القرآن الكريم ولسانه العربي
مدة
قراءة المادة :
6 دقائق
.
القرآن الكريم ولسانه العربيهناك إطار منهجي ينظم العلاقة بين القرآن الكريم واللسان العربي المنزل به، تلكم العلاقة هي ما يمكن تسميته بالتفسير البياني، أو التفسير اللغوي، أو التأويل اللغوي، وهنا يلزم بيان المقصود بهذا النوع من التفسير بغية البناء والتأسيس عليه، فالحكم على الشيء فرع عن تصوره ولا شك، فنقصد بالتفسير اللغوي بيان معاني القرآن بما ورد في لغة العرب، وهذا بناء على أن للغة مفهوماً يفهم الخطاب القرآني في إطاره، فاللغة عند المتخصصين يقصد بها ألفاظ يعبر بها عن المسميات وعن المعاني المراد إفهامها، أو هي ألفاظ يعبر بها كل قوم عن أغراضهم، وفي هذا السياق يلزم البيان بأن فهم كلام المخاطِب لا يكفي في فهمه معرفة الألفاظ وتراكيب الجملة، بل يحتاج إلى معرفة الأسلوب الذي استعمله المتكلم، قال الشاطبي: "فإن قلنا إن القرآن نزل بلسان العرب، وإنه عربي، وإنه لا عجمة فيه، فيعني أن أنزل على لسان معهود العرب في ألفاظها الخاصة وأساليب معانيها، وأنها فيما فطرت عليه من لسانها تخاطب بالعام يراد به ظاهره، وبالعام يراد به العام في وجه والخاص في وجه، وبالعام يراد به الخاص، وظاهر ويراد به غير الظاهر، وكل ذلك يعرف من أول الكلام أو وسطه أو آخره، وتتكلم بالكلام ينبئ أوله عن آخره، آو آخره عن أوله، وتتكلم بالشيء يعرف بالمعنى كما يعرف بالإشارة، وتسمي الشيء الواحد بأسماء كثيرة، والأشياء الكثيرة باسم واحد.
وكل هذا معروف عندها لا ترتاب في شيء منه هي ولا من تعلق بعلم كلامها، فإذا كان كذلك فالقرآن في معانيه وأساليبه على هذا الترتيب"[1]، وبالمثال يتضح المقال؛ ففي قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ﴾ [الأعلى: 3] أسلوب يفهم منه مقصود صاحب الخطاب، وهو الحذف، وما أكثره في كتاب الله تعالى، قال الفراء: "ويقال: قدر فهدى وأضل، فاكتفى من ذكر الضلال بذكر الهدى، لكثرة ما يكون معه"[2]، حيث جعل الآية على أسلوب الحذف اختصاراً، وجعل لفظ هدى دلالة على اللفظ المحذوف، وبهذا تصير دلالة الآية محصورة على الهدى والضلال الشرعي[3]، وإن كان الصواب أن الآية أعم من ذلك، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 191]، قال أبو عبيدة: "والعرب تختصر الكلام ليخففوه، لعلم المستمع بتمامه، فكأنه في تمام القول: ويقولون: ربنا ما خلقت هذا باطلاً"، فالمعنى أنهم يتفكرون في خلق الله لهذه السموات والأرض ثم يقولون ربنا...
إلخ، وفي هذا من جمال اللفظ وكمال المعنى ما يجعل هذه اللغة تأخذ بالألباب والعقول، ولا شك أن من امتلك آلة اللغة وتمكن منها، فإنه يستمتع بآيات القرآن ويقطف أزهارها يانعة.
إن لهذا النوع من التفسير أهميته العظمى ومكانته العليا؛ ومرجع ذلك أن نزول القرآن بلغة العرب يجعل العدول عنها إلى غيرها يعد عجزاً عن إدراك مقاصد الكتاب وبيان مراد صاحبه منه، قال ابن فارس: "إن العلم بلغة العرب واجب على كل متعلق من العلم بالقرآن والسنة والفتيا بسبب، حتى لا غناء بأحد منهم عنه، وذلك أن القرآن نازل بلغة العرب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عربي.
فمن أراد معرفة ما في كتاب الله جل وعز، وما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل كلمة غريبة أو نظم عجيب، لم يجد من العلم باللغة بداً"[4]، وقال الشاطبي: "لا بد في فهم الشريعة من اتباع معهود الأميين، وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم، فإن كان للعرب في لسانهم عرف مستمر فلا يصح العدول عنه في فهم الشريعة، وإن لم يكن ثم عرف، فلا يصح أن يجرى في فهمها على ما لا تعرفه، وهذا جار على في المعاني والألفاظ والأساليب"[5]، ويفهم من ذلك أن معرفة اللغة العربية شرط في فهم القرآن؛ لأن من أراد تفسيره، وهو لا يعرف اللغة التي نزل بها، فإنه لا شك سيقع في الزلل، بل سيحرف الكلم عن مواضعه[6].
[1] الموافقات، أبو إسحاق الشاطبي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط1، 1423هـ/2002م، ص237.
[2] معاني القرآن، أبو زكريا الفراء، عالم الكتب، بيروت، ط3، 1403هـ/1983م، ج3ص256.
[3] التفسير اللغوي للقرآن الكريم، د.مساعد بن سليمان الطيار، دار ابن الجوزي، الدمام، ط4، 1434هـ، ص36.
[4] الصاحبي في فقه اللغة، ابن فارس، مطبعة البابي الحلبي، القاهرة، بدون تاريخ، ص50.
[5] الموافقات، مرجع سابق، ص247.
[6] التفسير اللغوي للقرآن الكريم، مرجع سابق، ص41.