خطب ومحاضرات
شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية [16]
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فيقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: [ والإيمان قول وعمل يزيد بالطاعات والحسنات ].
هذا مجمل اعتقاد السلف في الإيمان، وكما ترون عادة السلف رحمهم الله أنهم يوجزون في التعبير عن العقيدة، ولذلك جاءت عقيدتهم -بحمد الله- سهلة واضحة لا لبس فيها ولا غموض، وقول السلف: (الإيمان قول وعمل) يقصدون به: أن الإيمان يشمل الأمور القلبية والقولية والعملية، وهذه المعاني كلها تجتمع في كلمتين: (قول وعمل) فالقول يشمل ما يصدر عن القلب وعمل اللسان الذي هو حركة اللسان ونطقه.
وكذلك العمل يشمل عمل القلب، من الرجاء والخوف واليقين والصدق والخشية والإنابة إلى الله عز وجل، وهذا يسمى: عمل القلب، وهو من أعمال القلوب باتفاق السلف، كما يشمل عمل الجوارح، وعلى هذا تكون هاتان الكلمتان من أوجز الكلمات التي تعبر عن مذهب السلف.
زيادة الإيمان بالطاعات ووجه كون الدنيا نعمة أم لا
كما هو معلوم أن كل شيء من نعم الله عز وجل، لكن يقصد الشيخ بسؤاله: هل هي نعمة أم نقمة؟ أي: هل هذه الدنيا من النعم التي امتن الله بها على عباده، أم هي نقمة؟ الدنيا ظاهرها نعمة، يعني: شهوات الدنيا ورغباتها وأولادها .. وغير ذلك من مكاسب الدنيا ظاهرها أنها نعمة، لكن قد تكون نقمة في المآل.
ولذلك سيذكر الشيخ المذهب الحق بعد قليل.
قال رحمه الله تعالى: [ والتحقيق أنها نعمة من وجه وإن لم تكن نعمة تامة من وجه ].
قوله: (أنها نعمة من وجه) يعني: أن هذه الخيرات التي تفضل الله بها على العباد هي في حد ذاتها نعمة، لكنها قد تكون نقمة إذا استعملت في غير ما يرضي الله عز وجل، كأن تلهي الإنسان عن ذكر الله، أو تلهيه عن واجباته الأساسية.
إذاً: هي في أصلها نعمة إن استخدمت فيما يرضي الله عز وجل، فتبقى نعمة للعبد في الدنيا والآخرة، وإذا استخدمت على غير ما يرضي الله عز وجل، أي: على غير وجه شرعي، صارت نقمة على العبد في مآلها لا في أصلها؛ لأن جميع أمور الدنيا هي بصدورها عن الله عز وجل من نعم الله عز وجل، ولذلك امتن الله على العباد حتى بخلق السماوات والأرض، لكن الكلام هنا هو عن المآل، أعني: مآل هذه الخيرات في الدنيا، هل هي نعمة لهذا الإنسان أم نقمة عليه في المآل؟
الإنعام الحقيقي وبيان عقيدة أهل السنة وغيرهم في ذلك
القدرية يقفون عند مسألة ما المقصود بـ (الإنعام)؟ فيقولون: هو إقدار الإنسان فقط، أي: إقدار الإنسان على الفعل، لكن الإنسان إذا فعل الخير كان في حقه نعمة، وكذلك إذا فعل الشر كان في حقه نعمة، ولا يجعلون ذلك من تقدير الله عز وجل، فيقولون: قدر الله ونعمة الله تقف عند إقدار العبد، ولذلك قالوا: إن الأعمال عند العبد قابلة للضدين بدون أن يكون الله قدر ذلك بزعمهم، تعالى الله عما يقولون، فإن فعل العبد الخير وقع القدر على ما يرضي الله، وإن فعل الشر وقع القدر على ما لا يرضي الله، وباستقلال من العبد، وعلى هذا يقولون: إن الإنسان هو الفاعل استقلالاً من دون الله سبحانه، ويقفون في مسألة تقدير النعمة لله، أو إضافة النعمة إلى الله عز وجل، أو الفضل أو القدرة بأنها واقفة عند إعطاء الإنسان القدرة فقط، فهم يرون أن الإنسان هو الفاعل، ويرون أن فعل الخير ليس بتوفيق الله عز وجل، وإنما الإنسان بمحض إرادته فعل الخير.
ولذلك هم لا يعترفون بالتوفيق، ويرون أن الإنسان مثل الآلة المبرمجة، فإن فعل الخير كان هذا مما علمه الله بعد فعله، ولذلك قالوا: لا قدر والأمر أنف، يعني: أمر حادث الحصول، وحادث العلم عند الله، وكأن الله لم يعلمه، بل زعموا أن الله لم يعلمه ولم يقدره، وإن كان بعض القدرية المتأخرين قالوا: نثبت العلم، لكن العلم يقف عند الإقدار، أي: إقدار العبد على الفعل، فمن فعل خيراً فذلك بمحض مشيئته، وليس بتوفيق من الله عز وجل، ومن فعل شراً فذلك بمحض مشيئته، وليس بتقدير الله عز وجل، ومن هنا اختلف قولهم عن قول أهل السنة، فأهل السنة يرون أن النعم الحقيقية من الله عز وجل ابتداء وانتهاء، وأن الإنسان إن فعل الخير -وإن كان الله هو الذي أقدره عليه- فبنعمة الله وبفضله وتوفيقه، وإن فعل الشر فالله هو الذي أقدره عليه، لكن بخذلان الله له، أي: خذله الله عز وجل ولم يوفقه ولم يسدده، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مقام آخر: إن مشكلة القدرية أنهم لم يفرقوا بين الإرادة الكونية العامة وبين الإرادة الشرعية، فجعلوا ما يريده الله شرعاً كأنه قدره كوناً، وما قدره الله كوناً لابد أن يكون قد أراده شرعاً.
فلذلك قالوا: نظراً لأن الله لم يرد الشر إذاً لم يخلقه، وهذه مسألة فيها لبس وفيها غموض، فجعلت كثيراً من عوام المسلمين قديماً وبعض طلاب العلم الذين لم يتمكن الدين والعقيدة من قلوبهم يقعون في مذهب القدرية؛ لأنهم وقعوا على قضية حساسة أحدثوا في الذهن شبهة ولم يعرفوا علاجها، وكذلك الناس لو حصنوا بقواعد القدر ما انطلت عليهم مثل هذه الشبهات.
المهم أن قوله: (الصالحة للضدين) هذا بزعم القدرية فهم يزعمون أن الله عز وجل أعطى العبد قدرة ثم تخلى عنه وجعل هذه القدرة صالحة لفعل الشر ولفعل الخير من العبد نفسه لا من تقدير الله، هذا معنى الكلام.
حكم طلب الدعاء من الغير لمصلحة وغير مصلحة وبيان عدم علاقته بالشفاعة
وإن كان قصده مصلحة المأمور .. ].
قوله: (وإن كان قصده) تعقيب على عبارة سابقة في مسألة قصد الداعي، والشيخ رحمه الله قد صنف الدعاء في قصد الداعي إلى نوعين:
الأول: إن كان قصد الداعي من طلب الدعاء مصلحة المأمور بالدعاء ومصلحة الآمر التي شرعها الله عز وجل، فهذا أمر مشروع.
والثاني: إن قصد طالب الدعاء مصلحته هو فقط -مصلحة عاجلة- دون اعتبار لما أمر الله به، ودون اعتبار أيضاً لانتفاع الداعي بدعائه لما له من الأجر، فإن هذا غير مشروع، وإن كان هذا قد يكون من الأمور التي أباحها الله إذا توافرت شروطها وانتفت موانعها.
والمهم أن قوله: (وإن كان قصده) يقصد طالب الدعاء في مسألة طلب دعاء الغير، والشيخ لا يزال يقرر أكثر ما يقرر هنا مسألة طلب دعاء الغير، والتي يرى الشيخ أنها من باب فعل الأسباب لا من باب الشفاعة التي أدخلها فيها أهل البدع كما سيأتي بعد قليل.
فقول الشيخ: (فمن قال لغيره: ادع لي، وقصد بذلك انتفاعهما جميعاً، كان هذا وأخوه متعاونين) وهذه الصورة مشروعة.
ثم قال هنا: (وإن كان قصده) أي: من طلب الدعاء مصلحة المأمور أو مصلحتهما، فهذا يثاب على ذلك، وإن كان قصده بصورة ثابتة، وقد ذكر الشيخ رحمه الله عدة صور.
قال رحمه الله تعالى: [ وإن كان قصده مصلحة المأمور أو مصلحته ومصلحة المأمور، فهذا يثاب على ذلك، وان كان قصده حصول مطلوبه من غير قصد منه لانتفاع المأمور، فهذا من نفسه أتي، ومثل هذا السؤال لا يأمر الله به قط، بل قد نهى عنه، إذ هذا سؤال محض للمخلوق من غير قصده لنفعه ولا لمصلحته، والله يأمرنا أن نعبده ونرغب إليه، ويأمرنا أن نحسن إلى عباده، وهذا لم يقصد لا هذا ولا هذا، فلم يقصد الرغبة إلى الله ودعائه وهو الصلاة، ولا قصد الإحسان إلى المخلوق الذي هو الزكاة ].
يقصد بالصلاة هنا: معناها اللغوي العام، أي: بمعنى: الدعاء، وكذلك الزكاة، فيقصد معناها اللغوي العام، أي: بمعنى النماء والطهارة، ولا يقصد بالصلاة أو الزكاة التي هي ركن الإسلام، وإنما يقصد المعنى العام والنفع العام، فالصلاة هي ما بين الإنسان وبين ربه عز وجل، والزكاة هي ما ينفع به الإنسان غيره.
وقوله: (فهذا من نفسه أتي) قصده: أن الإنسان أتي حينما لم ينو نفع الغير، ولم ينو وجه الله عز وجل عند طلب الدعاء من الغير، فهذا أتي من قبل نفسه، حيث لم يحسن النية، ولو أحسن النية والقصد أجر على طلبه الدعاء من الغير إذا توافرت الشروط.
والإنسان إذا طلب من غيره أن يدعو له بالقدر الذي أمر الله به، دون أن يتجاوز أو يتعدى في طلبه، وقصده بذلك فعل السبب الذي أمر الله به، وأحسن نيته بأن ينفعه الله عز وجل وينفع هذا العبد التائب، وقع المقصود والمشروع وكان على المشروع، وإن طلب نفع الغير أو دعاء الغير دون أن يكون عنده نية حسنة، لا في ثقته بالله عز وجل ولا في انتفاع الداعي، فإن هذا أتي من قبل نفسه، حيث كان قصده محصوراً على النفع الدنيوي، أو على انتفاعه هو دون غيره.
قال رحمه الله تعالى: [ وإن كان العبد قد لا يأثم بمثل هذا السؤال، لكن فرق ما بين ما يؤمر به العبد وما يؤذن له فيه، ألا ترى أنه قال في حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب: (إنهم لا يسترقون)، وإن كان الاسترقاء جائزاً، وهذا قد بسطناه في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا: أن من أثبت وسائط بين الله وبين خلقه، كالوسائط التي تكون بين الملوك والرعية فهو مشرك، بل هذا دين المشركين عباد الأوثان كانوا يقولون: إنها تماثيل الأنبياء والصالحين، وإنها وسائل يتقربون بها إلى الله، وهو من الشرك الذي أنكره الله على النصارى حيث قال: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة:31]، وقال تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]، أي: فليستجيبوا لي إذا دعوتهم بالأمر والنهي، وليؤمنوا بي أن أجيب دعاءهم لي بالمسألة والتضرع.
وقال تعالى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ [الشرح:7-8]، وقال تعالى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:67]، وقال تعالى: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ [النمل:62]، وقال تعالى: يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29] ].
في هذا المقطع كأن الشيخ قد لخص أو أجمل مسألة الدعاء أو طلب الدعاء من الغير، ثم فيما بعد سيؤكد مسألة العبادة المشروعة من خلال المقاطع التي ستأتي، لكن هنا قبل أن نتعدى هذا المقطع أحب أن ألخص أو أذكِّر بكلام الشيخ منذ بداية جوابه على السؤال، وهو أن خلاصة المسألة: أن الله جعل هذا المخلوق سبباً، يعني: طلب الدعاء من الغير، أو طلب العون من الغير، أو التوجه إلى الغير، والذي سماه أهل البدع: شفاعة، فأدخلوا فيها دعاء الأوثان والأصنام، ودعاء الموتى والأحياء، وأدخلوا فيها الاستشفاع بالمخلوقين عند الله عز وجل بغير ما أذن الله به، وأدخلوا فيها الصورة المشروعة ونظموها تحت قاعدة واحدة، وجعلوا من أدلتهم: مشروعية طلب الدعاء من الغير، والشيخ رحمه الله يريد أن يفصل هذه القضية عن الأخرى، وليبين لهم أن مسألة طلب الدعاء من الغير ليست من باب الشفاعة التي يستدل بها، أو التي استدلوا لها على أنها مشروعة، وهي في الحقيقة غير مشروعة، فقال: (جعل المخلوق سبباً فاعلاً مع الله -كما يفعل المشركين- شرك، أياً كانت الصورة التي عليها هذا الأمر، وكذلك إن دعوا المخلوق من دون الله عز وجل).
إذاً: الصورة الأولى: طلب الدعاء من غيره ظاناً أن هذا الداعي سينفعه من دون الله ويضره شرك.
الصورة الثانية: جعل هذا الإنسان أو الداعي المخلوق سبباً شرعه الله عز وجل، وكون الإنسان يتوسل بأعماله إلى الله عز وجل، كأن يتوسل بصلاته أو صيامه أو أعمال البر إلى الله عز وجل، فهذا سبب مشروع، بل هو من محض العبادة، ويدخل في هذا صورة واحدة استثناها الشرع، وهي: أن يطلب السبب من الغير، أو التسبب من الغير، أو يكون دعاء الغير سبب من الأسباب التي شرعها الله عز وجل، فهذا جائز بهذا الشرط، أي: أن يكون على صورة: أن تطلب من المسلم أن يدعو لك، وأن تعتقد أن دعاء هذا الذي دعا لك هو سبب، وأنه سيتوجه إلى الله عز وجل على الوجه المشروع، وأنك إنما فعلت ذلك لورود الترخيص به عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما ورد -مثلاً- عن بعض تفسير أهل العلم لسجود والدي يوسف له، إذ إن هذا أمر لا نخوض فيه؛ لأنه ورد على وجه بصورة محدودة لا يجوز القياس عليها، وكذلك هذه الصورة، أعني: صورة جواز طلب الدعاء من الغير، فليست من باب اتخاذ الغير وسيلة أو واسطة أو الاعتماد على الغير، لما هي صورة مشروعة استثناها الشرع، وهي من باب فعل الأسباب بالشروط الشرعية ولا يتعداها.
إذاً: هذه الصورة جائزة بشروط، ثم يتبع ذلك أن الشيخ قرر بأن طلب الدعاء من الغير ليس من باب الشفاعة التي اعتقدها هؤلاء الذين ابتدعوا والذين أشركوا، وإنما من باب طلب الأسباب الشرعية، من باب طلب السبب الذي جعله الله سبباً.
بيان الله تعالى للتوحيد في كتابه وحسم مواد الإشراك به
فبين أن الطاعة لله ورسوله، وأما الخشية فلله وحده ].
هذه أمثلة لقاعدة عظيمة، وهي: أن الأصل في الطاعة والاتباع طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بناء على أمر؛ لأن هذه الأمور متعلقة بالشرع، أي: أن الطاعة واتباع الأوامر واجتناب النواهي متعلقة بالشرع، فكل ما تعلق بالشرع فلابد من طاعة الله، ثم طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله أمر بذلك.
أما ما يتعلق بالخشية والإنابة والتوبة والعبادة .. ونحو ذلك فإنها عبادة، والعبادة لا تجوز إلا لله عز وجل.
إذاً: فالمشروع فيما يتعلق بالطاعة: أن يطاع الله ويطاع الرسول صلى الله عليه وسلم طاعة لله سبحانه، والمشروع فيما كان من أمور العبادة ألا يعبد إلا الله.
ولذلك الخلط بين هذه الأمور جعل كثير من أهل البدع يقعون في الشرك؛ لأنهم جعلوا مسلك الخشية والإنابة بالنسبة لمسألة الطاعة والاتباع، فصاروا يخشون الرسول صلى الله عليه وسلم وينيبون إليه، ويخشون الأولياء وينيبون إليهم، زاعمين أن هذا من طاعة الله، وأن الله أمر بذلك، وما عرفوا أن أمر الله متعلق بالشرع فقط لا بالعبادة، وشيء يتعلق بالشرائع تشريع، وأما ما يتعلق بالعبادة فالرسول صلى الله عليه وسلم يطاع فيما شرعه من العبادات، بل ويأبى أن يتوجه إليه بالعبادة نفسها، فهو مشرع عن الله لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم، لكن لا تصرف العبادة له ولا لغيره.
إذاً: أنواع العبادة، كالخشية والإنابة والرجاء والخوف وجميع أعمال القلوب لا يتوجه بها إلا إلى الله عز وجل، أما الشرائع، أعني: الأوامر والنواهي، فيطاع فيها الله ويطاع فيها الرسول صلى الله عليه وسلم تبعاً لطاعة الله، وأيضاً يطاع أولي الأمر والراسخون في العلم -الذين هم ورثة الأنبياء- الذين يقولون بالحق وبه يعدلون.
قال رحمه الله تعالى: [ وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ [التوبة:59]، ونظيره قوله تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173] ].
مسألة الرضا والطاعة في الشرع جعلوها لله تعالى، ثم لرسوله صلى الله عليه وسلم، ومسألة الرضا بمعنى الاتباع والامتثال والطاعة، كما أنها لله عز وجل فقد أمر أن تكون لرسوله صلى الله عليه وسلم ولأولي الأمر، لكن لما جاءت في مسألة الخشية والتخويف قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، فما توجهوا إلا إلى الله عز وجل.
قال رحمه الله تعالى: [ وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحقق هذا التوحيد لأمته، ويحسم عنهم مواد الشرك، إذ هذا تحقيق قولنا: لا إله إلا الله، فإن الإله هو الذي تألهه القلوب، لكمال المحبة والتعظيم والإجلال والإكرام، والرجاء والخوف، حتى قال لهم: (لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء محمد)، وقال له رجل: (ما شاء الله وشئت، فقال: أجعلتني لله نداً؟ بل ما شاء الله وحده)، وقال: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)، وقال: (من حلف بغير الله فقد أشرك)، وقال لـابن عباس رضي الله عنهما: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، جف القلم بما أنت لاق، فلو جهدت الخليقة على أن تنفعك لم تنفعك إلا بشيء كتبه الله لك، ولو جهدت أن تضرك لم تضرك إلا بشيء كتبه الله عليك)، وقال أيضاً: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، وإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله)، وقال: (اللهم لا تجعلوا قبري وثناً يعبد)، وقال: (لا تتخذوا قبري عيداً، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم)، وقال في مرضه: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. يحذر ما صنعوا. قالت
ومع علم المؤمن أن الله رب كل شيء ومليكه، فإنه لا ينكر ما خلقه الله من الأسباب، كما جعل المطر سبباً لإنبات النبات، قال الله تعالى: وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ [البقرة:164]، وكما جعل الشمس والقمر سبباً لما يخلقه بهما، وكما جعل الشفاعة والدعاء سبباً لما يقضيه بذلك، مثل صلاة المسلمين على جنازة الميت، فإن ذلك من الأسباب التي يرحمه الله بها، ويثيب عليها المصلين عليه ].
أمور تتعلق بالأسباب ينبغي معرفتها
أحدها: أن السبب المعين لا يستقل بالمطلوب ].
قوله: (لا يستقل بالمطلوب) بمعنى: أنه لابد من وجود عوامل أخرى في فعل السبب، أو في أن يؤدي السبب ثمرته، وهذه العوامل توفيق الله عز وجل، ووجود الشروط التي جعلها الله عز وجل شروطاً كونية أو شرعية، وكذلك انتفاء الموانع، فهناك موانع كونية وموانع شرعية، فوجود الأسباب أو بذل الأسباب لا يتحتم معه وجود المسبب كذلك إلا بتوفيق الله، قد يهيئ الله عز وجل الأسباب بأن يهيئ الله نفي الموانع.
إذاً: السبب المعلوم ليس بذاته دليلاً على وجود المسبب، فالإنسان قد يبذل السبب -مثلاً- فيما يتعلق بالدين بأن يعمل طاعة يقصد بها التسبب في رضا الله عز وجل وحصول الجنة، لكن إذا لم يوفقك الله للإخلاص لم ينفع سببه، وهكذا إذا ما انتفت الموانع له ووجدت المعاصي الماحقة للحسنات، كذلك بذل السبب في أمور الدنيا وفي الأسباب الدنيوية، إنسان قد يبذل سبباً في استنبات الزرع لكن إذا لم يوفق الله عز وجل ويهيئ أسباباً حتى أخرى لا يعلمها العبد قد لا ينبت زرعه، وقد توجد موانع من الوجود، أحياناً تكون ذنوب العباد سبباً لعدم نجاح الأسباب المادية.
فإذاً: السبب المعين لا يستقل بالمطلوب إلا بتوفيق الله عز وجل، وبوجود الشروط وانتفاء الموانع.
قال رحمه الله تعالى: [ أحدها: أن السبب المعين لا يستقل بالمطلوب، بل لابد له من أسباب أخر، ومع هذا فلها موانع، فإن لم يكمل الله الأسباب ويدفع الموانع لم يحصل المقصود، وهو سبحانه ما شاء كان وإن لم يشأ الناس، وما شاء الناس لا يكون إلا أن يشاء الله.
الثاني: أن لا يجوز أن يعتقد أن الشيء سبب إلا بعلم، فمن أثبت شيئاً سبباً بلا علم أو يخالف الشرع كان مبطلاً، مثل من يظن أن النذر سبب في دفع البلاء وحصول النعماء ].
كأن الشيخ يشير إلى مسألة أن طلب الدعاء من الغير الذي استشهد به أهل البدع على أنه شاهد على وجود الاستشفاع الممنوع، يقول له هنا: إنه سبب شرعي جاء بعلم عن النبي صلى الله عليه وسلم، فنحن حينما نقول: إن طلب الدعاء من غير كلل، فلأنه ورد الشرع بذلك، فمن أثبت شيئاً غير هذه الصورة، أي: سبباً بلا علم أو يخالف الشرع كان مبطلاً؛ لأنه لن يأتي بدليل.
وأمور العبادات والعقائد كما هو معلوم لا يصلح فيها القياس بالإطلاق، بل إن صح القياس بطل الدين؛ لأنها أمور توقيفية وغيبية، فلا يصح فيها القياس أبداً.
قال رحمه الله تعالى: [ وقد ثبت في الصحيحين (عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النذر، وقال: إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل).
الثالث: أن الأعمال الدينية لا يجوز أن يتخذ منها شيء سبباً إلا أن تكون مشروعة، فإن العبادات مبناها على التوقيف، فلا يجوز للإنسان أن يشرك بالله فيدعو غيره -وإن ظن أن ذلك سبب في حصول بعض أغراضه- وكذلك لا يعبد الله بالبدع المخالفة للشريعة -وإن ظن ذلك- فإن الشياطين قد تعين الإنسان على بعض مقاصده إذا أشرك، وقد يحصل بالكفر والفسوق والعصيان بعض أغراض الإنسان، فلا يحل له ذلك، إذ المفسدة الحاصلة بذلك أعظم من المصلحة الحاصلة به، إذ الرسول صلى الله عليه وسلم بعث بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فما أمر الله به فمصلحته راجحة، وما نهى عنه فمفسدته راجحة، وهذه الجمل لها بسط لا تحتمله هذه الورقة، والله أعلم ].
قال رحمه الله تعالى: [ وكلما ازداد العبد عملاً للخير ازداد إيمانه، هذا هو الإنعام الحقيقي المذكور في قوله: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7]، وفي قوله: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [النساء:69]، بل نعم الدنيا بدون الدين هل هي من نعمه أم لا؟ فيه قولان مشهوران للعلماء من أصحابنا وغيرهم ].
كما هو معلوم أن كل شيء من نعم الله عز وجل، لكن يقصد الشيخ بسؤاله: هل هي نعمة أم نقمة؟ أي: هل هذه الدنيا من النعم التي امتن الله بها على عباده، أم هي نقمة؟ الدنيا ظاهرها نعمة، يعني: شهوات الدنيا ورغباتها وأولادها .. وغير ذلك من مكاسب الدنيا ظاهرها أنها نعمة، لكن قد تكون نقمة في المآل.
ولذلك سيذكر الشيخ المذهب الحق بعد قليل.
قال رحمه الله تعالى: [ والتحقيق أنها نعمة من وجه وإن لم تكن نعمة تامة من وجه ].
قوله: (أنها نعمة من وجه) يعني: أن هذه الخيرات التي تفضل الله بها على العباد هي في حد ذاتها نعمة، لكنها قد تكون نقمة إذا استعملت في غير ما يرضي الله عز وجل، كأن تلهي الإنسان عن ذكر الله، أو تلهيه عن واجباته الأساسية.
إذاً: هي في أصلها نعمة إن استخدمت فيما يرضي الله عز وجل، فتبقى نعمة للعبد في الدنيا والآخرة، وإذا استخدمت على غير ما يرضي الله عز وجل، أي: على غير وجه شرعي، صارت نقمة على العبد في مآلها لا في أصلها؛ لأن جميع أمور الدنيا هي بصدورها عن الله عز وجل من نعم الله عز وجل، ولذلك امتن الله على العباد حتى بخلق السماوات والأرض، لكن الكلام هنا هو عن المآل، أعني: مآل هذه الخيرات في الدنيا، هل هي نعمة لهذا الإنسان أم نقمة عليه في المآل؟
قال رحمه الله تعالى: [ وأما الإنعام بالدين الذي ينبغي طلبه فهو ما أمر الله به من واجب ومستحب، فهو الخير الذي ينبغي طلبه باتفاق المسلمين، وهو النعمة الحقيقية عند أهل السنة، إذ عندهم أن الله هو الذي أنعم بفعل الخير، والقدرية عندهم إنما أنعم بالقدرة عليه الصالحة للضدين فقط ].
القدرية يقفون عند مسألة ما المقصود بـ (الإنعام)؟ فيقولون: هو إقدار الإنسان فقط، أي: إقدار الإنسان على الفعل، لكن الإنسان إذا فعل الخير كان في حقه نعمة، وكذلك إذا فعل الشر كان في حقه نعمة، ولا يجعلون ذلك من تقدير الله عز وجل، فيقولون: قدر الله ونعمة الله تقف عند إقدار العبد، ولذلك قالوا: إن الأعمال عند العبد قابلة للضدين بدون أن يكون الله قدر ذلك بزعمهم، تعالى الله عما يقولون، فإن فعل العبد الخير وقع القدر على ما يرضي الله، وإن فعل الشر وقع القدر على ما لا يرضي الله، وباستقلال من العبد، وعلى هذا يقولون: إن الإنسان هو الفاعل استقلالاً من دون الله سبحانه، ويقفون في مسألة تقدير النعمة لله، أو إضافة النعمة إلى الله عز وجل، أو الفضل أو القدرة بأنها واقفة عند إعطاء الإنسان القدرة فقط، فهم يرون أن الإنسان هو الفاعل، ويرون أن فعل الخير ليس بتوفيق الله عز وجل، وإنما الإنسان بمحض إرادته فعل الخير.
ولذلك هم لا يعترفون بالتوفيق، ويرون أن الإنسان مثل الآلة المبرمجة، فإن فعل الخير كان هذا مما علمه الله بعد فعله، ولذلك قالوا: لا قدر والأمر أنف، يعني: أمر حادث الحصول، وحادث العلم عند الله، وكأن الله لم يعلمه، بل زعموا أن الله لم يعلمه ولم يقدره، وإن كان بعض القدرية المتأخرين قالوا: نثبت العلم، لكن العلم يقف عند الإقدار، أي: إقدار العبد على الفعل، فمن فعل خيراً فذلك بمحض مشيئته، وليس بتوفيق من الله عز وجل، ومن فعل شراً فذلك بمحض مشيئته، وليس بتقدير الله عز وجل، ومن هنا اختلف قولهم عن قول أهل السنة، فأهل السنة يرون أن النعم الحقيقية من الله عز وجل ابتداء وانتهاء، وأن الإنسان إن فعل الخير -وإن كان الله هو الذي أقدره عليه- فبنعمة الله وبفضله وتوفيقه، وإن فعل الشر فالله هو الذي أقدره عليه، لكن بخذلان الله له، أي: خذله الله عز وجل ولم يوفقه ولم يسدده، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مقام آخر: إن مشكلة القدرية أنهم لم يفرقوا بين الإرادة الكونية العامة وبين الإرادة الشرعية، فجعلوا ما يريده الله شرعاً كأنه قدره كوناً، وما قدره الله كوناً لابد أن يكون قد أراده شرعاً.
فلذلك قالوا: نظراً لأن الله لم يرد الشر إذاً لم يخلقه، وهذه مسألة فيها لبس وفيها غموض، فجعلت كثيراً من عوام المسلمين قديماً وبعض طلاب العلم الذين لم يتمكن الدين والعقيدة من قلوبهم يقعون في مذهب القدرية؛ لأنهم وقعوا على قضية حساسة أحدثوا في الذهن شبهة ولم يعرفوا علاجها، وكذلك الناس لو حصنوا بقواعد القدر ما انطلت عليهم مثل هذه الشبهات.
المهم أن قوله: (الصالحة للضدين) هذا بزعم القدرية فهم يزعمون أن الله عز وجل أعطى العبد قدرة ثم تخلى عنه وجعل هذه القدرة صالحة لفعل الشر ولفعل الخير من العبد نفسه لا من تقدير الله، هذا معنى الكلام.
استمع المزيد من الشيخ ناصر العقل - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية [10] | 3234 استماع |
شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية [6] | 2917 استماع |
شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية [1] | 2643 استماع |
شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية [9] | 2460 استماع |
شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية [3] | 2401 استماع |
شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية [12] | 2360 استماع |
شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية [15] | 2349 استماع |
شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية [13] | 2162 استماع |
شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية [7] | 2149 استماع |
شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية [5] | 2073 استماع |