خطب ومحاضرات
شرح العقيدة الطحاوية [90]
الحلقة مفرغة
قال رحمه الله تعالى: [ فأما أبدية الجنة وأنها لا تفنى ولا تبيد، فهذا مما يعلم بالضرورة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر به، قال تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:108] أي: غير مقطوع، ولا ينافي ذلك قوله: إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ [هود:108].
واختلف السلف في هذا الاستثناء:
فقيل: معناه إلا مدة مكثهم في النار، وهذا يكون لمن دخل منهم إلى النار، ثم أخرج منها، لا لكلهم.
وقيل: إلا مدة مقامهم في الموقف.
وقيل: إلا مدة مقامهم في القبور والموقف.
وقيل: هو استثناء استثناه الرب ولا يفعله، كما تقول: والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك، وأنت لا تراه، بل تجزم بضربه.
وقيل: (إلا) بمعنى (الواو)، وهذا على قول بعض النحاة، وهو ضعيف. وسيبويه يجعل (إلا) بمعنى (لكن) فيكون الاستثناء منقطعاً، ورجحه ابن جرير ، وقال: إن الله تعالى لا خلف لوعده، وقد وصل الاستثناء بقوله: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:108] قالوا: ونظيره أن تقول: أسكنتك داري حولاً إلا ما شئت. أي: سوى ما شئت، أو لكن ما شئت من الزيادة عليه.
وقيل: الاستثناء لإعلامهم بأنهم مع خلودهم في مشيئة الله، لا أنهم يخرجون عن مشيئته، ولا ينافي ذلك عزيمته وجزمه لهم بالخلود، كما في قوله تعالى: وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا [الإسراء:86] .
وقوله تعالى: فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ [الشورى:24] .
وقوله: قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ [يونس:16] ونظائره كثيرة، يخبر عباده سبحانه أن الأمور كلها بمشيئته، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.
وقيل: إن: (ما) بمعنى (من) أي: إلا من شاء الله دخوله النار بذنوبه من السعداء.
وقيل: غير ذلك، وعلى كل تقدير فهذا الاستثناء من المتشابه.
وقوله: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:108] محكم ].
لا ندري ما المقصود بالاستثناء على سبيل الجزم، لكن حينما أورد ما بعد الاستثناء وهو قوله عز وجل: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:108] تبين أن الحكم هذا هو المقصود وهو يتضمن الأبدية، وأن الاستثناء راجع لأحد الأمور السابقة ما نستطيع أن نجزم بشيء من ذلك، ومع ذلك فإنه يدل على أن الله عز وجل فعال لما يريد، لا معقب لحكمه، لكنه حكم وأخبرنا بحكمه بأن هذا العطاء للمؤمنين غير مجذوذ، يعني: لا ينقطع أبداً. فهذا هو الحكم النهائي؛ لأنه جاء بعد الاستثناء.
قال رحمه الله تعالى: [ وكذلك قوله تعالى: إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ [ص:54].
وقوله: أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا [الرعد:35].
وقوله: وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ [الحجر:48].
وقد أكد الله خلود أهل الجنة بالتأبيد في عدة مواضع من القرآن، وأخبر أنهم: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى [الدخان:56] وهذا الاستثناء منقطع، وإذا ضممته إلى الاستثناء في قوله تعالى: إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ [هود:108] تبين لك المراد من الآيتين، واستثناء الوقت الذي لم يكونوا فيه في الجنة من مدة الخلود، كاستثناء الموتة الأولى من جملة الموت، فهذه موتة تقدمت على حياتهم الأبدية وذاك مفارقة للجنة تقدمت على خلودهم فيها.
والأدلة من السنة على أبدية الجنة ودوامها كثيرة، كقوله صلى الله عليه وسلم: (من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس، ويخلد ولا يموت).
وتقدم ذكر ذبح الموت بين الجنة والنار، ويقال: (يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت) ].
الكلام في أبدية النار وفي دوامها وأقوال الناس فيها، والكلام أيضاً في انقطاع عذاب أهلها، وهل ينقطع العذاب وتبقى النار، أو تبقى النار ويبقى العذاب لمن حكم الله عليهم بالخلود؟ وهل هذا الخلود الأبدي يعني أن لا نهاية، أو أن الآباد لها حدود؟ هذه مسألة عويصة، وتعتبر من المشكلات، وكان الأولى ألا يخوض فيها الناس؛ لأن الأصل ما عليه جمهور السلف من القول بأبدية الجنة والنار، وأن نعيم الجنة لا ينقطع، وأن عذاب النار لا ينقطع أيضاً، وأن هناك طائفة من عباد الله عز وجل ينعمون إلى ما لا نهاية، وطائفة من عباد الله عز وجل يعذبون إلى ما لا نهاية، هذا هو الأصل، لكن وردت إشكالات نسبت إلى بعض الصحابة وإلى بعض التابعين في مسألة النار فقط، أما مسألة الجنة فلم ترد إشكالات عند من يعتد بقوله، بخلاف الفرق التي لا يعتد بقولها من الجهمية والفلاسفة والباطنية.. وغيرهم، إنما الكلام على من ينتسبون للسنة، فقد ورد عن بعضهم ما يشكل فيما يتعلق بعذاب النار أو بفنائها، أو بانقطاع عذابها، أو بخروج أهلها كلهم منها، فهذه مسائل كما قلت أشكلت، ووجدت أقوال لبعض أهل العلم قد تفهم خطأ، ونسبت لشيخ الإسلام ابن تيمية ولتلميذه ابن القيم أقوال لم يقولا بها، إنما ساقا أقوالاً لغيرهما في هذه المسألة، فظن بعض الناس أنهما يقولان بها. والله أعلم.
وقبل أن نقرأ أحب أن أشير إلى أن مسألة الحديث عن أبدية النار لها جانبان:
الجانب الأول: يتعلق بالنار نفسها هل تفنى وتزول بالكلية، أو أنها تبقى ويفنى عذابها؟
الجانب الثاني: هل تبقى ويبقى عذابها، لكن يخرج منها أهلها؟ هذه المسألة في الحقيقة فيها خلاف كبير، وأغلب الناس خلط بين مسألة أبدية النار، وبين مسألة أبدية العذاب وهما مسألتان منفصلتان كما سيأتي بيانه فيما بعد.
قال رحمه الله تعالى: [ وأما أبدية النار ودوامها، فللناس في ذلك ثمانية أقوال:
أحدها: أن من دخلها لا يخرج منها أبد الآباد، وهذا قول الخوارج والمعتزلة ].
هذا القول تضمن صراحة القول بأبدية العذاب، ومن ثم القول بأبدية النار نفسها.
إذاً: من قال بأبدية العذاب إلى ما لا نهاية، فلا شك أنه يقول بأبدية النار إلى ما لا نهاية.
قال رحمه الله تعالى: [ والثاني: أن أهلها يعذبون فيها، ثم تنقلب طبيعتهم وتبقى طبيعة نارية يتلذذون بها لموافقتها لطبعهم، وهذا قول إمام الاتحادية ابن عربي الطائي .
الثالث: أن أهلها يعذبون فيها إلى وقت محدود ثم يخرجون منها، ويخلفهم فيها قوم آخرون، وهذا القول حكاه اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم وأكذبهم فيه، وقد أكذبهم الله تعالى، فقال عز من قائل: وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:80-81] .
الرابع: يخرجون منها، وتبقى على حالها ليس فيها أحد ].
وهذا القول يتضمن القول بانقطاع العذاب، وليس فيه تصريح بفناء النار أو عدمه، أي: أن أصحاب هذا القول يقولون ببقاء النار وبانقطاع عذاب المعذبين فيها، وأنهم يخرجون منها كلهم.
قال رحمه الله تعالى: [ الخامس: أنها تفنى بنفسها؛ لأنها حادثة وما ثبت حدوثه استحال بقاؤه، وهذا قول الجهم وشيعته، ولا فرق عنده في ذلك بين الجنة والنار كما تقدم ].
هذا القول أيضاً قال بفناء النار بنفسها، وهذا القول يتضمن القول بانقطاع العذاب في الضرورة أيضاً، هذا القول عكس القول الأول تماماً يتضمن القول بانقطاع العذاب بالضرورة، لأنه إذا كانت تفنى فلا شك أنه ينقطع عذابها، وهذا أيضاً قول باطل.
قال رحمه الله تعالى: [ السادس: تفنى حركات أهلها، ويصيرون جماداً لا يحسون بألم، وهذا قول أبي الهذيل العلاف كما تقدم.
السابع: أن الله يخرج منها من يشاء، كما ورد في الحديث، ثم يبقيها شيئاً، ثم يفنيها، فإنه جعل لها أمداً تنتهي إليه ].
هذا القول أيضاً تضمن القول بانقطاع العذاب، لأن من قال بفناء النار لا شك أنه يقول بانقطاع عذابها، لكنه يرى أن أهل النار يخرجون على درجات، منهم من يخرج بعد تطهيره من ذنوبه وهم أهل الكبائر، ومنهم من يبقى إلى أن تفنى، وبالضرورة سينقطع عذابها عنهم، لكن هذا القول فيما يظهر لي أنه يتضمن القول بأن أهل النار يعودون إلى الجنة، وإن كان ليس فيه تصريح بذلك، لكن شيخ الإسلام ابن تيمية في موضع آخر ضمنه هذا القول وفصله.
قال رحمه الله تعالى: [ الثامن: أن الله تعالى يخرج منها من شاء كما ورد في السنة، ويبقى فيها الكفار بقاء لا انقضاء له، كما قال الشيخ رحمه الله.
وما عدا هذين القولين الأخيرين ظاهر البطلان. وهذان القولان لأهل السنة ينظر في دليلهما ].
قوله: (وهذان القولان لأهل السنة ينظر في دليلهما) يشير فيه إلى أن من أهل السنة من قال بالقول السابع، أما القول الثامن فهو قول الجمهور، وهو القول الذي تقوم عليه ظواهر الأدلة، والقول الثامن هو الأصل عند أهل السنة والجماعة أن الله عز وجل يخرج من النار من يشاء من أهل الكبائر.. وغيرهم بالشفاعات، وبرحمته سبحانه كما ورد في السنة، وأنه يبقى فيها الكفار، وأن عذابها يبقى ويبقى أهلها مخلدين فيها، نسأل الله العافية.
إذاً: هذا القول هو قول جمهور أهل السنة والجماعة، وهو القول الصحيح.
أما القول السابع فقد أثر عن بعض أهل العلم من أهل السنة والجماعة، ونسب إلى بعض الصحابة وإلى بعض كبار التابعين، وحكاه بعض الأئمة على أنه قول لبعض أهل العلم المعتبرين، وحكاه شيخ الإسلام ابن تيمية وحكاه ابن القيم أيضاً.
وفي بعض المواضع التي حكاه فيها شيخ الإسلام ابن تيمية نجد أنه سكت عنه لم يؤيد ولم يعارض، ولذلك فهم بعض الناس أنه يقول بهذا القول، وهذا من باب الإلزام الذي لا يلزم، وشيخ الإسلام له في ذلك رسالة مشهورة موجودة مكتوبة وقد حققت مستقلة.
ذكر في هذه الرسالة شيئاً من الأقوال التي ستأتي بعد قليل وأدلتها، لكن جملة القول الذي حكاه أو ساقه هو أن هناك من أهل العلم من الصحابة وغيرهم من قال بأن عذاب النار ينقطع، وليس هناك تصريح بفنائها بذاتها؛ لأن الآباد مهما تكررت لها نهاية، ولأن رحمة الله عز وجل سبقت عذابه، ولأن الأصل في عذاب المعذبين هو بسبب ذنوبهم، وأن الذنوب مهما تكاثرت تنتهي.. إلى آخره من الأمور التي ذكرها ولم يعلق عليها، فهو إنما ذكرها أدلة للقائلين بانقطاع العذاب، ففهم بعض الناس أن شيخ الإسلام ابن تيمية يؤيد هذا القول، مع أنه لم يؤيده ولم يعارضه؛ إلا أنه في المقامات الأخرى والمواضع الأخرى يذكر أقوال جمهور السلف، ويبدع من يقول بفناء النار.
وهذا أمر واضح جداً في كلامه، وكثيراً ما يأخذ على الجهم هذا القول، ويأخذ على كثير من الاتحادية والدهرية وغيرهم هذه الأقوال ويكفرهم بها، فعلى هذا يجب أن يحمل كلامه على كلامه الآخر، فلا يؤخذ من بعض المواطن التي ذكر فيها قول القائلين بفناء النار أو بانقطاع عذابها على أنه يؤيده، وإن حشد له الأدلة كما حصل في هذه الرسائل.
أدلة القائلين بفناء النار دون الجنة
وقوله تعالى. فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [هود:106-107].
ولم يأت بعد هذين الاستثناءين ما أتى بعد الاستثناء المذكور لأهل الجنة، وهو قوله: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:108] .
وقوله تعالى: لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا [النبأ:23].
وهذا القول - أعني القول بفناء النار دون الجنة - منقول عن عمر وابن مسعود وأبي هريرة وأبي سعيد .. وغيرهم رضي الله عنهم.
وقد روى عبد بن حميد في تفسيره المشهور بسنده إلى عمر رضي الله عنه أنه قال: لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج، لكان لهم على ذلك وقت يخرجون فيه. ذكر ذلك في تفسير قوله تعالى: لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا [النبأ:23] قالوا: والنار موجب غضبه، والجنة موجب رحمته.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لما قضى الله الخلق، كتب كتاباً فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي) وفي رواية: (تغلب غضبي) رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
قالوا: والله سبحانه يخبر عن العذاب أنه: عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأنعام:15] وأَلِيمٌ [الأعراف:73] وعَقِيمٍ [الحج:55] ولم يخبر ولا في موضع واحد عن النعيم أنه نعيم يوم، وقد قال تعالى: قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف:156].
وقال تعالى حكاية عن الملائكة: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا [غافر:7] ].
في الإشارة إلى اليوم في قوله: (عذاب يوم..) هنا يقصد أنه يوم لا بد أن يكون له نهاية في دلالته اللغوية، وحتى في الدلالات الاصطلاحية للغة، فاليوم سواء كان من أيام الدنيا أو من أيام الآخرة فإنه محدود بحد زمني معين، فالإشارة إلى أن العذاب في يوم يدل على أنه ينقطع، ولذلك لم يرد نص في نعيم الجنة بأنه يوم، وهذا دليل على أنه لا ينقطع، هذا من أدلتهم.
واليوم هو يوم القيامة عند الحساب، ولا شك أن الحساب له يوم معين ويوم الجزاء له وقت معين أيضاً.
أما ما ورد في قول الله عز وجل: إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ [يس:55] فالمقصود به يوم القيامة عند الحساب قبل دخول الجنة. أما نعيم الجنة فلم يوصف بأنه يوم.
قال رحمه الله تعالى: [ فلا بد أن تسع رحمته هؤلاء المعذبين، فلو بقوا في العذاب لا إلى غاية لم تسعهم رحمته، وقد ثبت في الصحيح تقدير يوم القيامة بخمسين ألف سنة، والمعذبون فيها متفاوتون في مدة لبثهم في العذاب بحسب جرائمهم، وليس في حكمة أحكم الحاكمين ورحمة أرحم الراحمين أن يخلق خلقاً يعذبهم أبد الآباد عذاباً سرمداً لا نهاية له، وأما أنه يخلق خلقاً ينعم عليهم ويحسن إليهم نعيماً سرمداً فمن مقتضى الحكمة، والإحسان مراد لذاته، والانتقام مراد بالعرض.
قالوا: وما ورد من الخلود فيها والتأبيد وعدم الخروج، وأن عذابها مقيم، وأنه غرام، كله حق مسلم لا نزاع فيه، وذلك يقتضي الخلود في دار العذاب ما دامت باقية، وإنما يخرج منها في حال بقائها أهل التوحيد، ففرق بين من يخرج من الحبس وهو حبس على حاله، وبين من يبطل حبسه بخراب الحبس وانتقاضه.
ومن أدلة القائلين ببقائها وعدم فنائها، قوله: وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [التوبة:68] ].
هذه أدلة الفريق الأول ممن ينسبون إلى أهل السنة والجماعة، أو أنهم من أهل السنة والجماعة إن صح القول عنهم، وذكر أدلة شرعية وأدلة عقلية وقواعد عامة، وذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية تفصيلاً كما ذكرها ابن القيم أيضاً في (حادي الأرواح) وكذلك في (الصواعق المرسلة).
وكلام ابن القيم قريب من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ، وبعضه منقول عنه، لكن ليس فيه ما يدل على أن شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم قالا بهذا القول صراحة.
قال رحمه الله تعالى: [ فمن أدلة القول الأول منهما: قوله تعالى: قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:128].
وقوله تعالى. فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [هود:106-107].
ولم يأت بعد هذين الاستثناءين ما أتى بعد الاستثناء المذكور لأهل الجنة، وهو قوله: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:108] .
وقوله تعالى: لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا [النبأ:23].
وهذا القول - أعني القول بفناء النار دون الجنة - منقول عن عمر وابن مسعود وأبي هريرة وأبي سعيد .. وغيرهم رضي الله عنهم.
وقد روى عبد بن حميد في تفسيره المشهور بسنده إلى عمر رضي الله عنه أنه قال: لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج، لكان لهم على ذلك وقت يخرجون فيه. ذكر ذلك في تفسير قوله تعالى: لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا [النبأ:23] قالوا: والنار موجب غضبه، والجنة موجب رحمته.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لما قضى الله الخلق، كتب كتاباً فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي) وفي رواية: (تغلب غضبي) رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
قالوا: والله سبحانه يخبر عن العذاب أنه: عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأنعام:15] وأَلِيمٌ [الأعراف:73] وعَقِيمٍ [الحج:55] ولم يخبر ولا في موضع واحد عن النعيم أنه نعيم يوم، وقد قال تعالى: قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف:156].
وقال تعالى حكاية عن الملائكة: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا [غافر:7] ].
في الإشارة إلى اليوم في قوله: (عذاب يوم..) هنا يقصد أنه يوم لا بد أن يكون له نهاية في دلالته اللغوية، وحتى في الدلالات الاصطلاحية للغة، فاليوم سواء كان من أيام الدنيا أو من أيام الآخرة فإنه محدود بحد زمني معين، فالإشارة إلى أن العذاب في يوم يدل على أنه ينقطع، ولذلك لم يرد نص في نعيم الجنة بأنه يوم، وهذا دليل على أنه لا ينقطع، هذا من أدلتهم.
واليوم هو يوم القيامة عند الحساب، ولا شك أن الحساب له يوم معين ويوم الجزاء له وقت معين أيضاً.
أما ما ورد في قول الله عز وجل: إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ [يس:55] فالمقصود به يوم القيامة عند الحساب قبل دخول الجنة. أما نعيم الجنة فلم يوصف بأنه يوم.
قال رحمه الله تعالى: [ فلا بد أن تسع رحمته هؤلاء المعذبين، فلو بقوا في العذاب لا إلى غاية لم تسعهم رحمته، وقد ثبت في الصحيح تقدير يوم القيامة بخمسين ألف سنة، والمعذبون فيها متفاوتون في مدة لبثهم في العذاب بحسب جرائمهم، وليس في حكمة أحكم الحاكمين ورحمة أرحم الراحمين أن يخلق خلقاً يعذبهم أبد الآباد عذاباً سرمداً لا نهاية له، وأما أنه يخلق خلقاً ينعم عليهم ويحسن إليهم نعيماً سرمداً فمن مقتضى الحكمة، والإحسان مراد لذاته، والانتقام مراد بالعرض.
قالوا: وما ورد من الخلود فيها والتأبيد وعدم الخروج، وأن عذابها مقيم، وأنه غرام، كله حق مسلم لا نزاع فيه، وذلك يقتضي الخلود في دار العذاب ما دامت باقية، وإنما يخرج منها في حال بقائها أهل التوحيد، ففرق بين من يخرج من الحبس وهو حبس على حاله، وبين من يبطل حبسه بخراب الحبس وانتقاضه.
ومن أدلة القائلين ببقائها وعدم فنائها، قوله: وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [التوبة:68] ].
هذه أدلة الفريق الأول ممن ينسبون إلى أهل السنة والجماعة، أو أنهم من أهل السنة والجماعة إن صح القول عنهم، وذكر أدلة شرعية وأدلة عقلية وقواعد عامة، وذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية تفصيلاً كما ذكرها ابن القيم أيضاً في (حادي الأرواح) وكذلك في (الصواعق المرسلة).
وكلام ابن القيم قريب من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ، وبعضه منقول عنه، لكن ليس فيه ما يدل على أن شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم قالا بهذا القول صراحة.
استمع المزيد من الشيخ ناصر العقل - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح العقيدة الطحاوية [68] | 3357 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [43] | 3122 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [64] | 3029 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [19] | 2989 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [31] | 2852 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [23] | 2846 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [45] | 2829 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [80] | 2792 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [92] | 2782 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [95] | 2755 استماع |