قوارب النجاة


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أولاً: أشكر رئيس نادي الوديعة وهيئة الإدارة على إتاحة هذه الفرصة المباركة؛ لنلتقي في هذه الليلة المباركة في سمر إيماني رمضاني نصل فيه عبادة الصيام بعبادة التراويح والقيام، بعبادة السمر الإيماني في روضة من رياض الجنة تحفنا فيها الملائكة، وتغشانا الرحمة، وتنزل علينا السكينة، ويذكرنا الله عز وجل فيمن عنده؛ لأن التكامل في حياة المسلم مطلوب، وهو يعيش في هذا الشهر العظيم حياة روحية عظيمة يقضي يومه في الصيام، ثم يقضي جزءاً من ليله في التراويح والصلاة والقيام، وهو أيضاً مطالبٌ بأن يقضي سمراً مفيداً نافعاً له في دينه ودنياه، فجزى الله الإخوة القائمين على أمر النادي خيراً.

وفي الحقيقة هذا هو الوضع الطبيعي للأندية، وهذه هي الوظيفة الرئيسية لرعاية الشباب؛ لأن النادي مركز تربوي يهتم برعاية الشباب اهتماماً متكاملاً في جميع مناحي الحياة، لا يغلب جانباً على جانب، يهتم بأرواح الشباب وبعقائدهم وبدينهم وبإيمانهم وبثقافتهم، كما يهتم بأجسادهم وأجسامهم، والناس يفهمون رسالة الأندية فهماً خاطئاً، ولذا يقصرونها في الجانب المادي، وأن النادي فقط مركز لتربية الأجساد، ولا يظنون أن من واجبه أيضاً حماية الأرواح؛ لأن الجسم لا قيمة له إلا في ظل صلاح الروح.

يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته     أتطلب الربح مما فيه خسران

أقبل على الروح واستكمل فضائلها     فأنت بالروح لا بالجسم إنسانُ

الروح راكب، والجسد مركوب، والإكرام دائماً للراكب، فإذا أكرمت المركوبة وأهين الراكب كان هذا قلباً للحقائق، فلو كنت ضيفاً وجئت إلى مضيفك كان الناس في الماضي على الحمير والجمال والبغال، فمن إكرام الضيف: إكرام دابته، لكن إكرام الضيف بما يليق به، وإكرام الدابة بما يليق بها، لكن ما ظنكم لو أن ضيفاً أتى على دابته إلى مضيفه فأدخل الدابة في المجلس، وأخذ بيدك وأدخلك في الصالة وربطك برجلك ووضع لك علفاً، وأخذ الحمار وأدخله المجلس وأعطاه الرز واللحم، هل هذا عرف حقيقة الأمر؟

ولو ادعى وقال: يا أخي! أنا أكرمك، تقول: صحيح أنت تكرمني لكن لا تعطيه كرامتي، أكرمه بما يليق به، وأكرمني بما يليق بي.

وكذلك هذا البدن مركوب، والراكب الروح، فإذا أكرمنا ونعمنا وريضنا وعالجنا وحفظنا الجسد، ثم أهملنا الروح، بل ليتنا أهملناها فقط، وإنما سممناها، وقتلناها ونحرناها وعذبناها، عاش الإنسان في قلب للموازين، يعيش في عذاب بروحه مهما تنعم جسده، وهاهي البشرية تعيش هذا العذاب، يقول الله عز وجل: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً [طه:124] وإن سكن العمارات، وامتطى أحدث الموديلات، وتزوج أجمل الزوجات، وامتلك ملايين الريالات؛ لأنه إنما يرفه بهذه الإمكانيات عن كائنه الجسدي، أما كائنه الروحي وهو أهم شيء في عنصريه فلن يجد سعادة إلا في ظل الدين والإيمان الذي إذا فقده فقد السعادة.

وها هي البشرية اليوم تفقد سعادتها وهي تعيش في أوج قمتها المادية، حطمت المادة وسخرتها وفجرتها، واستخدمتها أعظم استخدام، وحققت من الإعجاز والإنجاز العلمي ما يبهر العقول، ولكن على حساب الروح، المادة في تطور والروح في تأخر، فماذا حققت؟ حققت الشقاء والعذاب، وها هم في أوروبا وأمريكا والدول المتطورة يعيشون حياة القلق، حتى يقول علماؤهم ومفكريهم بأنهم لا ينامون إلا بفعل الحبوب المخدرة، لا يوجد نوم، قلق مستمر وعذاب، وهذا وعد الله عز وجل حين يقول: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124].

فبناء الشباب في الجزئيتين المتكاملتين: بناء روحه عن طريق الثقافة الإسلامية، والمحاضرات الإيمانية، وإقامة الشعائر الدينية، هذا مطلوب في النادي كمركز تربوي، إلى جانب حماية جسده عن طريق الألعاب الرياضية التي لا تتعارض مع مبدئها الأصلي الذي هو عقيدته ودينه وإسلامه، هذا هو واجب الأندية، والحمد لله أننا نلمس هذا الاتجاه بشكل واضح في جميع الأندية الموجودة في المملكة مما يدل على اهتمام القائمين على أمرها، فبارك الله فيهم وفي جهودهم، ونسأل الله عز وجل أن يحقق الخير لأبناء المسلمين على أيديهم إنه على كل شيء قدير.

أما محاضرة هذه الليلة؛ فهي بعنوان: "قوارب النجاة" هذه الحياة -أيها الإخوة- بحر هائج ومحيط متلاطم ينزله الإنسان؛ فإما أن يسبح فيه وينجو، وإما أن يهلك فيه ويغرق، ولا خيار للإنسان حينما جاء إليها، يقول أحدهم:

جئت لا أدري من أين ولكني أتيت

ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت

وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت

كيف جئت؟

كيف أبصرت طريقي؟

لست أدري

ولماذا لست أدري؟

لست أدري

جاء إلى هذه الحياة وهو لا يدري لماذا جاء إليها، ولا إلى أين سيذهب بعد أن يؤدي دوره على مسرحها؛ فتولد عن هذا الجهل العذاب والشقاء والضلال والحيرة والقلق والاضطراب، مثل من يعيش في صحراء لا يدري إلى أين يتجه، هذه الحياة -أيها الإخوة- جئنا إليها، ونحن على يقين أننا سننتقل منها، ونحن مسافرون منذ أن وطئت أقدامنا على ظهر هذه الحياة، وما من يوم يمر ولا ساعة ولا شهر ولا سنة تدور إلا ونحن نقطع مرحلة من مراحل أعمارنا على هذه الحياة، ونقترب من المصير المحتوم الذي سنفاجأ به في نهاية المطاف وهو الموت، وهناك ننزل من مسرح الدنيا ونعامل في الآخرة على ضوء سلوكنا في هذه الدار، إما إلى الجنة وإما إلى النار.

الموت باب وكل الناس داخله     يا ليت شعري بعد الباب ما الدار

وقال الآخر:

الدار جنة عدن إن عملت بما      يرضي الإله وإن خالفت فالنار

هما محلان ما للمرء غيرهما     فاختر لنفسك أي الدار تختار

ليس هناك في الآخرة من دار إلا الجنة أو النار، وأنت في هذه الدنيا تسير، وسيرك فيها يجب أن يكون فيه نوع من التوقي والحماية؛ لأنك معرض فيها لمعاطب ومشاكل، والله أوجدك على ظهرها وجعل لك هذه المعاطب، وأمرك بالتوقي وبالتقوى حتى تصل سالماً إلى جدار الموت، أما إذا لم تتوق ووقعت في حفرها وأشواكها وحبائلها وزجاجاتها ومعاطبها؛ فإنك سوف تعطب، وسوف تنالك هذه الجروح، ولكن لن تشعر بها إلا إذا وقفت عند الموت تريد النزول وإذا بك معطل من كل جانب، عينك وأذنك ويدك ورجلك معطلة ومسمومة بالحرام، وإذا بك مدمر في كل جزئياتك، وهناك تطلب الرجعة من أجل التصحيح، فلا يستجاب إلى طلبك، كما قال عز وجل: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:99] يطلب الرجعة ليصحح الوضع مع الله وليتق الله، لكنه فوت الفرصة فلا مجال له، قال عز وجل: كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101].

هذه الحياة يشبهها العلماء بالبحر المتلاطم، وليس من وسيلة للنجاة فيها إلا عن طريق قوارب النجاة، والقوارب موجودة ومتوفرة، وبإمكان كل من أراد أن ينجو من محيط هذه الحياة وبلياتها ومصائبها أن ينجو، وإذا تعلق وركب في القوارب نجا، وإذا أهمل الأسباب وعطل الوسائل وعاش معتمداً على الأماني هلك، والطالب في الجامعة أو المرحلة الثانوية أو المتوسطة أو الابتدائية يهتم بالدراسة من أول العام، ويحصل ويجتهد، ويحل الواجبات، ويحضر المحاضرات، ويلخص الدروس، ويراجعها أولاً بأول، ويستعد للمذاكرة، حتى إذا جاءت ساعة الصفر ودخل صالة الامتحان كان معبأً بالمعلومات التي اكتسبها خلال عامه الدراسي، فيجيب على الأسئلة، ويقدم الورقة مملوءة بالإجابة الصحيحة، ويتوقع النجاح والتقدم في درجات العلم، هذا هو المنطق؛ لأنه أخذ بالأسباب، وركب في قوارب النجاة من الامتحان.

لكن ما ظنكم في طالب بليد مهمل لم يحضر درساً، ولم يتابع محاضرة، ولم يحل واجباً، وإنما اكتفى بالأماني واللعب والفوضى والبلادة وعدم المتابعة، وفي آخر العام حينما علق الجدول قيل له: هذا الجدول علق، انتبه، قرب الامتحان، قال: دعونا من التعقيدات.. ودعونا نعيش فقط، إذا جاء الامتحان يفرجها الله، وأخذ الجدول ومزقه، وفي أول يوم من أيام الامتحان أخذ قلمه وذهب إلى الامتحان وعقله فارغ من المعلومات ودخل إلى الصالة، وحينما قعد على الطاولة وسلم ورقة الأسئلة وقرأها، وإذا به لا يعرف جواباً ولا حرفاً واحداً، فما كان منه إلا أن رفع إصبعه ودعا رئيس اللجنة، وقال: من فضلك أريد أن تعطيني ساعة أخرج إلى الخارج أنظر في الإجابة وآتيك، ما رأيكم هل يطيعونه في الدنيا؟ ما سمعنا بهذا، ما رأيكم لو أطاعوه؟ لو أن رئيس اللجنة أخذته الرحمة، وقال: ما دام أنك تعبان ولا تعرف فلا مانع، هذه الورقة ولك ساعة واحدة، خذ الدفتر وأجب على الأسئلة وتعال بها، هل تبقى هناك قيمة للامتحانات؟

السنة الثانية الطلاب جميعهم لن يذاكرو، ويقولوا: سنفعل مثل زميلنا هذا، ونأتي في آخر السنة ونطلب من الأستاذ ونخرج فنجيب على الأسئلة لماذا نتعب طوال العام؟

وبالتالي تتحطم العلوم والمعارف، ولا يبقى علم أبداً في الأرض، لماذا؟ لأن الناس سيكونوا جهلة، يحملون شهادات فارغة من المضمون؛ لأنهم ما ذاكروا ولا درسوا، وإنما يجلسون يلعبون إلى آخر السنة، ومن ثم ينقلون الأسئلة من كتاب الإجابة ويحضرونه وهم لا يفهمون ما فيه، هذا لا يصير أبداً في عرف الناس، فكيف يمكن أن يصير عند الله عز وجل؟

كيف تتصور أن تعيش عبداً لشهواتك، وملبياً لرغباتك، ومعانداً لمولاك، وقاطعاً لبيوت ربك، هاجراً لكتاب ربك، ثم تتمنى الأماني وتقول: الآخرة إن شاء الله يحلها حلال، مثلك كمثل هذا الطالب البليد الذي لن يجاب إلى ما يطلب، كما قال الله عز وجل عنهم أنهم يقولون إذا دخلوا النار: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [فاطر:37] قال الله عز وجل لهم: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر:37].

هذه الدنيا تحتاج إلى قوارب لمن أراد أن ينجو ويخرج منها إلى دار السلام، وقد اخترت لكم من قوارب النجاة ثلاثة قوارب، وإلا فالقوارب كثيرة، لكن لضيق الوقت ولئلا يطول معنا الزمن اخترت ثلاثة قوارب مهمة، وهي وحدها كافية وكفيلة بمن ركب فيها وتمسك بها أن يصل إلى ساحل النجاة، وأن يدخل بر الأمان، وأن يدخل جنة عرضها السماوات والأرض، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وأن ينجو من نار حرها شديد، وقعرها بعيد، وعذابها أكيد، وطعام أهلها الزقوم، وشرابهم المهل والقيح والصديد، أمانيهم فيها الهلاك، وما لهم منها فكاك، قد شدت أقدامهم إلى النواصي، واسودت وجوههم من ظلمة المعاصي، ينادون من شعابها بكياً من ترادف عذابها، يا مالك! قد أثقلنا الحديد، يا مالك! قد نضجت منا الجلود، يا مالك! قد تقطعت منا الكبود، يا مالك! العدم والله خيرٌ من هذا الوجود، يا مالك! أخرجنا منها فإنا لا نعود، فيقول لهم بعد قدر عمر الدنيا مرتين: إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [الزخرف:77].

لماذا؟ قال: لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ * أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف:79-80].. مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18].. هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية:29].. اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الإسراء:14].

لا تظنن أنك مضيع، والله ما من كلمة ولا خطوة ولا عمل تعمله إلا وهو مسجل عند الله عز وجل، يقول الله عز وجل: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة:6] أنت نسيت كل شيء في حياتك، هل تذكر شيئاً مما تم خلال ذلك اليوم من أعمالك؟

هل تذكر المعاملات التي مرت عليك؟

هل تذكر ماذا تسحرت أو أفطرت، ومن قابلت أو زرت وزارك؟

لا، بل تنسى، هل تذكر قبل شهر أو قبل سنة أو قبل سنواتك كلها؟ لا. لكن الله لم ينس شيئاً: فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة:6] نسيت لكن الله لا ينسى: فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى [طه:52] كل شيء مسجل ستجده بين يديك في يوم القيامة؛ فإما أن ترفع رأسك: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً [آل عمران:30] وتأخذ كتابك بيمينك وتقول: هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ [الحاقة:19] مثل الطالب المجد الذي يأخذ شهادته ويرفعها وهو في الطريق، بعض الطلاب وهو يمشي في الطريق لا يعرف أحداً لكن يري الناس وهم لا يعرفوه، يقول: أنا ناجح، ونحن ما علينا منك ولو أنك ناجح، أنا أذكر مرة إنى كنت سائراً في الشارع وإذا بأولاد خرجوا من المدرسة يبشروني وأنا لا أعرفهم وهم لا يعرفوني، لكن من شدة فرحتهم بالنجاح كل واحد يقول: أنا ناجح، قلت: مبروك.

فيقول الإنسان يوم القيامة: هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ [الحاقة:20]هذه شهادتي: إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ [الحاقة:20] فعملت صالحاً: فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:21-24] ليس كلوا واشربوا بما فكرتم، أو جمعتم، أو أخذتم من مناصب، أو وفرتم من جاه، لا. هذه لا تنفع عند الله يوم القيامة ولا تسقي صاحبها ماء، جاهك ومنصبك ونسبك ومالك وأولادك ومنزلتك وسمعتك، دعاية الناس لك، وثناء الناس عليك، ومحبتهم لك... لا ينفع عند الله شيء إلا العمل الصالح. والعمل السيئ يضر، فيقولون: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ بالأرصدة التي عملتموها في أيامكم الخالية.

وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ [الحاقة:25] أخذ الشهادة باليسار، فلا يري الناس، مثل الطالب الذي يأخذ شهادته، وإذا بها مملوءة بالدوائر الحمراء، راسب! ما رأيكم يذهب يريها أهله؟ لا. يأخذها ويضعها في جيبه، وإذا ذهب إلى البيت، قالوا: بشرنا، عساك ناجح، قال: لم تظهر النتيجة، وهو يعرف أنها ظهرت، لكن يريد يمهد للفشل، وذهب اليوم الثاني ورجع إليهم، هاه؟ قال: ظهرت، قالوا: بشر، قال: يقولون إنهم سمعوا اسمي، قالوا: إن شاء الله خير غداً تتأكد، وذهب غداً وأهله ليسوا فرحين عرفوا أن فيها شيئاً، من يوم أتى بالخبر من أول يوم لا يوجد خبر صحيح، جاء في اليوم الثالث، هاه؟ قال: الحمد لله أبشركم كلها تمام ما عدا مادتين فقط، الحمد لله، يحمد الله على الفشل الغبي، ولكن والده نظر وإذا بها ثمان! ما المقصود بالمادتين؟ قال: المادتان صعبة أما البقية فهي يسيرة، هذا البليد في الدنيا يخجل من الناس ومن أبيه وأمه؛ لأنه سقط، وسقطة الدنيا يسيرة، مثل الذي يسقط من على الطاولة إلى الأرض، هناك دور ثانٍ، وإذا لم يكن هناك دور ثانٍ فهناك سنة ثانية، وإذا لم يكن هناك سنة ثانية فالدراسة ليست ضرورية، أذهب وأتوظف ولو حتى في حجر وطين.

لكن سقطة الآخرة سقطة من الدرجات العلى إلى دركات النار، سقطة ما بعدها سقطة، ليس هناك درجة ثانية ولا دور ثانٍ ولا غرفة ثانية، وإنما نار وعذاب أبدي نعوذ بالله من النار.

فهذا الذي يأخذ شهادته بشماله وكتابه الذي عبأه ولطخه بالجرائم والمنكرات والمعاصي والسيئات، فإذا رآه، قال: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ [الحاقة:25] يتمنى أنه ما رأى هذه الشهادة: وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ [الحاقة:26] يقول: ليتني لم أعلم عن هذا الحساب، ولا نوقشت إياه، ولا اطلعت عليه: يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ [الحاقة:27] يتمنى أنه قضي عليه ولم يبعث: مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ [الحاقة:28] يتذكر ما الذي كان يشغله في الدنيا عن الدين وإذا به المال، أو السلطة والوظيفة والمنصب: هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة:29] يقول: ذهب مني المال ولم يغن عني، وهلك عني السلطان ولم ينفعني، فيقول الله للزبانية: خذوا هذا الدجال الكذاب الذي كان يلعب على الحبلين، يلعب في الدنيا ويريد الآخرة بدون عمل: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ [الحاقة:30] والغل هو: وضع القيد في الرقبة واليدين والرجلين، يقول الله: فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ [الرحمن:41] أي: تربط ناصيته في قدمه، ثم يوضع في قيد واحد برقبته: ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ [الحاقة:31] أي: أوصلوه في النار: ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ [الحاقة:32] السلك هو: إدخالها من فمه وإخراجها من دبره، من أجل أن يشتوي في النار، وكأن قائلاً يقول: يا رب! ما فعل هذا؟ فقال عز وجل: إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ [الحاقة:33] ما عنده تصديق بلقاء الله، الذي لا يعمل صالحاً ما آمن بالله، والذي يعمل المعاصي والمنكرات ما آمن بالله، لماذا؟ لأنه لو آمن وصدق لعمل وانتهى.

الآن الموظف عندما يؤمن بصرامة المدير ومراقبته على الدوام وأنه دقيق، من السابعة والنصف ليس هناك أحد يوقع إلا من عنده، تجد كل الموظفين يأتون الساعة السابعة والنصف، لكن إذا عرفوا أن المدير يأتي الساعة التاسعة، يأتون هم الساعة التاسعة إلا خمس، ويوقعون الساعة السابعة والنصف؛ لأن المدير يأتي الساعة التاسعة، لكن لو أن المدير يأتي الساعة السابعة ونصف، ويقول: يا فلان ادخل أحضر الكشف، ويقول: التوقيع من على طاولتي، لا أحد يوقع من عند السكرتير، وكل موظف يأتي ينظر إليه كم الساعة يا فلان؟ ثمانية، ضع ثمانية، ثم يفرغ جدول الموظفين هؤلاء في ورقة صغيرة، ويقول: على شئون الموظفين اعتماد الحسم على التالية أسماؤهم: فلان الفلاني يوم كامل ويعطيه، ما رأيك في شعور الموظفين، من غد هل يأتون من الساعة السابعة والنصف؟ وربما من السابعة تجده على الطاولة، لماذا؟ آمن بالعقوبة، وعرف أن هناك حسم وأنه يوجد مدير حازم، لكن إذا كانت الأمور تمشي بتساهل تجد نصف الدوائر الآن يأتون الساعة التاسعة والتاسعة والنصف والعاشرة، ما أتى الفراش ليفتح فضلاً عن الموظف أو المدير، لماذا؟ أمنوا العقوبة فأساءوا العمل.

وكذلك الذي يأمن العقوبة في الآخرة يسيئ العمل، لا يعمل صالحاً ولا ينتهي عن محرم؛ لأنه ما آمن حقيقة فيقول الله: إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ [الحاقة:33-37].

- قوارب النجاة في الحياة الدنيا:

فإذا أردت النجاة فعليك بقوارب النجاة، هذه القوارب الثلاثة أخذتها من آية من كتاب الله في سورة العنكبوت الآية رقم (45) يقول الله عز وجل موجهاً الأمر للرسول صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله رحمة للعالمين، وما وجه له من الأوامر فهو موجه بالتالي لأتباعه، يقول الله له: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ [العنكبوت:45] هذا القارب الأول وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45] هذه هي قوارب النجاة الثلاثة، تلاوة الكتاب الكريم، وإقامة الصلاة، وذكر الله عز وجل.

أما تلاوة القرآن فللآتي:

سبب كون القرآن من قوارب النجاة

لأن الكتاب هو الذي ربط الأرض بالسماء، فبعد نزول القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم أصلح الله الأرض، قال الله عز جل: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا [الأعراف:56] بم أصلحت الأرض؟ أصلحت بالرسالة، وبتعاليم السماء، والتوجيهات الربانية، كانت الأرض عبارة عن غابة،شريعة الغاب هي التي تحكمها، القوي يأكل الضعيف، سلب وقتل ونهب، وزنا وخمور وفجور، وجور وميسر وقمار كل ما شئت من المعاصي موجود في الأرض، لماذا؟ لأنه لا توجد شريعة تحكم، ولا توجيهات توجه من الله.

حتى بعث الرسول صلى الله عليه وسلم ونزل عليه الكتاب الكريم، فأصلح الله الأرض بتعليمات السماء، وضبط مسارات الناس، وجعل لكل واحد مساراً، عينك لها مسار تنظر بها في مساراتها، لا تنظر بها إلى شيء آخر، عينك هذه أمانة في رأسك، يقول الله عز وجل: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:8-10] مادامت العين لله وليست لك، ولا ركبتها أنت في رأسك، ولا اشتريتها من السوق، بل هي من الله، فالله هو مالكها وآمرها، أمرك الله بأمر ونهاك عن نهي ما هو؟ أمرك أن تنظر بعينك هذه في ملكوت السماوات والأرض، قال عز وجل: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [يونس:101].. أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ [ق:6]، وأمرك بأن تنظر بها في مصالحك، وأن تنظر بها في كتاب ربك وفي سنة نبيك وفي هديك وتعاليم إسلامك، ونهاك أن تنظر بهذه العين إلى ما حرم عليك، لا تنظر بها إلى محارمه؛ لأن الله يغار على محارمه، ومحارمه أن تأتي ما حرم، لا يجوز لك أن تطلق عينك في امرأة لا تحل لك، لماذا؟

لأنك تعذب قلبك.

والمرء ما دام ذا عين يقلبها     في أعين الغير موقوفاً على الخطر

يسر ناظره ما ضر خاطره     لا مرحباً بسرور عاد بالخطر

فأنت إذا فتحت عينك على النساء رأيت أشكالاً وألواناً وموديلات جديدة، ومن ثم لا تقدر عليها ولا تصبر عنها، وبالتالي تنعكس على قلبك الهموم والمشاكل وتعيش معذباً، وأكثر الذين يفتحون عيونهم في الحرام الآن يعيشون في عذاب، يخرج من بيته وليس في قلبه هوىً واحداً، لكن يذهب إلى السوق أو المعرض ويرى واحدة فترميه بعينها ويرميها بعينه، فيرجع إلى البيت وهو مريض، لا يتعشى ولا ينام ولا يفعل شيئاً، ما بالك؟ قال: آه، الله المستعان! ماذا حصل؟ ما الذي احترق في الدنيا؟ احترق قلبه، ما الذي أحرق قلبه؟ النظرة المحرمة:

كم نظرة فعلت في قلب ناظرها     فعل السهام بلا قوس ولا وتر

وأنت إن أرسلت طرفك رائداً     لقلبك يوماً أتعبتك المناظر

رأيت الذي لا كله أنت قادر      عليه ولا عن بعضه أنت صابر

ويقول الآخر:

وأنا الذي جلب المنية طرفه          فمن المطالب والقتيل القاتل

فالله من أجل أن يحميك أنت ويحمي حرمات الناس حرم عليك النظر، وقال: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ [النور:30] وقد يأتي شخص ويقول: لماذا؟

قال الله: ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ [النور:30] والذي يعيش في تعليمات هذه الآية ويغض بصره ولا ينظر إلى الحرام يعيش في سعادة وفي راحة عظيمة ليس بعدها راحة.

ولكن قد يقول قائل من الشباب: ماذا أعمل أنا؟ كيف أعمل بغرائزي؟ وماذا أفعل بإمكاناتي؟ أنا شاب وأحب الجمال، وأريد النساء وأريد أن ألتفت؟ نقول له: تلفت، لكن متى؟ أخِر النظر إلى أن تتزوج، فإذا تزوجت ودخلت عليك زوجتك في غرفتك وأقفلت الباب، ابلعها بعيونك، لماذا؟ لأنك تنظر إلى شيء بيدك، وفي إمكانك أن تصل إليه، ولكن عندما تلتفت إلى شيء بيد الناس، مثل واحد يموت جوعاً والناس معهم طعام في قدورهم، وهو جالس يشم، ما رأيكم هل الشم يغذيه ويشبعه؟ بل يقطع قلبه، ماذا نقول له؟ نقول له: قل: باعدوا قدوركم هذه منا، دعونا على خبزتنا وكسرتنا؛ فإن هذه الروائح قطعت قلبي، وما شبعت من الرائحة.

ونحن نقول للناس: ذلك أزكى لكم، أن تغضوا أبصاركم عن الحرام؛ فإن من ملأ عينيه من الحرام ملأهما الله من جمر جهنم غضوا أبصاركم، واحفظوا فروجكم، وصونوا أسماعكم، ذلك أزكى لكم.

فالله عز وجل حينما أنزل القرآن ربط الأرض بتعليمات السماء، وأصبح الناس وهم في الأرض يعيشون، لكنهم يعيشون وهم معلقون بالله، عيونهم في الأرض لكنها عيون ربانية لا تنظر إلى حرام، أسماعهم في الأرض لكنها أسماع ربانية لا تستمع الحرام: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36].. وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ [الأحقاف:26].. وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:78].

فبتلاوة الكتاب، وبالارتباط بالله عن طريق القرآن تنجو، لماذا؟ لأنك تصبح عبداً ربانياً لست عبداً شهوانياً شيطانياً تحكمك شهواتك، وتسيطر عليك غرائزك، وتسيرك نفسك، ويمشيك شيطانك، الآن الذي ينفلت شيء واقع ما للواحد خيار فيه، إما أن تلتزم بدين الله فتكن مع الله، أو تنفلت عن الدين فتكن مع الشيطان، كبديل لا بد منه، لا يوجد شخص يقول: لا والله أنا لا أريد أن ألتزم بدين الله، وأيضاً أنا أريد أن أبقى حراً من الشيطان، لا. ما من أمر لله إلا ويقابله أمر للشيطان، فلمن تكون؟ خير لك أن تكون لربك أم لعدوك؟ لخالقك أم لمخرجك من الجنة؛ الذي أقسم عليك أن يردك إلى النار، وقال: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:82]؟

التمسك بالقرآن الكريم نجاة يوم القيامة

القرآن إذا تمسكت به وبتعليماته نجوت، يقول الله عز وجل: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52] سمى الله القرآن روحاً ينفخ الله به الحياة في قلوب الناس: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ [الشورى:52] أي: القرآن وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [الشورى:52-53] ويقول في القرآن الكريم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ [يونس:57] أي: القرآن وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ [يونس:57] في قلبك شيء من الأمراض علاجها في القرآن الكريم، الأمراض المعنوية، مرض الزنا والغناء والنوم خصوصاً نوم الصبح الذي يتغنى به الناس، لا يوجد في الشرع نوم الصبح، يوجد استيقاظ (بارك الله لأمتي في بكورها) لكن اليوم الناس يتغنون بنومة الصبح! حتى يقول بعضهم:

نومة الصبح تسوى      ملك كسرى وعداً يوه

على وزن قصيدة:

بالله عليك يا موزع     شي معاكم بريد يوه

كنت أسمع هذه القصيدة وأغني بها في السابق، والآن أفكر أقول: ما معنى كلمة يوه؟ لكن نسمع الأغاني ونردد كلماتها كالببغاء، ما موقعها من الإعراب (يوه)؟! فقال الثاني على وزنها:

نومة الصبح تسوى      ملك كسرى وعداً يوه

لا والله ما عند المؤمن نومة الصبح، نومة الصبح هذه هي نومة الشيطان، يبول فيها الشيطان في أذن النائمين عن صلاة الفجر، ويقول لهم: نم عليك ليل طويل. إذا كان عندك في قلبك مرض من هذه الأمراض، مرض نومة الصبح والنظر إلى الحرام، واستماع الحرام، وحب الزنا، والربا، والرشوة، وشهادة الزور، وعقوق الوالدين فإن الشفاء في كتاب الله يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ [يونس:57-58] أي: القرآن وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58] إذا فرح الناس بالمال فافرح أنت بالقرآن، وإذا فرح الناس بالوظائف والمناصب فافرح أنت بكتاب الله، إذا فرح الناس بالزوجات والأولاد فافرح أنت بالقرآن، وإذا فرحوا بالعمارات والسيارات فافرح أنت بالقرآن؛ لأن الله يقول: فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58].

اتل القرآن اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ [العنكبوت:45] يقول الله عز وجل في القرآن الكريم: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24] ويقول: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء:82].

فأول وأهم قارب تسعد به في الدنيا والآخرة هو هذا القرآن، يقول الله عز وجل فيه: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً [الفرقان:32].

فإذا أردت أن تنجو عليك بكتاب الله، ووالله الذي لا إله إلا هو ما يعاني الناس اليوم من جفاف في الأرواح ومن فقر في القلوب والإيمان ما هو إلا نتيجة لبعدهم عن القرآن، وانظروا اليوم حينما يدخل رمضان ويتوجه الناس إلى المصاحف ويشترونها من المكتبات ويأتون المساجد ويقرءون كيف تتحول أخلاقهم، وتهدأ نفوسهم، وتنمو أرواحهم بأسباب قراءة القرآن، هل تتصورون شخصاً شريراً والقرآن في جيبه؟! هل تتصورون شخصاً عاصياً وهو يقرأ القرآن؟! لا. لكن إذا ترك الشخص القرآن تسلط عليه الشيطان.

كالعيس في البيداء يقتلها الظما     والماء فوق ظهورها محمول

كيفية توثيق الصلة بالقرآن كقارب نجاة

إذا كنا نقرأ القرآن ونهجره ولا نعمل به فهذه مصيبة، فأول قارب ينبغي لك يا من تريد النجاة هو أن تُحكِم وتوثق صلتك بكتاب الله عز وجل عن طريق خمسة أشياء.

أولاً: تلاوة القرآن: لأن الله يقول: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً [المزمل:4] والترتيل: هو قراءة القرآن بمعرفة الوقوف ومخارج الحروف، لا تقرؤه كما تقرأ جريدة أو تقرأ مجلة أو كتاباً، لا. هذا كلام الله يختلف عن كلام البشر، يقول الله: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17] تقرؤه كما أنزل، وتتلقاه كما ورد عن طريق عالم، وإذا لم تستطع فعن طريق المصحف المعلم، هناك أشرطة المصحف المعلم تضع الشريط والمصحف أمامك ويقرأ الشريط وتردد بعده، وتعرف بعد فترة -إن شاء الله- كيف تقرأ القرآن تلاوة.

وليكن لك ورد يومي ليس أقل من جزء في كل يوم، إذ لا ينبغي لمسلم أن يمر عليه شهر دون أن يختم كتاب الله مرة واحدة، ومن لم يختم القرآن في الشهر مرة فهو هاجر لكلام الله والهاجر لكتاب الله سيكون عرضة للشكوى التي ستقدم فيه يوم القيامة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرها الله في سورة الفرقان، قال الله عز وجل: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً [الفرقان:30] يجب أن يكون لك ورد يومي لا يقل عن جزء، وأحسن وقت للتلاوة بعد صلاة الفجر، وبعد صلاة العشاء، وبعد صلاة المغرب، وقبيل الصلوات الخمس، عندك فرص بفضل الله متاحة لك، إذا كنت في الدوام بمجرد أن يؤذن المؤذن أوقف كل عمل، حتى القلم الذي بيدك والمعاملة التي أمامك إذا سمعت الله أكبر، الله أكبر من كل شيء، إذا كنت في اجتماع قل: انتهى الاجتماع، بعض المدراء لا يعقدون الاجتماع إلا وقت الصلاة، فلا يوفق هذا الاجتماع؛ لأنه اجتماع عصي الله فيه بتضييع فريضة الله، لا. إذا دعاك الله لا تؤخر أمره؛ لأنه إذا دعاك المدير أو الأمير أو الوزير وأنت عندك اجتماع ما رأيك؟

تقول: أكمل الاجتماع وآتيك، أم تقول: عن إذنكم! عندي مكالمة من المسئول الأعلى؟ لا تستطيع أن تتأخر، دعاك الله، أمر الله عندك أهون من أمر غيره، ما عرفت الله ولا قدرته عز وجل، دعاك الله: الله أكبر، أغلق الكتب وضع القلم، وقم وتوضأ واذهب إلى المسجد وفي الصف الأول واقرأ، ستقرأ بين الأذان والإقامة ربع جزء، وفي العصر مثلها، وفي المغرب مثلها، وفي العشاء مثلها، يمكن يمضي عليك اليوم وأنت قد قرأت جزءاً، هذا أول شيء، واجعل هذا وردك.

يقول بعض الإخوة: أحسن طريقة أن تجعل لك في اليوم الجزء الذي يوافق اليوم من الشهر، بالطبع رمضان يختلف، رمضان يجب أن تختم فيه أقل شيء في كل ثلاثة أيام مرة، يكون وردك في كل يوم عشرة أجزاء؛ لأن هذا شهر القرآن، كيف تفعل وأنت في شهر القرآن؟

اتل الكتاب وسبح فيه مجتهداً          فإنه شهر تسبيح وقرآن

ليس هناك شغل في رمضان إلا كتاب الله والصيام والقراءة؛ لأنه في يوم القيامة يشفع لك الصيام والقرآن، لكن في غير رمضان تبدأ من أول يوم في الجزء الأول، اليوم الثاني في الجزء الثاني، وفي اليوم الثالث وهكذا، تقرأ في ثلاثين يوماً ثلاثين جزءاً، لماذا؟

لأنه يسهل عليك الحساب، وتعرف أنك اليوم في أربعة عشر يوماً فتقول: إذاً أنا اليوم في الجزء الرابع عشر، المصحف الذي بجيبي أقرأ فيه، فإن لم يكن بجيبي أقرأ في المسجد في الجزء الرابع عشر، ليس في المسجد فقط في السيارة أو المكتب، أو أي مكان أقرأ وردي، هذا أول شيء تلاوة القرآن، إذا أردت أن تنجو، قد يقول شخص من الناس: أنا لا أستطيع، نقول: على راحتك لا تستطيع، لكن ستعض على أصابع الندم، وتقول: يا ليتني أطعت الله وأطعت الرسول، يا ليتني أخذت هذا القرآن، يا ليتني عملت به، لكن (يا ليتني) لا تنفعك يوم القيامة أبداً.

ثانياً: تدبر كتاب الله.

والتدبر بأن تتدبر من القرآن في كل يوم صفحة واحدة، أي: تقرأ الصفحة وتنظر تفسيرها من تفسير ابن كثير أو من كتاب أيسر التفاسير للجزائري، وأما أن تقرأ القرآن ولا تفهمه فما أنزل الله القرآن من أجل ألا يفهمه الناس، هل توقع على معاملة بدون أن تفهمها؟ وإذا وقعت عليها بماذا يصفك الناس؟ بأنك مجنون، إذ كيف تقرأ كلام الله ولا تفهمه؛ لأنك مخاطب به، وفيه أوامر ونواهي وأخبار وأحداث وقصص، كتاب فصلت آياته ثم أحكمت، لا بد أن تعرف كتاب ربك تدبراً.

ثالثاً: العمل.

قرأت وتدبرت ومن ثَم تعمل، مررت على آية: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النور:30] تقول: فتغض بصرك، مررت على: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ [الإسراء:36] لا تسمع الحرام، مررت على: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الإسراء:33] وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً [الإسراء:32] وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الأنعام:152] انتهينا، أقيموا الصلاة تمتثل آتوا الزكاة. لا بد، لماذا؟ تعمل بتعليمات ربانية وأنت عبد مؤمن، تصدق كتاب ربك وتعمل بكتابه، أجل تلوت وتدبرت وعملت.

الرابع: تدعو إلى كتاب ربك.

لا تجلس في مجلس إلا وأنت تبشر بهذا القرآن، تقول لزميلك: يا أخي! لماذا لا ترتل القرآن؟ لماذا أنت معزول عن الله؟ كيف تعيش بدون كتاب الله؟ كم وردك من القرآن؟ تدعو إليه حتى تكون من أهله.

الخامس: الاستشفاء بالقرآن الكريم؛ لأنه شفاء لما في الصدور، يقول الله عز وجل: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82] سواءٌ من الأمراض الحسية أو المعنوية، فهو مجرب، الفاتحة شفاء، وآية الكرسي شفاء، المعوذتان شفاء، لكن لا يترتب الشفاء إلا بأمرين:

أولاً: صلاح ويقين المستشفي أي: القارئ.

ثانياً: صلاح الموضع والمحل الذي يقرأ عليه الإنسان.

أما إذا انتفى صلاح الفاعل أو المفعول به لا تحصل العافية.

هذا التفصيل الموجز والمختصر حول المركب والقارب الأول من قوارب النجاة وهو قارب: تلاوة كتاب الله عز وجل.

لأن الكتاب هو الذي ربط الأرض بالسماء، فبعد نزول القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم أصلح الله الأرض، قال الله عز جل: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا [الأعراف:56] بم أصلحت الأرض؟ أصلحت بالرسالة، وبتعاليم السماء، والتوجيهات الربانية، كانت الأرض عبارة عن غابة،شريعة الغاب هي التي تحكمها، القوي يأكل الضعيف، سلب وقتل ونهب، وزنا وخمور وفجور، وجور وميسر وقمار كل ما شئت من المعاصي موجود في الأرض، لماذا؟ لأنه لا توجد شريعة تحكم، ولا توجيهات توجه من الله.

حتى بعث الرسول صلى الله عليه وسلم ونزل عليه الكتاب الكريم، فأصلح الله الأرض بتعليمات السماء، وضبط مسارات الناس، وجعل لكل واحد مساراً، عينك لها مسار تنظر بها في مساراتها، لا تنظر بها إلى شيء آخر، عينك هذه أمانة في رأسك، يقول الله عز وجل: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:8-10] مادامت العين لله وليست لك، ولا ركبتها أنت في رأسك، ولا اشتريتها من السوق، بل هي من الله، فالله هو مالكها وآمرها، أمرك الله بأمر ونهاك عن نهي ما هو؟ أمرك أن تنظر بعينك هذه في ملكوت السماوات والأرض، قال عز وجل: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [يونس:101].. أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ [ق:6]، وأمرك بأن تنظر بها في مصالحك، وأن تنظر بها في كتاب ربك وفي سنة نبيك وفي هديك وتعاليم إسلامك، ونهاك أن تنظر بهذه العين إلى ما حرم عليك، لا تنظر بها إلى محارمه؛ لأن الله يغار على محارمه، ومحارمه أن تأتي ما حرم، لا يجوز لك أن تطلق عينك في امرأة لا تحل لك، لماذا؟

لأنك تعذب قلبك.

والمرء ما دام ذا عين يقلبها     في أعين الغير موقوفاً على الخطر

يسر ناظره ما ضر خاطره     لا مرحباً بسرور عاد بالخطر

فأنت إذا فتحت عينك على النساء رأيت أشكالاً وألواناً وموديلات جديدة، ومن ثم لا تقدر عليها ولا تصبر عنها، وبالتالي تنعكس على قلبك الهموم والمشاكل وتعيش معذباً، وأكثر الذين يفتحون عيونهم في الحرام الآن يعيشون في عذاب، يخرج من بيته وليس في قلبه هوىً واحداً، لكن يذهب إلى السوق أو المعرض ويرى واحدة فترميه بعينها ويرميها بعينه، فيرجع إلى البيت وهو مريض، لا يتعشى ولا ينام ولا يفعل شيئاً، ما بالك؟ قال: آه، الله المستعان! ماذا حصل؟ ما الذي احترق في الدنيا؟ احترق قلبه، ما الذي أحرق قلبه؟ النظرة المحرمة:

كم نظرة فعلت في قلب ناظرها     فعل السهام بلا قوس ولا وتر

وأنت إن أرسلت طرفك رائداً     لقلبك يوماً أتعبتك المناظر

رأيت الذي لا كله أنت قادر      عليه ولا عن بعضه أنت صابر

ويقول الآخر:

وأنا الذي جلب المنية طرفه          فمن المطالب والقتيل القاتل

فالله من أجل أن يحميك أنت ويحمي حرمات الناس حرم عليك النظر، وقال: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ [النور:30] وقد يأتي شخص ويقول: لماذا؟

قال الله: ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ [النور:30] والذي يعيش في تعليمات هذه الآية ويغض بصره ولا ينظر إلى الحرام يعيش في سعادة وفي راحة عظيمة ليس بعدها راحة.

ولكن قد يقول قائل من الشباب: ماذا أعمل أنا؟ كيف أعمل بغرائزي؟ وماذا أفعل بإمكاناتي؟ أنا شاب وأحب الجمال، وأريد النساء وأريد أن ألتفت؟ نقول له: تلفت، لكن متى؟ أخِر النظر إلى أن تتزوج، فإذا تزوجت ودخلت عليك زوجتك في غرفتك وأقفلت الباب، ابلعها بعيونك، لماذا؟ لأنك تنظر إلى شيء بيدك، وفي إمكانك أن تصل إليه، ولكن عندما تلتفت إلى شيء بيد الناس، مثل واحد يموت جوعاً والناس معهم طعام في قدورهم، وهو جالس يشم، ما رأيكم هل الشم يغذيه ويشبعه؟ بل يقطع قلبه، ماذا نقول له؟ نقول له: قل: باعدوا قدوركم هذه منا، دعونا على خبزتنا وكسرتنا؛ فإن هذه الروائح قطعت قلبي، وما شبعت من الرائحة.

ونحن نقول للناس: ذلك أزكى لكم، أن تغضوا أبصاركم عن الحرام؛ فإن من ملأ عينيه من الحرام ملأهما الله من جمر جهنم غضوا أبصاركم، واحفظوا فروجكم، وصونوا أسماعكم، ذلك أزكى لكم.

فالله عز وجل حينما أنزل القرآن ربط الأرض بتعليمات السماء، وأصبح الناس وهم في الأرض يعيشون، لكنهم يعيشون وهم معلقون بالله، عيونهم في الأرض لكنها عيون ربانية لا تنظر إلى حرام، أسماعهم في الأرض لكنها أسماع ربانية لا تستمع الحرام: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36].. وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ [الأحقاف:26].. وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:78].

فبتلاوة الكتاب، وبالارتباط بالله عن طريق القرآن تنجو، لماذا؟ لأنك تصبح عبداً ربانياً لست عبداً شهوانياً شيطانياً تحكمك شهواتك، وتسيطر عليك غرائزك، وتسيرك نفسك، ويمشيك شيطانك، الآن الذي ينفلت شيء واقع ما للواحد خيار فيه، إما أن تلتزم بدين الله فتكن مع الله، أو تنفلت عن الدين فتكن مع الشيطان، كبديل لا بد منه، لا يوجد شخص يقول: لا والله أنا لا أريد أن ألتزم بدين الله، وأيضاً أنا أريد أن أبقى حراً من الشيطان، لا. ما من أمر لله إلا ويقابله أمر للشيطان، فلمن تكون؟ خير لك أن تكون لربك أم لعدوك؟ لخالقك أم لمخرجك من الجنة؛ الذي أقسم عليك أن يردك إلى النار، وقال: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:82]؟

القرآن إذا تمسكت به وبتعليماته نجوت، يقول الله عز وجل: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52] سمى الله القرآن روحاً ينفخ الله به الحياة في قلوب الناس: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ [الشورى:52] أي: القرآن وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [الشورى:52-53] ويقول في القرآن الكريم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ [يونس:57] أي: القرآن وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ [يونس:57] في قلبك شيء من الأمراض علاجها في القرآن الكريم، الأمراض المعنوية، مرض الزنا والغناء والنوم خصوصاً نوم الصبح الذي يتغنى به الناس، لا يوجد في الشرع نوم الصبح، يوجد استيقاظ (بارك الله لأمتي في بكورها) لكن اليوم الناس يتغنون بنومة الصبح! حتى يقول بعضهم:

نومة الصبح تسوى      ملك كسرى وعداً يوه

على وزن قصيدة:

بالله عليك يا موزع     شي معاكم بريد يوه

كنت أسمع هذه القصيدة وأغني بها في السابق، والآن أفكر أقول: ما معنى كلمة يوه؟ لكن نسمع الأغاني ونردد كلماتها كالببغاء، ما موقعها من الإعراب (يوه)؟! فقال الثاني على وزنها:

نومة الصبح تسوى      ملك كسرى وعداً يوه

لا والله ما عند المؤمن نومة الصبح، نومة الصبح هذه هي نومة الشيطان، يبول فيها الشيطان في أذن النائمين عن صلاة الفجر، ويقول لهم: نم عليك ليل طويل. إذا كان عندك في قلبك مرض من هذه الأمراض، مرض نومة الصبح والنظر إلى الحرام، واستماع الحرام، وحب الزنا، والربا، والرشوة، وشهادة الزور، وعقوق الوالدين فإن الشفاء في كتاب الله يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ [يونس:57-58] أي: القرآن وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58] إذا فرح الناس بالمال فافرح أنت بالقرآن، وإذا فرح الناس بالوظائف والمناصب فافرح أنت بكتاب الله، إذا فرح الناس بالزوجات والأولاد فافرح أنت بالقرآن، وإذا فرحوا بالعمارات والسيارات فافرح أنت بالقرآن؛ لأن الله يقول: فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58].

اتل القرآن اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ [العنكبوت:45] يقول الله عز وجل في القرآن الكريم: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24] ويقول: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء:82].

فأول وأهم قارب تسعد به في الدنيا والآخرة هو هذا القرآن، يقول الله عز وجل فيه: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً [الفرقان:32].

فإذا أردت أن تنجو عليك بكتاب الله، ووالله الذي لا إله إلا هو ما يعاني الناس اليوم من جفاف في الأرواح ومن فقر في القلوب والإيمان ما هو إلا نتيجة لبعدهم عن القرآن، وانظروا اليوم حينما يدخل رمضان ويتوجه الناس إلى المصاحف ويشترونها من المكتبات ويأتون المساجد ويقرءون كيف تتحول أخلاقهم، وتهدأ نفوسهم، وتنمو أرواحهم بأسباب قراءة القرآن، هل تتصورون شخصاً شريراً والقرآن في جيبه؟! هل تتصورون شخصاً عاصياً وهو يقرأ القرآن؟! لا. لكن إذا ترك الشخص القرآن تسلط عليه الشيطان.

كالعيس في البيداء يقتلها الظما     والماء فوق ظهورها محمول

إذا كنا نقرأ القرآن ونهجره ولا نعمل به فهذه مصيبة، فأول قارب ينبغي لك يا من تريد النجاة هو أن تُحكِم وتوثق صلتك بكتاب الله عز وجل عن طريق خمسة أشياء.

أولاً: تلاوة القرآن: لأن الله يقول: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً [المزمل:4] والترتيل: هو قراءة القرآن بمعرفة الوقوف ومخارج الحروف، لا تقرؤه كما تقرأ جريدة أو تقرأ مجلة أو كتاباً، لا. هذا كلام الله يختلف عن كلام البشر، يقول الله: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17] تقرؤه كما أنزل، وتتلقاه كما ورد عن طريق عالم، وإذا لم تستطع فعن طريق المصحف المعلم، هناك أشرطة المصحف المعلم تضع الشريط والمصحف أمامك ويقرأ الشريط وتردد بعده، وتعرف بعد فترة -إن شاء الله- كيف تقرأ القرآن تلاوة.

وليكن لك ورد يومي ليس أقل من جزء في كل يوم، إذ لا ينبغي لمسلم أن يمر عليه شهر دون أن يختم كتاب الله مرة واحدة، ومن لم يختم القرآن في الشهر مرة فهو هاجر لكلام الله والهاجر لكتاب الله سيكون عرضة للشكوى التي ستقدم فيه يوم القيامة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرها الله في سورة الفرقان، قال الله عز وجل: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً [الفرقان:30] يجب أن يكون لك ورد يومي لا يقل عن جزء، وأحسن وقت للتلاوة بعد صلاة الفجر، وبعد صلاة العشاء، وبعد صلاة المغرب، وقبيل الصلوات الخمس، عندك فرص بفضل الله متاحة لك، إذا كنت في الدوام بمجرد أن يؤذن المؤذن أوقف كل عمل، حتى القلم الذي بيدك والمعاملة التي أمامك إذا سمعت الله أكبر، الله أكبر من كل شيء، إذا كنت في اجتماع قل: انتهى الاجتماع، بعض المدراء لا يعقدون الاجتماع إلا وقت الصلاة، فلا يوفق هذا الاجتماع؛ لأنه اجتماع عصي الله فيه بتضييع فريضة الله، لا. إذا دعاك الله لا تؤخر أمره؛ لأنه إذا دعاك المدير أو الأمير أو الوزير وأنت عندك اجتماع ما رأيك؟

تقول: أكمل الاجتماع وآتيك، أم تقول: عن إذنكم! عندي مكالمة من المسئول الأعلى؟ لا تستطيع أن تتأخر، دعاك الله، أمر الله عندك أهون من أمر غيره، ما عرفت الله ولا قدرته عز وجل، دعاك الله: الله أكبر، أغلق الكتب وضع القلم، وقم وتوضأ واذهب إلى المسجد وفي الصف الأول واقرأ، ستقرأ بين الأذان والإقامة ربع جزء، وفي العصر مثلها، وفي المغرب مثلها، وفي العشاء مثلها، يمكن يمضي عليك اليوم وأنت قد قرأت جزءاً، هذا أول شيء، واجعل هذا وردك.

يقول بعض الإخوة: أحسن طريقة أن تجعل لك في اليوم الجزء الذي يوافق اليوم من الشهر، بالطبع رمضان يختلف، رمضان يجب أن تختم فيه أقل شيء في كل ثلاثة أيام مرة، يكون وردك في كل يوم عشرة أجزاء؛ لأن هذا شهر القرآن، كيف تفعل وأنت في شهر القرآن؟

اتل الكتاب وسبح فيه مجتهداً          فإنه شهر تسبيح وقرآن

ليس هناك شغل في رمضان إلا كتاب الله والصيام والقراءة؛ لأنه في يوم القيامة يشفع لك الصيام والقرآن، لكن في غير رمضان تبدأ من أول يوم في الجزء الأول، اليوم الثاني في الجزء الثاني، وفي اليوم الثالث وهكذا، تقرأ في ثلاثين يوماً ثلاثين جزءاً، لماذا؟

لأنه يسهل عليك الحساب، وتعرف أنك اليوم في أربعة عشر يوماً فتقول: إذاً أنا اليوم في الجزء الرابع عشر، المصحف الذي بجيبي أقرأ فيه، فإن لم يكن بجيبي أقرأ في المسجد في الجزء الرابع عشر، ليس في المسجد فقط في السيارة أو المكتب، أو أي مكان أقرأ وردي، هذا أول شيء تلاوة القرآن، إذا أردت أن تنجو، قد يقول شخص من الناس: أنا لا أستطيع، نقول: على راحتك لا تستطيع، لكن ستعض على أصابع الندم، وتقول: يا ليتني أطعت الله وأطعت الرسول، يا ليتني أخذت هذا القرآن، يا ليتني عملت به، لكن (يا ليتني) لا تنفعك يوم القيامة أبداً.

ثانياً: تدبر كتاب الله.

والتدبر بأن تتدبر من القرآن في كل يوم صفحة واحدة، أي: تقرأ الصفحة وتنظر تفسيرها من تفسير ابن كثير أو من كتاب أيسر التفاسير للجزائري، وأما أن تقرأ القرآن ولا تفهمه فما أنزل الله القرآن من أجل ألا يفهمه الناس، هل توقع على معاملة بدون أن تفهمها؟ وإذا وقعت عليها بماذا يصفك الناس؟ بأنك مجنون، إذ كيف تقرأ كلام الله ولا تفهمه؛ لأنك مخاطب به، وفيه أوامر ونواهي وأخبار وأحداث وقصص، كتاب فصلت آياته ثم أحكمت، لا بد أن تعرف كتاب ربك تدبراً.

ثالثاً: العمل.

قرأت وتدبرت ومن ثَم تعمل، مررت على آية: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النور:30] تقول: فتغض بصرك، مررت على: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ [الإسراء:36] لا تسمع الحرام، مررت على: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الإسراء:33] وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً [الإسراء:32] وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الأنعام:152] انتهينا، أقيموا الصلاة تمتثل آتوا الزكاة. لا بد، لماذا؟ تعمل بتعليمات ربانية وأنت عبد مؤمن، تصدق كتاب ربك وتعمل بكتابه، أجل تلوت وتدبرت وعملت.

الرابع: تدعو إلى كتاب ربك.

لا تجلس في مجلس إلا وأنت تبشر بهذا القرآن، تقول لزميلك: يا أخي! لماذا لا ترتل القرآن؟ لماذا أنت معزول عن الله؟ كيف تعيش بدون كتاب الله؟ كم وردك من القرآن؟ تدعو إليه حتى تكون من أهله.

الخامس: الاستشفاء بالقرآن الكريم؛ لأنه شفاء لما في الصدور، يقول الله عز وجل: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82] سواءٌ من الأمراض الحسية أو المعنوية، فهو مجرب، الفاتحة شفاء، وآية الكرسي شفاء، المعوذتان شفاء، لكن لا يترتب الشفاء إلا بأمرين:

أولاً: صلاح ويقين المستشفي أي: القارئ.

ثانياً: صلاح الموضع والمحل الذي يقرأ عليه الإنسان.

أما إذا انتفى صلاح الفاعل أو المفعول به لا تحصل العافية.

هذا التفصيل الموجز والمختصر حول المركب والقارب الأول من قوارب النجاة وهو قارب: تلاوة كتاب الله عز وجل.




استمع المزيد من الشيخ سعيد بن مسفر - عنوان الحلقة اسٌتمع
كيف تنال محبة الله؟ 2924 استماع
اتق المحارم تكن أعبد الناس 2921 استماع
وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً 2800 استماع
أمن وإيمان 2672 استماع
حال الناس في القبور 2671 استماع
توجيهات للمرأة المسلمة 2596 استماع
فرصة الرجوع إلى الله 2568 استماع
النهر الجاري 2472 استماع
دور رجل الأعمال في الدعوة إلى الله 2464 استماع
مرحباً شهر الصيام 2394 استماع