ لأن الإنسان لا يعبد إلا من ينفعه ويضره، فما وجه ذكر الضرر في الآية: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ [الفرقان:55] فكأن إلحاق الضرر بالمعبود نعمة، لأن الإله لا يكون إلهاً حتى يضر وينفع، فيضر كل نفس فيها داعية الألوهية، ولو خلي بين الجبار وبين ما في صدره لقال: أنا ربكم الأعلى، كما تجرأ فرعون على قولها فأظهرها وجبن غيره فأضمرها.

قال رجل مرة -وضرب بيده ضرباً شديداً على المنضدة وهو يخطب-: أنا الحاكم مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [ق:29]، هكذا قال وقد أهلكه الله وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [إبراهيم:20]، ما الذي جرأه على أن قال هذه المقولة التي تفرد بها الله تبارك وتعالى دون ملوك الأرض؟ فكل واحد منا عنده داعية الألوهية لأن يكون جباراً عنيداً، فحينئذٍ هذا لا ينفعه إلا إلحاق الضرر به، فيكون إلحاق الضرر به نعمة.

وقد كان هناك غلام ابن تسع سنين وأصيب بشلل في أطرافه الأربعة، وكان لا يستطيع أن يحرك إصبعاً واحداً، ثم امتن الله عز وجل عليه بالشفاء بالأسباب التي خلقها، فاسترد عافيته، والعجيب أنه أصبح يعمل أشق الأعمال بعد ذلك؛ وذهب إلى العراق وفعل كل شيء: زنى، وشرب الخمر ... أليس المرض في حقه كان نعمة؟ لو أنه بقي طريح الفراش طيلة عمره، أليس هذا أفضل من أن ترتد إليه العافية، فإلحاق الضرر بمثله نعمة ينبغي أن يشكر العبد ربه عليها، هو ضرر بالنسبة لنا، لكنه رحمة في علم الله عز وجل، إذاً: لا يستقل بمعرفة ما يصلح العباد مما يضرهم إلا الله عز وجل ورسله بتعليم الله إياهم.

القرآن مليء بهذه الآيات، قف على هذه الآيات واشرح لولدك نعم الله عز وجل وآلاءه، وإذا ذُكر الله عز وجل فينبغي أن يظهر ذلك على وجهك، وعلى طريقة جلستك، فإن كنت مضطجعاً فاعتدل في جلستك واجهر بتسبيح الله عز وجل، فالأولاد ليسوا أغبياء، فعيونهم كالكاميرات المسجلة تحفظ كل شيء تراه ثم يطبقونه فيما بعد، فهم في غاية الذكاء وإنما هم عاجزون عن التعبير.

وإذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ينبغي أن يظهر ذلك عليك، قال الإمام مالك رحمه الله: كان أيوب السختياني إذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم يبكي حتى نرحمه محبة له، هذا أصل الانتماء وأسه: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165] والصحابة عندما تمكن حب الله من قلوبهم استرخصوا كل غالٍ ونفيس في سبيل الله عز وجل، واليوم أصبح ترك الانتماء قاعدة في البحث العلمي، وهو ما يعرف بالحياز العلمي، والكفار لا يحيزون، ولو حازوا فليس عندهم من يعظمونه فينحازون إليه، ونحن نعلم أن المرء بغير انتماء لا يعمل أبداً، لأن الله عز وجل خلق الناس لهدف، فلا يمكن أن يكون هناك شخص لا يعمل لهدف، فمتى ترك الكافرون انتماءهم فهم ينتمون إلى التراب، ونحن ننتمي إلى العزيز الوهاب، فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنعام:81]، لا مساواة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه لما قال أبو سفيان : لنا العزى ولا عزى لكم، فعلمهم أن يقولوا: (الله مولانا ولا مولى لكم).

روى ابن ماجة في سننه بسند صحيح عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: (جئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاورة -والفتى الحزور: هو الذي ناهز الاحتلام- فتعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن) تعلموا الإيمان أولاً، لذلك لم يكذبوا الله ورسوله ولم يتوقفوا عند آية قط، ولم يقفوا عند حديث أبداً، ولا اعترضوا على الله بآرائهم، ولا ردوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم بمحض أهوائهم؛ لأنهم آمنوا أولاً، فهان عليهم ما يجدونه بعد ذلك، فالانتماء هو البوابة إلى الإيمان.