شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية [8]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فبعون الله وتوفيقه نستأنف درسنا في الفتاوى لـشيخ الإسلام في المجلد الأول، وقد وصلنا إلى فصل: في ألا يسأل العبد إلا الله، وهو امتداد للكلام عن موضوع العبودية، وكما تعرفون أيضاً أن أغلب هذا المجلد بل سائره في تقرير مسائل العبودية، وبيان ما ينافيها، والرد على المخالفين في هذه المسائل.

مشروعية الرقية الشرعية وحكم طلبها من الآخرين

قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [ فصل: في ألا يسأل العبد إلا الله.

قال الله تعالى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ [الشرح:7-8]، قال النبي صلى الله عليه وسلم لـابن عباس رضي الله عنهما: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)، وفي الترمذي: (ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شسع نعله إذا انقطع، فإنه إن لم ييسره لم يتيسر)، وفي الصحيح أنه قال لـعوف بن مالك والرهط الذين بايعهم معه: (لا تسألوا الناس شيئاً. فكان سوط أحدهم يسقط من يده فلا يقول لأحد ناولني إياه).

وفي الصحيح في حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب: (هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون)، والاسترقاء: طلب الرقية، وهو نوع من السؤال ].

لقد كثر الكلام فيما يتعلق بمسألة طلب الرقية، وخاصة في الآونة الأخيرة مع كثرة فزع الناس إلى الرقاة، وكثيراً ما يرد السؤال عن وصف الذين وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم -أعني: السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب- من كونهم لا يسترقون، وهل هذه من الأمور التي يستطيعها كل إنسان؟ وهل يجب على كل مسلم ألا يسترقي؟ الظاهر من سياق الحديث أن هذا لا يعني عدم جواز الرقية، فالرقية مشروعة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يرقي غيره ورقاه جبريل، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر الرقية وأيدها، وذكر لها ضوابط وأوصافاً، وعرض عليه الناس أنواعاً من رقاهم فأقر منها ما يصح ومنع منها ما لا يصح، والذين يخلطون بين وصف السبعين ألفاً وبأنهم لا يسترقون وبين جواز الرقية، يخطئون أشد الخطأ.

وعلى هذا فإن المقصود بكونهم لا يسترقون أموراً وإن اُختلف في أكثرها، لكن أغلب أهل العلم الذين شرحوا هذا الحديث يتفقون على جملة أمور في معنى (لا يسترقون)، وإن اختلفوا في بعض التفاصيل، ومن جملة هذه الأمور كما قلت أنه لا يشك أحد من أهل العلم بجواز الرقية ومشروعيتها.

أيضاً: أن هذا الوصف ليس وصفاً لجميع المسلمين، وإنما هو لأهل العزم، وليس كل الناس يستطيع أن يرقى إلى درجتهم؛ لذا ينبغي لكل مسلم أن يسعى إلى ذلك، وأن يكون من السابقين إلى الخير، وهذا مطلب عزيز يحتاج إلى مواصفات عديدة في الشخص، ولا يكون تركيزه فقط على عامل الرقية، بل يصلح أحوال قلبه وأعماله، وأن تكون صلته بالله عز وجل قوية، وأن يكون دائم السباق إلى الخير عاملاً بالفرائض مقيماً للنوافل، وأن يكون من السبّاقين إلى كل وجوه الخير، ثم بعد ذلك يسدد ويوفق.

كما أنهم أيضاً اتفقوا على أن (لا يسترقون) بمعنى: لا يطلبون الرقية، لكن لماذا لا يطلبون الرقية؟! وهل طلب الرقية عيب أم لا؟

هذه مسألة أخرى، والراجح فيها والله أعلم: أن وصفهم بأنهم لا يسترقون، يعني: أنهم من قوة اعتمادهم على الله عز وجل، ومن قوة توكلهم واستكانتهم وإنابتهم إلى الله عز وجل، ومن قوة توجههم في التعبد إلى الله بقلوبهم وجوارحهم، فإن نفوسهم لا تنزع إلى طلب الرقية أصلاً، ولا يعني: أنهم يتكلفون عدم طلب الرقية، أو أنهم يصبّرون أنفسهم على عدم طلب الرقية، وإن كان هذا قد يكون مقصوداً، لكن المقصود أعظم من ذلك، وهو أنهم لقوة صلتهم بالله عز وجل، وقوة تعلق قلوبهم بالله ينسون طلب الرقية، بل ولا ترد على بالهم أصلاً، حتى وإن أصيبوا بالضر والمرض لا يرد عليهم طلب شيء من الناس، فهم يلجئون إلى الله عز وجل في السراء والضراء.

ويبدو لي أن هذا المعنى واضح، وإن كان هذا النص أيضاً يحمل معاني أخرى، لكن هذا المعنى نجده واضحاً في نماذج لسلف هذه الأمة، فالرسول صلى الله عليه وسلم وكبار صحابته الذين اشتهروا بالعبادة، واشتهروا أيضاً بقوة الاعتماد على الله عز وجل، وكذلك كبار التابعين وتابعيهم، نجد منهم نماذج وصل بهم الحال مع قوة الصلة بالله عز وجل وقوة التوكل عليه والاعتماد عليه إلى أن أحدهم لا يفكر أصلاً في أن يطلب الرقية.

أما الذين تكلفوا في البحث عن هذا المعنى فيبدو لي أنهم تكلّفوا في أمر لا ينبغي التكلف فيه؛ لأن النص ظاهر.

حكم سؤال الناس الأموال وغيره

قال رحمه الله تعالى: [ وأحاديث النهي عن مسألة الناس الأموال كثيرة، كقوله: (لا تحل المسألة إلا لثلاثة ..)، وقوله: (لأن يأخذ أحدكم حبله ..) الحديث، وقوله: (لا تزال المسألة بأحدهم ..)، وقوله: (من سأل الناس وله ما يغنيه ..) وأمثال ذلك، وقوله: (من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس، لم تسد فاقته) .. الحديث.

فأما سؤال ما يسوغ مثله من العلم فليس من هذا الباب؛ لأن المخبر لا ينقص الجواب من علمه، بل يزداد بالجواب والسائل محتاج إلى ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: (هلا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإن شفاء العي السؤال)، ولكن من المسائل ما ينهى عنه، كما قال تعالى: لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ [المائدة:101]، وكنهيه عن أغلوطات المسائل.. ونحو ذلك ].

أغلوطات المسائل: هي المسائل الصعبة العويصة المتضمنة للأمور المعضلة التي تحمل شيئاً من المحارات التي تحار فيها العقول، أو هي المسائل التي لا تحدث أو لا يتوقع حدوثها، أو هي المسائل الغريبة، كالافتراضات.. ونحوها، وكل هذه من الأمور التي لا تجوز في الدين.

وأما مسألة السؤال فأقول: بعض الناس قد يضيّق ويحصر معنى السؤال الذي لا يجوز شرعاً في التسوّل فقط، بينما الأمر فيما يبدو لي من ظاهر النصوص أوسع من ذلك، فالسؤال حتى لو لم يكن سؤالاً باللسان أو سؤالاً باليد، فأحياناً يكون بالفعل وبالتصرفات التي يعملها المسلم حتى يكون عالة على الناس، وهذه الظاهرة كثرت في الآونة الأخيرة عند كثير من أجيال المسلمين أو أبناء المسلمين، لا سيما الذين تطرأ عليهم بعض الظروف الاقتصادية، فيكون عندهم شيء من الشح في المال بعد الغنى، وهذا كثير في بعض الشباب الناشئين، فقد يقعون في مثل هذا وهم لا يشعرون، بمعنى: أنهم قد تعودوا -هذا راجع إلى سوء التربية- مع الأسف بأن يكفوا مؤنتهم وأحوالهم المادية، وأن تُصرف عليهم المصارف الضرورية وغير الضرورية، فإذا طرأت عليهم أمور أو على بعضهم بقي على الحال التي أبقيناه عليها أشبه بالسائل المحتاج، فلا يسعى إلى أن يسد حاجته أو حاجة من يعول، بل يبقى أشبه بالعالة على الآخرين، على الأقارب أو الأعمام أو الأصدقاء أو الجيران.. أو غير ذلك.

وهذا قد كثر في الآونة الأخيرة، لذا فينبغي لطلاب العلم أن ينبهوا على ذلك، لا سيما أن كثيراً من الشباب -حتى بعض الشباب الصالحين والمتدينين- يأنفون كثيراً من الأعمال، وهذا خطأ، فيبقى عالة على الناس، ويقترض من هذا ويتدين من هذا، ويطلب أمه وأباه وقد لا يملكون شيئاً، أو يطلب إخوانه ومن حوله من الأقارب وقد لا يملكون شيئاً، مع أنه ينبغي عليه أن يبحث عن عمل مباح، حتى يسد حاجته وحاجة من يعول، وكثير من الشباب الآن حرم الفرص والوظائف؛ لأنه ليس بمستعد أن يعمل بألف أو ألفين أو خمسمائة ريال.. أو نحو ذلك، وهذا خطأ، بل ينبغي لأي شاب يحتاج للعمل مهما كان الأجر أن يعمل، وهو بذلك مأجور، وقد يعينه الله عز وجل ويسدده، وقد يكون أيضاً هذا العمل وسيلة إلى أن يرتقي إلى ما هو أوسع وإلى ما يطمح إليه.

أقول: إن كثيراً من شبابنا اليوم قد حرموا كثيراً من الوظائف؛ بسبب أنهم تعودوا على البذل والعطاء ممن كانوا يقومون على إعالتهم، كما أنهم قد تعودوا أن تكون جيوبهم مليئة، فلا يرضى الواحد منهم أن يعمل بالمبلغ الزهيد، وهذا خطأ، ولذا فإذا ما وجد الشاب ما يسد حاجته إلا بأن يعمل بمبلغ زهيد فليعمل، بل يجب عليه أن يعمل ولا يمد يده كل يوم للناس، حتى في مصاريفه الضرورية، ولذلك فإن هذه المسألة من أهم المسائل التي تتعلق ليس فقط بتربية الشخص، أو في الأحوال المادية والاقتصادية، بل تتعلق حتى بالعقيدة، فيعد ترك العمل ضعفاً في التوكل على الله، وعدم العمل بما أمر الله به من أن يكون المسلم عزيزاً، وأن تكون يده عليا، وأن يأنف أن يكون في مقام السائل.

الخلاصة: أن السؤال ليس محصوراً في مد اليد أو السؤال باللسان أو الإلحاح، بل السؤال يتضمن أيضاً أن يقعد القادر عن العمل فيكون عالة على غيره، وهو في الحقيقة قد وقع في الإثم فضلاً عن الذلة، لذا فينبغي لطلاب العلم أن ينبهوا شبابنا على هذه المسألة؛ حتى لا تستفحل في المجتمع المسلم، مع أنه في الآونة الأخيرة قد كثرت هذه الظاهرة؛ بسبب الظروف والأحوال التي اضطرت الناس إلى ذلك.

حكم سؤال وطلب الدعاء من الآخرين

قال رحمه الله تعالى: [ وأما سؤله لغيره أن يدعو له فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لـعمر : (لا تنسنا من دعائك)، وقال: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي فإنه من صلى عليَّ مرة صلى الله عليه عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له شفاعتي يوم القيامة)، وقد يقال في هذا: هو طلب من الأمة الدعاء له؛ لأنهم إذا دعوا له حصل لهم من الأجر أكثر مما لو كان الدعاء لأنفسهم كما قال للذي قال: (أجعل صلاتي كلها عليك؟ فقال: إذاً يكفيك الله ما أهمك من أمر دنياك وآخرتك)، فطلبه منهم الدعاء له لمصلحتهم، كسائر أمره إياهم بما أمر به؛ وذلك لما في ذلك من المصلحة لهم، فإنه قد صح عنه أنه قال: (ما من رجل يدعو لأخيه بظهر الغيب بدعوة إلا وكَّل الله به ملكاً كلما دعا دعوة قال الملك الموكل به: آمين ولك مثله) ].

ما يتعلق بأمر النبي صلى الله عليه وسلم لأمته بأن يدعوا له ويصلوا عليه له وجه آخر، ذكره شيخ الإسلام وغيره في مقام آخر، وهو أن ذلك من التشريع الذي أمر الله به، والرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو مبلغ، وهو عليه الصلاة والسلام عندما أمرنا بأن نحبه أكثر مما نحب أنفسنا وأولادنا وما نملك فإن ذلك بأمر الله عز وجل له، ولم يقصد بذلك رفعة نفسه، بل الله رفعه وأمره أن يبلغ، وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم عندما طلب منا أن نصلي ونسلم عليه وذكر الأجر على ذلك إنما ذلك هو حق له صلى الله عليه وسلم شرعه الله.

وعليه فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم إنما بلغنا شرع الله ولم يطلب لنفسه شيئاً، فإنما هو مبلغ عن الله تعالى، ومن هنا يزول الإشكال في كون النبي صلى الله عليه وسلم طلب من الأمة أن تدعو له، وأن تسلم عليه، وأن تصلي عليه، وأن تحبه، وأن تتبع شرعه وأن تقتدي به، وكل ذلك إنما هو بأمر الله عز وجل، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [ فصل: في ألا يسأل العبد إلا الله.

قال الله تعالى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ [الشرح:7-8]، قال النبي صلى الله عليه وسلم لـابن عباس رضي الله عنهما: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)، وفي الترمذي: (ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شسع نعله إذا انقطع، فإنه إن لم ييسره لم يتيسر)، وفي الصحيح أنه قال لـعوف بن مالك والرهط الذين بايعهم معه: (لا تسألوا الناس شيئاً. فكان سوط أحدهم يسقط من يده فلا يقول لأحد ناولني إياه).

وفي الصحيح في حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب: (هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون)، والاسترقاء: طلب الرقية، وهو نوع من السؤال ].

لقد كثر الكلام فيما يتعلق بمسألة طلب الرقية، وخاصة في الآونة الأخيرة مع كثرة فزع الناس إلى الرقاة، وكثيراً ما يرد السؤال عن وصف الذين وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم -أعني: السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب- من كونهم لا يسترقون، وهل هذه من الأمور التي يستطيعها كل إنسان؟ وهل يجب على كل مسلم ألا يسترقي؟ الظاهر من سياق الحديث أن هذا لا يعني عدم جواز الرقية، فالرقية مشروعة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يرقي غيره ورقاه جبريل، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر الرقية وأيدها، وذكر لها ضوابط وأوصافاً، وعرض عليه الناس أنواعاً من رقاهم فأقر منها ما يصح ومنع منها ما لا يصح، والذين يخلطون بين وصف السبعين ألفاً وبأنهم لا يسترقون وبين جواز الرقية، يخطئون أشد الخطأ.

وعلى هذا فإن المقصود بكونهم لا يسترقون أموراً وإن اُختلف في أكثرها، لكن أغلب أهل العلم الذين شرحوا هذا الحديث يتفقون على جملة أمور في معنى (لا يسترقون)، وإن اختلفوا في بعض التفاصيل، ومن جملة هذه الأمور كما قلت أنه لا يشك أحد من أهل العلم بجواز الرقية ومشروعيتها.

أيضاً: أن هذا الوصف ليس وصفاً لجميع المسلمين، وإنما هو لأهل العزم، وليس كل الناس يستطيع أن يرقى إلى درجتهم؛ لذا ينبغي لكل مسلم أن يسعى إلى ذلك، وأن يكون من السابقين إلى الخير، وهذا مطلب عزيز يحتاج إلى مواصفات عديدة في الشخص، ولا يكون تركيزه فقط على عامل الرقية، بل يصلح أحوال قلبه وأعماله، وأن تكون صلته بالله عز وجل قوية، وأن يكون دائم السباق إلى الخير عاملاً بالفرائض مقيماً للنوافل، وأن يكون من السبّاقين إلى كل وجوه الخير، ثم بعد ذلك يسدد ويوفق.

كما أنهم أيضاً اتفقوا على أن (لا يسترقون) بمعنى: لا يطلبون الرقية، لكن لماذا لا يطلبون الرقية؟! وهل طلب الرقية عيب أم لا؟

هذه مسألة أخرى، والراجح فيها والله أعلم: أن وصفهم بأنهم لا يسترقون، يعني: أنهم من قوة اعتمادهم على الله عز وجل، ومن قوة توكلهم واستكانتهم وإنابتهم إلى الله عز وجل، ومن قوة توجههم في التعبد إلى الله بقلوبهم وجوارحهم، فإن نفوسهم لا تنزع إلى طلب الرقية أصلاً، ولا يعني: أنهم يتكلفون عدم طلب الرقية، أو أنهم يصبّرون أنفسهم على عدم طلب الرقية، وإن كان هذا قد يكون مقصوداً، لكن المقصود أعظم من ذلك، وهو أنهم لقوة صلتهم بالله عز وجل، وقوة تعلق قلوبهم بالله ينسون طلب الرقية، بل ولا ترد على بالهم أصلاً، حتى وإن أصيبوا بالضر والمرض لا يرد عليهم طلب شيء من الناس، فهم يلجئون إلى الله عز وجل في السراء والضراء.

ويبدو لي أن هذا المعنى واضح، وإن كان هذا النص أيضاً يحمل معاني أخرى، لكن هذا المعنى نجده واضحاً في نماذج لسلف هذه الأمة، فالرسول صلى الله عليه وسلم وكبار صحابته الذين اشتهروا بالعبادة، واشتهروا أيضاً بقوة الاعتماد على الله عز وجل، وكذلك كبار التابعين وتابعيهم، نجد منهم نماذج وصل بهم الحال مع قوة الصلة بالله عز وجل وقوة التوكل عليه والاعتماد عليه إلى أن أحدهم لا يفكر أصلاً في أن يطلب الرقية.

أما الذين تكلفوا في البحث عن هذا المعنى فيبدو لي أنهم تكلّفوا في أمر لا ينبغي التكلف فيه؛ لأن النص ظاهر.

قال رحمه الله تعالى: [ وأحاديث النهي عن مسألة الناس الأموال كثيرة، كقوله: (لا تحل المسألة إلا لثلاثة ..)، وقوله: (لأن يأخذ أحدكم حبله ..) الحديث، وقوله: (لا تزال المسألة بأحدهم ..)، وقوله: (من سأل الناس وله ما يغنيه ..) وأمثال ذلك، وقوله: (من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس، لم تسد فاقته) .. الحديث.

فأما سؤال ما يسوغ مثله من العلم فليس من هذا الباب؛ لأن المخبر لا ينقص الجواب من علمه، بل يزداد بالجواب والسائل محتاج إلى ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: (هلا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإن شفاء العي السؤال)، ولكن من المسائل ما ينهى عنه، كما قال تعالى: لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ [المائدة:101]، وكنهيه عن أغلوطات المسائل.. ونحو ذلك ].

أغلوطات المسائل: هي المسائل الصعبة العويصة المتضمنة للأمور المعضلة التي تحمل شيئاً من المحارات التي تحار فيها العقول، أو هي المسائل التي لا تحدث أو لا يتوقع حدوثها، أو هي المسائل الغريبة، كالافتراضات.. ونحوها، وكل هذه من الأمور التي لا تجوز في الدين.

وأما مسألة السؤال فأقول: بعض الناس قد يضيّق ويحصر معنى السؤال الذي لا يجوز شرعاً في التسوّل فقط، بينما الأمر فيما يبدو لي من ظاهر النصوص أوسع من ذلك، فالسؤال حتى لو لم يكن سؤالاً باللسان أو سؤالاً باليد، فأحياناً يكون بالفعل وبالتصرفات التي يعملها المسلم حتى يكون عالة على الناس، وهذه الظاهرة كثرت في الآونة الأخيرة عند كثير من أجيال المسلمين أو أبناء المسلمين، لا سيما الذين تطرأ عليهم بعض الظروف الاقتصادية، فيكون عندهم شيء من الشح في المال بعد الغنى، وهذا كثير في بعض الشباب الناشئين، فقد يقعون في مثل هذا وهم لا يشعرون، بمعنى: أنهم قد تعودوا -هذا راجع إلى سوء التربية- مع الأسف بأن يكفوا مؤنتهم وأحوالهم المادية، وأن تُصرف عليهم المصارف الضرورية وغير الضرورية، فإذا طرأت عليهم أمور أو على بعضهم بقي على الحال التي أبقيناه عليها أشبه بالسائل المحتاج، فلا يسعى إلى أن يسد حاجته أو حاجة من يعول، بل يبقى أشبه بالعالة على الآخرين، على الأقارب أو الأعمام أو الأصدقاء أو الجيران.. أو غير ذلك.

وهذا قد كثر في الآونة الأخيرة، لذا فينبغي لطلاب العلم أن ينبهوا على ذلك، لا سيما أن كثيراً من الشباب -حتى بعض الشباب الصالحين والمتدينين- يأنفون كثيراً من الأعمال، وهذا خطأ، فيبقى عالة على الناس، ويقترض من هذا ويتدين من هذا، ويطلب أمه وأباه وقد لا يملكون شيئاً، أو يطلب إخوانه ومن حوله من الأقارب وقد لا يملكون شيئاً، مع أنه ينبغي عليه أن يبحث عن عمل مباح، حتى يسد حاجته وحاجة من يعول، وكثير من الشباب الآن حرم الفرص والوظائف؛ لأنه ليس بمستعد أن يعمل بألف أو ألفين أو خمسمائة ريال.. أو نحو ذلك، وهذا خطأ، بل ينبغي لأي شاب يحتاج للعمل مهما كان الأجر أن يعمل، وهو بذلك مأجور، وقد يعينه الله عز وجل ويسدده، وقد يكون أيضاً هذا العمل وسيلة إلى أن يرتقي إلى ما هو أوسع وإلى ما يطمح إليه.

أقول: إن كثيراً من شبابنا اليوم قد حرموا كثيراً من الوظائف؛ بسبب أنهم تعودوا على البذل والعطاء ممن كانوا يقومون على إعالتهم، كما أنهم قد تعودوا أن تكون جيوبهم مليئة، فلا يرضى الواحد منهم أن يعمل بالمبلغ الزهيد، وهذا خطأ، ولذا فإذا ما وجد الشاب ما يسد حاجته إلا بأن يعمل بمبلغ زهيد فليعمل، بل يجب عليه أن يعمل ولا يمد يده كل يوم للناس، حتى في مصاريفه الضرورية، ولذلك فإن هذه المسألة من أهم المسائل التي تتعلق ليس فقط بتربية الشخص، أو في الأحوال المادية والاقتصادية، بل تتعلق حتى بالعقيدة، فيعد ترك العمل ضعفاً في التوكل على الله، وعدم العمل بما أمر الله به من أن يكون المسلم عزيزاً، وأن تكون يده عليا، وأن يأنف أن يكون في مقام السائل.

الخلاصة: أن السؤال ليس محصوراً في مد اليد أو السؤال باللسان أو الإلحاح، بل السؤال يتضمن أيضاً أن يقعد القادر عن العمل فيكون عالة على غيره، وهو في الحقيقة قد وقع في الإثم فضلاً عن الذلة، لذا فينبغي لطلاب العلم أن ينبهوا شبابنا على هذه المسألة؛ حتى لا تستفحل في المجتمع المسلم، مع أنه في الآونة الأخيرة قد كثرت هذه الظاهرة؛ بسبب الظروف والأحوال التي اضطرت الناس إلى ذلك.