نعمة الإيمان


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين، سيدنا وحبيبنا وإمامنا وقدوتنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اقتفى أثره وسار على دربه واتبع شريعته ودعا إلى ملته.

أما بعد:

فسلام الله عليكم -أيها الأحبة- ورحمة الله وبركاته، وأسعد الله جميع أوقاتكم، وأسأل الله سبحانه وتعالى كما جمعنا في هذا المكان الطاهر، وفي هذه الليلة المباركة، وبعد أداء هذه الفريضة، وجمعنا على ذكره وعبادته بمنه وكرمه ورحمته، أسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجمعنا في جناته جنات النعيم، وآباءنا وأمهاتنا وإخواننا وأخواتنا وزوجاتنا وذرياتنا، وجميع إخواننا المسلمين برحمته إنه أرحم الراحمين.

أيها الأحبة: كلمة النعمة أخذت مفهوماً مغلوطاً وخاطئاً، إذ أنها إذا ذكرت لم يتبادر إلى أذهان الناس إلا النعم المادية؛ نعمة المال، والعافية في الأبدان، والزوجة والأولاد، والوظيفة، والعمارة، والمزرعة، والأموال، هذا هو مفهوم النعمة عند الناس، وهذا المفهوم غير صحيح، إذ أن هذه الأشياء التي نظنها نِعَمٌ هي في مفهوم الشرع متاع، يقول الله عز وجل: إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ [غافر:39]، ويقول عن الكفار: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ [المرسلات:46]، ويقول عنهم: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ [محمد:12]، ويقول عز وجل: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً [لقمان:24] أي: في هذه الدار المحدودة القليلة .. ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [لقمان:24].

أما النعمة في نظر الشرع فليست هذه الأشياء، إنما هي نعمة الإيمان والدين والقرآن والهداية، من أنعم الله عز وجل عليه بهذه الأشياء فقد أنعم عليه بأعظم نعمة في الدنيا والآخرة، ولو لم يملك مالاً، ولو لم يحتل منصباً، ولو تعسرت عليه جميع أمور الدنيا؛ لأن هذه الدنيا ليست بشيء ..

فليست هذه الدنيا بشيء     تسرك حقبة وتسوء وقتا

وغايتها إذا فكرت فيها     كفيئك أو كحلمك إن حلمتا

وتطعمك الطعام وعن قليلٍ     ستطعم منك ما منها طعمتا

تفر من الهجير وتتقيه     فهلا من جهنم قد فررتا

ولست تطيق أهونها عذاباً     ولو كنت الحديد بها لذبتا
هذه الدنيا نسبتها إلى الآخرة ضئيلة جداً، جاء ذلك في حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيه: (ما الدنيا في الآخرة -أي: ما نسبة الدنيا إلى الآخرة- إلا كما يدخل أحدكم إصبعه في اليم -أي: في البحر- ثم ينزعها) أدخل إصبعك في البحر وانزعها، وضع تحتها صحناً وانظر بم ترجع، إنها سترجع بقطرات، هذه القطرات هي نسبة الدنيا، وذاك المحيط هو نسبة الآخرة، أجل ليست شيئاً .. وأهل النار إذا دخلوا النار يخبر الله عز وجل عنهم أنهم يقسمون يقول عز وجل: يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ [الروم:55] وتسألهم الملائكة: كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [المؤمنون:112-113] ليسوا متأكدين، فاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [المؤمنون:113-114].

إذاً: النعمة الحقيقية نعمة الدين، يقول عز وجل في آيات كثيرة في القرآن: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [النساء:69]، هذا هو الذي أنعم الله عليه، من هو؟ الذي أطاع الله وأطاع رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن هم الذين أنعم الله عليهم؟ إنهم أربعة أصناف: مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ [النساء:69-70]، أي: هذه النعمة والفضل أن يجعلك طائعاً وعابداً له، وينعم عليك كما أنعم على هؤلاء الأصناف الأربعة: النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، ومَنْ غير هؤلاء؟ بقي اليهود، والنصارى، والفسقة، والعصاة، والمجرمون، والمنافقون، والكفار، والمشركون، ولماذا لم ينعم الله على هؤلاء؟ لأن هؤلاء مغضوب عليهم، ولهذا أمرنا الله عز وجل وفرض علينا في كل صلاة من صلواتنا بل في كل ركعة أن نسأله أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط مَنْ؟ قال تعالى: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7]، اللهم اسلك بنا صراطهم يا رب العالمين.. غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7] انتبه! فإنك في كل صلاة تقول: يا رب لا تسلك بي طريق المغضوب عليهم، وهم اليهود ومن شابههم ممن علم ولم يعمل، يقول سفيان بن عيينة رحمه الله: من تشبه من العلماء باليهود ولم يعمل ففيه شبه من المغضوب عليهم، أي شخص يعرف دين الله ولا يعمل به فإن الله يغضب عليه كما غضب على اليهود؛ لأنهم كانوا يعرفون هذا الدين كما قال عز وجل: يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ [الأنعام:20]، ويقول الله: فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا [البقرة:89] الدين معروف عندهم، كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [البقرة:89]، وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [البقرة:109] فغضب الله عليهم.

وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] من هم الضالون؟ هم الذين يعبدون الله على جهل وضلال، وعلى غير هدى من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء كثيرون جداً، أصحاب الطرق الصوفية يعبدون الله، تجد مع الواحد منهم مسبحة يسميها الألفية، وبعض المسابح الحبة فيها كبيرة ويطقطق بها .. ما هذا؟ قال: أسبح، من قال لك أن هذا تسبيح؟ وقد كنت وأنا أبحث في هذه المسألة في رسالتي (الدكتوراه) وكانت عن التصوف، فقرأت كلاماً لواحد منهم وهو يقول: لقد منَّ الله عليَّ بأن ذكرت ربي في جلسة واحدة مائة ألف مرة بذكر خاصة الخاصة .. لأن عندهم تصنيفاً للناس، هناك عوام العوام، أنا وأنت ذكرنا ليس شيئاً، لا إله إلا الله، أما هم فيقولون: لنا ذكر خاص ذكر الخاصة، وهو ذكر الله باللفظ المفرد: الله الله الله الله، الله كلمة فقط، لكن أين الصفة التي معها؟ هذه لا تفيد ذماً ولا مدحاً، وليس في الدين كله ذكر الله جل جلاله بالاسم المفرد، لا يوجد إلا سبحان الله، الحمد لله، الله أكبر، لا إله إلا الله، إنا لله وإنا إليه راجعون، لابد من شيء مع الكلمة، هم يقولون: لا، الله فقط، لا نقول شيئاً غير هذا، لماذا؟ قالوا: هذا ذكر الخاصة. أما خاصة الخاصة، وهم: الناس الذين يقولون عنهم: وَصَلَ، أي: وصلوا إلى جهنم، فهم مستعجلون عليها! قالوا: هؤلاء ذكرهم فقط هو ذكر الضمير، يقول: أنا لن أقول مثل قول العوام: لا إله إلا الله، ولا الخاصة الذين يقولون: الله، أنا أقول: هو هو هو هو، مائة ألف مرة، فقلت: أجرب كم سأستطيع أن أقولها، فقلتها تقريباً عشر مرات وإذا بي صرت أنبح مثل الكلب، من الذي يقول: هو هو هو؟ إنه الكلب، هذا ذكرهم، زين لهم سوء أعمالهم فرأوه حسناً، هؤلاء يعبدون الله على جهل وضلال، ولا يقبل الله منهم عبادة إلا بشرطين:

الشرط الأول: الإخلاص؛ أن يكون العمل خالصاً، وهذه متوفرة عندهم، نعرف أنهم مخلصون ليس عندهم رياء.

لكن الشرط الثاني معدوم عندهم، وهو: المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذان الشرطان مأخوذان من كلمة التوحيد.

أهل الإيمان هم أهل النعمة

أيها الإخوة: الذين أنعم الله عليهم هم أهل الإيمان والدين، وقد أنعم الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بأعظم نعمة وقال له: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ [الفتح:1-2]، ما هي النعمة التي أتمها على نبيه؟ أهي نعمة الأكل؟ لا، فقد مات ولم يشبع من طعام البر، اللهم صلِّ وسلم عليه، بل مات ودرعه مرهون في ثلاثين صاعاً من شعير عند يهودي، الشعير الذي نجعله الآن علفاً للبهائم، هذا الذي كان يأكله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن موجوداً بكثرة إنما بالدين، وكان يدخل الهلال والهلال والهلال شهران وثلاثة أشهر، ستون يوماً، ولا يوقد في بيوت آل محمد نار، نحن الآن بيوتنا تشتعل ناراً، كل بيت فيه موقد وفيه ست عيون، وكل عين تلتهب بالقدور، لكن هل هذه نعمة؟ لا! بيت محمد لا يوجد فيه نار لكن فيه نور وهدى، من بيت محمد صلى الله عليه وسلم انطلقت معالم الإنسانية والهدى والنور على العالم كله.

وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ [الفتح:2]. بماذا؟ بالملابس؟ بالفرش والكنبات؟ لا. إنه صلى الله عليه وسلم كان ينام على الحصير، حتى قام يوماً وقد أثر الحصير -هذا الحصير الذي من سعف النخل- أثر في جنبه، فرآه عمر فبكى، وقال: (يا رسول الله! ذكرت ملوك العرب والعجم وما هم فيه من النعم، وأنت أعظم خلق الله وأفضل خلق الله، ليس عندك فراش يا رسول الله! قال: يا عمر ! ما لي وللدنيا، ما أنا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها، ألا يرضيك يا عمر أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً [القصص:83].

أما قصوره صلى الله عليه وسلم (وفلله)، وغرف نومه، ومساكنه ومجالسه، فكانت حجرات ضيقة تحددها الأحاديث في صحيح البخاري ، تقول عائشة : (كان صلى الله عليه وسلم يقوم الليل، فإذا سجد كففت قدمي وإذا وقف مددتهما)، لا تكفي الغرفة لشخص واحد يصلي وآخر راقد، أما غرفنا نحن اليوم فإنها غرف طويلة عريضة، شخص من أقاربي أدخلني في (فيلة) بناها، وذهب يريني غرفة النوم فإذا بها عشرة في عشرة، قلت: ما هذه؟ قال: هذه غرفة نوم، قلت: لماذا هل عندك سباق؟ أنت لست بحاجة إلى غرفة بهذا الحجم، أنت تريد أن ترقد أو تطارد؟ قال: أنا أريد أن أتوسع، قلت: والقبر ماذا عملت له؟ هل وسعته؟ قال: يا شيخ! تلك لم يأت وقتها بعد. والله إنها مصيبة في ذلك اليوم، إذا أخرجوك من بيتك وأنت منكوس رأسك إلى تحت، ووضعوك في الحفرة عندها ماذا ستقول؟ هل ستقول: لم يأت وقتها بعد؟!

النبي صلى الله عليه وسلم كانت نظرته أبعد من هذه الحياة، ولذا أنعم عليه، يقول الله عز وجل: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى:6-11] أي: بدين الله وهداه.

وأنعم الله على الصحابة، يقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بـعرفة في حجة الوداع فينزل عليه قوله سبحانه وتعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة:3]، ما هي النعم التي أتمها على الصحابة؟ إنها نعمة الدين .. وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً [المائدة:3]، ويقول للصحابة: وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً [الحجرات:7-8] فضل ونعمة أن الله يجعل قلبك مشروحاً للدين، مفتوحاً للإيمان، يحب الإيمان والصلاة والصوم والذكر والعبادة؛ لأن هناك أناساً حُرِمُوا هذه النعمة، فأسوأ شيء عندهم طاعة الله، وأكره صوت عندهم الأذان، وأسوأ منظر عندهم أن يروا عالماً أو داعية أو مسجداً، وإذا دخل المسجد ضاق؛ لأنه كره إليه الإيمان، محروم من نعمة الهدى والنور.

أجل يا أخي! النعمة الحقيقية نعمة الإيمان، قد يقول قائل من الناس: لماذا؟ قال العلماء: إنما تعرف النعم بآثارها، الناس اليوم يسمون المال نعمة، قالوا: لأن الذي عنده مال يستريح، يستطيع أن يشتري سيارة، ويعمر عمارة، ويتزوج بزوجة، ويأكل من كل ما لذ وطاب، ويكتسي ويفرش، هو مستريح أربعة وعشرين ساعة، أجل أنا في نعمة بالمال والمال نعمة في الدنيا، هذا صحيح، لكن إذا مت هل ينفعك المال؟ لا.

لا ينفع الإنسان في قبره     إلا التقى والعمل الصالح

يا من بدنياه اشتغل     وغره طول الأمل

وقد مضى في غفلة     حتى دنى منه الأجل

الموت يأتي بغتة     والقبر صندوق العمل

ما الذي ينفع في القبر؟ الإيمان والعمل الصالح، مثل الذي بنى هذا المسجد ينفعه بعد الموت، أسأل الله أن يجعل لمن بناه بيتاً في الجنة، والله هذا هو العمل الصالح وهذه هي التجارة الرابحة مع الله، لكن القصر الذي أبنيه أو البيت لن ينفعني إلا إذا عمرته بذكر الله، ولم أدخل فيه معصية لله، وكان مملوءاً بالطاعات، وإذا عمرته بالمعاصي وأدخلت آلات المعاصي، كانت العمارة والبيت وبالاً عليَّ في الدنيا والآخرة.

أيها الإخوة: الذين أنعم الله عليهم هم أهل الإيمان والدين، وقد أنعم الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بأعظم نعمة وقال له: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ [الفتح:1-2]، ما هي النعمة التي أتمها على نبيه؟ أهي نعمة الأكل؟ لا، فقد مات ولم يشبع من طعام البر، اللهم صلِّ وسلم عليه، بل مات ودرعه مرهون في ثلاثين صاعاً من شعير عند يهودي، الشعير الذي نجعله الآن علفاً للبهائم، هذا الذي كان يأكله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن موجوداً بكثرة إنما بالدين، وكان يدخل الهلال والهلال والهلال شهران وثلاثة أشهر، ستون يوماً، ولا يوقد في بيوت آل محمد نار، نحن الآن بيوتنا تشتعل ناراً، كل بيت فيه موقد وفيه ست عيون، وكل عين تلتهب بالقدور، لكن هل هذه نعمة؟ لا! بيت محمد لا يوجد فيه نار لكن فيه نور وهدى، من بيت محمد صلى الله عليه وسلم انطلقت معالم الإنسانية والهدى والنور على العالم كله.

وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ [الفتح:2]. بماذا؟ بالملابس؟ بالفرش والكنبات؟ لا. إنه صلى الله عليه وسلم كان ينام على الحصير، حتى قام يوماً وقد أثر الحصير -هذا الحصير الذي من سعف النخل- أثر في جنبه، فرآه عمر فبكى، وقال: (يا رسول الله! ذكرت ملوك العرب والعجم وما هم فيه من النعم، وأنت أعظم خلق الله وأفضل خلق الله، ليس عندك فراش يا رسول الله! قال: يا عمر ! ما لي وللدنيا، ما أنا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها، ألا يرضيك يا عمر أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً [القصص:83].

أما قصوره صلى الله عليه وسلم (وفلله)، وغرف نومه، ومساكنه ومجالسه، فكانت حجرات ضيقة تحددها الأحاديث في صحيح البخاري ، تقول عائشة : (كان صلى الله عليه وسلم يقوم الليل، فإذا سجد كففت قدمي وإذا وقف مددتهما)، لا تكفي الغرفة لشخص واحد يصلي وآخر راقد، أما غرفنا نحن اليوم فإنها غرف طويلة عريضة، شخص من أقاربي أدخلني في (فيلة) بناها، وذهب يريني غرفة النوم فإذا بها عشرة في عشرة، قلت: ما هذه؟ قال: هذه غرفة نوم، قلت: لماذا هل عندك سباق؟ أنت لست بحاجة إلى غرفة بهذا الحجم، أنت تريد أن ترقد أو تطارد؟ قال: أنا أريد أن أتوسع، قلت: والقبر ماذا عملت له؟ هل وسعته؟ قال: يا شيخ! تلك لم يأت وقتها بعد. والله إنها مصيبة في ذلك اليوم، إذا أخرجوك من بيتك وأنت منكوس رأسك إلى تحت، ووضعوك في الحفرة عندها ماذا ستقول؟ هل ستقول: لم يأت وقتها بعد؟!

النبي صلى الله عليه وسلم كانت نظرته أبعد من هذه الحياة، ولذا أنعم عليه، يقول الله عز وجل: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى:6-11] أي: بدين الله وهداه.

وأنعم الله على الصحابة، يقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بـعرفة في حجة الوداع فينزل عليه قوله سبحانه وتعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة:3]، ما هي النعم التي أتمها على الصحابة؟ إنها نعمة الدين .. وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً [المائدة:3]، ويقول للصحابة: وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً [الحجرات:7-8] فضل ونعمة أن الله يجعل قلبك مشروحاً للدين، مفتوحاً للإيمان، يحب الإيمان والصلاة والصوم والذكر والعبادة؛ لأن هناك أناساً حُرِمُوا هذه النعمة، فأسوأ شيء عندهم طاعة الله، وأكره صوت عندهم الأذان، وأسوأ منظر عندهم أن يروا عالماً أو داعية أو مسجداً، وإذا دخل المسجد ضاق؛ لأنه كره إليه الإيمان، محروم من نعمة الهدى والنور.

أجل يا أخي! النعمة الحقيقية نعمة الإيمان، قد يقول قائل من الناس: لماذا؟ قال العلماء: إنما تعرف النعم بآثارها، الناس اليوم يسمون المال نعمة، قالوا: لأن الذي عنده مال يستريح، يستطيع أن يشتري سيارة، ويعمر عمارة، ويتزوج بزوجة، ويأكل من كل ما لذ وطاب، ويكتسي ويفرش، هو مستريح أربعة وعشرين ساعة، أجل أنا في نعمة بالمال والمال نعمة في الدنيا، هذا صحيح، لكن إذا مت هل ينفعك المال؟ لا.

لا ينفع الإنسان في قبره     إلا التقى والعمل الصالح

يا من بدنياه اشتغل     وغره طول الأمل

وقد مضى في غفلة     حتى دنى منه الأجل

الموت يأتي بغتة     والقبر صندوق العمل

ما الذي ينفع في القبر؟ الإيمان والعمل الصالح، مثل الذي بنى هذا المسجد ينفعه بعد الموت، أسأل الله أن يجعل لمن بناه بيتاً في الجنة، والله هذا هو العمل الصالح وهذه هي التجارة الرابحة مع الله، لكن القصر الذي أبنيه أو البيت لن ينفعني إلا إذا عمرته بذكر الله، ولم أدخل فيه معصية لله، وكان مملوءاً بالطاعات، وإذا عمرته بالمعاصي وأدخلت آلات المعاصي، كانت العمارة والبيت وبالاً عليَّ في الدنيا والآخرة.

أيها الإخوة: إن نعمة الإيمان أعظم نعمة؛ لأن أثرها بعيد .. المال ينفعك في الدنيا لكن لا ينفعك بعد الموت .. المنصب ينفعك في الدنيا لكن إذا مت لن تدخل بمنصبك .. الأولاد والزوجات ينفعون في الدنيا لكن لن ينفعوك عند الموت، وإنما يتركونك ويذهبون، فالذي ينفعك في الدنيا والآخرة هو الإيمان والعمل الصالح.

و يظن بعض الناس أن الإيمان ينفع فقط في الآخرة، وأن الإيمان والدين يضيق على الإنسان، ويحرم الإنسان من لذائذ الحياة، ولذا تجد الواحد منهم يقول: الآن أشبع وبعدها الأمر سهل. لا، إن الإيمان -يا أخي- لا ينفعك في الآخرة فقط، وإنما تسعد به في الدنيا والآخرة، وقد يقول قائل: كيف أسعد بالإيمان في الدنيا؟ اسمع آثار الإيمان عليك في الدنيا:

معرفة الهدف والغاية من وجود الإنسان

إن الإيمان يقدم لك -أيها الإنسان- التفسير الحقيقي لهذه الحياة، هذه الحياة -أيها الإخوة- لغز محير حارت في فهمه العقول، وعجزت كل النظريات والفلسفات أن تعرفه، وعاش الإنسان في عذاب وشقاء، وهو لا يدري من أين جاء؟ ولا يدري لماذا جاء؟ ولا يدري إلى أين بعد أن يموت؟ حتى قال شاعر الكفار:

جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت     ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت

وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت     كيف جئت؟ كيف سرت؟

كيف أبصرت طريقي؟ لست أدري     ولماذا؟ لست أدري لست أدري!!

تصوروا شخصاً يقطع رحلة العمر كلها وهو لا يدري لماذا يعيش!

أنت الآن لو كنت مسئولاً في الأمن أو في المرور ورأيت سيارة على طريق الدمام ، وأوقفت السائق وقلت له: من أين أتيت؟ قال: لا أدري، قلت: أين أنت ذاهب؟ قال: والله لا أدري، لماذا تمشي؟ قال: والله يا أخي لا أدري، ما هو رأيك .. هل تسمح له بالمشي؟ لا. وإنما تقول له: توقف، فإن هذا أحد رجلين: إما مجنون، أو سكران، وهل يسمح للمجنون والسكران أن يسير في الطريق العام؟ لا، لماذا؟ لأنه سيسبب كارثة للناس، هذه رحلة ثلاث ساعات إلى الدمام، يمنع أن يمشي الشخص فيها وهو لا يدري أين يمشي، فقولوا لي بربكم: من يقطع رحلة العمر ستين سنة أو سبعين سنة وهو لا يدري لماذا يعيش! ولا يعرف من الدنيا إلا كما يعرف الحمار! لو سألنا الحمار وحققنا معه وقلنا: يا حمار! لماذا تعيش هنا؟ لقال: لآكل وأشرب وأرقد، وإذا رأى الأنثى رفع أذنيه وأسرع نحوها، هذه حياة البهائم، بعض البشر الآن يعيش بعقلية الحمار، يأكل ويشرب وينام وإذا رأى الأنثى أسرع، ما رأيكم هل هذا إنسان؟! ما الفرق بين الاثنين؟ ليس هناك فرق، ولهذا الله يقول: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44] ليته كالأنعام بل هو أضل من الأنعام، هذا كلام الله يا إخواني.

فالإيمان يقدم لك التفسير ويعلمك من أنت؟

دواؤك فيك وما تبصر     وداؤك منك وما تشعر

وتحسب أنك جرم صغير     وفيك انطوى العالم الأكبر

أنت أكرم مخلوقات الله، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وأمرك بطاعته ونهاك عن معصيته، وأنزل عليك كتبه، وبعث إليك رسله، وهيأ لك جنته، وحذرك ناره، أي تكريم أعظم من هذا التكريم؟! وتترك هذا كله وتذهب إلى الشيطان وتعبده وتطيعه، إنها والله خسارة كبيرة.

فأول شيء من آثار الإيمان أن الإيمان يعلمك لماذا جئت.

حصول الأمن والطمأنينة

بالإيمان يحصل لك الأمن والطمأنينة، والله لا يسكن القلب ولا تستريح النفس في الدنيا، ولو تمتعت بجميع متعها ولذائذها، والله لا تستريح إلا بالإيمان، والذي لم يجرب فليجرب؛ لأن الله يقول: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] فلا تطمئن القلوب بالأموال، ولا بالأكل، ولا بالزوجات، ولا بالسيارات، ولا بالعمارات، انظروا إليهم في أوروبا الآن، الكفار يعيشون قمة الحياة في الأمور المادية، لكن هل حققت لهم المادة سعادة؟ يعيشون أسوأ عيشة؛ الانتحار .. الأمراض النفسية .. التفكك الأسري .. التحلل الاجتماعي .. الجنون المسرحي والتمثيلي والكروي، الفساد العام، بسبب ماذا؟ بسبب بعدهم عن الإيمان؛ لأن الله يقول: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً [طـه:124] معيشة ضنكاً ولو عنده (مليارات) لماذا؟ لأن الأموال ترفه عن الجسد، أما القلب فماذا سيضع له؟ يدخل له (شيكاً)، أو يجعله في (فيلة) أو يعطيه طعاماً خاصاً؟ لا، القلب له طعام آخر، من السماء، إنه الإيمان، دخل إلى القلب فاطمئن .. وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ [الرعد:28].

ضبط المسار وتحديد الاتجاه

بعد ذلك الدين يضبط مسارك ويحدد اتجاهك في الحق؛ في الصلاة والزكاة والصوم، في العمل الصالح، في وظيفتك ومصلحتك وشئونك، وإذا دعيت إلى منكر فإنك تقول: لا، من الذي جعلك تقول لا؟ إنه الإيمان، ولو لم يكن عندك إيمان لعصيت، ولذا نرى الذين وقعوا في الجرائم لو ذهبت إليهم في السجون وقلت للواحد منهم: ماذا عملت؟ لقال: أنا قاتل، لماذا قتلت؟ قال: الشيطان، يجعلها على إبليس ولا يلوم نفسه، والثاني روج للمخدرات .. لماذا تروج هذا الداء الوبيل الذي يفتك بالأُسَرِ، ويقضي على الإنسانية؟ قال: الشيطان، والثالث يسرق .. لماذا تسرق؟ قال: الشيطان، وذاك زنى .. لماذا تزني؟ قال: الشيطان، متى تسلط عليهم الشيطان؟ عندما ابتعدوا عن الإيمان؛ لأن الله يقول: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا [النحل:99] الشيطان لا يتسلط على المؤمن أبداً؛ لأن المؤمن ينظر بنور الله، وإذا جاءه الشيطان عرض أمر الشيطان على الإيمان فرأى أنه باطل، فلا يأتيه أبداً حتى ولو دعي، لكن الأعمى الذي ليس عنده إيمان يلعب عليه الشيطان، ويقوده حتى يوقعه، أوقعه في المعصية تخلى عنه. أجل إن أعظم شيء يسعدك في الدنيا هو الدين والإيمان؛ لأنه يحميك.

ولاية الله للعبد

من آثار الإيمان: أن الله يتولاك في جميع شئونك، يقول الله عز وجل: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:257] أما ترضى -يا أخي- أن يكون الله عز وجل وليك؟! يرزقك من حيث لا تحتسب، يجعل لك من كل عسر يسراً، ومن كل ضيق فرجاً، ومن كل همّ مخرجاً، يتولاك الله عز وجل، يقول في الحديث القدسي، والحديث ذكره ابن القيم في الجواب الكافي ، يقول الله: (وعزتي وجلالي ما اعتصم عبد من عبادي بي فكادته السماوات والأرض إلا جعلت له منها مخرجاً، وعزتي وجلالي ما اعتصم عبد من عبادي بمخلوق دوني إلا أسخت الأرض من تحت قدميه، وقطعت عنه أسباب السماء ثم لا أبالي في أي وادٍ هلك) أترضى هذه العيشة؟!

التثبيت بالقول الثابت في الدنيا والآخرة

تأتيك آثار الإيمان بعد الموت، إذا كنت في سكرات الموت فإن الدنيا كلها ترفضك، والإيمان يقول: أنا معك، ويثبتك الله بالقول الثابت .. يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [إبراهيم:27] لم يقل: يثبت التجار أو العظماء أو الأثرياء، وإنما يثبت الله الذين آمنوا في تلك اللحظات الحرجة، التي تزيغ فيها الأبصار من هول الموقف، والإنسان يرى ملائكة العذاب أو النعيم، وهو يعالج سكرات الموت فيثبته الله عز وجل فيقول: لا إله إلا الله، هذه الكلمة، وقد جاء في الحديث الذي في سنن النسائي وابن ماجة وأبي داود والترمذي بسند صحيح: (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة) من يقولها عند الموت؟ الذي ثبته الله عليها في الحياة، وبعد ذلك تدخل القبر فيجعل الله قبرك روضة من رياض الجنة، ويثبتك ويلهمك حجتك، إذا سئلت: من ربك؟ قلت: ربي الله .. ما دينك؟ ديني الإسلام .. من نبيك؟ نبيي محمد صلى الله عليه وسلم، من الذي ثبتك وأنت في القبر؟ إنه الله .. يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ [إبراهيم:27] اللهم ثبتنا يا مولانا بالقول الثابت في الدنيا والآخرة.

يوم القيامة يخرج الناس من قبورهم، والمعالم الكونية قد تغيرت .. السماء انفطرت .. والكواكب انتثرت، والبحار فجرت، والنجوم بعثرت، والشمس كورت، كل شيء متغير، يخرج الإنسان عارياً حافياً، حتى القطعة التي قطعت منه يوم ختن تعود له يوم القيامة، يبعثون عراة حفاة غرلاً بهماً غير مختونين، قد تعلقت قلوبهم بالله .. إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ [غافر:18]، القلب ليس ثابتاً قد ارتفع من مكانه .. كَاظِمِينَ [غافر:18] مكظوم من قلبه، انظر عندما تدخل الطائرة في مطب هوائي ثم تنزل، كيف سيكون حالك؟ تقول: هه هه! يرتفع قلبك من مكانه من الخوف، فهؤلاء ليس للحظة واحدة، بل طوال وقتهم في الموقف وقلوبهم مرتفعة، يقول الله: إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ [غافر:18].

في ذلك اليوم إن كنت من أهل الإيمان يظلك الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، وتأخذ كتابك بيمينك؛ لأنك من أهل اليمين، وتوزن فترجح موازينك؛ لأن لك وزناً ولك قيمة، عندك توحيد وصلاة وزكاة وعمل، بعد ذلك ترد الحوض فتشرب شربة لا تظمأ بعدها أبداً، وبعد ذلك يقال لك ولأمثالك: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف:70-72].

هذه آثار الإيمان يا إخواني! ما رأيكم هل هي مفيدة وجيدة أم لا؟ هل إذا آمنت تخسر؟ والله لن تخسر شيئاً، ماذا خسرت؟! خسرت الزنا، وهل الزنا خسارة؟! لا والله، بل تركه كرامة، هل خسرت الخمر، وقلة الدين، وقطع الصلاة، وعقوق الوالدين، والمخدرات؟ هذه كلها محرمة؛ لأن الله لم يحرم شيئاً إلا وفيه ضرر، ولم يبح شيئاً إلا وفيه نفع، الخير كله في دين الله، والشر كله ليس في دين الله، فأنت رابح في الدنيا، ورابح عند الموت وفي القبر والحشر، ورابح يوم تدخل الجنة، لكن عندما تترك الدين أو تضيع من الدين ماذا ستربح؟ تغني، حسناً غني، وماذا بعد ذلك؟ أدخلوك النار، قم واترك الغناء، واعلم أنه ليس بديلاً يا أخي اتق الله! النعمة الحقيقية نعمة الإيمان.

إن الإيمان يقدم لك -أيها الإنسان- التفسير الحقيقي لهذه الحياة، هذه الحياة -أيها الإخوة- لغز محير حارت في فهمه العقول، وعجزت كل النظريات والفلسفات أن تعرفه، وعاش الإنسان في عذاب وشقاء، وهو لا يدري من أين جاء؟ ولا يدري لماذا جاء؟ ولا يدري إلى أين بعد أن يموت؟ حتى قال شاعر الكفار:

جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت     ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت

وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت     كيف جئت؟ كيف سرت؟

كيف أبصرت طريقي؟ لست أدري     ولماذا؟ لست أدري لست أدري!!

تصوروا شخصاً يقطع رحلة العمر كلها وهو لا يدري لماذا يعيش!

أنت الآن لو كنت مسئولاً في الأمن أو في المرور ورأيت سيارة على طريق الدمام ، وأوقفت السائق وقلت له: من أين أتيت؟ قال: لا أدري، قلت: أين أنت ذاهب؟ قال: والله لا أدري، لماذا تمشي؟ قال: والله يا أخي لا أدري، ما هو رأيك .. هل تسمح له بالمشي؟ لا. وإنما تقول له: توقف، فإن هذا أحد رجلين: إما مجنون، أو سكران، وهل يسمح للمجنون والسكران أن يسير في الطريق العام؟ لا، لماذا؟ لأنه سيسبب كارثة للناس، هذه رحلة ثلاث ساعات إلى الدمام، يمنع أن يمشي الشخص فيها وهو لا يدري أين يمشي، فقولوا لي بربكم: من يقطع رحلة العمر ستين سنة أو سبعين سنة وهو لا يدري لماذا يعيش! ولا يعرف من الدنيا إلا كما يعرف الحمار! لو سألنا الحمار وحققنا معه وقلنا: يا حمار! لماذا تعيش هنا؟ لقال: لآكل وأشرب وأرقد، وإذا رأى الأنثى رفع أذنيه وأسرع نحوها، هذه حياة البهائم، بعض البشر الآن يعيش بعقلية الحمار، يأكل ويشرب وينام وإذا رأى الأنثى أسرع، ما رأيكم هل هذا إنسان؟! ما الفرق بين الاثنين؟ ليس هناك فرق، ولهذا الله يقول: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44] ليته كالأنعام بل هو أضل من الأنعام، هذا كلام الله يا إخواني.

فالإيمان يقدم لك التفسير ويعلمك من أنت؟

دواؤك فيك وما تبصر     وداؤك منك وما تشعر

وتحسب أنك جرم صغير     وفيك انطوى العالم الأكبر

أنت أكرم مخلوقات الله، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وأمرك بطاعته ونهاك عن معصيته، وأنزل عليك كتبه، وبعث إليك رسله، وهيأ لك جنته، وحذرك ناره، أي تكريم أعظم من هذا التكريم؟! وتترك هذا كله وتذهب إلى الشيطان وتعبده وتطيعه، إنها والله خسارة كبيرة.

فأول شيء من آثار الإيمان أن الإيمان يعلمك لماذا جئت.




استمع المزيد من الشيخ سعيد بن مسفر - عنوان الحلقة اسٌتمع
اتق المحارم تكن أعبد الناس 2929 استماع
كيف تنال محبة الله؟ 2927 استماع
وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً 2805 استماع
أمن وإيمان 2680 استماع
حال الناس في القبور 2678 استماع
توجيهات للمرأة المسلمة 2604 استماع
فرصة الرجوع إلى الله 2572 استماع
النهر الجاري 2477 استماع
دور رجل الأعمال في الدعوة إلى الله 2470 استماع
مرحباً شهر الصيام 2400 استماع