خطب ومحاضرات
دروس ووقفات تربوية من السنة النبوية
الحلقة مفرغة
حمداً لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعـد:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أيها الإخوة.. أيها الأكارم.. أيها الفضلاء الذين مشيتم هذه الخطى إلى روضة من رياض الجنة وبيتٍ من بيوت الله، أسأل الله تعالى أن ينـزل من رحمته وبره وبركته على هذا المجلس ما يسعد به قلوبهم وينور به دروبهم، ويجعلهم به موفقين في كل أمورهم.. إنه على كل شيءٍ قدير، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، وكن لنا ولا تكن علينا، وأعنا ولا تعن علينا، وانصرنا على من بغى علينا، اللهم اهدنا إلى سواء السبيل، إنك على كل شيءٍ قدير.
أما بعد...
فهذه المحاضرة المباركة -إن شاء الله- في هذا المسجد الكبير بهذه المدينة الطيب أهلها، في هذه الليلة: ليلة السبت العاشر من شهر صفر من سنة 1413هـ، وهي حول دروس ووقفات تربوية من السنة النبوية.
من تواضعه صلى الله عليه وسلم
إذاً: هكذا كان هديه صلى الله عليه وسلم، فكان يراقب كل أمورهم، ولم يكونوا يقطعون أمراً دونه دق أو جل، دعك من كونه صلى الله عليه وسلم خطيبهم في الجمعة، ومقدمهم في الحرب، وإمامهم في الدين، ووسيطهم في الوحي، ينقل لهم خبر السماء بكرةً وعشياً.
بل حتى أدق أمورهم كانوا يستشفعون به صلى الله عليه وسلم فيها، فربما وجد العبد الرقيق من قومه ومواليه أذى أو إثقالاً بالعمل، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو إليه، وربما أخذت الأَمَةُ بيده صلى الله عليه وسلم في أي سكك المدينة، فكلمته حتى ينتهي ما عندها، وربما أبت المرأة زوجها وكرهته، فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستشفع به إلى زوجه أن تقبله وتعيش معه، فكان صلى الله عليه وسلم معهم في كل أمورهم ومنقلباتهم.
ولهذا لم يمت صلى الله عليه وسلم؛ حتى كان أكثر صلاته من الليل وهو قاعد بعد أن أصابه الإجهاد، لكثرة مجيء الناس إليه، وكثرة مشاكلهم وأسئلتهم، وكثرة ما يعانون ويواجهون، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان معهم لحظةً لحظةً، وساعةً ساعةً، ويوماً يوماً في كل أمورهم، وفي كل أشيائهم، ولهذا كان منهم محل الروح من البدن، ومحل السمع والبصر، فلما دخل المدينة صلى الله عليه وسلم أشرق منها كل شيء، فلما مات صلى الله عليه وسلم ودفن، أظلم من المدينة كل شيء كما يقول أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه.
الرسول القدوة
التطبيق لمبادئ وأحكام الإسلام
جنت الفقر والذل والجهل والهوان والعبودية والقضاء على إنسانية الإنسان، وجنت الهزائم المتتابعة حيث أن الأمة لا تحسن شيئاً كما تحسن الهزائم على يد أولئك القادة الذين شرقوا بها وغربوا، ولكنهم لم يتجهوا بها إلى الكعبة، ولم يقولوا: ربنا الله ثم يستقيموا.
لم تكن دعوة الإسلام دعوةً نظرية ترفع شعاراً وتطبق غيره، بل كان الرسول نفسه صلى الله عليه وسلم -وهو يتكلم- يطبق في واقع الحياة، فيقِيْدُ حتى من نفسه، فإن طلب أحدٌ القصاص من شخصه الكريم نفذ عليه الصلاة والسلام. فقد كشف بطنه يوماً من الأيام لرجل من الصحابة اسمه سواد بن غزية: { وقال استقد يا
وسرقت امرأة من بني مخزوم، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حِبَّه وابن حِبهِّ، فكلمه أسامة بن زيد، فغضب الرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: {أتشفع في حدٍ من حدود الله، وايم الله لو أن
وقد كسفت الشمس، فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم، فقام عليه الصلاة والسلام وقال: {إنهما لا تنكسفان لموت أحدٍ ولا لحياته، وإنما يخوف الله تعالى بهما عباده} إنه بشرٌ رسول، يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، هابه رجل من الأعراب، فاضطرب، فقال: {هَوّن عليك، فإنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بـمكة} فهو يأكل مع أصحابه، ويشرب ويجلس وينام معهم، حتى يأتي الرجل الغريب لا يعرف النبي صلى الله عليه وسلم من غيره.
كثرة جلوسه صلى الله عليه وسلم مع أصحابه
ويأتي الرجل الأعرابي في ملأٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فيقف فيهم، ويقول: أيكم محمد؟ لأنه لا يتميز عنهم بمجلس ولا ببزة أو ثوب ولا بِسِمَةٍ ولا بعلامة، وإنما كان صلى الله عليه وسلم غاية في الحلم والتواضع والإخبات إلى الله عز وجل حتى وهو في أعظم المواقف، ينـزل عليه الوحي من السماء، وأي إنسان ينـزل عليه الوحي؟ إنه لا ينـزل إلا على المختار من عباد الله عز وجل، على الرسل الكرام، ينـزل عليه الوحي فيكون أضعف ما يكون صلى الله عليه وسلم، حتى إنه ليتفصد من جبينه العرق في اليوم الشاتي، ويسمع له غطيط مثل غطيط البكر، ويحْمَرُّ وجهه صلى الله عليه وسلم، وهو بين ذلك في خيمة، فينظر إليه بعض أصحابه ويتعجبون منه صلى الله عليه وسلم، يقول الله عز وجل: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نـزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا [البقرة:23] فلحظة تنـزيل الوحي هي لحظةً من لحظات تحقق العبودية، وكمال الذل لله عز وجل، وهو كمال الإنسان، ورفعة الإنسان.
ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا |
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا |
لحظة التعبد لله عز وجل وتمريغ الوجه بالتراب له تعالى، وهي لحظةٍ ضعف في ظاهرها وذل، لكنها لحظة كمال للإنسان، ولهذا قال الله عز وجل: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً [الجن:19] أي: رسول الله، فلحظة عبادته لله تعالى ودعائه إياه: هي لحظة عبودية يتجلى فيها ما وهبه الله تعالى من خصائص الجمال والجلال والكمال.
أفضلية كتب السنة والسيرة بعد القرآن
أهل الحديث همُ أهل النبي وإن لم يصحبوا نَفْسه أنفاسَه صحبوا |
وقال آخر:
دين النبي محمد آثارُ نعم المطية للفتى أخبارُ |
لا ترغبن عن الحديث وأهله فالرأي ليلٌ والحديث نهارُ |
ولربما جهل الفتى أثر الهدى والشمس طالعة لها أنوارُ |
فهذه الكتب من أعظم الكتب وأولاها بالعناية وأحقها بالدراسة، ونحن في جلسةٍ مباركةٍ -إن شاء الله- مع بعض هذه الكتب، وإن الوقت لا يسعف بأن ندخل إلى مضمونات هذه الكتب من الأحاديث والنصوص، فهذا أمرٌ يطول، ولكننا سوف نطرق الأبواب فقط، ونقف عند الكتب فحسب، وسنجد فيها خيراً كثيراً إن شاء الله.
لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه ملكاً متجبراً، ولا ملكاً متعالياً، ولم يكن يعيش في برجٍ عاجي بعيداً عن الناس، ولكن كان يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، يعطف على مسكينهم، ويرحم فقيرهم، ويطعم جائعهم، ويعلم جاهلهم، كما وصفه بذلك أصحابه، فقالت أسماء رضي الله عنها وأرضاها لـعمر حينما قال لها: [[ نحن سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم، قالت: كلا والله! كنتم قريبين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يطعم جائعكم، ويعلم جاهلكم، ونحن كنا في دار البعداء البغضاء، الحبشة ]].
إذاً: هكذا كان هديه صلى الله عليه وسلم، فكان يراقب كل أمورهم، ولم يكونوا يقطعون أمراً دونه دق أو جل، دعك من كونه صلى الله عليه وسلم خطيبهم في الجمعة، ومقدمهم في الحرب، وإمامهم في الدين، ووسيطهم في الوحي، ينقل لهم خبر السماء بكرةً وعشياً.
بل حتى أدق أمورهم كانوا يستشفعون به صلى الله عليه وسلم فيها، فربما وجد العبد الرقيق من قومه ومواليه أذى أو إثقالاً بالعمل، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو إليه، وربما أخذت الأَمَةُ بيده صلى الله عليه وسلم في أي سكك المدينة، فكلمته حتى ينتهي ما عندها، وربما أبت المرأة زوجها وكرهته، فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستشفع به إلى زوجه أن تقبله وتعيش معه، فكان صلى الله عليه وسلم معهم في كل أمورهم ومنقلباتهم.
ولهذا لم يمت صلى الله عليه وسلم؛ حتى كان أكثر صلاته من الليل وهو قاعد بعد أن أصابه الإجهاد، لكثرة مجيء الناس إليه، وكثرة مشاكلهم وأسئلتهم، وكثرة ما يعانون ويواجهون، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان معهم لحظةً لحظةً، وساعةً ساعةً، ويوماً يوماً في كل أمورهم، وفي كل أشيائهم، ولهذا كان منهم محل الروح من البدن، ومحل السمع والبصر، فلما دخل المدينة صلى الله عليه وسلم أشرق منها كل شيء، فلما مات صلى الله عليه وسلم ودفن، أظلم من المدينة كل شيء كما يقول أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه.
هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم! مصلح المصلحين، وإمام الأئمة، وقدوة وليس غيره أحد يُقتدى به ويُتأسى، فعليه صلوات الله وسلامه، وجزاه الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته، ولذلك كانت حياته صلى الله عليه وسلم برنامجاً عملياً وافياً كافياً شاملاً للمسلمين، وكل مسلم إلى قيام الساعة إذا أمر أو نهى تذكر حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن هذا الأمر والنهي هو من عند الصادق المصدوق، وكان قد طبق تطبيقاً عملياً في تلك الفترة النقية من حياة البشرية، فترة النبوة والخلافة الراشدة.
إذاً: ليس الإسلام أحلاماً طائرة، ولا أمثلةً خيالية، ولا دعواتٍ لا رصيد لها من الواقع، كما هي النظريات المنحرفة، حيث رفعت الشيوعية -مثلاً- شعار العدل والمساواة، فلم نجد إلا أنها ساوت الأغنياء بالفقراء، وجعلتهم جميعاً يعيشون حالةً من العوز والفقر دون مستوى الإعدام، ورفعت كثيراً من الدعوات شعار الحرية، فلم نجد في حقيقتها إلا أنها سحقت الناس، وصادرت حرياتهم، وقضت على إنسانيتهم، وجعلتهم أمثال البهائم والدواب، وزجت بهم في غياهب السجون، وشهدت الأمة العربية والإسلامية من ذلك الشيء الكثير، فالدعوات والأحزاب التي حكمت في بلاد الإسلام شرقاً وغرباً باسم البعثية والاشتراكية والقومية والناصرية والديمقراطية والحرية ماذا جنت منها الأمة الإسلامية؟
جنت الفقر والذل والجهل والهوان والعبودية والقضاء على إنسانية الإنسان، وجنت الهزائم المتتابعة حيث أن الأمة لا تحسن شيئاً كما تحسن الهزائم على يد أولئك القادة الذين شرقوا بها وغربوا، ولكنهم لم يتجهوا بها إلى الكعبة، ولم يقولوا: ربنا الله ثم يستقيموا.
لم تكن دعوة الإسلام دعوةً نظرية ترفع شعاراً وتطبق غيره، بل كان الرسول نفسه صلى الله عليه وسلم -وهو يتكلم- يطبق في واقع الحياة، فيقِيْدُ حتى من نفسه، فإن طلب أحدٌ القصاص من شخصه الكريم نفذ عليه الصلاة والسلام. فقد كشف بطنه يوماً من الأيام لرجل من الصحابة اسمه سواد بن غزية: { وقال استقد يا
وسرقت امرأة من بني مخزوم، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حِبَّه وابن حِبهِّ، فكلمه أسامة بن زيد، فغضب الرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: {أتشفع في حدٍ من حدود الله، وايم الله لو أن
وقد كسفت الشمس، فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم، فقام عليه الصلاة والسلام وقال: {إنهما لا تنكسفان لموت أحدٍ ولا لحياته، وإنما يخوف الله تعالى بهما عباده} إنه بشرٌ رسول، يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، هابه رجل من الأعراب، فاضطرب، فقال: {هَوّن عليك، فإنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بـمكة} فهو يأكل مع أصحابه، ويشرب ويجلس وينام معهم، حتى يأتي الرجل الغريب لا يعرف النبي صلى الله عليه وسلم من غيره.
في حديث الهجرة -وهو في صحيح البخاري- قدم الرسول صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر إلى المدينة فلم يعرف الأنصار الذين لم يبايعوه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءوا إلى أبي بكر يطيفون به، ويجعلون وجوههم إليه يظنون أنه هو الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام أبو بكرٍ يظلله بردائه فعرفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويأتي الرجل الأعرابي في ملأٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فيقف فيهم، ويقول: أيكم محمد؟ لأنه لا يتميز عنهم بمجلس ولا ببزة أو ثوب ولا بِسِمَةٍ ولا بعلامة، وإنما كان صلى الله عليه وسلم غاية في الحلم والتواضع والإخبات إلى الله عز وجل حتى وهو في أعظم المواقف، ينـزل عليه الوحي من السماء، وأي إنسان ينـزل عليه الوحي؟ إنه لا ينـزل إلا على المختار من عباد الله عز وجل، على الرسل الكرام، ينـزل عليه الوحي فيكون أضعف ما يكون صلى الله عليه وسلم، حتى إنه ليتفصد من جبينه العرق في اليوم الشاتي، ويسمع له غطيط مثل غطيط البكر، ويحْمَرُّ وجهه صلى الله عليه وسلم، وهو بين ذلك في خيمة، فينظر إليه بعض أصحابه ويتعجبون منه صلى الله عليه وسلم، يقول الله عز وجل: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نـزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا [البقرة:23] فلحظة تنـزيل الوحي هي لحظةً من لحظات تحقق العبودية، وكمال الذل لله عز وجل، وهو كمال الإنسان، ورفعة الإنسان.
ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا |
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا |
لحظة التعبد لله عز وجل وتمريغ الوجه بالتراب له تعالى، وهي لحظةٍ ضعف في ظاهرها وذل، لكنها لحظة كمال للإنسان، ولهذا قال الله عز وجل: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً [الجن:19] أي: رسول الله، فلحظة عبادته لله تعالى ودعائه إياه: هي لحظة عبودية يتجلى فيها ما وهبه الله تعالى من خصائص الجمال والجلال والكمال.
أفضل الكتب بعد القرآن هي الكتب التي تحكي لنا سيرته صلى الله عليه وسلم وسنته وأقواله وأفعاله، فيقرأ الإنسان -مثلاً- صحيح البخاري أو صحيح مسلم فيجد فيه أنفاس رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلماته وعباراته وأقواله وأفعاله وتقريراته وأحكامه وفتاويه التي لا يمكن أن يقارن بها كلام غيره من البشر، ولهذا قال القائل:
أهل الحديث همُ أهل النبي وإن لم يصحبوا نَفْسه أنفاسَه صحبوا |
وقال آخر:
دين النبي محمد آثارُ نعم المطية للفتى أخبارُ |
لا ترغبن عن الحديث وأهله فالرأي ليلٌ والحديث نهارُ |
ولربما جهل الفتى أثر الهدى والشمس طالعة لها أنوارُ |
فهذه الكتب من أعظم الكتب وأولاها بالعناية وأحقها بالدراسة، ونحن في جلسةٍ مباركةٍ -إن شاء الله- مع بعض هذه الكتب، وإن الوقت لا يسعف بأن ندخل إلى مضمونات هذه الكتب من الأحاديث والنصوص، فهذا أمرٌ يطول، ولكننا سوف نطرق الأبواب فقط، ونقف عند الكتب فحسب، وسنجد فيها خيراً كثيراً إن شاء الله.
الدرس الأول في هذه الكتب هو أهمية النص النبوي، واعتماد المسلم على هذا النص في أحكامه وعقائده وعباداته ومعاملاته وفي سائر أموره.
تطبيق النص في واقعنا
إن كتاباً واحداً كـمسند الإمام أحمد يحتوي على ما يزيد على ثلاثين ألف حديث تقريباً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلها نور وهدى وعلم، حتى قال أحد زعماء الغرب واسمه برناردشو: " لو كان محمد صلى الله عليه وسلم حياً لحل مشاكل عالم ريثما يشرب فنجاناً من القهوة ".
ففي هذه الكتب تجد أحكام الصلاة والعبادات إلى جانب المعاملات، والعقائد، والأخلاق، والاقتصاد والبيع، والسياسة، والجهاد، والسير والمغازي، والفضائل… إلخ.
وكل شيءٍ من أمور هذه الحياة تجده في هذه الكتب، وأولى بنا ثم أولى أن ننطلق من هذه الكتب بعد كتاب الله عز وجل، فنجعل اقتصادنا قائماً عليها، وسياستنا منبثقة منها، ومعاملاتنا تدور حولها، وعباداتنا تنبثق عنها، ولا نتركها في صغيرٍ ولا كبير.
استحضار هيبة النص النبوي
إننا يجب أن نضع لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم هيبة في النفوس، كما قال ابن عباس رضي الله عنه في صحيح مسلم: [[كنا إذا سمعنا أحداً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ابتدرته أبصارنا]] رفعوا إليه عيونهم، واشرأبوا يريدون أن يسمعوا ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم ناكسو الأذقان، مطرقو الرءوس، لا يتكلم أحدٌ منهم بشيء، لأنهم يريدون أن يسمعوا ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجهزة الاستقبال عندهم كلها في غاية القوة والانشداد والانصياع لهذه الأحاديث المأثورة عن سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم.
فينبغي أن نعظم هذه الهيبة في نفوس الناس كبيرهم وصغيرهم، فنجعل الحديث أصلاً، ونجعل الفوائد والدروس والعبر والأحكام والاستنباطات كلها تفريعاً عن هذا الحديث، وليس العكس، ولهذا أقول: إن الأولى مثلاً بدارس الفقه أن يدرس الفقه على ضوء الحديث، فيقول مثلاً: باب النية، وعن عمر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إنما الأعمال بالنيات...} في هذا الحديث فوائد وهي كالتالي.
هذا أولى من أن نقول: قال فلان، وقال فلان، وذهب مالك، وذهب الشافعي، وذهب أحمد وذهب أبو حنيفة، ثم نسوق الحديث بعد ذلك، وإن كان هؤلاء الأئمة يحرصون لا شك على ألا يخرجوا عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم وتقريره قدر أنملة.
فكلهم من رسول الله ملتمسٌ غرفاً من البحر أو رشفاً من الديم |
وكثيرون اليوم يتمسكون بأقوال الرجال؛ لأنها سبقت إلى قلوبهم، فإذا جاءهم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتهدوا في تخريجه أو صرفه عن ظاهره، أو رده بوجهٍ من الوجوه؛ لأنه يخالف كلام فلان وكلام علان، وهذا ما شكا منه الأول حين يقول:
عذيري من قومٍ يقولون كلما طلبت دليلاً هكذا قال مالكٌ |
فإن عدت قالوا: هكذا قال أشهبٌ وقد كان لا تخفى عليه المسالك |
فإن عدت قالوا: قال سحنون مثله ومن لم يقل ما قاله فهو آفك |
فإن قلت: قال الله ضجوا وأعولوا وصاحوا وقالوا: أنت قرنٌ مماحك |
وإن قلت: قد قال الرسول فقولهم أتت مالكاً في ترك ذاك المسالكُ |
فيجب أن نعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونجعل له هيبةً في النفوس، وهكذا كان السلف، قال عمران بن الحصين رضي الله عنه، عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في مقدمة صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {الحياء من الإيمان} فقام رجلٌ يقال له بشير بن كعب العدوي وهو إمام جليلٌ من التابعين فاضلٌ نبيل، ولكنه قام وقال: يا صاحب رسول الله! إنا نسمع إن من الحياء خيراً ومنه ضعفاً -يقول: أنا سمعت في الكتب أن الحياء نوعان: حياءٌ محمود، وحياءٌ ناتج عن ضعف في الإنسان- فغضب عمران رضي الله عنه، وقال له: لا أكلمك أبداً، وتجهم في وجهه، وقالوا له: يا عمران هذا رجل من الصالحين، وهذا كذا وهذا كذا، فقال: أحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحدثني من كتبه؟!
إذاً: احذر أن تواجه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولٍ من عندك، إن بعض العوام -مثلاً- تقول له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول لك: (هين)، لا يا أخي! ليس بهين أنت الهين.
إن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقال له: هين، ولا يقال: دع هذا أو اترك هذا، إذا سمعت قال الرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجب أن تشرئب وتخاف وتحذر وتفتح قلبك وأذنك لما يقال، وفي حالة ما إذا وجدت هذا الحديث يخالف حديثاً، أو علماً آخر عندك، فعليك أن تسأل بأدب، فتقول: لقد سمعت أحداً يقول: كذا وكذا، فهل ما قاله هذا الرجل صحيح أو ليس بصحيح؟ فتتلطف حتى في طريقة الاستفسار عن معنى الحديث، ولا تواجه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يشعر بالرد، أو عدم القبول أو عدم التعظيم لما قاله الرسول عليه الصلاة والسلام.
إن هذا النص يجب أن يكون هو الأصل الذي نبني عليه ونفرع عنه، فكل أقوال الناس وكتب البشرية جميعها لا تعد شيئاً مذكوراً بالقياس إلى هذا التراث العظيم الذي ورثناه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
إن كتاباً واحداً كـمسند الإمام أحمد يحتوي على ما يزيد على ثلاثين ألف حديث تقريباً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلها نور وهدى وعلم، حتى قال أحد زعماء الغرب واسمه برناردشو: " لو كان محمد صلى الله عليه وسلم حياً لحل مشاكل عالم ريثما يشرب فنجاناً من القهوة ".
ففي هذه الكتب تجد أحكام الصلاة والعبادات إلى جانب المعاملات، والعقائد، والأخلاق، والاقتصاد والبيع، والسياسة، والجهاد، والسير والمغازي، والفضائل… إلخ.
وكل شيءٍ من أمور هذه الحياة تجده في هذه الكتب، وأولى بنا ثم أولى أن ننطلق من هذه الكتب بعد كتاب الله عز وجل، فنجعل اقتصادنا قائماً عليها، وسياستنا منبثقة منها، ومعاملاتنا تدور حولها، وعباداتنا تنبثق عنها، ولا نتركها في صغيرٍ ولا كبير.
ولا شك أن ذكر كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم استخراج الفوائد والعبر منه أولى من أن نذكر كلام الناس ثم نستدل له بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله.
إننا يجب أن نضع لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم هيبة في النفوس، كما قال ابن عباس رضي الله عنه في صحيح مسلم: [[كنا إذا سمعنا أحداً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ابتدرته أبصارنا]] رفعوا إليه عيونهم، واشرأبوا يريدون أن يسمعوا ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم ناكسو الأذقان، مطرقو الرءوس، لا يتكلم أحدٌ منهم بشيء، لأنهم يريدون أن يسمعوا ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجهزة الاستقبال عندهم كلها في غاية القوة والانشداد والانصياع لهذه الأحاديث المأثورة عن سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم.
فينبغي أن نعظم هذه الهيبة في نفوس الناس كبيرهم وصغيرهم، فنجعل الحديث أصلاً، ونجعل الفوائد والدروس والعبر والأحكام والاستنباطات كلها تفريعاً عن هذا الحديث، وليس العكس، ولهذا أقول: إن الأولى مثلاً بدارس الفقه أن يدرس الفقه على ضوء الحديث، فيقول مثلاً: باب النية، وعن عمر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إنما الأعمال بالنيات...} في هذا الحديث فوائد وهي كالتالي.
هذا أولى من أن نقول: قال فلان، وقال فلان، وذهب مالك، وذهب الشافعي، وذهب أحمد وذهب أبو حنيفة، ثم نسوق الحديث بعد ذلك، وإن كان هؤلاء الأئمة يحرصون لا شك على ألا يخرجوا عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم وتقريره قدر أنملة.
فكلهم من رسول الله ملتمسٌ غرفاً من البحر أو رشفاً من الديم |
وكثيرون اليوم يتمسكون بأقوال الرجال؛ لأنها سبقت إلى قلوبهم، فإذا جاءهم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتهدوا في تخريجه أو صرفه عن ظاهره، أو رده بوجهٍ من الوجوه؛ لأنه يخالف كلام فلان وكلام علان، وهذا ما شكا منه الأول حين يقول:
عذيري من قومٍ يقولون كلما طلبت دليلاً هكذا قال مالكٌ |
فإن عدت قالوا: هكذا قال أشهبٌ وقد كان لا تخفى عليه المسالك |
فإن عدت قالوا: قال سحنون مثله ومن لم يقل ما قاله فهو آفك |
فإن قلت: قال الله ضجوا وأعولوا وصاحوا وقالوا: أنت قرنٌ مماحك |
وإن قلت: قد قال الرسول فقولهم أتت مالكاً في ترك ذاك المسالكُ |
فيجب أن نعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونجعل له هيبةً في النفوس، وهكذا كان السلف، قال عمران بن الحصين رضي الله عنه، عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في مقدمة صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {الحياء من الإيمان} فقام رجلٌ يقال له بشير بن كعب العدوي وهو إمام جليلٌ من التابعين فاضلٌ نبيل، ولكنه قام وقال: يا صاحب رسول الله! إنا نسمع إن من الحياء خيراً ومنه ضعفاً -يقول: أنا سمعت في الكتب أن الحياء نوعان: حياءٌ محمود، وحياءٌ ناتج عن ضعف في الإنسان- فغضب عمران رضي الله عنه، وقال له: لا أكلمك أبداً، وتجهم في وجهه، وقالوا له: يا عمران هذا رجل من الصالحين، وهذا كذا وهذا كذا، فقال: أحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحدثني من كتبه؟!
إذاً: احذر أن تواجه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولٍ من عندك، إن بعض العوام -مثلاً- تقول له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول لك: (هين)، لا يا أخي! ليس بهين أنت الهين.
إن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقال له: هين، ولا يقال: دع هذا أو اترك هذا، إذا سمعت قال الرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجب أن تشرئب وتخاف وتحذر وتفتح قلبك وأذنك لما يقال، وفي حالة ما إذا وجدت هذا الحديث يخالف حديثاً، أو علماً آخر عندك، فعليك أن تسأل بأدب، فتقول: لقد سمعت أحداً يقول: كذا وكذا، فهل ما قاله هذا الرجل صحيح أو ليس بصحيح؟ فتتلطف حتى في طريقة الاستفسار عن معنى الحديث، ولا تواجه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يشعر بالرد، أو عدم القبول أو عدم التعظيم لما قاله الرسول عليه الصلاة والسلام.
الوقفة الثانية: حول العبادات والمعاملات:
التوقف في العبادات
خذ مثلاً: كتاب الصلاة تجد أن الأحاديث فصلت لك كيف تتوضأ، وتغتسل من الجنابة، وتقف للصلاة، وكيف تُكَـبِّر، وكيف تركع، وما هي صفة الركوع، وماذا تقول، وكيف ترفع، ومتى ترفع يديك، وإلى أين ترفعهما، ومتى تضعهما، وماذا تقول، فستجد أنك مع الأحاديث منذ دخولك في الصلاة إلى أن تقول: السلام عليكم ورحمة الله، بل وبعد ذلك: كيف تذكر الله، وماذا تقول من الأدعية، ومن الأذكار.. إلى غير ذلك.
فتجد تفصيلاً دقيقاً جداً في مجال العبادات: في الصلاة، والصيام، والحج، والزكاة، والعمرة، وذلك لأن هذه الأمور أمور تعبدية محضة مبناها على التوقيف، فلم نكن نعرف الصلاة والزكاة ولا الصوم والحج لولا رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52] فهذه الأمور مبناها على التوقيف، وعلى النص وعلى النقل، فلا يحق لأحدٍ أن يبتكر عبادة لم يأت بها الرسول صلى الله عليه وسلم أو أن يتصرف في غير ما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الأصل في المعاملات الحل
وعلى سبيل المثال بيع المعاطاة والاستصناع، فكونك تأتي إلى البقال، فتضع له الدراهم ثم تأخذ مقابلها، دون أن يكون هناك إيجابٌ ولا قبول أو كلام أو أي شيء، هذا الأمر الأصل فيه الإباحة؛ لأنه لونٌ من ألوان البيوع التي أحلها الله تعالى، ولو لم يرد في هذا البيع بذاته نصٌ، فالأصل في المعاملات الجواز، إلا ما ورد النص على تحريمه، ولذلك تجد أن الأحاديث الواردة في أمر المعاملات: هي أشبه ما تكون بالقواعد العامة التي يستفيد منها الناس، وهذا من تيسير الله تعالى على عباده، فإن ربك تعالى حكيمٌ عليم، علم أن الزمان سوف يتغير، وسوف يستحدث الناس ألواناً كثيرة من البيوع والمعاملات والاتفاقات، وألوان التصنيع وغير ذلك مما لم يأتِ به نص، فجعل ثمة قواعد كلية عامة تقول للمسلم: هذه الأمور حلال، لأن الأصل فيها أنها حلال إلا ما استثني من ذلك أو دل الدليل على منعه، وتجد أن أمور المعاملات غالب الأحاديث الواردة فيها تتكلم عن أنواع المكاسب، وعما ورد النص على تحريمه، مثل: بيع الرجل على بيع أخيه، أو بيع المعدوم، أو بيع المجهول، أو الربا، أو ما أشبه ذلك مما ورد النص على تحريمه.
التيسير
وأيضاً من التيسير الرخصة للناس في أشياء كثيرة: الرخصة في كذا، وفي كذا، وهذا موجودٌ في هذه الكتب من باب توسعة الله تبارك وتعالى على عباده في أمور عباداتهم، وفي أمور معاملاتهم.
استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
أحاديث موضوعة متداولة | 5118 استماع |
حديث الهجرة | 5007 استماع |
تلك الرسل | 4155 استماع |
الصومال الجريح | 4146 استماع |
مصير المترفين | 4123 استماع |
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة | 4052 استماع |
وقفات مع سورة ق | 3976 استماع |
مقياس الربح والخسارة | 3929 استماع |
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية | 3872 استماع |
التخريج بواسطة المعجم المفهرس | 3833 استماع |