شرح العقيدة الطحاوية [49]


الحلقة مفرغة

هناك بعض المسائل فيما يتعلق بالشفاعة أحب أن أشير إليها لإتمام الفائدة، وبعضها ورد لكن بشكل غير بين، ويحتاج إلى عنصرة.

فخلاصة ما مر: أن الشفاعة دينية ودنيوية، أما الدنيوية فلا شأن لنا بها؛ لأنها تتعلق بمصالح العباد.

وأما الدينية فهي المقصودة في ألفاظ الشرع، وهي التي وردت في كتب العقيدة، وهي التي يدور عليها الخلاف.

فالشفاعة الدينية هي التي تتعلق بمصائر العباد من حيث أحوالهم يوم القيامة، ومن حيث مصيرهم إلى الجنة أو النار، وهي شفاعة في الدنيا، بمعنى الشفاعة فيما يتعلق بمصير العباد، وهذه لا تحدث أبداً، وكلها منفية، فلا أحد يشفع في الدنيا لأحد فيما يتعلق بمصيره في الآخرة.

أما ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من بعض الشفاعات المثبتة فإنها أمر سيحدث يوم القيامة، فبعض الناس يظن أن النبي صلى الله عليه وسلم شفع وقبلت شفاعته، بل النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الشفعاء سيشفعون يوم القيامة، ثم يأذن الله عز وجل لمن يشاء.

فالشفاعة المتعلقة بمصير العباد وفي الدنيا لا تكون أبداً، وأغلب همم أهل الأهواء والبدع تنصرف إلى هذه الشفاعة المنفية، يطلبون الشفاعة من الأحياء والأموات في مصيرهم يوم القيامة، وذلك نوع من الشرك أو البدعة المغلظة أو الوسيلة البدعية.

أما الشفاعة في مصير العباد في الآخرة فمنها المثبت ومنها المنفي، أما المثبت فما توافرت فيه شروطه: أن يأذن الله عز وجل للشافع ويرضى منه قوله، وأن يرضى عن المشفوع له، أما ما عدا ذلك فهو منفي.

التوسل المشروع

أما التوسل فهو ثلاثة أنواع: توسل مشروع، وتوسل بدعي، وتوسل شركي.

والمقصود بالتوسل هو اتخاذ الوسيلة إلى الله عز وجل، والوسيلة إلى الله عز وجل هي التقرب إليه، فإن كان التقرب إليه بالأعمال الصالحة وبالعبادة فذلك أمر مشروع، وعلى هذا يكون التوسل المشروع نوعان:

الأول: عمل العبد نفسه، وهذا هو الواجب، بل هو أعظم الواجبات، فتوحيد الله عز وجل وسيلة واجبة، وعمل الصالحات من الوسيلة، وكل ما يفعله الإنسان تقرباً إلى الله على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو توسل مشروع، سواء العبادة القلبية وعبادة الجوارح والدعاء باللسان، أو عمل الصالحات وفعل الخيرات، كل ذلك وسيلة مشروعة، منها ما هو فرض، ومنها ما هو سنة، وهذه هي الوسيلة التي أمر الله بها ورضيها لعباده.

النوع الثاني من التوسل المشروع: التوسل بدعاء الصالحين، وهذا مشروع بشروط وضوابط، وصورته: أن يطلب المسلم من أخيه أن يدعو له.

التوسل البدعي

أما النوع الثاني من التوسل فهو التوسل البدعي، وهو التوسل بذوات الأشخاص، والتوسل بما لم يرد به الشرع من الأشياء والأمور التي لا تكون وسيلة من الشخص نفسه، فإذا لم يصل الأمر إلى حد صرف العبادة لغير الله فإن التوسل يكون توسلاً بدعياً، وهو اتخاذ الوسائط أو الأشخاص أو الأشياء وسيلة، أو التبرك بها على نحو يؤدي إلى التوسل.

ويستثنى من ذلك التبرك بذات النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، فإن ذلك مشروع لورود النص فيه، أما ما عدا ذلك فإن التوسل بالذوات وبالأشياء يعد بدعة.

التوسل الشركي

النوع الثالث: توسل شركي، وهو صرف العبادة لغير الله عز وجل واتخاذ الشفعاء والوسائط بين العبد وبين ربه بصرف أنواع العبادة أو أي نوع من أنواع العبادة لهذا الوسيط أو الشفيع أو الوسيلة أو الواسطة أو الولي أو نحو ذلك، فأي نوع من أنواع العبادة -سواءٌ كان دعاء أم استعانة أم استغاثة أم نذراً أم ذبحاً أم طوافاً أم سجوداً أم صلاة أم ركوعاً- يصرف لغير الله عز وجل، أو يدعي صاحبه أنه يريد به شفاعة المصروف له عند الله، بمعنى أن يصرف العبادة لغير الله زاعماً أن هذا الشخص سيشفع له بسبب هذه العبادة عند الله؛ فإن ذلك شرك.

وهذا النوع من الشرك على نوعين:

نوع يصرف به صاحبه العبادة البحتة إلى من أشرك به.

ونوع يصرف به العبادة أو الدعاء إلى هذا الشخص زاعماً أنه بذلك يريد منه الشفاعة عند الله، أو يريد منه التوسل عند الله، أو التوسط أو التقرب به إلى الله، كقول المشركين: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3] .

فهناك طائفة من المشركين زعموا أنهم ما عبدوا الملائكة أو الجن أو الإنس أو الأشجار أو الأحجار إلا لتقربهم إلى الله، ومع ذلك عدوا من المشركين.

وهذا النوع هو الذي عليه مشركة المبتدعة في هذه الأمة الذين اتخذوا الأحياء والأموات وأصحاب القبور أولياء من دون الله، فإنهم زعموا أنهم لا يعبدونهم، وإنما يريدون منهم الشفاعة، وأنهم يدعونهم من دون الله على أن أولئك المدعوين سيشفعون لهم بسبب هذا الدعاء.

أما التوسل فهو ثلاثة أنواع: توسل مشروع، وتوسل بدعي، وتوسل شركي.

والمقصود بالتوسل هو اتخاذ الوسيلة إلى الله عز وجل، والوسيلة إلى الله عز وجل هي التقرب إليه، فإن كان التقرب إليه بالأعمال الصالحة وبالعبادة فذلك أمر مشروع، وعلى هذا يكون التوسل المشروع نوعان:

الأول: عمل العبد نفسه، وهذا هو الواجب، بل هو أعظم الواجبات، فتوحيد الله عز وجل وسيلة واجبة، وعمل الصالحات من الوسيلة، وكل ما يفعله الإنسان تقرباً إلى الله على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو توسل مشروع، سواء العبادة القلبية وعبادة الجوارح والدعاء باللسان، أو عمل الصالحات وفعل الخيرات، كل ذلك وسيلة مشروعة، منها ما هو فرض، ومنها ما هو سنة، وهذه هي الوسيلة التي أمر الله بها ورضيها لعباده.

النوع الثاني من التوسل المشروع: التوسل بدعاء الصالحين، وهذا مشروع بشروط وضوابط، وصورته: أن يطلب المسلم من أخيه أن يدعو له.

أما النوع الثاني من التوسل فهو التوسل البدعي، وهو التوسل بذوات الأشخاص، والتوسل بما لم يرد به الشرع من الأشياء والأمور التي لا تكون وسيلة من الشخص نفسه، فإذا لم يصل الأمر إلى حد صرف العبادة لغير الله فإن التوسل يكون توسلاً بدعياً، وهو اتخاذ الوسائط أو الأشخاص أو الأشياء وسيلة، أو التبرك بها على نحو يؤدي إلى التوسل.

ويستثنى من ذلك التبرك بذات النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، فإن ذلك مشروع لورود النص فيه، أما ما عدا ذلك فإن التوسل بالذوات وبالأشياء يعد بدعة.

النوع الثالث: توسل شركي، وهو صرف العبادة لغير الله عز وجل واتخاذ الشفعاء والوسائط بين العبد وبين ربه بصرف أنواع العبادة أو أي نوع من أنواع العبادة لهذا الوسيط أو الشفيع أو الوسيلة أو الواسطة أو الولي أو نحو ذلك، فأي نوع من أنواع العبادة -سواءٌ كان دعاء أم استعانة أم استغاثة أم نذراً أم ذبحاً أم طوافاً أم سجوداً أم صلاة أم ركوعاً- يصرف لغير الله عز وجل، أو يدعي صاحبه أنه يريد به شفاعة المصروف له عند الله، بمعنى أن يصرف العبادة لغير الله زاعماً أن هذا الشخص سيشفع له بسبب هذه العبادة عند الله؛ فإن ذلك شرك.

وهذا النوع من الشرك على نوعين:

نوع يصرف به صاحبه العبادة البحتة إلى من أشرك به.

ونوع يصرف به العبادة أو الدعاء إلى هذا الشخص زاعماً أنه بذلك يريد منه الشفاعة عند الله، أو يريد منه التوسل عند الله، أو التوسط أو التقرب به إلى الله، كقول المشركين: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3] .

فهناك طائفة من المشركين زعموا أنهم ما عبدوا الملائكة أو الجن أو الإنس أو الأشجار أو الأحجار إلا لتقربهم إلى الله، ومع ذلك عدوا من المشركين.

وهذا النوع هو الذي عليه مشركة المبتدعة في هذه الأمة الذين اتخذوا الأحياء والأموات وأصحاب القبور أولياء من دون الله، فإنهم زعموا أنهم لا يعبدونهم، وإنما يريدون منهم الشفاعة، وأنهم يدعونهم من دون الله على أن أولئك المدعوين سيشفعون لهم بسبب هذا الدعاء.

هناك مسألة تختلط بالتوسل، وهي مسألة التبرك، فقد توسع الناس في مفهوم التبرك خاصة أهل البدع، فأدخلوا بالتبرك الشفاعة الممنوعة، وأدخلوا بالتبرك التوسل الممنوع والتوسل البدعي والتوسل الشركي.

وأيضاً توسعوا في باب التبرك حتى جعلوا البركة فيما لا بركة فيه، وجعلوا البركة مما لم يبارك الله فيه، وطلبوا البركة مما لم يثبت شرعاً أن فيه بركة، فتوسعوا في التبرك بأكثر مما ورد في النص.

فالبركة لا تكون إلا من الله عز وجل، يجعلها فيما يشاء من خلقه، فتكون في الزمان، وتكون في الأشخاص، وتكون في المكان، لكن كل ذلك لا بد من أن يثبت بالشرع، فعلى هذا لا تثبت البركة لشيء ولا لشخص ولا لمخلوق إلا بدليل، وما لم يرد الدليل بأنه مبارك فلا يجوز أن تلتمس منه البركة.

ثم إن الأشياء المباركة على نوعين: فهناك أشياء مباركة تتعدى بركتها، كماء زمزم.

وهناك أشياء مباركة في نفسها لا تتعدى بركتها.

والبركة في الأشياء هي ثبوت الخير ولزومه لهذا الشيء، أو زيادته وكثرة الخير فيه، أما الزيادة وكثرة الخير فهي البركة المتعددة، أما الثبوت واللزوم فهي البركة اللازمة.

والبركة تكون في الأزمان، وتكون في الأمكنة، وتكون في الأشخاص، وتكون في الأشياء وفي الأفعال.

أما البركة في الأزمنة فكبركة شهر رمضان، وبركة ليلة القدر، وليالي رمضان، والعشر الأواخر، وكبركة عشر ذي الحجة، وبركة يوم عرفة، والأشهر الحرم، ويوم الجمعة ونحو ذلك مما وردت البركة فيه، أما في الأمكنة فكالمساجد الثلاثة، فهي مباركة.

وأما في الأشخاص فهناك بركة لازمة وبركة متعدية، أما البركة المتعدية فليس لأحد بركة متعدية تلتمس إلا شخص النبي صلى الله عليه وسلم، أما بقية الأشخاص فإن في المؤمنين منهم بركة، لكن بركتهم لهم لا تتعدى غيرهم، إلا بما شرع، كتعدي البركة بالدعاء، فهذا أمر آخر.

وقد تثبت البركة أيضاً في بعض الأشياء أو بعض الأمور، كالبركة في نواصي الخيل، وبركة السحور، ونحو ذلك من الأمور التي وردت فيها بركة، وهي بركة مفسرة ومعلومة عند أهل الإيمان، كما أن البركة ثبتت في ماء زمرم؛ لأنها وردت، وهي بركة متعدية.

قال رحمه الله تعالى: [قوله: (والميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته حق) ].

المقصود هنا الميثاق الذي أخذه الله على عباده حين خلق آدم، وهو التوحيد الذي ميز به أهل الجنة وأهل النار. وسيأتي الخلاف -كما سيذكره الشارح- في مفهوم الميثاق، هل هو ميثاق فعلي على نحو ما ورد في الحديث إذا ثبت الحديث أم على خلاف ذلك؟

والحديث ثابت، وفيه أن الله عز وجل أخذ الميثاق من بني آدم من ظهره في أول الخلق وأنطقهم وأشهدهم على أنفسهم وشهدوا، وأن هذا الميثاق بقيت معالمه في الفطرة والعقل السليم وفي اتباع الوحي وفي دلائل خلق الله عز وجل، وعلى هذا فالميثاق على نوعين:

ميثاق فعلي أخذه الله عز وجل بالاستنطاق، وهو الميثاق الأول الذي ورد في الحديث الذي سيأتي.

ثم الميثاق الآخر، وهو امتداد للأول وأثر لمكانه، ويكون بإقامة دلائل الفطرة ودلائل العقل ودلائل الخلق الدالة على الله عز وجل، وبدلائل الوحي، وبالحجة، وبالرسل، وبالكتب المنزلة، وبالبراهين الشرعية والكونية.

قال رحمه الله تعالى: [قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف:172] يخبر سبحانه أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو].

قال رحمه الله تعالى: [وقد وردت أحاديث في أخذ الذرية من صلب آدم عليه السلام، وتمييزهم إلى أصحاب اليمين وإلى أصحاب الشمال، وفي بعضها الإشهاد عليهم بأن الله ربهم].

أخذ الذرية وتمييزهم إلى أصحاب اليمين وأصحاب الشمال، إلى أهل الجنة وأهل النار أمر ثابت لا صلة له بمسألة الميثاق إلا من بعض الوجوه، وأعني: أن عندنا في هذه النصوص مسألتين: مسألة أخذ الميثاق، ومسألة أخذ الذرية من ظهر آدم وتمييز أهل الجنة أهل الهداية عن أهل النار أهل الضلالة.

وهذه مسألة مستقلة وردت في نصوص كثيرة، وهي ثابتة قطعاً، ولا خلاف في نوعها ولا كيفيتها؛ لأنها أمر غيبي، فتثبت على هذا النحو كما جاءت بلا تأول.

النوع الآخر الذي ورد في هذه النصوص هو أخذ الذرية من ظهر آدم ثم إشهادهم على أنفسهم، وهذه مسألة أخرى وهي المسماة بالميثاق.

والنصوص اختلط فيها هذا بذاك، وما سيورده الشارح من إشكالات ليس على أخذ الذرية من ظهر آدم ثم تمييز أهل الضلالة من أهل الهداية، وتمييز أهل الجنة من أهل النار؛ فليس الإشكال على هذا؛ لأن هذا ثابت بنصوص كثيرة، إنما الإشكال على الميثاق ما هو؟ وما كيفيته؟ وما المقصود به؟

والصحيح الذي يترجح أن أخذ الميثاق يشمل النوعين: يشمل أخذ الميثاق الفعلي بالإشهاد والاستنطاق في أول الخلق، ويشمل أخذ الميثاق ببقاء معالم هذا الميثاق في الفطرة السليمة والعقل السليم والبراهين على وجود الله عز وجل وعلى ربوبيته وإلهيته، وإقامة الحجة على الخلق بالأدلة الكونية والشرعية.

حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما

قال رحمه الله تعالى: [فمنها: ما رواه الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه السلام بنعمان -يعني: عرفة- فأخذ من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرها بين يديه ثم كلمهم قبلاً، قال: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا [الأعراف:172]إلى قوله: الْمُبْطِلُونَ [الأعراف:173]) .

ورواه النسائي أيضاً وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم في المستدرك، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه].

حديث عمر رضي الله تعالى عنه

حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه

حديث أنس رضي الله تعالى عنه

قال رحمه الله تعالى: [وروى الإمام أحمد أيضاً عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء، أكنت مفتدياً به؟ قال: فيقول: نعم. قال: فيقول: قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئاً، فأبيت إلا أن تشرك بي) وأخرجاه في الصحيحين أيضاً.

وفي ذلك أحاديث أخر أيضاً كلها دالة على أن الله استخرج ذرية آدم من صلبه، وميز بين أهل النار وأهل الجنة.

ومن هنا قال من قال: إن الأرواح مخلوقة قبل الأجساد. وهذه الآثار لا تدل على سبق الأرواح الأجساد سبقاً مستقراً ثابتاً، وغايتها أن تدل على أن بارئها وفاطرها سبحانه صور النسمة وقدر خلقها وأجلها وعملها، واستخرج تلك الصور من مادتها ثم أعادها إليها، وقدر خروج كل فرد من أفرادها في وقته المقدر له، ولا يدل على أنها خلقت خلقاً مستقراً واستمرت موجودة ناطقة كلها في موضع واحد ثم يرسل منها إلى الأبدان جملة بعد جملة، كما قاله ابن حزم .

فهذا لا تدل الآثار عليه، نعم الرب سبحانه يخلق منها جملة بعد جملة على الوجه الذي سبق به التقدير أولاً، فيجيء الخلق الخارجي مطابقاً للتقدير السابق كشأنه سبحانه في جميع مخلوقاته، فإنه قدر لها أقداراً وآجالاً وصفات وهيئات، ثم أبرزها إلى الوجود مطابقة لذلك التقدير السابق ].

مسألة الحديث عن سبق الأرواح أو الأجساد مسألة غيبية، لا سيما فيما يتعلق بالأصل، أما ما يتعلق بأطوار الخلق فالنصوص صريحة وواضحة في أن الله عز وجل خلق الأجساد ثم نفخ فيها الأرواح، بمعنى: أن آدم خلق الله جسده أولاً كما ورد في النص الصحيح، ثم نفخ الله فيه الروح.

وكذلك بنو آدم يخلق الله أولاً أجسادهم كما هو معروف بالنطفة والعلقة والمضغة، ثم بعد ذلك تنفخ في كل إنسان روحه، بمعنى: أن الروح تكون بعد الجسد، وهذا أمر نعلمه.

أما أيهما أسبق في أصل الخلق الأزلي؛ فهذه مسألة غيبية لا داعي للخوض فيها والكلام فيها، إنما هي من الكلام في الغيب وقول على الله بغير علم.

ما تدل عليه الأحاديث المروية في أخذ ذرية آدم من ظهره

قال رحمه الله تعالى: [فالآثار المروية في ذلك إنما تدل على القدر السابق، وبعضها يدل على أنه سبحانه استخرج أمثالهم وصورهم وميز أهل السعادة من أهل الشقاوة].

هذان هما النوعان اللذان أشرت إليهما قبل، فهذه النصوص تدل على نوعين:

النوع الأول: تمييز الذرية بعد أخذهم من ظهر آدم، أي: تمييز المهتدين عن الضالين وأهل الجنة عن أهل النار.

والنوع الثاني: الإشهاد والميثاق.

قال رحمه الله تعالى: [وأما الإشهاد عليهم هناك فإنما هو في حديثين موقوفين على ابن عباس وابن عمرو رضي الله عنهم، ومن ثم قال قائلون من السلف والخلف: إن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فطرهم على التوحيد، كما تقدم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ومعنى قوله: شَهِدْنَا [الأعراف:172] أي: قالوا: بلى شهدنا أنك ربنا. وهذا قول ابن عباس وأبي بن كعب ، وقال ابن عباس أيضاً: أشهد بعضهم على بعض. وقيل: (شهدنا) من قول الملائكة، والوقف على قوله: (بلى). وهذا قول مجاهد والضحاك والسدي .

وقال السدي أيضاً: هو خبر من الله تعالى عن نفسه وملائكته أنهم شهدوا على إقرار بني آدم. والأول أظهر، وما عداه احتمال لا دليل عليه، وإنما يشهد ظاهر الآية للأول].

فرق بين ظاهر الآية لو جردت عن الحديث وبين ما ورد في الأحاديث من تفسير يمكن أن تفسر به الآية، فليس في الآية ما يدل على نوع الإشهاد، لكن الأحاديث مفسرة.

أما قوله: (في حديثين موقوفين على ابن عباس وابن عمرو ) فيظهر أنه يقصد بعض ألفاظهما، وإلا فالإشهاد بمعنى: أن الله عز وجل أخذ من آدم ذريته وأشهدهم وقالوا: شهدنا على نحو ما ذكر في الحديث قد ورد في الحديث الذي سبق، وهو ما رواه الإمام أحمد ، وفيه: (فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرها بين يديه، ثم كلمهم قبلاً: ألست بربكم؟)، وهذا مرفوع، وهو أيضاً -على الأصح- صحيح.

وكذلك ورد مرفوعاً في حديث آخر أورده، وهو يؤيد الحديث السابق، بل إنه ورد من طرق مرفوعاً، وليس مقصوراً على هذين الطريقين.

أما تفسير الآية بهذا التفسير فهناك من السلف من جعل هذا شيئاً وذاك شيئاً آخر، فربما فسروا الآية على معنى وفسروا الحديث على معنى آخر، مع ما بينهما من التلازم، لكن لا يعدو أن يكون هذا التفسير رأياً.

قال رحمه الله تعالى: [فمنها: ما رواه الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه السلام بنعمان -يعني: عرفة- فأخذ من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرها بين يديه ثم كلمهم قبلاً، قال: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا [الأعراف:172]إلى قوله: الْمُبْطِلُونَ [الأعراف:173]) .

ورواه النسائي أيضاً وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم في المستدرك، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه].