شرح العقيدة الطحاوية [108]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ والاختلاف الثاني: هو ما حمد فيه إحدى الطائفتين وذمت الأخرى ].

الاختلاف الثاني هو اختلاف التضاد واختلاف الافتراق.

قال رحمه الله تعالى: [ كما في قوله تعالى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ [البقرة:253].

وقوله تعالى: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ [الحج:19] الآيات.

وأكثر الاختلاف الذي يئول إلى الأهواء بين الأمة -من القسم الأول- وكذلك إلى سفك الدماء، واستباحة الأموال، والعداوة والبغضاء؛ لأن إحدى الطائفتين لا تعترف للأخرى بما معها من الحق، ولا تنصفها، بل تزيد على ما مع نفسها من الحق زيادات من الباطل، والأخرى كذلك، ولذلك جعل الله مصدره البغي، في قوله: إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [البقرة:213]؛ لأن البغي مجاوزة الحق، وذكر هذا في غير موضع من القرآن؛ ليكون عبرة لهذه الأمة.

وقريب من هذا الباب ما خرجاه في الصحيحين عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فائتوا منه ما استطعتم).

فأمرهم بالإمساك عما لم يؤمروا به، معللاً بأن سبب هلاك الأولين إنما كان كثرة السؤال، ثم الاختلاف على الرسل بالمعصية ].

قال: [ ثم الاختلاف في الكتاب من الذين يقرون به على نوعين:

أحدهما: اختلاف في تنزيله.

والثاني: اختلاف في تأويله، وكلاهما فيه إيمان ببعض دون بعض ].

الاختلاف في تكلم الله بالقرآن وتنزيله

قال: [ فالأول: كاختلافهم في تكلم الله بالقرآن وتنزيله، وطائفة قالت هذا الكلام حصل بقدرته ومشيئته لكنه مخلوق في غيره لم يقم به، وطائفة قالت: بل هو صفة له قائم بذاته ليس بمخلوق، لكنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته، وكل من الطائفتين جمعت في كلامها بين حق وباطل، فآمنت ببعض الحق وكذبت بما تقوله الأخرى من الحق، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك ].

هذا الكلام كله ليس بصحيح على إطلاقه، يعني: اختلافهم في تكلم الله عز وجل بالقرآن وتنزيله، قالت طوائف من المعتزلة وبعض الجهمية: إن كلام الله حصل بقدرة الله عز وجل، لكنه مخلوق في غيره فلم يقم به.

وقالت الكلابية ومن سلك سبيلهم من الأشاعرة والماتريدية: إن كلام الله هو صفة قائمة بذاته، ليس بمخلوق، لكن البعض قال: إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته، وهؤلاء هم الكلابية ومن سلك سبيلهم.

فالكلابية هم أول من قال هذا القول، زعموا أنهم أرادوا التوسط به بين قول المعتزلة وبين قول أهل الحديث، فهؤلاء زعموا أنهم أثبتوا كلام الله عز وجل، وأن كلامه صفة قائمة بذاته وأن الكلام ليس بمخلوق، لكنهم نفوا أن يكون كلام الله متعلقاً بقدرته ومشيئته، وهذه بدعة.

والحق أن كلام الله عز وجل صفة لله قائمة بذاته، وأنه متعلق بقدرة الله ومشيئته، ولا يحد من مشيئته للكلام شيء، ولا يجوز أن يقال: إن كلام الله هو معنى قائم بالنفس، ولا يجوز أن يقال: بأن القرآن حكاية عن كلام الله، ولا عبارة عن كلام الله، بل كلام الله عز وجل متعلق بمشيئته، فكما أنه موصوف بالكلام دائماً وأبداً، فكذلك أيضاً موصوف بأنه يتكلم متى شاء سبحانه، وقد ثبت أنه كلم آدم وكلم موسى وكلم النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه يكلم الناس يوم القيامة ويناديهم ويناجيهم، وأنه يتكلم متى شاء وكيف شاء.

إذاً: كل من القولين فيه خطأ وصواب، فالصواب عندهم أنهم أثبتوا كلهم أن الله متكلم، لكن الأولين أخطئوا في قولهم بأن القرآن مخلوق في غيره لم يقم به، أي: أن الله لم يتكلم بحرف وصوت على ما يليق به سبحانه، والآخرون وهم الكلابية ومن سلك سبيلهم أيضاً أصابوا في قولهم: إن الكلام صفة لله قائمة بذاته، وأنه ليس بمخلوق، لكنهم أخطئوا حينما قالوا: بأن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته، ولذلك اضطروا بأن يقولوا: بأن القرآن حكاية عن كلام الله، أو عبارة عن كلام الله، وهذه بدعة؛ لأن الحكاية والعبارة مثل الترجمة لا تعتبر كلاماً، بل لا بد أن تنسب إلى غير الله؛ لأنه إذا كان الحاكي بالقرآن والمعبر عن القرآن غير الله لم يصر كلامه إلا من باب المجاز، والمجاز لا يعبر عنه بالكلام الحقيقي، ولذلك يفرق بين من يتكلم حقيقة، وبين من لا يتكلم حقيقة، ولله المثل الأعلى، الإنسان القادر على الكلام يقال له: متكلم، بخلاف الأخرس لا يقال له: متكلم، مع أنه يمكن مجازاً أن يسمى تعبيره بالإشارات كلاماً، فهو حكاية وعبارة عن كلام الأخرس، لكنه لا يسمى كلاماً حقيقياً عند العقلاء، ولله المثل الأعلى، مع أن الله عز وجل يتكلم كما يشاء، وليس كلامه ككلام المخلوقين، فليس كمثله شيء، لكن نقصد أصل إثبات الصفة، ولا مانع من ضرب الأمثال في أصل إثبات الصفة لله لا في كيفيتها، ولله المثل الأعلى.

فمن هنا نقول: إن كلاً من الطائفتين أخطأتا، وإن أصابتا في الأصل أو في بعض الأصل، والحق في هذا أن الله عز وجل متكلم موصوف بالكلام، وكلامه قائم بذاته سبحانه، وأيضاً كلامه متعلق بمشيئته، يتكلم متى شاء وكيف شاء كما يليق بجلاله، وكلامه بحرف وصوت، ويسمى نداء، ويسمى قولاً، ويسمى كلاماً.. إلى آخره.

أما القول بأنه أقيمت الحجة على من قال: بأن كلام الله حكاية، أو أن القرآن عبارة عن كلام الله، أو أن الكلام معنى قائم بالنفس، فيكفر، فهذا غير صحيح؛ لأن أصل نزعة القول هذه ناتجة عن تأول، وإن كان يلزم من ذلك الكفر، لكن ما دام لا يلتزم، حتى لو كان في عدم التزامه شيء من المغالطة، أو البعد عند العقلاء، وعند أهل العلم والفقه في الدين، فما دام يتأول فإنه سيبقى مبتدعاً ولا يكفر.

الاختلاف في تأويل القرآن المتضمن للإيمان ببعضه دون بعض

قال رحمه الله تعالى: [ وأما الاختلاف في تأويله الذي يتضمن الإيمان ببعضه دون بعض فكثير، كما في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه ذات يوم وهم يختصمون في القدر، هذا ينزع بآية، وهذا ينزع بآية، فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان، فقال: أبهذا أمرتم؟ أم بهذا وكلتم؟ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟ انظروا ما أمرتم به فاتبعوه، وما نهيتم عنه فانتهوا).

وفي رواية: (يا قوم بهذا ضلت الأمم قبلكم، باختلافهم على أنبيائهم، وضربهم الكتاب بعضه ببعض، وإن القرآن لم ينزل لتضربوا بعضه ببعض، ولكن نزل القرآن يصدق بعضه بعضاً، ما عرفتم منه فاعملوا به، وما تشابه فآمنوا به).

وفي رواية: (فإن الأمم قبلكم لم يلعنوا حتى اختلفوا، وإن المراء في القرآن كفر) وهو حديث مشهور مخرج في المسانيد والسنن.

وقد روى أصل الحديث مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن رباح الأنصاري أن عبد الله بن عمرو قال: (هجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف في وجهه الغضب، فقال: إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب).

وجميع أهل البدع مختلفون في تأويله، مؤمنون ببعضه دون بعض، يقرون بما يوافق رأيهم من الآيات، وما يخالفه، إما أن يتأولوه تأويلاً يحرفون فيه الكلم عن مواضعه، وإما أن يقولوا: هذا متشابه لا يعلم أحد معناه، فيجحدوا ما أنزله من معانيه، وهو في معنى الكفر بذلك؛ لأن الإيمان باللفظ بلا معنى هو من جنس إيمان أهل الكتاب، كما قال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا [الجمعة:5].

وقال تعالى: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ [البقرة:78] أي: إلا تلاوة من غير فهم معناه، وليس هذا كالمؤمن الذي فهم ما فهم من القران فعمل به، واشتبه عليه بعضه فوكل علمه إلى الله، كما أمره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه) فامتثل أمر نبيه صلى الله عليه وسلم ].

قرر الشيخ في هذا المقطع قاعدة عظيمة من قواعد السلف، وهي من القواعد التي خالفت فيها جميع الفرق، وهي: أن السلف ومن تبعهم في مسألة تأويل القرآن وتفسيره يأخذون بأصول الاستدلال على وجهها الصحيح، فيستدلون في تأويل القرآن بتأويل القرآن بالقرآن، ثم تأويل القرآن بالسنة، ثم تأويل القرآن بفهم الصحابة، ثم بفهم السلف، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، وما ورد من نصوص القدر، أو نصوص العقيدة، أو غيبيات أو في أمر مشتبه عليهم، فما علمه المسلمون واستنبطوه عملوا به وآمنوا وقرروه، وما لم يتبين لهم معناه من أدلة العقائد والأحكام سلموا به، وهذه القاعدة ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث، منها: (ما أمرتم به فاتبعوه، وما نهيتم عنه فانتهوا).

ومنها: (ما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه فآمنوا به)، وهذه قاعدة عظيمة، بمعنى سلموا بالمتشابه؛ لأنه حق، وإنما قصرت أفهامكم عن إدراكه.

قال: [ فالأول: كاختلافهم في تكلم الله بالقرآن وتنزيله، وطائفة قالت هذا الكلام حصل بقدرته ومشيئته لكنه مخلوق في غيره لم يقم به، وطائفة قالت: بل هو صفة له قائم بذاته ليس بمخلوق، لكنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته، وكل من الطائفتين جمعت في كلامها بين حق وباطل، فآمنت ببعض الحق وكذبت بما تقوله الأخرى من الحق، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك ].

هذا الكلام كله ليس بصحيح على إطلاقه، يعني: اختلافهم في تكلم الله عز وجل بالقرآن وتنزيله، قالت طوائف من المعتزلة وبعض الجهمية: إن كلام الله حصل بقدرة الله عز وجل، لكنه مخلوق في غيره فلم يقم به.

وقالت الكلابية ومن سلك سبيلهم من الأشاعرة والماتريدية: إن كلام الله هو صفة قائمة بذاته، ليس بمخلوق، لكن البعض قال: إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته، وهؤلاء هم الكلابية ومن سلك سبيلهم.

فالكلابية هم أول من قال هذا القول، زعموا أنهم أرادوا التوسط به بين قول المعتزلة وبين قول أهل الحديث، فهؤلاء زعموا أنهم أثبتوا كلام الله عز وجل، وأن كلامه صفة قائمة بذاته وأن الكلام ليس بمخلوق، لكنهم نفوا أن يكون كلام الله متعلقاً بقدرته ومشيئته، وهذه بدعة.

والحق أن كلام الله عز وجل صفة لله قائمة بذاته، وأنه متعلق بقدرة الله ومشيئته، ولا يحد من مشيئته للكلام شيء، ولا يجوز أن يقال: إن كلام الله هو معنى قائم بالنفس، ولا يجوز أن يقال: بأن القرآن حكاية عن كلام الله، ولا عبارة عن كلام الله، بل كلام الله عز وجل متعلق بمشيئته، فكما أنه موصوف بالكلام دائماً وأبداً، فكذلك أيضاً موصوف بأنه يتكلم متى شاء سبحانه، وقد ثبت أنه كلم آدم وكلم موسى وكلم النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه يكلم الناس يوم القيامة ويناديهم ويناجيهم، وأنه يتكلم متى شاء وكيف شاء.

إذاً: كل من القولين فيه خطأ وصواب، فالصواب عندهم أنهم أثبتوا كلهم أن الله متكلم، لكن الأولين أخطئوا في قولهم بأن القرآن مخلوق في غيره لم يقم به، أي: أن الله لم يتكلم بحرف وصوت على ما يليق به سبحانه، والآخرون وهم الكلابية ومن سلك سبيلهم أيضاً أصابوا في قولهم: إن الكلام صفة لله قائمة بذاته، وأنه ليس بمخلوق، لكنهم أخطئوا حينما قالوا: بأن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته، ولذلك اضطروا بأن يقولوا: بأن القرآن حكاية عن كلام الله، أو عبارة عن كلام الله، وهذه بدعة؛ لأن الحكاية والعبارة مثل الترجمة لا تعتبر كلاماً، بل لا بد أن تنسب إلى غير الله؛ لأنه إذا كان الحاكي بالقرآن والمعبر عن القرآن غير الله لم يصر كلامه إلا من باب المجاز، والمجاز لا يعبر عنه بالكلام الحقيقي، ولذلك يفرق بين من يتكلم حقيقة، وبين من لا يتكلم حقيقة، ولله المثل الأعلى، الإنسان القادر على الكلام يقال له: متكلم، بخلاف الأخرس لا يقال له: متكلم، مع أنه يمكن مجازاً أن يسمى تعبيره بالإشارات كلاماً، فهو حكاية وعبارة عن كلام الأخرس، لكنه لا يسمى كلاماً حقيقياً عند العقلاء، ولله المثل الأعلى، مع أن الله عز وجل يتكلم كما يشاء، وليس كلامه ككلام المخلوقين، فليس كمثله شيء، لكن نقصد أصل إثبات الصفة، ولا مانع من ضرب الأمثال في أصل إثبات الصفة لله لا في كيفيتها، ولله المثل الأعلى.

فمن هنا نقول: إن كلاً من الطائفتين أخطأتا، وإن أصابتا في الأصل أو في بعض الأصل، والحق في هذا أن الله عز وجل متكلم موصوف بالكلام، وكلامه قائم بذاته سبحانه، وأيضاً كلامه متعلق بمشيئته، يتكلم متى شاء وكيف شاء كما يليق بجلاله، وكلامه بحرف وصوت، ويسمى نداء، ويسمى قولاً، ويسمى كلاماً.. إلى آخره.

أما القول بأنه أقيمت الحجة على من قال: بأن كلام الله حكاية، أو أن القرآن عبارة عن كلام الله، أو أن الكلام معنى قائم بالنفس، فيكفر، فهذا غير صحيح؛ لأن أصل نزعة القول هذه ناتجة عن تأول، وإن كان يلزم من ذلك الكفر، لكن ما دام لا يلتزم، حتى لو كان في عدم التزامه شيء من المغالطة، أو البعد عند العقلاء، وعند أهل العلم والفقه في الدين، فما دام يتأول فإنه سيبقى مبتدعاً ولا يكفر.

قال رحمه الله تعالى: [ وأما الاختلاف في تأويله الذي يتضمن الإيمان ببعضه دون بعض فكثير، كما في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه ذات يوم وهم يختصمون في القدر، هذا ينزع بآية، وهذا ينزع بآية، فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان، فقال: أبهذا أمرتم؟ أم بهذا وكلتم؟ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟ انظروا ما أمرتم به فاتبعوه، وما نهيتم عنه فانتهوا).

وفي رواية: (يا قوم بهذا ضلت الأمم قبلكم، باختلافهم على أنبيائهم، وضربهم الكتاب بعضه ببعض، وإن القرآن لم ينزل لتضربوا بعضه ببعض، ولكن نزل القرآن يصدق بعضه بعضاً، ما عرفتم منه فاعملوا به، وما تشابه فآمنوا به).

وفي رواية: (فإن الأمم قبلكم لم يلعنوا حتى اختلفوا، وإن المراء في القرآن كفر) وهو حديث مشهور مخرج في المسانيد والسنن.

وقد روى أصل الحديث مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن رباح الأنصاري أن عبد الله بن عمرو قال: (هجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف في وجهه الغضب، فقال: إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب).

وجميع أهل البدع مختلفون في تأويله، مؤمنون ببعضه دون بعض، يقرون بما يوافق رأيهم من الآيات، وما يخالفه، إما أن يتأولوه تأويلاً يحرفون فيه الكلم عن مواضعه، وإما أن يقولوا: هذا متشابه لا يعلم أحد معناه، فيجحدوا ما أنزله من معانيه، وهو في معنى الكفر بذلك؛ لأن الإيمان باللفظ بلا معنى هو من جنس إيمان أهل الكتاب، كما قال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا [الجمعة:5].

وقال تعالى: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ [البقرة:78] أي: إلا تلاوة من غير فهم معناه، وليس هذا كالمؤمن الذي فهم ما فهم من القران فعمل به، واشتبه عليه بعضه فوكل علمه إلى الله، كما أمره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه) فامتثل أمر نبيه صلى الله عليه وسلم ].

قرر الشيخ في هذا المقطع قاعدة عظيمة من قواعد السلف، وهي من القواعد التي خالفت فيها جميع الفرق، وهي: أن السلف ومن تبعهم في مسألة تأويل القرآن وتفسيره يأخذون بأصول الاستدلال على وجهها الصحيح، فيستدلون في تأويل القرآن بتأويل القرآن بالقرآن، ثم تأويل القرآن بالسنة، ثم تأويل القرآن بفهم الصحابة، ثم بفهم السلف، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، وما ورد من نصوص القدر، أو نصوص العقيدة، أو غيبيات أو في أمر مشتبه عليهم، فما علمه المسلمون واستنبطوه عملوا به وآمنوا وقرروه، وما لم يتبين لهم معناه من أدلة العقائد والأحكام سلموا به، وهذه القاعدة ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث، منها: (ما أمرتم به فاتبعوه، وما نهيتم عنه فانتهوا).

ومنها: (ما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه فآمنوا به)، وهذه قاعدة عظيمة، بمعنى سلموا بالمتشابه؛ لأنه حق، وإنما قصرت أفهامكم عن إدراكه.