خطب ومحاضرات
شرح العقيدة الطحاوية [104]
الحلقة مفرغة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقد تنازع العلماء في حقيقة السحر وأنواعه، والأكثرون يقولون: إنه قد يؤثر في موت المسحور ومرضه من غير وصول شيء ظاهر إليه، وزعم بعضهم أنه مجرد تخييل ].
هذه المسألة سبق الإشارة إليها، وذكرنا أن السحر منه ما هو تخييلي، ومنه ما هو حقيقي، يؤثر تأثيراً مادياً محسوساً، ومنه ما يجمع بين الأمرين وهو الغالب، أغلب أنواع السحر يكون تخييلياً مبنياً على أشياء مادية يضعها الساحر، وأحياناً يكون مجرد تخييل، لكنه سحر، وأحياناً يكون مادياً بحتاً، بمعنى أنه مادة منظورة مشهودة مؤثرة، تحس بالحواس.
إذاً: فالتنازع في الحقيقة لا محل له هنا، وكما ذكر جمهور أهل السنة على أن السحر ينقسم إلى نوعين: منه ما هو تخييلي، ومنه ما هو حقيقي، والتخييلي أحياناً ينبني على الحقيقي، وكذلك العكس.
قال رحمه الله تعالى: [ واتفقوا كلهم على أن ما كان من جنس دعوة الكواكب السبعة أو غيرها، أو خطابها، أو السجود لها، والتقرب إليها بما يناسبها من اللباس والخواتم والبخور.. ونحو ذلك؛ فإنه كفر، وهو من أعظم أبواب الشرك، فيجب غلقه، بل سده، وهو من جنس فعل قوم إبراهيم عليه السلام، ولهذا حكى الله عنه بقوله: فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:88-89] .
وقال تعالى: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا [الأنعام:76] الآيات، إلى قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82].
واتفقوا كلهم أيضاً على أن كل رقية وتعزيم، أو قَسَم فيه شرك بالله، فإنه لا يجوز التكلم به، وإن أطاعته به الجن.. أو غيرهم، وكذلك كل كلام فيه كفر لا يجوز التكلم به، وكذلك الكلام الذي لا يعرف معناه لا يتكلم به، لإمكان أن يكون فيه شرك لا يعرف، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا بأس بالرقى ما لم تكن شركاً) ].
مسألة الرقية موضوعها موضوع مستقل؛ لكن نظراً لأن المؤلف أشار إلى مسألة الرقية، وهي من الأمور التي يتحدث فيها الناس كثيراً الآن، ويكثر فيها اللغط، ويكثر فيها الكلام إلى حد شوش على عامة المسلمين.
نقول: الأصل في الرقية الجواز، والأصل في الرقية أنها تجوز بكل مباح من الألفاظ والعبارات الصحيحة السليمة، وأفضل الرقية الرقية بكتاب الله عز وجل، وأيضاً بألفاظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل: قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم رب الناس، أذهب البأس، اشف أنت الشافي، اللهم لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً) ونحو هذا من العبارات التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم بعد ذلك يجوز الرقية بأي لفظ صحيح يكون فيه الدعاء لله عز وجل، ولا يكون فيه شرك ولا غموض، ولذلك عندما كان بعض الصحابة يرقون برقىً كانوا يرقون بها في الجاهلية قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعرضوا علي رقاكم) فأعطاهم قاعدة فيها وقال: (لا بأس بالرقى ما لم تكن شركاً).
وهناك نصوص قد تدل على تخصيص الرقية بأشياء معينة أو بأمراض معينة، كتخصيص النبي صلى الله عليه وسلم الرقية مثلاً بالعين والحمى، كما ورد في أكثر من لفظ، فهذا لا يعني أن غيرهما لا يجوز الرقية فيه، لكن هذا محمول على أن أفضل الرقى وأبلغها تأثيراً في هذين الأمرين، أو أنه من باب الخبر؛ للتأكيد على أن أبلغ أنواع الرقية هو هذا النوع، وإلا فما دام قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم الإذن العام، فتخصيص الرقية بشيء معين لا بد أن يحمل على معنىً آخر؛ لئلا يؤدي هذا إلى نقض الأحاديث، وهذا لا يمكن أن يكون.
فإذاً: الأصل في الرقية الجواز إذا كانت بالقرآن أو بالسنة، أو بأدعية صحيحة مشروعة، وبألفاظ بينة ذات معنى مقر شرعاً، وليس فيها ألغاز ولا طلاسم ولا إسرار، بعض الناس يسر بالرقية؛ ليوهم الحاضرين بأن عنده أشياء ليست عندهم، فهذا نوع من الدجل، ومن مكائد الشيطان على الإنسان، فيبقى جنس الرقية جائز ما دامت بالضوابط الشرعية، وما ينضاف إلى الرقية من أمور فيحكم على الرقية من خلاله، بحسب ما يرد من الناس من زيادات وإشكالات؛ لأن من مداخل الشيطان على الناس أن أغلب الرقاة يضيفون على الرقية أشياء تأتيهم أحياناً بدون ما يشعرون، من خلال عبث الجن بهم، كحركات وصور وأشكال وأنماط من المؤثرات.. ونحو ذلك مما تنضاف إلى الرقية، وهذا من الباطل الذي ينبغي نفيه.
أما الأمور الشرعية المعلومة التي ليس فيها لبس، سواء من الأعمال أو الألفاظ فلا حرج أن تكون من الرقى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما منع من الرقية ما كان شركاً فقط، وما كان سحراً.. ونحو ذلك.
قال رحمه الله تعالى: [ ولا يجوز الاستعاذة بالجن، فقد ذم الله الكافرين على ذلك، فقال تعالى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن:6] قالوا: كان الإنسي إذا نزل بالوادي يقول: أعوذ بعظيم هذا الوادي من سفهائه، فيبيت في أمن وجوار حتى يصبح.
(فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) يعني: الإنس للجن، باستعاذتهم بهم.
(رَهَقًا) أي: إثماً وطغياناً وجراءة وشراً، وذلك أنهم قالوا: قد سدنا الجن والإنس، فالجن تعاظم في أنفسها، وتزداد كفراً إذا عاملتها الإنس بهذه المعاملة، وقد قال تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ:40-41].
فهؤلاء الذين يزعمون أنهم يدعون الملائكة ويخاطبونهم بهذه العزائم، وأنها تنزل عليهم، ضالون، وإنما تنزل عليهم الشياطين، وقد قال تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:128].
فاستمتاع الإنسي بالجني: في قضاء حوائجه، وامتثال أوامره، وإخباره بشيء من المغيبات.. ونحو ذلك. واستمتاع الجن بالإنس: تعظيمه إياه، واستعانته به، واستغاثته وخضوعه له ].
هذا مما يؤكد ما سبق الإشارة إليه في درس سابق: من أن ما يقع فيه كثير من الرقاة والقراء من الاستعانة بالجن ممنوع شرعاً، وأنه من الأمور التي ينبغي الحذر منها، والتوقف عنها، وذكرت أقوال أهل العلم، ومما ذكروا: أنه إذا كان انتفاع الإنسي بالجني يأتي من باب الكرامة، التي لم يقصدها الإنسي ولم يتقصدها، ولم يكن بعهد وعقد، فهذا لا حرج فيه، وربما يكون ذلك من إكرام الله للعبد، أو من باب الفتنة، فليحذر الإنسان، وليشكر الله على ما سيق له من نعمة، وأن يوقن أن ذلك من الله عز وجل وليس من الخلق، ولكن إذا زاد الأمر إلى حد الإدمان لهذه المسألة، وكثرة الاستعانة بالجن، وكثرة المخاطبة لهم، وأخذ العهود والمواعيد منهم، بأن يأتوا عند الحاجة، ويكون هذا مصاحباً للرقية دائماً لبعض الناس الذين فيهم مس، فهذا هو الممنوع؛ لأنه الاستمتاع الذي نهى الله عنه، فينبغي التنبه لهذه المسألة؛ لأنها كثرت عند القراء، وأصبحت محل إشكالات وعلقت الناس بالجن، والواجب أن يتعلق الناس بالله عز وجل، ثم بالاعتماد على الرقى الشرعية، والأدوية المباحة.. ونحو ذلك.
قال رحمه الله تعالى: [ ونوع منهم يتكلم بالأحوال الشيطانية، والكشوف ومخاطبة رجال الغيب، وأن لهم خوارق تقتضي أنهم أولياء الله، وكان من هؤلاء من يعين المشركين على المسلمين، ويقول: إن الرسول أمره بقتال المسلمين مع المشركين؛ لكون المسلمين قد عصوا!! وهؤلاء في الحقيقة إخوان المشركين ].
هذا من أساليب الصوفية، فكثير من الصوفية الطرقية يقع في مسألة التعلق بالجن، ويسمونهم: رجال الغيب، سواء مخاطبتهم أو الاستعانة بهم وكثرة اللجوء إليهم، أو مخاطبة الأشخاص الذين فيهم مس وجنون، ويسمونهم: مجاذيب.. ونحوهم ممن فيهم نوع من الجنون غير الظاهر، فهؤلاء فيهم نوع مس، قد يدخل من خلاله بعض المتصوفة، فيستفيدون منهم.
والمهم أن رجال الغيب المقصود بهم الجن الذين يستعين بهم أصحاب الطرق، ويزعمون أنهم يوجهونهم حتى في الأمور الشرعية، ولذلك كثيراً ما يستند زنادقة الصوفية، خاصة الذين يدخلون في التصوف، يستندون فيما يعملونه وما يقولونه من الباطل على أن هذا بإيحاء من هؤلاء الذين هم رجال الغيب، وعموم شيوخ الطرق الصوفية -وأغلبهم من الكذبة الدجالين- يقطعون بأن ما يسنده الشيخ إلى رجال الغيب هذا أمر لا بد أن يقال ويصدق ولا يناقش، وربوا أتباعهم الدهماء على ذلك.
وهذا من الابتلاء الذي يقع فيه هؤلاء، ولذلك وقع -كما ذكر الشارح- أن بعضهم يستعين بالجن في ضرر المسلمين، وأحياناً يعاون المشركين والمنافقين، ومنهم من تعاون مع التتار، ومنهم من تعاون مع الصليبيين، ومنهم من تعاون مع الباطنية ضد المسلمين، بدعوى أنه موجه من قبل رجال الغيب، وأن هذا توجيه رباني.
وأحياناً يتصور لهم الشيطان بصور أولياء وملائكة وصور أنبياء.. ونحو ذلك، وأحياناً هذه الأمور قد تلتبس على كثير من الناس، فأحياناً يزعم الشيطان أنه الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: أن من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقد رآه حقيقة؛ لأن الشيطان لا يتمثل به، لكن ما يراه هؤلاء من الدجالين وأصحاب المخارق وغلاة الصوفية ليس هو الرسول صلى الله عليه وسلم حقيقة، ليس بصفاته؛ ولذلك لو سئل أحدهم عن وصف من رأى لوجد أن في رؤيته التباساً، رأى شخصاً لا تنطبق عليه أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم، قد يراه بزي الصوفية، قد يراه يرقص في سماع الصوفية، قد يراه متقلداً مسبحة، فهل يكون النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الصورة؟!
وفعلاً بعض الصوفية سئل عن ذلك، بل قد كتبوا ما يدل على أنهم يرون شخصاً يتصور لهم بغير صفات النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك ذكر أهل العلم تقييد هذا: أن من رأى النبي صلى الله عليه وسلم بصفاته فقد رآه، لكن إذا تمثل له شيطان أو جني بصفات غير صفات النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له بأنه هو الرسول فهو كاذب، ولذلك يتمثل لهم الشيطان يقظة أحياناً على أنه الخضر ، أو على أنه الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن لو سألتهم عن الصفات التي رأوها، وجدتها لا تنطبق على صفات النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا مما وقعت فيه الفتنة لهم، فقد وقع لهم كثير من البدع التي اعتقدوها بسبب ذلك.
إذاً: غلاة الصوفية وغلاة الفلاسفة وكثير من الباطنية يعاونون المشركين وأهل الضلال والفساد على المسلمين، بدعوى أن ذلك بتوجيه من رجال الغيب، أو ممن يزعمون أن لهم حق الولاء.
أصناف الناس في اعتقاد وجود الجن وبيان وجه الحق في ذلك
حزب يكذبون بوجود رجال الغيب، ولكن قد عاينهم الناس، وثبت عمن عاينهم أو حدثه الثقات بما رأوه، وهؤلاء إذا رأوهم وتيقنوا وجودهم خضعوا لهم.
وحزب عرفوهم ورجعوا إلى القدر، واعتقدوا أن ثم في الباطن طريقاً إلى الله غير طريقة الأنبياء.
وحزب ما أمكنهم أن يجعلوا ولياً خارجاً عن دائرة الرسول، فقالوا: يكون الرسول هو ممداً للطائفتين، فهؤلاء معظمون للرسول جاهلون بدينه وشرعه. ].
كل هذه الآراء باطلة، ليس فيها رأي يمثل الحق ولا أهل الحق، وإنما هي آراء موزعة بين الصوفية والفرق والأهواء والباطنية والفلاسفة.. وغيرهم.
أما قوله: (والناس من أهل العلم فيهم) يعني: الذين يدعون العلم من هؤلاء الضالين.
قال رحمه الله تعالى: [ والحق أن هؤلاء من أتباع الشياطين، وأن رجال الغيب هم الجن، ويسمون رجالاً، كما قال تعالى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن:6] وإلا فالإنس يؤنسون، أي: يشهدون ويرون، وإنما يحتجب الإنسي أحياناً لا يكون دائماً محتجباً عن أبصار الإنس، ومن ظن أنهم من الإنس فمن غلطه وجهله، وسبب الضلال فيهم وافتراق هذه الأحزاب الثلاثة، عدم الفرقان بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن.
ويقول بعض الناس: الفقراء يسلم إليهم حالهم ].
الفقراء هنا هم النساك والعباد والجهلة من الصوفية ومن سلك سبيلهم، ومن أسماء الصوفية أهل البدع الفقراء، وقد ينطبق أحياناً هذا الوصف على بعض العبّاد أهل الاستقامة، لكن تسميتهم بفقراء غير صحيح، كما أن تسميتهم بالصوفية والنساك غير صحيح، قد يسمون عباداً؛ لأن العبادة من الأمور المشروعة لله عز وجل، لكن تسميتهم نساكاً، وتسميتهم صوفية، وتسميتهم فقراء متفكرة دراويش كل ذلك من التسميات البدعية، والغالب أنها تنطبق على أهل الجهل والبدع فيهم.
ويقولون عمن يسمون بالفقراء: قد يسلم إليهم حالهم، وأنهم ما يعملون إلا خيراً، وأن كل تصرفاتهم لا بد أن تفسر بتفسير يؤدي إلى إعذارهم فيها؛ ولذلك يظن كثير من المريدين والمغترين بالصوفية أن هذا الصنف لا يعمل إلا خيراً، وإن ظهر منه ما هو شر فإنه يفسر بتفسيرات أخرى لها معان باطنية، ومصطلح الفقراء جعل المنظرين للصوفية وكتاب المقالات والمترجمين لرجالات الصوفية جعلهم يفسرون ما يحدث من بعض الزنادقة الصوفية.. وغيرهم من معاص بتفسيرات باطنية، جعلوا جرائمهم ومعاصيهم حتى المغلظة على أنها كرامات لأنهم يقولون: يسلم إليهم حالهم. فيقولون بأن الله عز وجل يدفعهم لهذه الأمور من غير شعور، أو فتنة للناس، لكن هم حالهم على الاستقامة، حتى تجد منهم من لا يصلي الفرائض أبداً، بل لا يصلي إطلاقاً، ثم يزعمون أن روحه تذهب إلى البيت الحرام وتصلي هناك، وقد يجلس يتناول بعض الشهوات أمام المصلين ويقولون: هذا روحه في الكعبة، وقد يتناول الخمر، وقد يفجر، ويقولون: هذا من كراماته، ويدعون له بالرحمة، كما يفعل الشعراني . فهذا مبني على قولهم: الفقراء يسلم إليهم حالهم. ثم تطورت المسألة إلى أن جعلوا كبار رجالهم يسلم إليهم حالهم بإطلاق، وأن ما يكون منهم إلا خير، حتى الجرائم والشرك والفساد في الأرض يفسرونه بأنه خير.
قال رحمه الله تعالى: [ ويقول بعض الناس: الفقراء يسلم إليهم حالهم. وهذا كلام باطل، بل الواجب عرض أفعالهم وأحوالهم على الشريعة المحمدية، فما وافقها قبل، وما خالفها رد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).
وفي رواية: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ر).
فلا طريقة إلا طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا حقيقة إلا حقيقته، ولا شريعة إلا شريعته، ولا عقيدة إلا عقيدته، ولا يصل أحد من الخلق بعده إلى الله وإلى رضوانه وجنته وكرامته إلا بمتابعته باطناً وظاهراً.
ومن لم يكن له مصدقاً فيما أخبر، ملتزماً لطاعته فيما أمر، في الأمور الباطنة التي في القلوب، والأعمال الظاهرة التي على الأبدان؛ لم يكن مؤمناً، فضلاً عن أن يكون ولياً لله تعالى، ولو طار في الهواء، ومشى على الماء، وأنفق من الغيب، وأخرج الذهب من الجيب، ولو حصل له من الخوارق ماذا عسى أن يحصل، فإنه لا يكون مع تركه الفعل المأمور وعمل المحظور، إلا من أهل الأحوال الشيطانية المبعدة لصاحبها عن الله تعالى، المقربة إلى سخطه وعذابه، لكن من ليس يكلف من الأطفال والمجانين، قد رفع عنهم القلم، فلا يعاقبون، وليس لهم من الإيمان بالله وتقواه باطناً وظاهراً ما يكونون به من أولياء الله المقربين، وحزبه المفلحين، وجنده الغالبين، لكن يدخلون في الإسلام تبعاً لآبائهم، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور:21] ].
قال رحمه الله تعالى: [ والناس من أهل العلم فيهم على ثلاثة أحزاب:
حزب يكذبون بوجود رجال الغيب، ولكن قد عاينهم الناس، وثبت عمن عاينهم أو حدثه الثقات بما رأوه، وهؤلاء إذا رأوهم وتيقنوا وجودهم خضعوا لهم.
وحزب عرفوهم ورجعوا إلى القدر، واعتقدوا أن ثم في الباطن طريقاً إلى الله غير طريقة الأنبياء.
وحزب ما أمكنهم أن يجعلوا ولياً خارجاً عن دائرة الرسول، فقالوا: يكون الرسول هو ممداً للطائفتين، فهؤلاء معظمون للرسول جاهلون بدينه وشرعه. ].
كل هذه الآراء باطلة، ليس فيها رأي يمثل الحق ولا أهل الحق، وإنما هي آراء موزعة بين الصوفية والفرق والأهواء والباطنية والفلاسفة.. وغيرهم.
أما قوله: (والناس من أهل العلم فيهم) يعني: الذين يدعون العلم من هؤلاء الضالين.
قال رحمه الله تعالى: [ والحق أن هؤلاء من أتباع الشياطين، وأن رجال الغيب هم الجن، ويسمون رجالاً، كما قال تعالى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن:6] وإلا فالإنس يؤنسون، أي: يشهدون ويرون، وإنما يحتجب الإنسي أحياناً لا يكون دائماً محتجباً عن أبصار الإنس، ومن ظن أنهم من الإنس فمن غلطه وجهله، وسبب الضلال فيهم وافتراق هذه الأحزاب الثلاثة، عدم الفرقان بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن.
ويقول بعض الناس: الفقراء يسلم إليهم حالهم ].
الفقراء هنا هم النساك والعباد والجهلة من الصوفية ومن سلك سبيلهم، ومن أسماء الصوفية أهل البدع الفقراء، وقد ينطبق أحياناً هذا الوصف على بعض العبّاد أهل الاستقامة، لكن تسميتهم بفقراء غير صحيح، كما أن تسميتهم بالصوفية والنساك غير صحيح، قد يسمون عباداً؛ لأن العبادة من الأمور المشروعة لله عز وجل، لكن تسميتهم نساكاً، وتسميتهم صوفية، وتسميتهم فقراء متفكرة دراويش كل ذلك من التسميات البدعية، والغالب أنها تنطبق على أهل الجهل والبدع فيهم.
ويقولون عمن يسمون بالفقراء: قد يسلم إليهم حالهم، وأنهم ما يعملون إلا خيراً، وأن كل تصرفاتهم لا بد أن تفسر بتفسير يؤدي إلى إعذارهم فيها؛ ولذلك يظن كثير من المريدين والمغترين بالصوفية أن هذا الصنف لا يعمل إلا خيراً، وإن ظهر منه ما هو شر فإنه يفسر بتفسيرات أخرى لها معان باطنية، ومصطلح الفقراء جعل المنظرين للصوفية وكتاب المقالات والمترجمين لرجالات الصوفية جعلهم يفسرون ما يحدث من بعض الزنادقة الصوفية.. وغيرهم من معاص بتفسيرات باطنية، جعلوا جرائمهم ومعاصيهم حتى المغلظة على أنها كرامات لأنهم يقولون: يسلم إليهم حالهم. فيقولون بأن الله عز وجل يدفعهم لهذه الأمور من غير شعور، أو فتنة للناس، لكن هم حالهم على الاستقامة، حتى تجد منهم من لا يصلي الفرائض أبداً، بل لا يصلي إطلاقاً، ثم يزعمون أن روحه تذهب إلى البيت الحرام وتصلي هناك، وقد يجلس يتناول بعض الشهوات أمام المصلين ويقولون: هذا روحه في الكعبة، وقد يتناول الخمر، وقد يفجر، ويقولون: هذا من كراماته، ويدعون له بالرحمة، كما يفعل الشعراني . فهذا مبني على قولهم: الفقراء يسلم إليهم حالهم. ثم تطورت المسألة إلى أن جعلوا كبار رجالهم يسلم إليهم حالهم بإطلاق، وأن ما يكون منهم إلا خير، حتى الجرائم والشرك والفساد في الأرض يفسرونه بأنه خير.
قال رحمه الله تعالى: [ ويقول بعض الناس: الفقراء يسلم إليهم حالهم. وهذا كلام باطل، بل الواجب عرض أفعالهم وأحوالهم على الشريعة المحمدية، فما وافقها قبل، وما خالفها رد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).
وفي رواية: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ر).
فلا طريقة إلا طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا حقيقة إلا حقيقته، ولا شريعة إلا شريعته، ولا عقيدة إلا عقيدته، ولا يصل أحد من الخلق بعده إلى الله وإلى رضوانه وجنته وكرامته إلا بمتابعته باطناً وظاهراً.
ومن لم يكن له مصدقاً فيما أخبر، ملتزماً لطاعته فيما أمر، في الأمور الباطنة التي في القلوب، والأعمال الظاهرة التي على الأبدان؛ لم يكن مؤمناً، فضلاً عن أن يكون ولياً لله تعالى، ولو طار في الهواء، ومشى على الماء، وأنفق من الغيب، وأخرج الذهب من الجيب، ولو حصل له من الخوارق ماذا عسى أن يحصل، فإنه لا يكون مع تركه الفعل المأمور وعمل المحظور، إلا من أهل الأحوال الشيطانية المبعدة لصاحبها عن الله تعالى، المقربة إلى سخطه وعذابه، لكن من ليس يكلف من الأطفال والمجانين، قد رفع عنهم القلم، فلا يعاقبون، وليس لهم من الإيمان بالله وتقواه باطناً وظاهراً ما يكونون به من أولياء الله المقربين، وحزبه المفلحين، وجنده الغالبين، لكن يدخلون في الإسلام تبعاً لآبائهم، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور:21] ].
قال رحمه الله تعالى: [ فمن اعتقد في بعض البله أو المولعين -مع تركه لمتابعة الرسول في أقواله وأفعاله وأحواله- أنه من أولياء الله، ويفضله على متبعي طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو ضال مبتدع مخطئ في اعتقاده، فإن ذاك الأبله إما أن يكون شيطاناً زنديقاً، أو زكارياً متحيلاً، أو مجنوناً معذوراً، فكيف يفضل على من هو من أولياء الله المتبعين لرسوله أو يساوى به؟!. ولا يقال: يمكن أن يكون هذا متبعاً في الباطن، وإن كان تاركاً للاتباع في الظاهر، فإن هذا خطأ أيضاً، بل الواجب متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً.
قال يونس بن عبد الأعلى الصدفي : قلت للشافعي : إن صاحبنا الليث كان يقول: إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء فلا تعتبروا به، حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة، فقال الشافعي : قصر الليث رحمه الله، بل إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء، فلا تعتبروا به، حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة.
وأما ما يقوله بعض الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اطلعت على الجنة فرأيت أكثر أهلها البله) فهذا لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ينبغي نسبته إليه، فإن الجنة إنما خلقت لأولي الألباب، الذين أرشدتهم عقولهم وألبابهم إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
وقد ذكر الله أهل الجنة بأوصافهم في كتابه، فلم يذكر في أوصافهم البله الذي هو ضعف العقل وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقرا) ولم يقل: البله.
والطائفة الملامية، وهم الذين يفعلون ما يلامون عليه، ويقولون: نحن متبعون في الباطن، ويقصدون إخفاء المرائين، ردوا باطلهم بباطل آخر، والصراط المستقيم بين ذلك ].
موقف الملامية يحدث من عدة أصناف من الناس، منهم طائفة من المتصوفة، فهؤلاء بنوا فكرهم هذا على منهج خاطئ، أصله جهلهم في الدين، فترى الواحد منهم يكون له عبادة وتنسك واستقامة وصلاح، لكنه يتعمد أحياناً بأن يفعل ما يذم عليه؛ خوفاً من التزكية، أو خوفاً من الوقوع في الرياء، وهذا من عبث الشيطان بهم.
كذلك يذهب الواحد منهم إلى مكان غير لائق، ويقول كلمة فيها إثم، أو ينظر نظرة معصية، ويشهد الناس على هذا؛ من أجل أن يظهر لهم أنه لا يزكي نفسه، وهذا اجتمع فيه الجهل والرياء المركب وعبث الشيطان، واجتمع فيه أيضاً البدعة، هذا الفعل بدعة إذا اعتقده ودان به.
لكن هناك صنف آخر قد يكون من غير الصوفية، لكنه يعتقد هذا الاعتقاد، وهم بعض أصحاب الوساوس، بعض الناس عنده وسواس، هذا الوسواس يدفعه إلى أن يترك بعض السنن وبعض الواجبات أحياناً؛ خوفاً من أن يقول الناس: إنه مراءٍ، أو يفعل بعض ما يلام عليه، ويظهر في بعض المظاهر غير اللائقة أحياناً، كأنه يريد أن يؤدب نفسه؛ لئلا تقع في الرياء. وهذا كثير من الناس في كل زمان، وإن لم يكن من أصحاب الطريقة الأولى الذين يتعبدون بذلك عن جهل، فينبغي التنبه لمثل هذه الأمور.
والفرق بين الرياء وبين التصنع واضح، التصنع: هو أن الإنسان لا يترك النافلة والسنة إلا إذا غلب على ظنه أنه لن يقهر هواه ونفسه في إظهار الرياء، فمن هنا قد يترك أحياناً، لكن ما تكون عادة له، قد يترك بعض الأعمال الظاهرة أحياناً إذا وجد نفسه تغلبه في المراءاة، أو وجد أنه يحتاج إلى أن يدافع نفسه دفاعاً شديداً، هذا قد يحدث لبعض الناس في بعض المواقف، فإذا حدث هذا مرة لا حرج، لكن أن يكون عادة ثم يكون مدخلاً للوسواس على الإنسان، فينبغي أن يترك، وليكن طبيعياً في أموره كلها، فيما يعمله من الواجبات والسنن، أو فيما يتركه من المحظورات.
أما إخفاء الأعمال المبني على تورع أو على طلب الأجر من الله عز وجل، فهذا لا حرج فيه، مثل: إخفاء الصدقة، لكن الأصل في الأعمال الظهور، مثل: الفرائض الخمس، وشعائر الحج، والذكر، والتكبير المشروع فيه رفع الصوت، كذلك التكبير في مواسم التكبير، كعشر ذي الحجة، وفي الأعياد.. وغيرها، ومثل: السنن الرواتب.. وغيرها، وإقامتها في المسجد أصلح لبعض الناس، لأنك إذا ذهبت إلى البيت ربما نسيت أو انشغلت، والبيت مليء بالمشاغل والمزعجات.. وهكذا، أما إذا كان الأمر طبيعياً فلا حرج أن تصلى النوافل في البيت، لكن هناك أعمال ليس الأصل فيها الظهور، مثل: الصدقات وغيرها فلا حرج في إخفائها، بل ربما يكون أولى له أن يخفيها؛ لأن هذا أبلغ في الإخلاص.
فإذاً: مسألة إخفاء العمل راجعة إلى طبيعة العمل، فإذا كان الأصل الظهور فينبغي أن يظهره الإنسان، وإن أخفاه أحياناً بشرط ألا يكون هذا دائماً فلا حرج.
قال رحمه الله تعالى: [ وكذلك الذين يصعقون عند سماع الأنغام الحسنة، مبتدعون ضالون، وليس للإنسان أن يستدعي ما يكون سبب زوال عقله، ولم يكن في الصحابة والتابعين من يفعل ذلك، ولو عند سماع القرآن، بل كانوا كما وصفهم الله تعالى: إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2].
وكما قال الله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر:23].
وأما الذين ذكرهم العلماء بخير من عقلاء المجانين، فأولئك كان فيهم خير، ثم زالت عقولهم. ومن علامة هؤلاء: أنه إذا حصل في جنونهم نوع من الصحو، تكلموا بما كان في قلوبهم من الإيمان، ويهذون بذلك في حال زوال عقلهم، بخلاف غيرهم ممن يتكلم إذا حصل لهم نوع إفاقة بالكفر والشرك، ويهذون بذلك في حال زوال عقلهم ].
يشير الشيخ إلى مسألة ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية كثيراً، ورددها في كلامه على أحوال الصوفية والعباد، وهي من المسائل التي تحتاج إلى تأمل، وهي أن هناك ممن يدعون التصوف أو يدعون التعبد، فمنهم من يحدث عنده أحياناً نوع مما نسميه الهستيريا، أو نوع من الجنون، فهو يفقد عقله أحياناً، أو يكون عنده نوع من الهذيان في بعض الأمور، وإذا زالت هذه الحال صار مستقيماً على السنة.
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية من هؤلاء: البسطامي ، وابن أبي الحواري ، والتستري .. ونحوهم، وهؤلاء لهم شطحات كبرى، بعضها شركية وبعضها كفرية وبعضها فيها ضلال، لكن شيخ الإسلام كان يعذر هؤلاء، والدليل على هذا أنهم إذا كانوا في حالة الصحو أتوا بكلام جميل في الاعتصام والالتزام بالكتاب والسنة، والدفاع عن العقيدة، وكراهة البدعة، والرد عليها، وفعلاً هؤلاء وأمثالهم لهم درر في الرد على أهل الأهواء، وعندهم حكم في تقرير الدين وتقرير السنة، حكم تكتب بماء الذهب، ومع ذلك لهم نوبات جنونية، يتكلم الواحد منهم بكلمات مقتضاها الكفر والضلال، أو شيء من المذاهب والملل والنحل الموجودة عند غير المسلمين.
لكن يبقى في أمثال هؤلاء إشكال، وهذا الإشكال يحتاج إلى تأمل، وهو أنهم حينما يتلفظون ببعض الألفاظ غير اللائقة، نجدها أنها ألفاظ راجعة إلى أصول ومناهج مقننة عند الفلاسفة والباطنية، فمن أين أتتهم؟ ربما الشياطين تتكلم على ألسنتهم، وهذا مما يعذرون به، لكن في هذه الحالات تجدهم يقررون أصولاً باطلة موجودة في المجوس، وفي الصابئة، وفي متعبدة النصارى، وموجودة في الديانات الهندية، أصولاً فلسفية بدعية تتعلق بالعقائد والسلوك والتصوف والعبادات، وهذه الأصول البدعية التي خرجت من أفواه هؤلاء صارت فيما بعد هي أصول المتصوفة المنحرفة، وهي أصول الباطنية، وهي أصول الفلاسفة.
فقوله: بأن هؤلاء يعذرون، قد يعذرون من جانب، لكن ما يتلفظون به لا بد أن يقرر بأنه باطل، ولا بد أن تؤخذ من أحوالهم العبرة؛ لأن تزكيتهم قد يفهم منها التزكية المطلقة، بل قد يتتبع الناس أقوالهم حتى في حال الهذيان والهسترة، وهذا ينبغي تأمله، وحبذا لو يتصدى له بعض طلاب العلم؛ لأن هذيان هؤلاء لا يزال هو المرتكزات للمتصوفة التي اعتمدوا عليها في نشر باطلهم، وفي تقرير أصول البدع، وزعموا أن هؤلاء من المرضيين عند السلف، ويستدلون بكلام شيخ الإسلام .. وغيره، وأن السلف زكوهم.
فنقول: التزكية مشروطة ومضبوطة بضوابط الشرع وليست مطلقة، والله أعلم.
أما كلامهم الجيد فلا بأس بسياقه، وقد ساقه كثير من الأئمة، حتى الإمام أحمد في كتاب (الزهد) ساق شيئاً من كلامهم الطيب والجيد الذي ينمي في الناس الإيمان والعمل الصالح، وينمي في الناس العقيدة السليمة والدفاع عنها؛ لأن هؤلاء مع وجود الشطحات فيهم حال الاضطراب، إلا أنهم حال صحوهم لهم كلام من الحكم أعجب به السلف، وجعلوه أحياناً من مناهجهم وأصولهم.
أما كلامهم حال الاضطراب وحال الفترات الجنونية، فإنه يعتبر من أصول البدع، مثل قول رابعة : لا أعبدك رجاء جنتك، ولا خوفاً من نارك. هذا كلام خطير، فالرجاء والخوف أصل من أصول العبادة الضرورية، وهي كأنها تقول: لا أعبد الله إلا بالمحبة. وهذا حقيقته كفر، لكن ما مقصدها؟ الله أعلم بذلك.
كذلك ابن أبي الحواري ، والحكيم الترمذي ، والتستري ، والبسطامي كل هؤلاء أثر عنهم مثل هذه الأمور، لكن السلف رووا آثارهم التي في نصر العقيدة وفي الزهد وفي العبادة التي لها فائدة، رووها واعتمدوها وجعلوها من الأمور التي يستفاد منها، وهذا مما يدل على إنصاف السلف، ويدل على أنهم يأخذون الحق أينما كان، ولا مانع للناس من قراءة مثل هذه الكتب التي كتبها المأمونون ورووا فيها الطيب، لكن هناك بعض الكتب التي روت أقوال هؤلاء مثل الحلية ومثل بعض كتب المتأخرين مثل أبي طالب المكي ، والهروي في كتابه (المنازل).. وغيرها، أنا أرى أنه لا يقرؤها عامة القراء، ولا طلاب العلم الناشئين، ولا يوجهون إليها؛ لأنها جمعت بين الصالح والطالح، وزكت هؤلاء، مما يجعل القارئ يقع في غلطاتهم على أنها من الحسنات، فيحسن ألا تقرأ هذه المصنفات التي خلطت بين الصالح والطالح، أما طالب العلم المتمكن فله أن يستفيد من قراءتها.
قال رحمه الله تعالى: [ ومن كان قبل جنونه كافراً أو فاسقاً، لم يكن حدوث جنونه مزيلاً لما ثبت من كفره أو فسقه. وكذلك من جن من المؤمنين المتقين يكون محشوراً مع المؤمنين المتقين، وزوال العقل بجنون أو غيره، سواء سمي صاحبه مولهاً أو متولهاً، لا يوجب مزيد حال صاحبه من الإيمان والتقوى، بل يبقى على ما كان عليه من خير وشر، لا أنه يزيده أو ينقصه، ولكن جنونه يحرمه الزيادة من الخير، كما أنه يمنع عقوبته على الشر، ولا يمحو عنه ما كان عليه قبله ].
نقف عند هذا الموقف، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
استمع المزيد من الشيخ ناصر العقل - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح العقيدة الطحاوية [68] | 3357 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [43] | 3122 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [64] | 3029 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [19] | 2989 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [31] | 2852 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [23] | 2846 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [45] | 2829 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [80] | 2792 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [92] | 2782 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [95] | 2755 استماع |