أدب الحوار


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعــد:

فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

هذا الدرس الأربعون من سلسلة الدروس العلمية العامة، التي أسأل الله تعالى أن ينفع بها، وهو ينعقد في ليلة الإثنين السابع من ربيع الثاني لعام (1412هـ).

أحبتي الكرام: عنوان هذه الحلقة: (أدب الحوار) وبين يدي أدب الحوار ثمة أوراق متبقية من درس المجلس السابق، يسألني عنها بعض الإخوة، فقد رأوا أنني تركت في آخر الموضوع أشياء أحبوا أن يعرفوها ويطلعوا عليها، وكل ما أود أن أضيفه في الموضوع الكبير السابق -صناعة الحياة- هو أن الإعلام شرقيه وغربيه في كل بلاد الدنيا يسعى إلى تشويه صورة الدعاة إلى الله تعالى بكافة الوسائل والأسباب.

وفي مقابل ذلك فإن الدعاة إلى الله تعالى لم يقوموا بجهد يذكر في تعديل هذه الصورة التي رسمها الإعلام، إن مجرد كلامنا -أيها الأحبة- عن الدعاة إلى الله تعالى، أو عن شباب الصحوة لا يكفي، لأننا سنجد من ألد أعداء الأمة ومن ألد أعداء الإسلام، وسنجد من اللصوص الشطار من يتكلمون عن أنفسهم، أو يتكلمون عمن يحبون وعمن يوالون؛ حديثاً ربما يكون أفصح عبارة وأقوى إشارة، من حديثنا نحن عن العلماء، أو عن الدعاة إلى الله تعالى، أو عن شباب الصحوة.

إذاً: فمجرد الكلام عن الشباب والدعوة والصحوة لا يكفي، وإن كان هذا مطلوباً، كما أن مجرد انكفائنا على التاريخ، والحديث عن بطولات المسلمين السابقين، وعن عدلهم وعن إنصافهم هو -أيضاً- لا يكفي، وإن كان لا بد منه، فإن الذي ليس له تاريخ ليس له مستقبل، والذي ليس له ماضي ليس له حاضر:

مثل القوم نسوا تاريخهم     كلقيط عيَّ في الناس انتساباً

فالأمة تحتاج إلى أن ترجع دائماً إلى تاريخها، وتستلهم منه الدروس والعبر؛ لكن لا يجوز أبداً أن يكون كل ما نملكه هو الحديث عن التاريخ، والإسراف والمبالغة في ذلك هي من عوامل الاتكاء والاتكال والبعد عن الفاعلية في الواقع، وكما قال أحد الشعراء منتقداً كثرة الحديث عن السابقين، على أننا نخالف أفعالهم وأحوالهم صباح مساء:

وغاية الخشونة أن تندبوا

قم يا صلاح الدين قم

حتى اشتكى

مرقده من حوله العفونة

كم مرة في العام توقظونه

كم مرة على جدار الحبن تجلدونه

أيطلب الأحياء من أمواتهم معونة

دعو صلاح الدين في ترابه واحترموا سكونه

لأنه لو قام حقاً بينكم فسوف تقتلونه

إذاً: لا يجوز أن يكون كل ارتباطنا بديننا، وكل عملنا لصناعة الحياة، هو أن نتكلم عن التاريخ ونقلب أوراق الماضي، بل لابد من إثبات عملي -بقدر المستطاع- على أن الدعاة إلى الله تعالى هم الجهة التي تفلح في إنقاذ الأمة مما هي فيه، وتصدق في وعدها مع الله عز وجل، وإذا كان أعداء الإسلام قد منوا الناس الأماني، فلما استطاعوا أن يفعلوا ما فعلوا عجزوا عن ذلك؛ فإن الدعاة إلى الله تعالى يجب أن يثبتوا للأمة -حتى وهم لا يملكون شيئاً- أن الواحد منهم يقتطع من قوته ومن قوت زوجه وأولاده ليطعم الجائع، ويكسو العاري، ويسد حاجة المحتاج.

أين مؤسساتنا الخيرية؟

وهنا نسأل أنفسنا: أين محاضن الأطفال المسلمين والأيتام؟!

أين دور العجزة والفقراء؟!

أين المدارس الخيرية؟!

أين المستشفيات؟!

أين المؤسسات الخيرية؟!

أين المؤسسات الاقتصادية؟!

أين الخدمات المجانية -أو شبه المجانية- التي يمكن أن تقدم للمسلمين، والتي تنقذهم من براثن الجهل والمرض والفقر، ذلك الثالوث الخطير الذي يفتك بالمسلمين؟

قد يقول قائل: المسلمون لا يملكون شيئاً، أو يقول: الدعاة إلى الله تعالى في أكثر بقاع الأرض هم أفقر الناس!

فأقول: هذا صحيح من جانب، لكن لا يجوز أبداً أن نعتبر هذا كافياً في تعليل ما يجرى، فإننا نجد أن هذا نوعٌ من الهروب من المسئولية، وكم من الدعاة إلى الله تعالى لم يفكروا أصلاً في هذا الموضوع! ولو أن الإنسان اعتبر هذا أحد الاهتمامات التي يجب أن يهتم بها، وينبغي أن يفكر فيها، فإنه لا بد أن يتفتق ذهنه عن وسائل ناجحة، وكما يقال: الحاجة أم الاختراع، ومع الصبر والوقت والتفكير والمحاولة يمكن أن يفعل الدعاة الكثير والكثير مما ينفع في هذا، بشرط أن تصبح إقامة الجسور مع الأمة هماً يسيطر على قلوب الدعاة إلى الله تعالى.

وما زال الكثير من أثرياء الأمة وتجارها وأغنيائها ووجهائها لديهم ثقة بالدعاة إلى الله عز وجل، وإمكانية أن يتعاونوا معهم، بحيث تنتقل رءوس الأموال التي توجد في بلد من بلاد المسلمين؛ لينتفع بها المسلمون في كل مكان عن طريق الدعاة الصادقين، وليس عن طريق الصليب الأحمر الدولي -مثلاً- أو عن طريق المؤسسات التنصيرية التي ربما وزعت على المسلمين أموال المسلمين وابتزتهم بها، ودعتهم بها إلى النصرانية!!

إذاً: يجب أن يكون الدعاة إلى الله تعالى والمخلصون هم الجسر الذي تعبر عليه أموال المسلمين وإمكانياتهم إلى إخوانهم المحتاجين في كل مكان من الأرض.

فالداعية لا يحتاج كثيراً إلى أن ينفق من جيبه، بل يكفي أن يكون لديه الاستعداد لأن يكون وسيطاً، وإذا علم تجار المسلمين -وهم كثير، وفيهم خير كثير، وفيهم ثقة بالدعاة إلى الله تعالى- أن دعاة موثوقين صادقين يمكن أن يقوموا بمثل هذه المهمات؛ فإنهم لن يترددوا أبداً في إعانتهم ومساعدتهم.

وأيضاً: لا بد -أيها الأحبة- أن نقنع أنفسنا بأهمية الموضوع من جهة أخرى، ثم أن نقنع أنفسنا بإمكانية أن نفعل شيئاً، فالإنسان اليائس لا يمكن أن ينتج، والذي يقول: ليس في يدي حيلة، هذا محكوم عليه أنه كالميت لا يمكن أن يقدم لأمته شيئاً؛ لكن إذا كان لديه همة عالية، فالهمم العالية تزيل الجبال.

صناعة الحياة في المنزل

أيها الأحبة: لقد وجه إليّ الإخوة كثيراً من الأسئلة في المجلس السابق، ورأيت -أيضاً- أن أعرج عليها في موضوع صناعة الحياة، فأحد الأحبة أعجبتني صياغة سؤاله، فهو يقول: في صناعة الحياة قمت بصناعة البيت بمشيئة الله تعالى، وهو جعل درس للنساء لحفظ القرآن على قسمين:

1- النساء الكبيرات، وأول شيء يحفظنه هو آية الكرسي مع تفسيرها.

2- الأخوات وزوجات إخوتي، والمقرر هو حفظ بعض سورة (ق)، ثم درس في السيرة، فما رأيكم في ذلك؟

فأقول: هذا الجهد وإن كان في نظر بعض الناس جهد المقل، إلا أنه مساهمة فعالة في صناعة الحياة، وحين نقول: صناعة الحياة أو صياغتها فإننا نطلب من كل إنسان أن يشارك في ذلك ولو بأقل جهد.

وليس بالضرورة أن يكون كل واحد منا صانعاً للحياة على مستوى العالم، بل من الممكن أن تبدأ صناعة الحياة على مستوى البيت، أو الفصل الذي تدرس فيه، أو الحي الذي تسكن فيه، أو المسجد الذي تصلي فيه.

المدرس يصنع الحياة كثيراً

وكذلك هذا الأخ يقول: لاحظت في معظم تلك المحاضرة عدم المرور على المربين والمدرسين وما يهمهم من صناعة الحياة، فأرجو منك أن تتعرض لهذا الموضوع.

وأقول: إن المدرس يصنع الحياة كثيراً، وليس غريباً أن الطبيب تتلمذ على يد المدرس، والمهندس تتلمذ على يد المدرس، والداعية والخبير وكل أصناف المختصين تلقوا من المدرس، ولهذا لا غرابة أن يتكلم أحد الشعراء -وهو الشاعر محمود غنيم- راثياً لحال المدرس، ومعبراً عن واقعه ومشاعره، فيقول:

حنانيك إني قد بليت بصبيةٍ      أروح وأغدو كل يوم عليهمُ

صغار نربيهم بملء عقولهم      ونبنيهم لكننا نتهدمُ

فمن كان يرثي قلبه لمعذب      فأجدر شخص بالرثاء المعلمُ

على كتفيه يبلغ المجد غيره      فما هو إلا للتسلق سُلَّمُ

فالمدرس هو الجندي المجهول، وهو المناضل الكبير، والمدرس متى ما كان مخلصاً فهو وريث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام -فهم يعلمون الحكمة ويعلمون الناس ويأمرون بها، والمدرس يستحق أكثر من مرور عابر- كما اقترح الأخ في محاضرة فهو يستحق حديثاً خاصاً، وسيكون ذلك -إن شاء الله- في أحد الدروس بعنوان: رسالة إلى مدرس.

زعماء الغرب يساوون وزنهم ذهباً في الكويت

أما فيما يتعلق بصناعة الحياة؛ فقد وقفت في هذا الأسبوع على قصاصة في إحدى صحفنا المحلية، وهي جريدة الرياض، وقد تستغربون ما علاقة هذا الموضوع بصناعة الحياة، وسوف أقرأ عليكم الخبر أولاً، ثم لابد أن سوف يظهر لكم ما علاقته بصناعة الحياة.

والخبر قد نشرته جريدة الرياض وليس بين يدي رقم العدد، وإن كنت أقرأ من مصورة الجريدة، يقول العنوان: زعماء الغرب يساوون وزنهم ذهباً في الكويت، فبعد عبد الله جورج وشناشيل بوش الأكثر رواجاً، وتاتشر نجمة سوق الصاغة، يقول الخبر: لا يزال القادة الغربيون يساوون وزنهم ذهباً في الكويت بعد سبعة أشهر من انتصار قوات التحالف الدولي لتحريرها من الاحتلال العراقي.

ففي سوق الصاغة بوسط العاصمة أطلق هؤلاء أسماء بوش وبيكر وتاتشر على نماذجهم المفضلة من العقود والأساور دليلاً على الشعبية في بلد ليس فيه استطلاعات رأي، وفي حين غاب الرئيس ميتران عن الواجهات فإن رئيسة الوزراء البريطانية السابقة تاتشر هي النجمة، ويسعى التجار بذلك إلى رد الجميل للتي يعتبرونها أكثر القادة الغربيين صلابة، ويشرح أحدهم: فيقول: لقد وقفت إلى جانبنا فور الغزو العراقي.

ورسم تاتشر مزين بخطوط منحنية تتقاطع فوق خلفية من الذهب المفرغ، ويزين رسم الرئيس الأمريكي جورج بوش طوق زواج ضخم من الذهب الخالص، مثقل بالسنشيل يتصدر سائر الواجهات، ويوضح أحد الصاغة أن ثمن العقد ألفان وخمسمائة دينار، أي نحو ثمانية آلاف وخمسمائة دولار.

بينما تساوي أحزمة ثقيلة مخصصة لمهور العرائس نحو ثلاثة أضعاف هذا السعر، والبدو -خصوصاً- يطلبون نموذج بوش لأ المفضل لديهم، وعلى باب المحل ملصق كبير للرئيس الأمريكي مبتسماً، أما جون ميجر خليفة المرأة الحديدية، وكذلك المتحدثة باسم البيت الأبيض، ووزير الخارجية الأمريكي لقد كرموا بجواهر أكثر تواضعاً إلى جانب نماذج أسكود -صواريخ أطلقها العراقيون خلال الحرب- وعاصفة الصحراء.

وقال صائغ: إن الموضة بدأت بعد تحرير البلاد، والنماذج ستستمر على الأرجح عاماً أو عامين، وداخل المحل تتفحص نسبة من المحجبات المجوهرات، وهن يرقبن الرسوم بعين خبيرة ويجربنها برشاقة، ويباع الذهب في الكويت حالياً، إلى أن يقول: ولا يقتصر هذا التمجيد للقادة الغربيين -وعلى الأخص الرئيس الأمريكي- على سوق الذهب وحده؛ بل هي ظاهرة واسعة الانتشار عمت المجتمع منذ اللحظات الأولى لتحرير الكويت!!

بل إن أحد المواطنين الكويتيين لم يتردد في تسمية المولود بعبد الله جورج بوش! وقالت أم الطفل عبد الله جورج بوش وذكر اسم أمه تعليقاً على هذا الاسم لمولودها: سمينا الطفل على اسم الرئيس الأمريكي كبادرة عرفان لتحرير بلادنا.

ولقد ضحكتم ولا بد أنكم بكيتم في نفس الوقت: وشر البلية ما يضحك، وكم يؤسفنا ويحزننا أن نقول: إن أعداءنا الكبار عرفوا كيف يصنعون الحياة! عرفوا كيف يصنعونها لأديانهم، ولمذاهبهم، ولمعتقداتهم، ولمصالح بلادهم، فأصبح المسلمون مدينين في أعماق قلوبهم لهؤلاء الكبار؛ وما رسم صورهم أو إطلاق أسمائهم على محلات أو شوارع أو أشخاص؛ إلا تعبير عن هزيمة قلبية داخلية، بحيث أصبحت النماذج المفضلة في نفوس المسلمين، أو طائفة من المسلمين، هي تلك الرموز الوثنية التي لم تكن عملت ما عملت من أجل سواد عيوننا؛ إنما كانت تعتبر هذا جزءاً من صناعة الحياة.

لقد صنعوا الحياة حيناً باسم الولايات المتحدة الأمريكية وصنعوها حيناً آخر باسم هيئة الأمم المتحدة، وصنعوها حيناً ثالثاً باسم النظام الدولي الجديد، وهو الستار الجديد المعلن الذي يخفي مطامع الغرب في بلاد الدنيا وخاصة في بلاد المسلمين، وقد صنعوا الحياة حيناً باسم الدفاع عن مصالح الشعوب المستضعفة، وصنعوها أحياناً كثيرة باسم الديمقراطية التي تخفي وراءها دكتاتورية تتدجج بالحديد والنار، لإجبار العالم كله على الخضوع والتسليم والانقياد لمصالح الغرب، وصنعوا الحياة مرة سادسة؛ باسم حماية مصالح اليهود في العالم، وفي الشرق العربي والإسلامي بصفة خاصة.

فهذا نموذج من صناعة الحياة، وصحيح أن الصانع كافر، وصحيح أنه متعصب لدينه وملته، وهو يتردد على الكنيسة كلما ألمت به أزمة؛ ولكنه يصنع الحياة، واستطاع أن يغرر بالكثيرين باسم الديمقراطية وباسم النظام الدولي الجديد، وباسم مصالح الشعوب، وباسم تحرير الإنسانية، وباسم نـزع السلاح؛ وبكافة الأسماء، فهم قد صنعوا نموذجاً لحياتهم، ومع ذلك -ومع أن هذا يؤذي الكثير من النفوس- إلا أننا نملك نصاً نبوياً يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: {حق على الله ألا يرتفع شيء إلا وضعه}.

فإذا كان هؤلاء الغربيون الذين ذكر الخبر -في جريدة الرياض السعودية- أسماءهم، قد أصبح لهم من الثقل ما لهم، وأصبحت الصحف تزين بذكر أخبارهم أو صورهم، وأصبح تمجيدهم كما عبرت الجريدة هماً للكثيرين، فإننا نعلم أن هذا نهاية المجد الذي يطلبون ويؤملون، وأنه حق على الله ألا يرتفع شيء إلا وضعه، والذي أسقط الشيوعية بالأمس سيسقط الرأسمالية اليوم أو غداً أو بعد غد.

فأين المسلمون! الذين يمكن أن يقوموا بعمارة الدنيا وخلافتها، بديلاً عن الشرق أو الغرب؟

وهنا نسأل أنفسنا: أين محاضن الأطفال المسلمين والأيتام؟!

أين دور العجزة والفقراء؟!

أين المدارس الخيرية؟!

أين المستشفيات؟!

أين المؤسسات الخيرية؟!

أين المؤسسات الاقتصادية؟!

أين الخدمات المجانية -أو شبه المجانية- التي يمكن أن تقدم للمسلمين، والتي تنقذهم من براثن الجهل والمرض والفقر، ذلك الثالوث الخطير الذي يفتك بالمسلمين؟

قد يقول قائل: المسلمون لا يملكون شيئاً، أو يقول: الدعاة إلى الله تعالى في أكثر بقاع الأرض هم أفقر الناس!

فأقول: هذا صحيح من جانب، لكن لا يجوز أبداً أن نعتبر هذا كافياً في تعليل ما يجرى، فإننا نجد أن هذا نوعٌ من الهروب من المسئولية، وكم من الدعاة إلى الله تعالى لم يفكروا أصلاً في هذا الموضوع! ولو أن الإنسان اعتبر هذا أحد الاهتمامات التي يجب أن يهتم بها، وينبغي أن يفكر فيها، فإنه لا بد أن يتفتق ذهنه عن وسائل ناجحة، وكما يقال: الحاجة أم الاختراع، ومع الصبر والوقت والتفكير والمحاولة يمكن أن يفعل الدعاة الكثير والكثير مما ينفع في هذا، بشرط أن تصبح إقامة الجسور مع الأمة هماً يسيطر على قلوب الدعاة إلى الله تعالى.

وما زال الكثير من أثرياء الأمة وتجارها وأغنيائها ووجهائها لديهم ثقة بالدعاة إلى الله عز وجل، وإمكانية أن يتعاونوا معهم، بحيث تنتقل رءوس الأموال التي توجد في بلد من بلاد المسلمين؛ لينتفع بها المسلمون في كل مكان عن طريق الدعاة الصادقين، وليس عن طريق الصليب الأحمر الدولي -مثلاً- أو عن طريق المؤسسات التنصيرية التي ربما وزعت على المسلمين أموال المسلمين وابتزتهم بها، ودعتهم بها إلى النصرانية!!

إذاً: يجب أن يكون الدعاة إلى الله تعالى والمخلصون هم الجسر الذي تعبر عليه أموال المسلمين وإمكانياتهم إلى إخوانهم المحتاجين في كل مكان من الأرض.

فالداعية لا يحتاج كثيراً إلى أن ينفق من جيبه، بل يكفي أن يكون لديه الاستعداد لأن يكون وسيطاً، وإذا علم تجار المسلمين -وهم كثير، وفيهم خير كثير، وفيهم ثقة بالدعاة إلى الله تعالى- أن دعاة موثوقين صادقين يمكن أن يقوموا بمثل هذه المهمات؛ فإنهم لن يترددوا أبداً في إعانتهم ومساعدتهم.

وأيضاً: لا بد -أيها الأحبة- أن نقنع أنفسنا بأهمية الموضوع من جهة أخرى، ثم أن نقنع أنفسنا بإمكانية أن نفعل شيئاً، فالإنسان اليائس لا يمكن أن ينتج، والذي يقول: ليس في يدي حيلة، هذا محكوم عليه أنه كالميت لا يمكن أن يقدم لأمته شيئاً؛ لكن إذا كان لديه همة عالية، فالهمم العالية تزيل الجبال.

أيها الأحبة: لقد وجه إليّ الإخوة كثيراً من الأسئلة في المجلس السابق، ورأيت -أيضاً- أن أعرج عليها في موضوع صناعة الحياة، فأحد الأحبة أعجبتني صياغة سؤاله، فهو يقول: في صناعة الحياة قمت بصناعة البيت بمشيئة الله تعالى، وهو جعل درس للنساء لحفظ القرآن على قسمين:

1- النساء الكبيرات، وأول شيء يحفظنه هو آية الكرسي مع تفسيرها.

2- الأخوات وزوجات إخوتي، والمقرر هو حفظ بعض سورة (ق)، ثم درس في السيرة، فما رأيكم في ذلك؟

فأقول: هذا الجهد وإن كان في نظر بعض الناس جهد المقل، إلا أنه مساهمة فعالة في صناعة الحياة، وحين نقول: صناعة الحياة أو صياغتها فإننا نطلب من كل إنسان أن يشارك في ذلك ولو بأقل جهد.

وليس بالضرورة أن يكون كل واحد منا صانعاً للحياة على مستوى العالم، بل من الممكن أن تبدأ صناعة الحياة على مستوى البيت، أو الفصل الذي تدرس فيه، أو الحي الذي تسكن فيه، أو المسجد الذي تصلي فيه.

وكذلك هذا الأخ يقول: لاحظت في معظم تلك المحاضرة عدم المرور على المربين والمدرسين وما يهمهم من صناعة الحياة، فأرجو منك أن تتعرض لهذا الموضوع.

وأقول: إن المدرس يصنع الحياة كثيراً، وليس غريباً أن الطبيب تتلمذ على يد المدرس، والمهندس تتلمذ على يد المدرس، والداعية والخبير وكل أصناف المختصين تلقوا من المدرس، ولهذا لا غرابة أن يتكلم أحد الشعراء -وهو الشاعر محمود غنيم- راثياً لحال المدرس، ومعبراً عن واقعه ومشاعره، فيقول:

حنانيك إني قد بليت بصبيةٍ      أروح وأغدو كل يوم عليهمُ

صغار نربيهم بملء عقولهم      ونبنيهم لكننا نتهدمُ

فمن كان يرثي قلبه لمعذب      فأجدر شخص بالرثاء المعلمُ

على كتفيه يبلغ المجد غيره      فما هو إلا للتسلق سُلَّمُ

فالمدرس هو الجندي المجهول، وهو المناضل الكبير، والمدرس متى ما كان مخلصاً فهو وريث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام -فهم يعلمون الحكمة ويعلمون الناس ويأمرون بها، والمدرس يستحق أكثر من مرور عابر- كما اقترح الأخ في محاضرة فهو يستحق حديثاً خاصاً، وسيكون ذلك -إن شاء الله- في أحد الدروس بعنوان: رسالة إلى مدرس.

أما فيما يتعلق بصناعة الحياة؛ فقد وقفت في هذا الأسبوع على قصاصة في إحدى صحفنا المحلية، وهي جريدة الرياض، وقد تستغربون ما علاقة هذا الموضوع بصناعة الحياة، وسوف أقرأ عليكم الخبر أولاً، ثم لابد أن سوف يظهر لكم ما علاقته بصناعة الحياة.

والخبر قد نشرته جريدة الرياض وليس بين يدي رقم العدد، وإن كنت أقرأ من مصورة الجريدة، يقول العنوان: زعماء الغرب يساوون وزنهم ذهباً في الكويت، فبعد عبد الله جورج وشناشيل بوش الأكثر رواجاً، وتاتشر نجمة سوق الصاغة، يقول الخبر: لا يزال القادة الغربيون يساوون وزنهم ذهباً في الكويت بعد سبعة أشهر من انتصار قوات التحالف الدولي لتحريرها من الاحتلال العراقي.

ففي سوق الصاغة بوسط العاصمة أطلق هؤلاء أسماء بوش وبيكر وتاتشر على نماذجهم المفضلة من العقود والأساور دليلاً على الشعبية في بلد ليس فيه استطلاعات رأي، وفي حين غاب الرئيس ميتران عن الواجهات فإن رئيسة الوزراء البريطانية السابقة تاتشر هي النجمة، ويسعى التجار بذلك إلى رد الجميل للتي يعتبرونها أكثر القادة الغربيين صلابة، ويشرح أحدهم: فيقول: لقد وقفت إلى جانبنا فور الغزو العراقي.

ورسم تاتشر مزين بخطوط منحنية تتقاطع فوق خلفية من الذهب المفرغ، ويزين رسم الرئيس الأمريكي جورج بوش طوق زواج ضخم من الذهب الخالص، مثقل بالسنشيل يتصدر سائر الواجهات، ويوضح أحد الصاغة أن ثمن العقد ألفان وخمسمائة دينار، أي نحو ثمانية آلاف وخمسمائة دولار.

بينما تساوي أحزمة ثقيلة مخصصة لمهور العرائس نحو ثلاثة أضعاف هذا السعر، والبدو -خصوصاً- يطلبون نموذج بوش لأ المفضل لديهم، وعلى باب المحل ملصق كبير للرئيس الأمريكي مبتسماً، أما جون ميجر خليفة المرأة الحديدية، وكذلك المتحدثة باسم البيت الأبيض، ووزير الخارجية الأمريكي لقد كرموا بجواهر أكثر تواضعاً إلى جانب نماذج أسكود -صواريخ أطلقها العراقيون خلال الحرب- وعاصفة الصحراء.

وقال صائغ: إن الموضة بدأت بعد تحرير البلاد، والنماذج ستستمر على الأرجح عاماً أو عامين، وداخل المحل تتفحص نسبة من المحجبات المجوهرات، وهن يرقبن الرسوم بعين خبيرة ويجربنها برشاقة، ويباع الذهب في الكويت حالياً، إلى أن يقول: ولا يقتصر هذا التمجيد للقادة الغربيين -وعلى الأخص الرئيس الأمريكي- على سوق الذهب وحده؛ بل هي ظاهرة واسعة الانتشار عمت المجتمع منذ اللحظات الأولى لتحرير الكويت!!

بل إن أحد المواطنين الكويتيين لم يتردد في تسمية المولود بعبد الله جورج بوش! وقالت أم الطفل عبد الله جورج بوش وذكر اسم أمه تعليقاً على هذا الاسم لمولودها: سمينا الطفل على اسم الرئيس الأمريكي كبادرة عرفان لتحرير بلادنا.

ولقد ضحكتم ولا بد أنكم بكيتم في نفس الوقت: وشر البلية ما يضحك، وكم يؤسفنا ويحزننا أن نقول: إن أعداءنا الكبار عرفوا كيف يصنعون الحياة! عرفوا كيف يصنعونها لأديانهم، ولمذاهبهم، ولمعتقداتهم، ولمصالح بلادهم، فأصبح المسلمون مدينين في أعماق قلوبهم لهؤلاء الكبار؛ وما رسم صورهم أو إطلاق أسمائهم على محلات أو شوارع أو أشخاص؛ إلا تعبير عن هزيمة قلبية داخلية، بحيث أصبحت النماذج المفضلة في نفوس المسلمين، أو طائفة من المسلمين، هي تلك الرموز الوثنية التي لم تكن عملت ما عملت من أجل سواد عيوننا؛ إنما كانت تعتبر هذا جزءاً من صناعة الحياة.

لقد صنعوا الحياة حيناً باسم الولايات المتحدة الأمريكية وصنعوها حيناً آخر باسم هيئة الأمم المتحدة، وصنعوها حيناً ثالثاً باسم النظام الدولي الجديد، وهو الستار الجديد المعلن الذي يخفي مطامع الغرب في بلاد الدنيا وخاصة في بلاد المسلمين، وقد صنعوا الحياة حيناً باسم الدفاع عن مصالح الشعوب المستضعفة، وصنعوها أحياناً كثيرة باسم الديمقراطية التي تخفي وراءها دكتاتورية تتدجج بالحديد والنار، لإجبار العالم كله على الخضوع والتسليم والانقياد لمصالح الغرب، وصنعوا الحياة مرة سادسة؛ باسم حماية مصالح اليهود في العالم، وفي الشرق العربي والإسلامي بصفة خاصة.

فهذا نموذج من صناعة الحياة، وصحيح أن الصانع كافر، وصحيح أنه متعصب لدينه وملته، وهو يتردد على الكنيسة كلما ألمت به أزمة؛ ولكنه يصنع الحياة، واستطاع أن يغرر بالكثيرين باسم الديمقراطية وباسم النظام الدولي الجديد، وباسم مصالح الشعوب، وباسم تحرير الإنسانية، وباسم نـزع السلاح؛ وبكافة الأسماء، فهم قد صنعوا نموذجاً لحياتهم، ومع ذلك -ومع أن هذا يؤذي الكثير من النفوس- إلا أننا نملك نصاً نبوياً يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: {حق على الله ألا يرتفع شيء إلا وضعه}.

فإذا كان هؤلاء الغربيون الذين ذكر الخبر -في جريدة الرياض السعودية- أسماءهم، قد أصبح لهم من الثقل ما لهم، وأصبحت الصحف تزين بذكر أخبارهم أو صورهم، وأصبح تمجيدهم كما عبرت الجريدة هماً للكثيرين، فإننا نعلم أن هذا نهاية المجد الذي يطلبون ويؤملون، وأنه حق على الله ألا يرتفع شيء إلا وضعه، والذي أسقط الشيوعية بالأمس سيسقط الرأسمالية اليوم أو غداً أو بعد غد.

فأين المسلمون! الذين يمكن أن يقوموا بعمارة الدنيا وخلافتها، بديلاً عن الشرق أو الغرب؟

وبعد هذا وذاك فإنني أيضاً أستسميحكم في اقتطاع جزء من الوقت على أهمية موضوع هذه الليلة في قراءة هذا البيان الصادر من جماعة من العلماء والدعاة في هذا البلد، حول ما جرى وما يجري في أفغانستان.

يقول هذا البيان الذي وقعه جماعة من العلماء على رأسهم سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعــد:

فغير خاف على أحد ما يجري في أفغانستان من الخلاف، وما ترتب على ذلك من تفاقم الأمر في صفوف الأمة من الدعاة، والخطباء، وطلبة العلم، وعموم الشباب وسائر الناس، من جراء الخوض في هذه المسألة دون تثبت ولا علم ولا بصيرة، نصرة لطرف على طرف، أو هجوماً على طرف، أو دفاعاً عن طرف من أطراف النـزاع، وإننا نناشد جميع المسلمين وخاصة الشباب الغيور على قضايا الأمة؛ بالكف عن الخوض في هذه المسألة بأي صورة، تأييداً أو تنديداً لما ينجم عن ذلك من تفرق كلمة أهل الخير في كل مكان، وتشتت آرائهم واختلاف قلوبهم، وربما أدى ذلك إلى التشاحن والتطاحن والتباغض! وأوصل بعضهم إلى الولاء والبراء! والحب والبغض، والاشتغال بتصنيف الناس على حسب مواقفهم من هذه القضية! وإن أخشى ما يخشاه العقلاء أن تكون ثمة أصابع خفية تهدف إلى زعزعة وحدة الأمة لصالح أعداء الإسلام من الشرق والغرب!

فأفضل وسيلة لتفويت الفرصة على العدو هي ترك الخوض في هذه المسألة نهائياً، والإعراض عنها بالكلية، والاشتغال بما هو أجدى وأهم؛ من طلب العلم، والدعوة إليه، والإقبال على العبادة، وتهذيب السلوك، وتصفية القلوب من لوثات الحقد والحسد والبغضاء التي يبذرها الشيطان في نفوس الناس، علماً أن ثمة جهوداً طيبة من جهات عديدة تتدخل بهدف الإصلاح بين الأطراف المتنازعة، وقد قطعت في هذا المجال شوطاً كبيراً، ولعل ترك الخوض في هذه المسألة مما يساعد هذه اللجان على أداء مهمتها، وستعلن نتيجة ذلك قريباً إن شاء الله.

كما أن على الجميع السعي لنشر العقيدة الصحيحة في نفوس المسلمين في سائر الأقطار، بالأسلوب الحكيم المناسب البعيد عن التنفير، وبكافة الوسائل المتاحة، كالدعوة، والتعليم، وطباعة الكتب، ونشر الأشرطة المفيدة، وغير ذلك، وإننا إذ نعتبر هذه مسئولية الجميع؛ فإنها منوطة بصفة خاصة بمن أعطاهم الله تعالى مزيداً من العلم والبصيرة في الدعوة أو الجاه أو المال.

فنأمل من إخواننا المسلمين مراعاة ذلك والسعي لتنفيذه بقدر الإمكان، كما نناشد إخواننا المجاهدين الأفغان وقادتهم خاصة السعي لجمع كلمة المجاهدين ولم صفوفهم تحت راية عقيدة أهل السنة والجماعة، والحرص على حقن الدماء ووحدة الصف، امتثالاً لقوله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً [آل عمران:103] وقوله: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46] وقوله: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105].

نسأل الله للجميع التوفيق لصالح القول والعمل إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ولا أرى حرجاً أن أقرأ عليكم أسماء المشايخ الموقعين؛ لأن هذا مما يزيد من توثيق هذا البيان:

سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك، الشيخ عبد الله بن حسن بن قعود، العبد الفقير المتحدث إليكم، الشيخ سفر بن عبد الرحمن الحوالي، الشيخ محمد بن سعيد القحطاني، الشيخ سعيد بن زعير، الشيخ عائض القرني، الشيخ ناصر العمر، الشيخ سعيد بن ناصر الغامدي، الشيخ سعيد بن عبد الله الحميد، الشيخ عبد الوهاب بن الناصر الطريري، الشيخ عوض بن محمد القرني، الشيخ حمود بن عبد الله التويجري، الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين، الشيخ عبد المحسن بن ناصر العبيكان، الشيخ عبد الله بن حمود التويجري، الشيخ سعود بن عبد الله آل فنيسان، الشيخ ناصر بن عبد الكريم العقل، الشيخ سلطان بن عبد المحسن الخميس، الشيخ أحمد بن صالح السناني.

أما بعد:

فالآن مع: أدب الحوار.

أيها الأحبة: الموضوع كبير وخطير، ولعلي جُرت عليه بعض الجور حينما اقتطعت كثيراً منه لهذه المقدمات التي رأيت أنه لا بد منها، وأن التعليق في مناسبتها أرجح وأولى.

إن الخلاف بين الناس أمر طبعي وذلك لأسباب كثيرة؛ فقد يكون الخلاف في أمور الدين والشرع بسبب أن جزءاً كبيراً من النصوص الشرعية دلالته ظنية وليس قطعي الدلالة على المقصود، وقد يكون الخلاف بسبب اختلاف العقول والأفهام وتباين المدارك، وقد يكون الخلاف بسبب العلم، فهذا عالم، وهذا أعلم، وهذا أقل، قال تعالى: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [يوسف:76] وقد ينسى العالم نصاً من النصوص فيقول بغير ما يدل عليه، وقد يكون من أسباب الخلاف -أحياناً- الهوى والتعصب لقول أو مذهب أو رأي أو شيخ.

وحينما يختلف الناس سواء كانت اختلافات كلية أو اختلافات جزئية، يسلكون في معالجة هذا الخلاف مسالك شتى.

الحرب كمسلك لحل الخلاف

المسلك الأول: الحرب، فالحرب أحياناً وسيلة لحل الخلاف، وإنهاء الخصومات، وإثبات الحجة، والواقع أن الحرب لا تصلح أن تكون هي الحل الأول في ذلك؛ إذ أننا نجد أن كثيراً من المبادئ والنظريات التي قامت على القوة، وعلى الحديد والنار، سرعان ما تهاوت وسقطت! وهذه الشيوعية اليوم هي خير شاهد، فقد دعمت بالحديد والنار، وكانت أجهزة (k.b.g) -المخابرات السوفيتية- تلاحق المنشقين، والمعارضين والمحاربين بكافة الوسائل، وتجند مئات الألوف من العملاء؛ فضلاً عن الكثافة العديدة في القوات العسكرية لـالاتحاد السوفيتي التي تعتبر أكثر من ثلاثة أضعاف القوات في الولايات المتحدة الأمريكية.

ومع ذلك كله، ومع البطش والإرهاب سقطت الشيوعية خلال أقل من ثمانين عاماً، على حين أن الوجه الآخر للحضارة المادية المنحرفة، وهو وجه الرأسمالية، ما زال حتى الآن يصارع الموج، وما زال حياً باقياً، وربما أقول قوياً ممكناً في الأرض، وليس ذلك لأنه مؤمن بالله عز وجل، ولكن لأنه سلك الأسلوب الذي يمكن التعبير عنه بأنه أسلوب ديمقراطي، على الأقل في بعض أساليبه وطرائقه ومعاملاته لشعوبه، فكان أبقى وأرسخ من النمط الشيوعي الشرقي المتعسف.

ولذلك قال الله تعالى في القرآن الكريم: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [البقرة:256] نعم قد شن المسلمون حروباً، لكن هذه الحروب لم تكن بهدف إكراه أحد على الدخول في الإسلام، بل كانت بهدف إزالة الطواغيت التي تحول بين الناس وبين الدخول في الدين وتضغط عليهم وتكرههم على ترك الدين والدينونة بالكفر وبما يريد الطواغيت.

ولم يحفظ التاريخ أن المسلمين أكرهوا شخصاً واحداً على الدخول في الإسلام، بل كان المسلمون إذا هاجموا أهل قرية أو حصن أو بلد خيروهم بين ثلاثة أمور: إما الإسلام؛ فإذا أسلموا قبلوا منهم وكفوا عنهم، فإن لم يسلموا طلبوا منهم الجزية، وأن يدينوا لحكم المسلمين، فإذا أعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون كفَّ المسلمون عنهم، وأقروهم على ما كانوا عليه، فإن أبوا؛ استعانوا بالله تعالى وقاتلوهم.

فعلى كل حال الطريقة الأولى لحل الخلافات هي طريقة الحرب.

طريقة الحوار

الطريقة الثانية هي: طريقة الحوار، وهو أسلوب حديثنا اليوم، ولا أريد بحديثي عن الحوار أن أجحف بحق الجهاد في سبيل الله تعالى، فللجهاد أحاديثه، وللجهاد مجالاته، وقد سبق أن تحدثت في درس بعنوان: حي على الجهاد، وتكلمت فيه عن موضوع الجهاد في سبيل الله، وإنما حديثي اليوم عن وجه آخر، سواء كان الحوار مع كافر بهدف دعوته إلى الإسلام، أو كان مع مسلم.

والحوار أحياناً -أيها الأحبة- كما يقال: أقوى من الكلاشنكوف، وأقوى من القنابل، والصواريخ، والدبابات والمدفعيات؛ لأنه يعتمد على القناعات الداخلية، وعلى القناعات الذاتية، وربما أفلح الحوار فيما لم تفلح فيها الحروب الطاحنة! وأنا أذكر لكم حادثتين تاريخيتين قديمتين:

وكلا الحادثتين تتعلق بطائفة الخوارج، الخوارج من المعروف في تاريخ الإسلام أنهم من أكثر الناس ضراوة في الحروب، وشجاعة وبسالة، حتى إن الناس كانوا يرهبون منهم، حتى النساء اللاتي التحقن بـالخوارج كنَّ يبدين من ضروب البسالة والشجاعة في الحروب ما تندهش منه العقول! حتى إن الحجاج هرب من بعض النساء، فسخر منه الساخرون وقالوا له:

هلاّ برزت إلى غزالة في الوغى      بل كان قلبك في جناحي طائرِ

وهرب منها بعض القواد فعيروه بذلك.

فـالخوارج كانوا شجعاناً، بسلاء، أقوياء، على ما كانوا عليه من الباطل والضلال المبين! فلننظر كيف فعل فيهم الحوار.

كما ذكر الباقلاني والسكوني والشاطبي وغيرهم أن علي بن أبي طالب بعث ابن عباس إلى الخوارج، المسمين بـالحرورية، فذهب إليهم ابن عباس رضي الله عنه وعليه حلية جميلة، فلما أقبل قالوا له: يا ابن عباس! ما الذي جاء بك؟

وما هذه الثياب عليك؟

فقال: أما الثياب التي علي فما تنقمون مني، فوالله لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه حلة ليس أحد أحسن منه، ثم تلا عليهم قوله تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الأعراف:32].

فقالوا: وما الذي جاء بك يا ابن عباس؟ قال: جئتكم من عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وليس فيكم أنتم يا معشر الخوارج واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وجئتكم من عند ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني علي بن أبي طالب- وعليهم نـزل القرآن، وهم أعلم بتأويله، جئت لأبلغكم عنهم وأبلغهم عنكم، فأنا رسول بينكم وبينهم، ووسيط بينكم وبينهم.

فقال بعضهم: لا تحاوروا ابن عباس ولا تخاصموه! فإن الله تعالى يقول عن قريش: بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [الزخرف:58] -خافوا من الهزيمة- فقالوا: اتركوا مجادلته لأنه جَدِل خَصِم، وقال بعضهم: لا بل نكلمه ولننظر ماذا يقول؟

قال ابن عباس رضي الله عنه: فكلمني منهم اثنان أو ثلاثة، فقال لهم: ماذا تنقمون على علي بن أبي طالب رضي الله عنه؟

قالوا: ننقم عليه ثلاثة أمور، قال: هاتوا؟

قالوا: الأول أن علي بن أبي طالب حكم الرجال في كتاب الله -يعني بعث حكماً منه وحكماً من معاوية رضي الله عنه، وقصة التحكيم معروفة- والله تعالى يقول: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [الأنعام:57].

قال: هذه واحدة فما هي الثانية؟

قالوا:الثانية أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قاتل ولم يَسْبِ -قاتلهم وما سبى نسائهم- فلئن كانوا مسلمين فقتالهم حرام، ولئن كانوا كفاراً فلماذا لم يَسْبِ؟

قال: وهذه أخرى، فما هي الثالثة؟ قالوا: الثالثة أنه نـزع نفسه من إمرة المؤمنين لما كتب الكتاب، فلم يكتب أمير المؤمنين وكتب علي بن أبي طالب! قال: أو قد فرغتم؟ قالوا: نعم.

قال: أما الأولى، وهي قولكم حكم الرجال في كتاب الله تعالى، فإن الله تعالى يقول في محكم التنـزيل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ [المائدة:95] فذكر الله تعالى حكم ذوي عدل فيما قتله الإنسان من الصيد، سألتكم بالله تعالى، ألتحكيم في دماء المسلمين وأموالهم أعظم أم التحكيم في ما قتله الإنسان من الصيد؟

قالوا: لا، بل التحكيم في دماء المسلمين وأموالهم.

قال: فإن الله تعالى يقول في كتابه: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا [النساء:35] ناشدتكم الله تعالى ألتحكيم في دماء المسلمين وأموالهم أهم أو التحكيم في بضع امرأة؟

قالوا: لا التحكيم في دماء المسلمين وأموالهم، قال: انتهت الأولى؟

قالوا: نعم، فالثانية.

قال: أما الثانية: فهي قولكم قاتل ولم يَسْبِ -لم يأخذ نساء من قاتلهم- فهل تسبون أمكم عائشة رضي الله عنها -لأنها كانت في الطرف الآخر- وتستحلون منها ما يستحل الرجال من النساء؟!

إن قلتم ذلك كفرتم! وإن قلتم ليست بأمنا أيضاً كفرتم، لأنها أم المؤمنين!! فاستحوا من ذلك وخجلوا، قالوا: فالثالثة...

قال: أما قولكم خلع نفسه من إمرة المؤمنين، وإذا لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما عقد كتاب الصلح مع أبي سفيان وسهيل بن عمرو في صلح الحديبية قال: اكتب، هذا ما صالح عليه محمد رسول الله، قالوا: لو كنا نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك ولا منعناك، اكتب اسمك واسم أبيك، فمحى النبي صلى الله عليه وسلم الكتابة، وكتب هو أو علي هذه مسألة يطول الكلام فيها من محمد بن عبد الله، فرجع منهم عن مذهب الخوارج ألفان، وبقيت بقيتهم فقتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

فانظر كيف أثر الحوار الهادئ القوي العميق في مثل هذه الرءوس اليابسة الناشفة، حتى رجع منهم في مجلس واحد لم يستغرق ربع ساعة ألفان إلى مذهب أهل السنة والجماعة.

المثال الآخر: وهو أيضاً يتعلق بهذه الطائفة العنيدة -طائفة الخوارج- أنهم حيث بقيت منهم في الموصل بقية؛ فكتب إليهم عمر بن عبد العزيز رحمه الله الخليفة الأموي العادل ينكر عليهم خروجهم، ويقول لهم: أنتم قليل أذلة!! فردوا عليه وقالوا: أما قولك: إنا قليل وأذلة، فإن الله تعالى يقول لأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأنفال:26] فردوا عليه بذلك، فوجه إليهم عمر بن عبد العزيز فقيهاً اسمه عون بن عبد الله، وهو أخو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة رضي الله عنهم ورحمهم أجمعين.

فقال لهم عون بن عبد الله: أنتم كنتم تطلبون حاكماً في مثل عدالة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلما جاءكم هذا الحاكم كنتم أنتم أول من نفر عنه وحاربه! قالوا: صدقت، ولكنه لم يتبرأ من الذين من قبله ولم يلعنهم -لم يلعن علي بن أبي طالب ولا معاوية ولا بني أمية- فنحن نحاربه لأنه لم يتبرأ من صنيع هؤلاء ولم يلعنهم! وهذا مذهب الخوارج.

قال لهم: أنتم كم مرة تلعنون هامان في اليوم؟

قالوا: ما لعناه قط، قال: أيسعكم أن تتركوا لعن وزير فرعون الطاغية، والمنفذ لأوامره، والذي بنى صرحه بأمره، ولا يسع هؤلاء أن يتركوا لعن أهل قبلتهم، إن كانوا أخطأوا في شيء أو عملوا بغير الحق؟

فسكتوا ورجع منهم طائفة كبيرة، فسر بذلك عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه، وقال لهذا الرجل: لماذا لم تحتج عليهم بعدم لعن فرعون، لماذا قلت لهم لم تلعنواهامان، ولم تقل: لم تلعنوا فرعون؟

قال: لو قلت لهم: لماذا لا تلعنون فرعون، ربما قالوا: إننا نلعنه، أما هامان فقل من يلعنه في ألسنة الناس، فلذلك اخترته! فسكت هؤلاء، ثم خرجوا في ولاية يزيد بن عبد الملك فقاتلهم.

والمهم يقول السكوني في عيون المناظرات: فكانت حجة عمر أبلغ من قتالهم بالسيف.

وهكذا يتبين لك أن الحجة القوية، والحوار الهادئ الرزين من صاحب عقل وفهم وعلم في كثير من الأحيان يفعل ما لا تفعله السيوف، وما لا يفعله الكلاشينكوف.

المسلك الأول: الحرب، فالحرب أحياناً وسيلة لحل الخلاف، وإنهاء الخصومات، وإثبات الحجة، والواقع أن الحرب لا تصلح أن تكون هي الحل الأول في ذلك؛ إذ أننا نجد أن كثيراً من المبادئ والنظريات التي قامت على القوة، وعلى الحديد والنار، سرعان ما تهاوت وسقطت! وهذه الشيوعية اليوم هي خير شاهد، فقد دعمت بالحديد والنار، وكانت أجهزة (k.b.g) -المخابرات السوفيتية- تلاحق المنشقين، والمعارضين والمحاربين بكافة الوسائل، وتجند مئات الألوف من العملاء؛ فضلاً عن الكثافة العديدة في القوات العسكرية لـالاتحاد السوفيتي التي تعتبر أكثر من ثلاثة أضعاف القوات في الولايات المتحدة الأمريكية.

ومع ذلك كله، ومع البطش والإرهاب سقطت الشيوعية خلال أقل من ثمانين عاماً، على حين أن الوجه الآخر للحضارة المادية المنحرفة، وهو وجه الرأسمالية، ما زال حتى الآن يصارع الموج، وما زال حياً باقياً، وربما أقول قوياً ممكناً في الأرض، وليس ذلك لأنه مؤمن بالله عز وجل، ولكن لأنه سلك الأسلوب الذي يمكن التعبير عنه بأنه أسلوب ديمقراطي، على الأقل في بعض أساليبه وطرائقه ومعاملاته لشعوبه، فكان أبقى وأرسخ من النمط الشيوعي الشرقي المتعسف.

ولذلك قال الله تعالى في القرآن الكريم: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [البقرة:256] نعم قد شن المسلمون حروباً، لكن هذه الحروب لم تكن بهدف إكراه أحد على الدخول في الإسلام، بل كانت بهدف إزالة الطواغيت التي تحول بين الناس وبين الدخول في الدين وتضغط عليهم وتكرههم على ترك الدين والدينونة بالكفر وبما يريد الطواغيت.

ولم يحفظ التاريخ أن المسلمين أكرهوا شخصاً واحداً على الدخول في الإسلام، بل كان المسلمون إذا هاجموا أهل قرية أو حصن أو بلد خيروهم بين ثلاثة أمور: إما الإسلام؛ فإذا أسلموا قبلوا منهم وكفوا عنهم، فإن لم يسلموا طلبوا منهم الجزية، وأن يدينوا لحكم المسلمين، فإذا أعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون كفَّ المسلمون عنهم، وأقروهم على ما كانوا عليه، فإن أبوا؛ استعانوا بالله تعالى وقاتلوهم.

فعلى كل حال الطريقة الأولى لحل الخلافات هي طريقة الحرب.

الطريقة الثانية هي: طريقة الحوار، وهو أسلوب حديثنا اليوم، ولا أريد بحديثي عن الحوار أن أجحف بحق الجهاد في سبيل الله تعالى، فللجهاد أحاديثه، وللجهاد مجالاته، وقد سبق أن تحدثت في درس بعنوان: حي على الجهاد، وتكلمت فيه عن موضوع الجهاد في سبيل الله، وإنما حديثي اليوم عن وجه آخر، سواء كان الحوار مع كافر بهدف دعوته إلى الإسلام، أو كان مع مسلم.

والحوار أحياناً -أيها الأحبة- كما يقال: أقوى من الكلاشنكوف، وأقوى من القنابل، والصواريخ، والدبابات والمدفعيات؛ لأنه يعتمد على القناعات الداخلية، وعلى القناعات الذاتية، وربما أفلح الحوار فيما لم تفلح فيها الحروب الطاحنة! وأنا أذكر لكم حادثتين تاريخيتين قديمتين:

وكلا الحادثتين تتعلق بطائفة الخوارج، الخوارج من المعروف في تاريخ الإسلام أنهم من أكثر الناس ضراوة في الحروب، وشجاعة وبسالة، حتى إن الناس كانوا يرهبون منهم، حتى النساء اللاتي التحقن بـالخوارج كنَّ يبدين من ضروب البسالة والشجاعة في الحروب ما تندهش منه العقول! حتى إن الحجاج هرب من بعض النساء، فسخر منه الساخرون وقالوا له:

هلاّ برزت إلى غزالة في الوغى      بل كان قلبك في جناحي طائرِ

وهرب منها بعض القواد فعيروه بذلك.

فـالخوارج كانوا شجعاناً، بسلاء، أقوياء، على ما كانوا عليه من الباطل والضلال المبين! فلننظر كيف فعل فيهم الحوار.

كما ذكر الباقلاني والسكوني والشاطبي وغيرهم أن علي بن أبي طالب بعث ابن عباس إلى الخوارج، المسمين بـالحرورية، فذهب إليهم ابن عباس رضي الله عنه وعليه حلية جميلة، فلما أقبل قالوا له: يا ابن عباس! ما الذي جاء بك؟

وما هذه الثياب عليك؟

فقال: أما الثياب التي علي فما تنقمون مني، فوالله لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه حلة ليس أحد أحسن منه، ثم تلا عليهم قوله تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الأعراف:32].

فقالوا: وما الذي جاء بك يا ابن عباس؟ قال: جئتكم من عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وليس فيكم أنتم يا معشر الخوارج واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وجئتكم من عند ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني علي بن أبي طالب- وعليهم نـزل القرآن، وهم أعلم بتأويله، جئت لأبلغكم عنهم وأبلغهم عنكم، فأنا رسول بينكم وبينهم، ووسيط بينكم وبينهم.

فقال بعضهم: لا تحاوروا ابن عباس ولا تخاصموه! فإن الله تعالى يقول عن قريش: بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [الزخرف:58] -خافوا من الهزيمة- فقالوا: اتركوا مجادلته لأنه جَدِل خَصِم، وقال بعضهم: لا بل نكلمه ولننظر ماذا يقول؟

قال ابن عباس رضي الله عنه: فكلمني منهم اثنان أو ثلاثة، فقال لهم: ماذا تنقمون على علي بن أبي طالب رضي الله عنه؟

قالوا: ننقم عليه ثلاثة أمور، قال: هاتوا؟

قالوا: الأول أن علي بن أبي طالب حكم الرجال في كتاب الله -يعني بعث حكماً منه وحكماً من معاوية رضي الله عنه، وقصة التحكيم معروفة- والله تعالى يقول: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [الأنعام:57].

قال: هذه واحدة فما هي الثانية؟

قالوا:الثانية أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قاتل ولم يَسْبِ -قاتلهم وما سبى نسائهم- فلئن كانوا مسلمين فقتالهم حرام، ولئن كانوا كفاراً فلماذا لم يَسْبِ؟

قال: وهذه أخرى، فما هي الثالثة؟ قالوا: الثالثة أنه نـزع نفسه من إمرة المؤمنين لما كتب الكتاب، فلم يكتب أمير المؤمنين وكتب علي بن أبي طالب! قال: أو قد فرغتم؟ قالوا: نعم.

قال: أما الأولى، وهي قولكم حكم الرجال في كتاب الله تعالى، فإن الله تعالى يقول في محكم التنـزيل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ [المائدة:95] فذكر الله تعالى حكم ذوي عدل فيما قتله الإنسان من الصيد، سألتكم بالله تعالى، ألتحكيم في دماء المسلمين وأموالهم أعظم أم التحكيم في ما قتله الإنسان من الصيد؟

قالوا: لا، بل التحكيم في دماء المسلمين وأموالهم.

قال: فإن الله تعالى يقول في كتابه: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا [النساء:35] ناشدتكم الله تعالى ألتحكيم في دماء المسلمين وأموالهم أهم أو التحكيم في بضع امرأة؟

قالوا: لا التحكيم في دماء المسلمين وأموالهم، قال: انتهت الأولى؟

قالوا: نعم، فالثانية.

قال: أما الثانية: فهي قولكم قاتل ولم يَسْبِ -لم يأخذ نساء من قاتلهم- فهل تسبون أمكم عائشة رضي الله عنها -لأنها كانت في الطرف الآخر- وتستحلون منها ما يستحل الرجال من النساء؟!

إن قلتم ذلك كفرتم! وإن قلتم ليست بأمنا أيضاً كفرتم، لأنها أم المؤمنين!! فاستحوا من ذلك وخجلوا، قالوا: فالثالثة...

قال: أما قولكم خلع نفسه من إمرة المؤمنين، وإذا لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما عقد كتاب الصلح مع أبي سفيان وسهيل بن عمرو في صلح الحديبية قال: اكتب، هذا ما صالح عليه محمد رسول الله، قالوا: لو كنا نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك ولا منعناك، اكتب اسمك واسم أبيك، فمحى النبي صلى الله عليه وسلم الكتابة، وكتب هو أو علي هذه مسألة يطول الكلام فيها من محمد بن عبد الله، فرجع منهم عن مذهب الخوارج ألفان، وبقيت بقيتهم فقتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

فانظر كيف أثر الحوار الهادئ القوي العميق في مثل هذه الرءوس اليابسة الناشفة، حتى رجع منهم في مجلس واحد لم يستغرق ربع ساعة ألفان إلى مذهب أهل السنة والجماعة.

المثال الآخر: وهو أيضاً يتعلق بهذه الطائفة العنيدة -طائفة الخوارج- أنهم حيث بقيت منهم في الموصل بقية؛ فكتب إليهم عمر بن عبد العزيز رحمه الله الخليفة الأموي العادل ينكر عليهم خروجهم، ويقول لهم: أنتم قليل أذلة!! فردوا عليه وقالوا: أما قولك: إنا قليل وأذلة، فإن الله تعالى يقول لأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأنفال:26] فردوا عليه بذلك، فوجه إليهم عمر بن عبد العزيز فقيهاً اسمه عون بن عبد الله، وهو أخو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة رضي الله عنهم ورحمهم أجمعين.

فقال لهم عون بن عبد الله: أنتم كنتم تطلبون حاكماً في مثل عدالة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلما جاءكم هذا الحاكم كنتم أنتم أول من نفر عنه وحاربه! قالوا: صدقت، ولكنه لم يتبرأ من الذين من قبله ولم يلعنهم -لم يلعن علي بن أبي طالب ولا معاوية ولا بني أمية- فنحن نحاربه لأنه لم يتبرأ من صنيع هؤلاء ولم يلعنهم! وهذا مذهب الخوارج.

قال لهم: أنتم كم مرة تلعنون هامان في اليوم؟

قالوا: ما لعناه قط، قال: أيسعكم أن تتركوا لعن وزير فرعون الطاغية، والمنفذ لأوامره، والذي بنى صرحه بأمره، ولا يسع هؤلاء أن يتركوا لعن أهل قبلتهم، إن كانوا أخطأوا في شيء أو عملوا بغير الحق؟

فسكتوا ورجع منهم طائفة كبيرة، فسر بذلك عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه، وقال لهذا الرجل: لماذا لم تحتج عليهم بعدم لعن فرعون، لماذا قلت لهم لم تلعنواهامان، ولم تقل: لم تلعنوا فرعون؟

قال: لو قلت لهم: لماذا لا تلعنون فرعون، ربما قالوا: إننا نلعنه، أما هامان فقل من يلعنه في ألسنة الناس، فلذلك اخترته! فسكت هؤلاء، ثم خرجوا في ولاية يزيد بن عبد الملك فقاتلهم.

والمهم يقول السكوني في عيون المناظرات: فكانت حجة عمر أبلغ من قتالهم بالسيف.

وهكذا يتبين لك أن الحجة القوية، والحوار الهادئ الرزين من صاحب عقل وفهم وعلم في كثير من الأحيان يفعل ما لا تفعله السيوف، وما لا يفعله الكلاشينكوف.

فالحوار مهم -أيها الأحبة- من جانبين:

الدعوة إلى الإسلام واتباع السنة

الأول: من جانب دعوة الناس إلى الإسلام وإلى السنة، فتعقد حوارات مع كفار لتقنعهم بأن دين الله حق لا شك فيه، أو مع مبتدعين منحرفين عن السنة لتدعوهم إلى السنة وتأمرهم بالتزامها، والقرآن الكريم حافل بنماذج من مثل هذه الحوارات التي جرت بين أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام مع أقوامهم، حتى إن قوم نوح قالوا لنوح: يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [هود:32] فأكثر جدالهم حتى تبرموا من كثرة جداله لهم، والجدال نوع من الحوار على أي حال.

أيها الأحبة: إننا بحاجة إلى أن نحاور أصحاب المذاهب، والنظريات، والأديان الأخرى بهدف دعوتهم إلى الله تعالى، فالحوار وسيلة من وسائل الدعوة، ولا يجوز أبداً أن تعتقدوا -كما يعتقد الكثيرون- أن العالم اليوم يعيش حالة إفلاس من النظريات، والعقائد، والمبادئ، والمثل!! بل العالم اليوم يعيش حالة تخمة في كثرة النظريات، والمبادئ، والعقائد، والمثل، والفلسفات، وصحيح أنها باطلة، ولكن هذا الركام الهائل من الباطل مدجج بأقوى أسلحة الدعوة والدعاية، ومدجج بالدعاة الذين تدربوا وتعلموا كيف يدافعون عن الباطل، حتى يصبح في نظر الناس حقاً!

أما أهل الحق فبئس ما عودوا أقرانهم! فإذا اجتمع من أهل الحق خمسة وتناقشوا في مسألة خرجوا فيها بتسعة آراء، ولا حول ولا قوة إلا بالله! ثم لا يحسن هؤلاء أن يناقش بعضهم بعضاً، ولا أن يحاور بعضهم بعضاً، إلا من خلال فوهات المدافع والبنادق، أو إذا لم يملكوها فمن خلال الأفواه التي تطلق من الكلمات الحارة الجارحة ما هو أشد فتكاً من الرصاص ومن القذائف!

الوصول إلى اليقين الصحيح في مسائل الخلاف

الهدف الأول هو دعوة الكفار إلى الإسلام، أو دعوة الضالين من المبتدعة إلى السنة.

أما الهدف الثاني: فهو الوصول إلى اليقين الصحيح أو الحق في مسألة اجتهادية اختلفت فيها وجهات النظر مما ليس فيه نص ولا إجماع، أي: مسألة اجتهادية اختلفت فيها أقوال العلماء أو أقوال المجتهدين وأقوال المتحدثين، فتكلم اثنان في محاورة ومناظرة للوصول إلى الحق، والمسألة ليس فيها نص صريح، وليس فيها إجماع لا يجوز تعديه، ولكنها من المسائل الاجتهادية، وليس من الضروري أيها الأخ الكريم! أن تعتقد أن نتيجة الحوار لا بد أن تكون إقناع الطرف الآخر بأن ما عندك حق وما عنده باطل، فليس هذا بلازم، وقد تقنع الإنسان بذلك، وأقل شيء تكسبه من طريقة الحوار إذا التزمت بالشروط الموضوعية للحوار؛ وأقل شيء تكسبه أن يعلم خصمك أن لديك حجة قوية، وأنك محاور جيد، وأن يأخذ انطباعاً بأنك إنسان موضوعي متعقل بعيد عن التشنج والهيجان والانفعال.

وكثير من الناس يظنون أن الآخرين لا يملكون الحق، وليس عندهم شيء، وأنهم مجرد مقلدين، فإذا حاوروهم علموا أن لديهم حججاً قوية، فأقل ما تكسبه هو أن تجعل أمام مناظرك علامة استفهام! وأقل شيء تكسبه أنه صار عنده تردد في مذهبه، ففتر حماسه لدينه، وقد تلتقي بنصراني -مثلاً- داعية إلى النصرانية فتناقشه، فمحتمل أنه يسلم -وهو خير كثير، وهو أرقى وأعلى ما تتمناه- لكن هناك احتمال ألا يسلم! فهل تعتبر أنك قد خسرت؟

لا، إذا لم يُسلم فربما صار عنده تفكير في الإسلام يدعوه إلى أن يبحث ويسلم ولو بعد حين، وإذا لم يفكر بذلك فعلى الأقل صار عنده شكوك في دينه، وإذا لم يحصل هذا فعلى أقل تقدير فتر شيء من الحماس الذي كان يحمله لدينه.

ونحن نجد أن المسلمين الذين يكثرون من الاحتكاك بأهل الكتاب، أو بالمنحرفين عن الإسلام، ويسمعون منهم الكثير؛ وإن لم يتركوا دينهم إلا أن حماسهم يقل ويفتر لدينهم من كثرة ما سمعوا من الأعداء حتى وهم على الحق، فما بالك بأهل الباطل إذا سمعوا نقد باطلهم! لا بد أن يفتر حماسهم له، أو يشكوا فيه أو يتراجعوا عنه.


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 5157 استماع
حديث الهجرة 5026 استماع
تلك الرسل 4157 استماع
الصومال الجريح 4148 استماع
مصير المترفين 4126 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4054 استماع
وقفات مع سورة ق 3979 استماع
مقياس الربح والخسارة 3932 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3874 استماع
العالم الشرعي بين الواقع والمثال 3836 استماع