سؤالات الجامع الكبير


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله،صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعــد:

فهذه هي الحلقة الخامسة عشر من سلسلة الدروس العامة تنعقد في هذه الليلة، ليلة الإثنين 15من شهر محرم لعام (1411هـ).

وفي هذه الحلقة نبدأ -إن شاء الله تعالى- بمجموعة من الحلقات المتفرقة، رأيت أن أطلق عليها عنوان "سؤالات الجامع الكبير".

وسؤالات جمع سؤال أي أن هذه الحلقة، وحلقات أخرى متفرقة غير متتالية، سوف تخصص للإجابة على أسئلة مختارة مما تبقى من الدروس السابقة.

وفي هذه الليلة وقع اختياري على مجموعة من الأسئلة، من بين نحو (350 سؤالاً) توفرت عندي من الحلقات الماضية كلها، فاخترت منها مجموعة من الحلقات، كتبت أسئلتها، وأشرت إلى طرف منها، وسوف أجيب عليها الآن بإذن الله تعالى.

أ- فالقسم الأول من هذه الأسئلة: يتعلق بالأسئلة عن بعض الأحاديث المنسوبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومدى صحتها.

فمن هذه الأحاديث:

حديث: ويل للذي يحدث فيكذب

السؤال: يسأل أحد الإخوة عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {ويل لمضحك القوم، ويل له، ويل له

الجواب: هذا الحديث حديث حسن، رواه الإمام أحمد في مسنده صفحة [5/75] وأبو داود،[5/265] والترمذي في كتاب [الزهد] من "سننه" [رقم 2316].

وقال الإمام الترمذي: وهذا [حديث حسن] ونسبه الإمام المنذري للنسائي، ولعل ذلك في "سننه الكبرى" وليس في "السنن الصغرى"، ورواه الحاكم في "مستدركه" أيضاً [1/46] كلهم من طريق بهز بن حكيم عن أبيه عن جده؛ وجده هو معاوية بن حيدة، صحابي جليل معروف.

ولذلك قال الحاكم عقب رواية الحديث: لا أعلم خلافاً بين أكثر أئمة أهل النقل في عدالة بهز وأنه يجمع حديثه.

ولذلك كان الحديث كما قال الترمذي وغيره حديثاً حسناً، ولفظه: {ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك القوم، ويل له، ويل له}.

فقد توعد الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث من يكذب في حديثه، من أجل أن يضحك الناس، توعده بالويل، وكرر ذلك ثلاث مرات، كعادته عليه الصلاة والسلام في الأمور الهامة.

وقد سبق الكلام في موضوع المزاح، وموضوع النكت والطرائف، وهذا الحديث من الأحاديث التي تدل على تحريم الكذب، وإن كان الإنسان هازلاً يقصد الإضحاك.

وفي الحديث الصحيح يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {أنا زعيم بيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً.

حديث: البذاذة من الإيمان

السؤال: الحديث الثاني: يسأل أحد الإخوة عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {البذاذة من الإيمان

الجواب: البذاذة: هي عدم الاعتداد بالملبس؛ تواضع الإنسان في ملبسه، وبعده عن الرفاهية، والتوسع في جمال الملابس وهيئتها.

وحديث {البذاذة من الإيمان} أيضاً [حديث صحيح] أخرجه ابن ماجة في "سننه" [رقم 4118] من حديث أبي أمامة الحارثي، وأخرجه الحاكم في "مستدركه" [1/9] وأخرجه أبو داود [رقم 4161] والطحاوي في "مشكل الآثار" [1/478].

وقال الإمام العراقي: هو حديث حسن، وقال الديلمي، وابن حجر: هو حديث صحيح، وهو كما قالا.

وفي هذا الحديث: دليل على أن تواضع الإنسان في ملبسه، وهيئته، وغير ذلك، أنه من الإيمان، ولعل من المناسب أن أذكر أن للشرع في هذه الأمور؛ أمور الملابس وغيرها مسلكان:

الأول: الترغيب في الزهد فيها، والبعد عن المظاهر الكاذبة، كما في هذا الحديث {البذاذة من الإيمان}.

فنقول: من تواضع في ملبسه لله جل وعلا، وبَعُد عن المبالغة في الزينة لله جل وعلا، من أجل البعد عن الكبرياء، فإن هذا من الإيمان، لكن في مقابل هذا الحديث لدينا مجموعة أخرى من الأحاديث الصحيحة الكثيرة، تدل أيضاً على أن حسن الملبس قد يكون من الإيمان، كما في قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم لما قال عليه الصلاة والسلام: {لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر. فقال رجل: يا رسول الله! إن أحدنا يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسنة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله جميل يحب الجمال}.

فدل على أن كون الثوب حسناً والنعل حسناً مما يحبه الله جل وعلا.

ومثله ما ورد عن أصحاب السنن من طريق جماعة من الصحابة، وهو [حديث صحيح] {أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أشعث رأسه، رثة ملابسه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من أي المال آتاك الله؟

فقال: يا رسول الله، من كل المال قد آتاني الله: من الإبل، والبقر، والغنم، والذهب، والفضة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، فذهب الرجل، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد رَجَّل رأسه، ولبس من أحسن ثيابه وتعطر. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا خير من أن يأتي أحدكم أشعث الرأس، كأنه شيطان}.

إذاً: ترجيل الشعر ودهنه واستعمال الطيب وحسن الملابس وحسن النعل، هو أيضاً من الإيمان، فكيف نجمع بين هذين المسلكين؟

الجمع بينهما يكون من طريقين:

إما أن يقال: إن من الناس من يصلح له هذا، ومن الناس من يصلح له ذاك، فإن الله تعالى خلق خلقه متفاوتين في كل شيء؛ في أشكالهم، في قامتهم، في أخلاقهم، في علمهم، في عقولهم، في أموالهم، في كل شيء.

فمن الناس من جبل محباً للجمال في هيئته، وملبسه، ونعله، وسيارته، وثوبه ونحو ذلك، فهذا يقال له: اعتنِ بهذه الأمور، ولكن بنية إظهار نعمة الله تعالى عليك، والتحدث بها، وبيان أن هذا لا يُعارِض الاستقامة، ولا يعارض الزهد في الدنيا، فيكون نوعاً من الدعوة إلى الله جل وعلا.

ومن الناس من جبل على الزهد في هذه الأمور، والإعراض عنها، والتعلق بغيرها، فلا يحب هذه الأمور، ولو تكلف أن يحسن ثوبه يوماً فإنه سرعان ما يعرض عن ذلك، وقد تأتيه يوماً وقد تكلف لتحسين هندامه وبزته، فلبس ثوباً جديداً، ولبس غترة جديدة مغسولة مكوية، فبعد يوم تأتيه وقد قلب المرزاب، وأصبحت الغترة طرفها عند كتفه، وأصبح ثوبه بهيئة أخرى، وكأنه قد لبسه منذ زمن طويل؛ لأنه لا يحب هذا، ولم يفطر عليه.

فيقال: {كل ميسر لما خلق له} فمن كان يصلح له هذا فليفعله بحسن نية، ويؤجر عليه، ومن كان يصلح له ذاك، فيفعله بحسن نية، ويؤجر عليه، ولا ينبغي أن يلوم هذا هذا، ولا هذا هذا.

لا ينبغي للإنسان أن ينظر إلى شخص قد تجمَّل ليظهر نعمة الله عليه، ويدعو إلى الله تعالى بحسن بزته، ويبين أن هذا لا يعارض الإسلام، فلا يلام هذا، ويقال: هذا إنسان متكبر!

أو هذا إنسان مهتم بمظهره! كما أنك لو رأيت إنساناً متواضعاً في ملبسه، لا تقل: هذا يشوه الإسلام! وهذا يعطي صورة غير جيدة، وهذا يتظاهر بالزهد وليس كذلك، فلا يلوم أحد أحداً، ولا ينكر أحدٌ على أحد.

وهو في نظري أجود وأحسن.

الوجه الثاني أن يقال: إنه يجمع بين النصوص؛ بأن المقصود أن يكون الأمر على سبيل الاعتدال.

فليس الحث على الجمال مدعاة لأن يسرف الإنسان فيه، ويضيع وقته في تحصيله، وليس الحث على البذاذة مدعاة إلى أن يبالغ الإنسان في ذلك، فيتعدى فيه حد الاعتدال.

فيكون الجمع بين هذه النصوص بأن يقال: إن المقصود في كلا النوعين من النصوص الاعتدال والتوسط.

حديث: إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه

السؤال: الحديث الثالث الذي يسأل عنه بعض الإخوة هو قوله صلى الله عليه وسلم: {إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه}

الجواب: هذا الحديث لم أجده إلا في كتاب "شعب الإيمان للبيهقي الذي طبع أخيراً في [4/334] رقم [5312-5314] وقد نسبه المناوي في فيض القدير [2/87] إلى أبي يعلى، وابن عساكر، لكنني لم أجده في "مسند أبي يعلى" المطبوع.

والحديث ضعفه السيوطي في جامعه الصغير رمز له بالضعف قال: [ض] يعني: ضعيف، وعلل المناوي سبب ضعف الحديث: بأن في سند الحديث بشر بن السري، وقال المناوي: متكلم فيه من قبل التجهم -يعني: كأن الرجل مطعون في عقيدته، أنه يميل إلى عقيدة الجهمية- لكن هذا الكلام الذي ذكره المناوي، وقبله أشار إليه السيوطي، كلام لا يعول عليه فيما يظهر لي.

فقد ترجم الحافظ ابن حجر في كتابه تهذيب التهذيب لـبشر بن السري هذا في [1/451] وذكر عن يحيى بن معين أنه قال: رأيت بشر بن السري وقد استقبل الكعبة، وهو يدعو على قوم يرمونه برأي جهم، ويقول: معاذ الله أن أكون جهمياً! معاذ الله أن أكون جهمياً!!

إذاً، لم يثبت عن بشر بن السري أنه جهمي، بل هذه تهمة باطلة، والله تعالى أعلم، ولا ينبغي الطعن في عقائد الناس إلا بحجة بينة.

ثم إن بشراً هذا قوي من قبل حفظه، لا يكاد أحد من الأئمة يطعن فيه، فهو ثقة فيما يظهر، وأقل أحواله أن يكون حسناً، ولذلك أن يكون صدوقاً، ولذلك [فالحديث حسن].

وممن حسنه: الشيخ الألباني كما في صحيح الجامع [2/144].

حديث: إزرة المؤمن إلى نصف ساقيه

السؤال: من الأحاديث التي يسأل عنها أيضاً حديث: {إزرة المؤمن إلى نصف ساقيه}.

الجواب: الحديث صحيح بلفظ: {إزرة المؤمن } بالهمزة المكسورة، {إزرة المؤمن إلى نصف ساقيه} بل ورد في هذا أحاديث وليس حديثاً واحداً، منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: { إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه} وقد رواه أبو يعلى كما في [11/526] والطيالسي [1/352] والإمام أحمد في "مسنده" [2/504] وزاد الإمام أحمد: {إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه، ثم إلى الكعبين، فما كان أسفل من ذلك ففي النار}.

فبين أن الإزرة (الثوب) إلى نصف الساق، فإن كان ولا بد فإلى الكعبين، أما ما أسفل من الكعبين فهو في النار، والحديث سنده حسن، وهو صحيح لغيره.

ومن الأحاديث في هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم: {إزرة المؤمن إلى نصف الساق، ولا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين، فما كان أسفل من الكعبين فهو في النار، ومن جر إزاره بطراً لم ينظر الله تعالى إليه}.

وهذا الحديث رواه مالك في موطئه" [2/914]، وأحمد [3/5] وأبو داود [رقم 4093] وابن ماجة [رقم3573]، وأبو يعلى [2/ 268]، ورواه أيضاً ابن حبان وصححه، والبيهقي كلهم عن أبي سعيد الخدري [وسند الحديث صحيح].

الحديث الثالث أيضا:ً {إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه } رواه النسائي عن ابن عمر، وروى مسلم في صحيحه [3/ 1653] عن ابن عمر رضي الله عنه قال: {مررت على النبي صلى الله عليه وسلم وفي إزاري استرخاء، فقال: يا عبد الله ارفع إزارك، فرفعته. فقال: زد، فزدت. قال ابن عمرفما زلت أتحراها بعد، فقال له بعض القوم: إلى أين؟ قال: إلى أنصاف الساقين}.

إذاً: هذه الأحاديث صحيحة، وقد روى النسائي في سننه أيضاً [2/206] عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {موضع الإزار إلى أنصاف الساقين والعضلة، فإن أبيت فأسفل، فإن أبيت فمن وراء الساق، ولا حق للكعبين في الإزار}.

فهذه أربعة أحاديث عن أبي هريرة، وابن عمر، وأبي سعيد، وحذيفة، كلها صريحة في أن إزار المؤمن إلى نصف الساق، فإن أبى وأصر، فإلى الكعبين، وما كان أسفل من الكعبين ففي النار.

ولي على هذه الأحاديث الأربعة تعليقاً.

أولها: قال الله عز وجل: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36] وقال عز وجل: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65].

وبناءً عليه: فإن المؤمن بالله ورسوله بعد أن يسمع هذه الأحاديث الصحيحة -وغيرها كثير مما لم أذكره- فإنه ينبغي ألا يمقت أو يستهجن أو يشمئز إذا رأى إنساناً قد رفع ثوبه إلى نصف الساق، فإن هذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه في أحاديث صحيحة، سقت بعضها، وليس من شأن المؤمن أن يعترض أو ينكر ما يعلم أنه يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا الكلام أسوقه للمؤمنين.

وأقول: إن من ينكر، أو يستهجن من يرى أنه يقصر ثوبه، فلا شك أنه جاهل أو معاند، أحسن أحواله أن يكون جاهلاً، فإنه من علم سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه ليس له أن يدعها لقول أحد، كما قال ابن المنذر، والشافعي، وغيرهما من أهل العلم: "أجمع أهل العلم على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد".

ثانياً: نقول للذين لا يعجبهم هذا الكلام، ممن ليسوا من أهل التدين والصلاح أصلاً، وإنما هم من أهل الريب والوقيعة في العلماء والدعاة وطلاب العلم، وممن يستغلون مثل هذه الأشياء للسخرية والعيب للمؤمنين والصالحين من الشباب وغيرهم.

فأقول لهم: إذا كنتم لا تقبلون ما تسمعونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تنصاعون له، وقد ارتضيتم لأنفسكم هدياً غير هديه وسنة غير سنته، فأصبحتم تعارضون رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يأمركم -معشر الرجال- بتقصير ثيابكم، نبصر الواحد منكم وقد أطال ثوبه، وجره وراءه، وإذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم نساءكم بالستر والتصون والعفاف، ورخص للنساء كما في حديث أم سلمة وغيرها {أن يرخين الثوب ذراعاً ولا يزدن على ذلك} وجدنا نسائكم يقصرن ثيابهن يوماً بعد يوم، حتى إن المرأة أصبح ثوبها أحياناً إلى نصف الساق! وما ذلك إلا محادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فنقول لهم:

إذا كنتم رضيتم لأنفسكم بهدي غير هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك من باب تقليدكم للغرب واتباعكم لآثارهم وسيركم على سننهم وطريقتهم، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم: {لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضبٍ لدخلتموه} كما رواه الشيخان، فلماذا خالفتم هدي سادتكم من الغرب في هذه المسألة؟!

فإننا رأينا هؤلاء الغربيين الذين تقلدونهم، وتسيرون على طريقتهم، رأيناهم يعتبرون مسألة الثياب من قضية الحرية الشخصية، فتأتي إلى بلاد الغرب وهم لا يلبسون إلا البنطلونات -الملابس الإفرنجية المعروفة- فيلبس الإنسان منا ثوباً من الثياب العربية هذه، وهو غريب مستنكر عندهم، فلا يجرؤ أحد منهم على أن ينظر إليه، فضلاً عن أن ينكر عليه.

وقد رأيت بعيني: إذا رآنا الصبيان الصغار والتفتوا إلينا، فإن الأب يجر ولده بشدة، ويصرف بصره، يعني يقول: لا تنظر، ما شأنك! هذه حريات شخصية، لا ينبغي لأحد أن يتدخل فيها بشأن أحد.

فإذا كنتم لا تؤمنون -والخطاب للذين يسيرون وراء اليهود والنصارى والغربيين في تقاليدهم وعاداتهم وأزيائهم- إذا كنتم لا تؤمنون بهذه السنة أفلا أدخلتموها في باب الحرية الشخصية، فقلتم: هذا الشاب الذي رفع ثوبه فوق الكعبين أو إلى نصف الساقين، أو إلى ما أسفل من الركبة، أيضاً هذا من باب الحرية الشخصية ولا شأن لكم به!

ونحن نرى لاعبي الكرة وهم يلبسون السراويل القصيرة إلى الفخذين، وربما أقل من ذلك، فلا يعيب عليهم أحد، بل لو لبسوا غير ذلك لعيب عليهم، بل لمنعوا من ذلك بمقتضى القوانين الدولية الرسمية التي تحكم في كل مكان، بما في ذلك هذه البلاد، ولا يجرؤ أحد على مخالفتها!

فالتعليقة الثانية أن نقول للذين لا يقبلون أن هذه سنة: اجعلوا هذا من باب الحريات الشخصية، ولا تتدخلوا في شئون الآخرين، إنسان طول ثوبه، قصر ثوبه، لبس نوعاً معيناً من الثياب، أو نوعاً آخر، اجعلوا هذا في باب الحرية الشخصية، ولا تتدخلوا في ذلك.

ثالثاً:- إن الذي يقرأ سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنته يلحظ بشكل جلي أن هذا الأمر الذي كان أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شك أنه فعله أحياناً كثيرة، إلا أن من الظاهر -والله أعلم- أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن يفعله هو وأصحابه على الدوام، ومن ذلك مثلاً:

في صحيح البخاري وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم {لما كسفت الشمس خرج فزعاً يجر إزاره يخشى أن تكون الساعة} يجر إزاره، قال أهل العلم: إنما جره صلى الله عليه وسلم لإزاره على سبيل العجلة لاستعجاله في خروجه عليه الصلاة والسلام، لكن فقه الحديث أن إزار النبي صلى الله عليه وسلم لو كان إلى نصف الساق، أو فوق ذلك -والله تعالى أعلم- لما كان ينجر من العجلة مهما استرخى؛ قد يسترخي فيكون إلى حول الكعبين، أو قريباً منهما، أما أن ينـزل بحيث ينجر فهذا بعيد.

ومثل ما ورد في الصحيح: {أن أبا بكر قال: يا رسول الله! إن أحد شقي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده -وذلك لأن أبا بكر رضي الله عنه كان رجلاً نحيف الجسم ضعيفاً، فكان ثوبه يسترخي، فيتعاهده -يرفعه- ثم يسترخي- ويرفعه، ثم يسترخي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إنك لست ممن يصنعه خيلاء}.

والذي يظهر لي أن أبا بكر رضي الله عنه لو كان إزاره إلى نصف الساق، أو إلى ما تحت الركبة بأربعة أصابع كما يذهب إليه البعض، لم يكن حين يسترخي ينـزل إلى ما تحت الكعبين، والله تعالى أعلم.

فلا بأس أن يفعل الإنسان هذا حيناً، وهذا حيناً، أو يفعل هذا إن كانت المصلحة تقتضيه، ويفعل هذا إذا كانت المصلحة تقتضيه.

التعليقة الرابعة في هذا الموضوع: وهي للدعاة وطلاب العلم خاصة أقول: لا ينبغي أن نجعل مثل هذا الأمر المتفق على إباحته -أعني إنـزال الثوب إلى ما فوق الكعبين- لا ينبغي أن نجعل مثل هذا الأمر هو الفيصل بيننا وبين الناس، فإذا وجد الشاب الداعية، أو طالب العلم، في مجتمع يرفض ذلك ويمقته، كما هو الحال في كثير من المجتمعات التي عمَّ الجهل فيها وطم وغلب، واختفت فيها سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فينبغي أن يقبل الشاب على تعليم الناس العقيدة الصحيحة، وتحريرهم من التصوف ومن عبادة القبور، وتحريرهم من أكل الربا، وتربيتهم على إقامة الصلاة في الجماعة وعلى الصيام وعلى الحج وعلى أداء الزكاة وعلى غير ذلك من الواجبات الأساسية والفروض الكبيرة، ويجعل مثل هذه السنن مما يعلمهم إياها بين الحين والحين بطريقة لبقة، فإذا رأى أنهم ينفرون منها أجلها حتى تتروض نفوسهم وتعتاد مثل هذه الأشياء.

وعلى كل حال؛ فإن من الحكمة التي ورثناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن نتدرج في دعوة الناس، ونبدأ بالأهم ثم المهم.

روى الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـمعاذ حين بعثه إلى اليمن:{إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد إلى فقرائهم} الحديث.

فبين الرسول صلى الله عليه وسلم أهمية التدرج في الدعوة، ابدأ بالعقيدة، ثم الصلاة، ثم الزكاة.

وهكذا الداعية، ليس من الحكمة أن يأتي في مجتمع متصوف مثلاً، مجتمع منحرف، مجتمع أهله لا يصلون في الجماعة، البيت مليء بالكبائر والجرائم والموبقات، ثم يبدأ بقضية رفع الثوب وتشميره إلى ما تحت الركبة بأربعة أصابع، فتثور معركة حامية الوطيس، وتحترق جميع أوراقه فيقولون: لا نقبل منه صرفاً ولا عدلاً!

هذا ليس من الحكمة في شيء، بل ينبغي للداعية إذا نشأ في بيئة كهذه أن يتدرج معهم، ويبدأ بالأمور الكبيرة، الأمور المهمة، الواجبات، ولو ترتب على ذلك أن يؤجل فعل بعض السنن التي يسعه تأجيلها، بل أقول مؤمناً بذلك واثقاً به إن شاء الله تعالى: يؤجر على تأجيل تطبيقها، إذا كان قصده التدرج في دعوة هؤلاء القوم، خاصة وأنه لم يرتكب بحمد الله حراماً.

وقد أجمع أهل العلم على أنه يجوز للإنسان أن ينـزل إزاره إلى ما فوق الكعبين، ولو كان أسفل من نصف الركبة، ولو كان أسفل من نصف الساق، المهم {ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار} فلا حرج على الداعية -إن شاء الله- أن يراعي في ذلك المصلحة في دعوته إلى الناس، ولسنا نقول: المصلحة من أجل أن يلام الداعية، أو لا يعاب، أو لا يتعرض للشتم، فإن الداعية يقول: نفسي ومالي وعرضي ودمي فداءٌ لدين الله ودعوته وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن شاء الله كلنا نقول ذلك، نحن لسنا نقول ذلك حفاظاً على عرضك أو على نفسك أو على دمك. لا، نقول: حفاظاً على دين الله وعلى الإسلام وعلى الدعوة إلى الله جل وعلا.

حديث أسئلة اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم

السؤال: من الأحاديث التي سأل عنها بعض الإخوة حديث طويل سألني عنه منذ زمن، وكنت أبحث عنه، لكني في الواقع لم أعثر لهذا الحديث على أثر.

وهو حديث ذكره أبو الليث السمرقندي في كتاب تنبيه الغافلين.

يقول: روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: {بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالس مع المهاجرين والأنصار، إذ أقبل إليه جماعة من اليهود، فقالوا: يا محمد إنا نسألك عن كلمات أعطاهن الله تعالى لموسى بن عمران، لا يعطيها إلا نبياً مرسلاً أو ملكاً مقرباً.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سلوا.

فقالوا: أخبرنا عن هذه الصلوات الخمس التي افترضها الله على أمتك.

قال: أما الظهر: إذا زالت الشمس يسبح كل شيء لربه، وأما العصر: فإنها الساعة التي أكل فيها آدم من الشجرة، وأما المغرب: فإنها الساعة التي تاب الله عليه... إلى آخره وأما الفجر: فإن الشمس إذا طلعت تطلع بين قرني شيطان.

فقالوا: صدقت يا محمد! فما ثواب من صلَّى؟

فذكر ثواب الصلوات الخمس. ثم قالوا له: صدقت يا محمد! ولم افترض الله على أمتك الصيام ثلاثين يوماً؟!

فقال: إن آدم عليه السلام لما أكل من الشجرة بقي في بطنه مقدار ثلاثين يوماً، فافترض الله على ذريته الجوع ثلاثين يوماً، ويأكلون بالليل تفضلاً من الله تعالى على خلقه، قالوا: صدقت يا محمد! فأخبرنا ما ثواب من صام؟

قال: ما من عبد يصوم من شهر رمضان يوماً محتسباً إلا أعطاه الله تعالى سبع خصال؛ يذوب اللحم الحرام من جسده، ويقربه من رحمته، ويعطيه خير الأعمال، ويؤمنه من الجوع والعطش، ويهون عليه عذاب القبر، ويعطيه الله نوراً يوم القيامة حتى يجاوز به الصراط} إلى آخر الحديث؟

الجواب: هذا الحديث مما أجزم ولا أتردد وأقطع بأنه حديث موضوع.

وإن كنت بحثت في كتب الأحاديث، صحيحها وحسنها، وبحثت في الأحاديث الموضوعة والمشتهرة، فلم أعثر له على أثر، لم أقف على هذا الحديث.

لكن أجزم بأن هذا الحديث موضوع، وأمارات وضعه طويلة منها:

أنه من الأحاديث الطويلة التي يظهر عليها أثر الوضع في هيئتها وطولها وركاكة أسلوبها.

ومنها: أن الحديث يقول: جاء جماعة من اليهود، فكانوا كلما قال النبي شيئاً، قالوا: صدقت يا محمد! صدقت يا محمد! ولم تكن العادة أن اليهود يصدقون الرسول عليه الصلاة والسلام فيما قال، بل بالعكس، الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي كان يصدقهم أو يكذبهم، كان يسألهم عن شيء يقول: تصدقونني، فيقولون: نعم نصدقك، فإذا سألهم كذبوه فيقول: كذبتم، ثم يخبرهم بالحق.

كما ورد هذا في حديث الفرقة الناجية وغيره، فلم تكن العادة أن اليهود يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم ثم يصدقونه.

ومن علامات وضعه، والله تعالى أعلم: ذكر الصلوات الخمس، وأنهم يقولون: أعطاها الله تعالى لموسى بن عمران، والمشهور المعروف أن صلوات الأنبياء السابقين عليهم الصلاة والسلام كانت عند طلوع الشمس وعند غروبها.

إلى غير ذلك من التفاصيل التي زعموا أن الله تعالى أعطاها لموسى، ولم يوجد دليل أن الله تعالى أعطاها لموسى، بل الظاهر أن الله تعالى خص بها محمداً صلى الله عليه وسلم.

ومن الأدلة على وضعه: أن هذا الحديث لا يعرف في شيء من كتب السنة، وكفى بذلك دليلاً على أن هذا الحديث موضوع لا يصح، ولو كان الحديث صحيحاً من حيث معناه، لكن لم ينقل لنا بإسناد صحيح ولا حسن ولا ضعيف، فإننا نجزم بأنه من الأحاديث الموضوعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

* هذا هو القسم الأول من الأسئلة وهو ما يتعلق بالسؤال عن أحاديث من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم.

أهم كتب التفسير

ب- القسم الثاني: أسئلة تتعلق بالسؤال عن بعض الكتب.

السؤال الأول منها يسأل عن بعض الكتب في التفسير:

السؤال: يقول: ما هي أهم الكتب التي يمكن أن أقرأها في التفسير؟

الجواب: كتب التفسير كثيرة جداً، وغالب هذه الكتب ينقل بعضها عن بعض، ويعتمد بعضها على بعض، ففيها تكرار كثير.

إضافة إلى أن كتب التفسير ينحو كل كتاب منها منحى.

فمن كتب التفسير من يهتم مثلاً بالفقه كـتفسير القرطبي، ومنها ما يهتم بالأحكام ككتب الأحكام، أحكـام القرآن لـابن العربي، وأحكام القـرآن للجصاص، و"أحكام القـــرآن للكيا الهراسي، وغيرها من كتب الأحكام، وقريب منها كتاب الشيخ الشنقيطي أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن" فإنه يعنى بآيات الأحكام ويختارها، ولا يفسر كل الآيات.

ومن كتب التفسير ما يهتم باللغة العربية كـتفسير أبي حيان، ومنها ما يهتم بنشر العلوم الدنيوية وذلك كالطب مثلاً، أو الرياضيات، أو غيرها من العلوم، ومن هذه الكتب كتبٌ متقدمة، وذلك كما في الكتب التي تهتم بالعقليات كـتفسير الرازي، ومنها الكتب المتأخرة ككتاب طنطاوي جوهري الذي يصح فيه ما يصح في كتاب الرازي، أن فيه كل شيء إلا التفسير! فيه هندسة وفلك وكيمياء وفيزياء ورياضيات وعلوم حديثة، إلا التفسير فلا يوجد فيه.

ومنها كتب تفسير منحرفة تهتم بنشر عقائد، كتفسيرات الشيعة، وهي كثيرة جداً، وكتفسير الزمخشري الكشاف فإنه كتاب وإن كان مهماً من حيث اللغة، ومؤلفه إمام في اللغة، إلا أنه ملأه بالاعتزاليات، ودسها فيه بطريقة ذكية، حتى أنها لا تكاد تستخرج منه إلا بالمناقيش.

أما الكتب المختارة التي يمكن أن يعتمد عليها طالب العلم باختصار، فقد رأيت الاقتصار منها على ثلاثة أو أربعة:

أولها "تفسير الطبري" فإنه إمام المفسرين، وهو يروي بالأسانيد، ويذكر الأقوال في الآية، ويستطرد في ذلك، فإن جميع المفسرين من بعده لا يسعهم الاستغناء عنه، بل هم يعتمدون عليه، وهو كتاب تفسير فذ في بابه.

وأنصح طالب العالم على الأقل إن لم يقرأه أن يجعله ضمن المراجع التي يرجع إليها إذا احتاج إلى تفسير آية، فإنه كتاب جامع، ومؤلفه من أهل السنة والجماعة، ومن أصحاب العقيدة السليمة النقية، وله في ذلك رسالة صغيرة عقيدة الإمام الطبري ذكرها الإمام اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة وقد طبعت في رسالة مستقلة.

فهو ممن يوثق باعتقاده، وهذا ظاهر أيضاً في تفسيره، وبعض الذين اختصروا تفسير الطبري فقدوا هذه الميزة فأدخلوا فيه بعض المعاني المنحرفة في العقيدة.

الكتاب الثاني: هو تفسير ابن كثير "تفسير القرآن العظيم" لمؤلفه الحافظ ابن كثير؛ وهو أيضاً يتميز بميزات مهمة:

أولها: أنه لخص أحسن وأجمل ما في تفسير الطبري.

الثاني: أنه يهتم بإيراد الأحاديث النبوية؛ وذلك لأن ابن كثير رحمه الله محدث من الطراز الأول، فيروي من المرويات والأحاديث في تفسير كل آية ما يبصر القارئ بمعناها، وتفسير النبي صلى الله عليه وسلم لها، وقد يتعقب بعض الأحاديث التي يذكرها.

الثالث: أنه يختار الأقوال الجيدة في تفسير الآيات، فلا يهتم فقط بإيراد الأقوال، بل يورد الأقوال، ثم يختار قولاً منها، وغالباً ما يكون اختياره موفقاً.

الميزة الرابعة: أن مؤلفه أيضاً من أهل العقيدة الصحيحة، ومن أهل السنة والجماعة، وقد استفاد واستنار كثي




استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 5004 استماع
حديث الهجرة 4964 استماع
تلك الرسل 4144 استماع
الصومال الجريح 4140 استماع
مصير المترفين 4075 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4043 استماع
وقفات مع سورة ق 3969 استماع
مقياس الربح والخسارة 3921 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3862 استماع
التخريج بواسطة المعجم المفهرس 3821 استماع