شرح العقيدة الطحاوية [27]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: (كلام الله منه بدا بلا كيفية قولاً) رد على المعتزلة وغيرهم، فإن المعتزلة تزعم أن القرآن لم يبد منه، كما تقدم حكاية قولهم، قالوا: وإضافته إليه إضافة تشريف كبيت الله، وناقة الله، يحرفون الكلم عن مواضعه، وقولهم باطل؛ فإن المضاف إلى الله تعالى معان وأعيان، فإضافة الأعيان إلى الله للتشريف، وهي مخلوقة له كبيت الله، وناقة الله، بخلاف إضافة المعاني، كعلم الله، وقدرته، وعزته، وجلاله، وكبريائه، وكلامه، وحياته، وعلوه، وقهره؛ فإن هذا كله من صفاته، لا يمكن أن يكون شيء من ذلك مخلوقاً.

والوصف بالتكلم من أوصاف الكمال، وضده من أوصاف النقص، قال تعالى: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا [الأعراف:148]، فكان عباد العجل -مع كفرهم- أعرف بالله من المعتزلة؛ فإنهم لم يقولوا لموسى: وربك لا يتكلم أيضاً.

وقال تعالى عن العجل أيضاً: أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا [طه:89] فعلم أن نفي رجع القول ونفي التكليم نقص يستدل به على عدم ألوهية العجل.

وغاية شبهتهم أنهم يقولون: يلزم منه التشبيه والتجسيم، فيقال لهم: إذا قلنا: إنه تعالى يتكلم كما يليق بجلاله انتفت شبهتهم، ألا ترى أنه تعالى يقول: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ [يس:65]، فنحن نؤمن أنها تتكلم، ولا نعلم كيف تتكلم، وكذا قوله تعالى: وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت:21]، وكذلك تسبيح الحصا والطعام وسلام الحجر، كل ذلك بلا فم يخرج منه الصوت الصاعد من الرئة المعتمد على مقاطع الحروف].

يقصد بذلك أن هؤلاء الذين اشتبهت عليهم الصفات -مع أنها محكمة بكلام الله تعالى- جاءتهم الشبهة من حيث إنهم قاسوا الله على خلقه وشبهوا الله بخلقه، فحينما وردت إليهم ألفاظ الصفات لم يوفقوا إلى الأخذ بالقاعدة الشرعية التي بدأ الله بها حينما تقررت قاعدة الإثبات والنفي، فالله سبحانه وتعالى قال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] ثم قال بعد ذلك: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، فقوله تعالى: (ليس كمثله شيء) ينفي ابتداءً توهم التشابه، فمجرد التوهم والخيال منفي؛ لأن الله تعالى ليس كمثله شيء، وبعد نفي التوهم والخيال وما يمكن أن ينقدح في الذهن في حق الله تعالى يأتي الإثبات، وهذا إذا عمله الإنسان بهذا التدرج لا يمكن أن ترد إليه أوهام المتكلمين وشبههم، فإن شبهتهم أنهم يقولون: لا نفهم من هذه الصفات إلا ما نعرفه في المخلوقات، ويرد عليهم بما ذكره الله سبحانه وتعالى في المخلوقات نفسها، فإنهم يقولون: لا نفهم الكلام إلا بالجارحة، والجارحة: الفم واللسان ووسائل وأدوات الكلام، فيرد عليهم بأن هناك من يتكلم من مخلوقات الله تعالى بغير الوسائل والأدوات التي مع الإنسان، كالحصى والجمادات كلها، فكلها تسبح ولكن لا نفقه تسبيحها، فإذا كانت كلها تسبح ونحن لا نرى لها ألسنة ولا حناجراً ولا رئات ولا نفساً يخرج ويدخل ولا نرى شفاهاً؛ فمعنى هذا أنها تتكلم كما أقدرها الله سبحانه وتعالى على الكلام من غير أن نعرف الكيفية، فالله وصفها بصفات تشبه صفاتنا من حيث اللفظ، ومع ذلك لا نرى وجه التشابه أبداً، بل نرى التباين كل التباين بين صفات مخلوق ومخلوق، ولله المثل الأعلى، فالله سبحانه وتعالى يتكلم كما يليق بجلاله، وليس كلامه ككلام المخلوقين؛ لأنه ليس كمثله شيء، وإذا تكلم سبحانه وتعالى تكلم بما يليق بكماله وعظمته، وليس بما يتوهمون من أوهامهم التي ركزوها في أذهانهم ثم بنوا عليها أحكاماً.

إذاً: يقال لهم: ما دمتم توهمتم التشبيه فارجعوا إلى ما هو في عالم الشهادة؛ لتعرفوا أن توهم التشبيه لا حقيقة له، فإن هناك من المخلوقات ما هو موصوف بالكلام ومع ذلك لا يوجد الشبه بيننا وبينه، ولا توجد فيه الوسائل التي يتكلم بها المخلوق ككلام المخلوقين.

بيان معنى قول الطحاوي: (منه بدا بلا كيفية قولاً)

قال رحمه الله تعالى: [ وإلى هذا أشار الشيخ رحمه الله بقوله: (منه بدا بلا كيفية قولاً)، أي: ظهر منه].

أي: أن الله تكلم به، هذا معنى (منه بدا)؛ لئلا يقال: إنه بدا الكلام على لسان جبريل، أو بدا الكلام على لسان محمد صلى الله عليه وسلم أو لسان موسى بالنسبة للتوراة أو عيسى بالنسبة للإنجيل أو نحو ذلك، أو: إن الله سبحانه وتعالى عبر عن كلام مخلوقاته بأنه كلامه، أو أنه خلق أصواتاً فصارت كلاماً، كل ذلك يتنافى مع القول بأنه منه بدا، يعني: أن الله سبحانه وتعالى قاله وتكلم به على ما يليق بجلاله، وليس هذا من عند هؤلاء من أهل العلم، بل هو من النصوص الشرعية.

قال رحمه الله تعالى: [ أي: ظهر منه، ولا يدرى كيفية تكلمه به. وأكد هذا المعنى بقوله: (قولاً)، أتى بالمصدر المعرف للحقيقة، كما أكد الله تعالى التكليم بالمصدر المثبت النافي للمجاز في قوله: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟! ].

يقصد بذلك أن الله سبحانه وتعالى فسر وبين الكلام هنا، فما قال: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى) ثم انقطع الكلام، بل أكد الأمر فقال: تَكْلِيمًا [النساء:164] لأنه قد ينشأ في الذهن: هل الله كلم الله موسى وحياً أو إلهاماً أو مناماً أو خيالاً؟! وتحتمل هذه الاحتمالات عند من لا يفقه الأمور الشرعية أو لا يفقه حقائق النصوص المتعلقة بصفات الله، فلذلك جاء التأكيد في الآية نفسها بما يرد التعطيل ويرد التأويل؛ فإن قوله تعالى: تَكْلِيمًا [النساء:164] يعني: على ما يليق بجلال الله سبحانه وتعالى.

عجز المؤولة للصفات عن تأويل الصفة الواردة في نصوص معينة بنفس التأويل في كل مرة

قال رحمه الله تعالى: [ولقد قال بعضهم لـأبي عمرو بن العلاء -أحد القراء السبعة-: أريد أن تقرأ: (وكلم الله موسى)، بنصب اسم الله ليكون موسى هو المتكلم لا الله! فقال أبو عمرو : هب أني قرأت هذه الآية كذا، فكيف تصنع بقوله تعالى: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف:143]؟! فبهت المعتزلي].

وهذا يرد في كثير من الصفات، حيث نجد أن الصفات ترد على أوجه عديدة، فلو أولوا وجهاً من الوجوه ما أولوا الآخر، وإذا أولوا الجميع تناقضت تأويلاتهم، فمثلاً: قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] كثير من المؤولة يقولون: (على العرش) بمعنى: على الملك، أي: استولى على الملك، لكن تأتيهم آية أخرى، مثل قوله تعالى: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ [هود:7] فلو أولوها بتأويل فإنه يناقض التأويل الآخر، وهكذا، وقد ورد لفظ الاستواء في القرآن في أكثر من ست آيات، وفي المفهوم في آيات كثيرة، وكذلك في الأحاديث الثابتة.

وكذلك بقية الصفات، فإنا نجد أن كل صفة يؤولونها في نص تنقضها آية أخرى أو حديث آخر، مثل قوله تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64]، فهذا من الصعب تأويله، فإن أولوه أتاهم مثل قوله تعالى: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] .

فما من صفة يؤولونها إلا وينقضها تأويلهم الآخر للصفة الأخرى، ولو أولوا الصفة في موضع فإنا نجد النص الآخر ينقض تأويلهم فلا يستقيم عليه، وهكذا.

أدلة تكليم الله لأهل الجنة وغيرهم

قال رحمه الله تعالى: [وكم في الكتاب والسنة من دليل على تكليم الله تعالى لأهل الجنة وغيرهم. قال تعالى: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58]، عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينا أهل الجنة في نعيم إذ سطع لهم نور فرفعوا أبصارهم، فإذا الرب جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم، فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة، وهو قول الله تعالى: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58] فلا يلتفتون إلى شيء مما هم فيه من النعيم ما داموا ينظرون إليه، حتى يحتجب عنهم، وتبقى بركته ونوره عليهم في ديارهم) رواه ابن ماجه وغيره ].

هذا الحديث ضعفه المحقق في الهامش، لكن معانيه ثابتة في أحاديث أخرى، منها ما في صحيح البخاري ، وقد أشار إليه إجمالاً أيضاً، فقد ورد في صحيح البخاري أن الله سبحانه وتعالى يقول لأهل الجنة كذا فيقولون كذا، فنسب إلى الله صفة القول، وصفة القول تثبت صفة الكلام، فصفة القول مرادفة لصفة الكلام، فإن الكلام لا يكون إلا بقول، والقول لا يكون إلا بكلام.

قال رحمه الله تعالى: [ففي هذا الحديث إثبات صفة الكلام، وإثبات الرؤية، وإثبات العلو، وكيف يصح مع هذا أن يكون كلام الرب كله معنى واحداً؟!

وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ [آل عمران:77] فأهانهم بترك تكليمهم، والمراد أنه لا يكلمهم تكليم تكريم، وهو الصحيح؛ إذ قد أخبر في الآية الأخرى أنه يقول لهم في النار: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108]، فلو كان لا يكلم عباده المؤمنين لكانوا في ذلك هم وأعداؤه سواء، ولم يكن في تخصيص أعدائه بأنه لا يكلمهم فائدة أصلاً].

أي: إذا كان الله لا يكلم هذه الفئة، وهم الذين توعدهم الله بحرمانهم من كلامه؛ فيقتضي هذا بالضرورة أنه يكلم غيرهم من المؤمنين المنعمين المستحقين للكلام، وهذا أمر مفهوم بالضرورة، كما أننا نقول مثل ذلك في الرؤية، وهو ما قاله الشافعي ، وهو أنه لو لم يكن المؤمنون يرونه ما كان للاحتجاب عن الكافرين معنى، فلما حرم الله سبحانه وتعالى الكفار من أن يروه واحتجب عنهم دل هذا بالضرورة العقلية والشرعية وبالمفهوم والمقطوع به أن المؤمنين يرونه، وكذلك الكلام، فإذا كان الله سبحانه وتعالى لا يكلم هؤلاء عقوبة لهم فإنه في المقابل يكلم غيرهم، ولو كان سبحانه وتعالى لا يتكلم أبداً ما كان لحرمان هؤلاء الذين عوقبوا من الكلام فائدة، فالله سبحانه وتعالى لا يتكلم إلا بالحق.

ثم إن ذكر الكلام والنظر في سياق واحد يدل على أن كل واحد منهما يثبت الآخر، فلو أولوا الكلام هنا دحضوا بالنظر، ولو أولوا النظر دحضوا بالكلام، فكلام الله محكم، ومهما أتوا من باب فإن الأبواب الأخرى تسد عليهم باب التأويل والتعطيل.

قال رحمه الله تعالى: [ وقال البخاري في صحيحه: باب كلام الرب تبارك وتعالى مع أهل الجنة. وساق فيه عدة أحاديث].

ساق فيه حديثين، وفي هذين الحديثين ما أشرت إليه سابقاً من أنه ذكر في البخاري أن الله سبحانه وتعالى يقول لأهل الجنة، ثم يقولون ثم يقول، كما ورد في الحديث، فالقصد بالسياق هنا أن البخاري أورد في الصحيح أن الله تعالى يقول، والقول كلام.

قال رحمه الله تعالى: [فأفضل نعيم أهل الجنة رؤية وجهه تبارك وتعالى وتكليمه لهم، فإنكار ذلك إنكار لروح الجنة وأعلى نعيمها وأفضله الذي ما طابت لأهلها إلا به].

قال رحمه الله تعالى: [ وإلى هذا أشار الشيخ رحمه الله بقوله: (منه بدا بلا كيفية قولاً)، أي: ظهر منه].

أي: أن الله تكلم به، هذا معنى (منه بدا)؛ لئلا يقال: إنه بدا الكلام على لسان جبريل، أو بدا الكلام على لسان محمد صلى الله عليه وسلم أو لسان موسى بالنسبة للتوراة أو عيسى بالنسبة للإنجيل أو نحو ذلك، أو: إن الله سبحانه وتعالى عبر عن كلام مخلوقاته بأنه كلامه، أو أنه خلق أصواتاً فصارت كلاماً، كل ذلك يتنافى مع القول بأنه منه بدا، يعني: أن الله سبحانه وتعالى قاله وتكلم به على ما يليق بجلاله، وليس هذا من عند هؤلاء من أهل العلم، بل هو من النصوص الشرعية.

قال رحمه الله تعالى: [ أي: ظهر منه، ولا يدرى كيفية تكلمه به. وأكد هذا المعنى بقوله: (قولاً)، أتى بالمصدر المعرف للحقيقة، كما أكد الله تعالى التكليم بالمصدر المثبت النافي للمجاز في قوله: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟! ].

يقصد بذلك أن الله سبحانه وتعالى فسر وبين الكلام هنا، فما قال: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى) ثم انقطع الكلام، بل أكد الأمر فقال: تَكْلِيمًا [النساء:164] لأنه قد ينشأ في الذهن: هل الله كلم الله موسى وحياً أو إلهاماً أو مناماً أو خيالاً؟! وتحتمل هذه الاحتمالات عند من لا يفقه الأمور الشرعية أو لا يفقه حقائق النصوص المتعلقة بصفات الله، فلذلك جاء التأكيد في الآية نفسها بما يرد التعطيل ويرد التأويل؛ فإن قوله تعالى: تَكْلِيمًا [النساء:164] يعني: على ما يليق بجلال الله سبحانه وتعالى.

قال رحمه الله تعالى: [ولقد قال بعضهم لـأبي عمرو بن العلاء -أحد القراء السبعة-: أريد أن تقرأ: (وكلم الله موسى)، بنصب اسم الله ليكون موسى هو المتكلم لا الله! فقال أبو عمرو : هب أني قرأت هذه الآية كذا، فكيف تصنع بقوله تعالى: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف:143]؟! فبهت المعتزلي].

وهذا يرد في كثير من الصفات، حيث نجد أن الصفات ترد على أوجه عديدة، فلو أولوا وجهاً من الوجوه ما أولوا الآخر، وإذا أولوا الجميع تناقضت تأويلاتهم، فمثلاً: قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] كثير من المؤولة يقولون: (على العرش) بمعنى: على الملك، أي: استولى على الملك، لكن تأتيهم آية أخرى، مثل قوله تعالى: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ [هود:7] فلو أولوها بتأويل فإنه يناقض التأويل الآخر، وهكذا، وقد ورد لفظ الاستواء في القرآن في أكثر من ست آيات، وفي المفهوم في آيات كثيرة، وكذلك في الأحاديث الثابتة.

وكذلك بقية الصفات، فإنا نجد أن كل صفة يؤولونها في نص تنقضها آية أخرى أو حديث آخر، مثل قوله تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64]، فهذا من الصعب تأويله، فإن أولوه أتاهم مثل قوله تعالى: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] .

فما من صفة يؤولونها إلا وينقضها تأويلهم الآخر للصفة الأخرى، ولو أولوا الصفة في موضع فإنا نجد النص الآخر ينقض تأويلهم فلا يستقيم عليه، وهكذا.

قال رحمه الله تعالى: [وكم في الكتاب والسنة من دليل على تكليم الله تعالى لأهل الجنة وغيرهم. قال تعالى: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58]، عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينا أهل الجنة في نعيم إذ سطع لهم نور فرفعوا أبصارهم، فإذا الرب جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم، فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة، وهو قول الله تعالى: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58] فلا يلتفتون إلى شيء مما هم فيه من النعيم ما داموا ينظرون إليه، حتى يحتجب عنهم، وتبقى بركته ونوره عليهم في ديارهم) رواه ابن ماجه وغيره ].

هذا الحديث ضعفه المحقق في الهامش، لكن معانيه ثابتة في أحاديث أخرى، منها ما في صحيح البخاري ، وقد أشار إليه إجمالاً أيضاً، فقد ورد في صحيح البخاري أن الله سبحانه وتعالى يقول لأهل الجنة كذا فيقولون كذا، فنسب إلى الله صفة القول، وصفة القول تثبت صفة الكلام، فصفة القول مرادفة لصفة الكلام، فإن الكلام لا يكون إلا بقول، والقول لا يكون إلا بكلام.

قال رحمه الله تعالى: [ففي هذا الحديث إثبات صفة الكلام، وإثبات الرؤية، وإثبات العلو، وكيف يصح مع هذا أن يكون كلام الرب كله معنى واحداً؟!

وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ [آل عمران:77] فأهانهم بترك تكليمهم، والمراد أنه لا يكلمهم تكليم تكريم، وهو الصحيح؛ إذ قد أخبر في الآية الأخرى أنه يقول لهم في النار: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108]، فلو كان لا يكلم عباده المؤمنين لكانوا في ذلك هم وأعداؤه سواء، ولم يكن في تخصيص أعدائه بأنه لا يكلمهم فائدة أصلاً].

أي: إذا كان الله لا يكلم هذه الفئة، وهم الذين توعدهم الله بحرمانهم من كلامه؛ فيقتضي هذا بالضرورة أنه يكلم غيرهم من المؤمنين المنعمين المستحقين للكلام، وهذا أمر مفهوم بالضرورة، كما أننا نقول مثل ذلك في الرؤية، وهو ما قاله الشافعي ، وهو أنه لو لم يكن المؤمنون يرونه ما كان للاحتجاب عن الكافرين معنى، فلما حرم الله سبحانه وتعالى الكفار من أن يروه واحتجب عنهم دل هذا بالضرورة العقلية والشرعية وبالمفهوم والمقطوع به أن المؤمنين يرونه، وكذلك الكلام، فإذا كان الله سبحانه وتعالى لا يكلم هؤلاء عقوبة لهم فإنه في المقابل يكلم غيرهم، ولو كان سبحانه وتعالى لا يتكلم أبداً ما كان لحرمان هؤلاء الذين عوقبوا من الكلام فائدة، فالله سبحانه وتعالى لا يتكلم إلا بالحق.

ثم إن ذكر الكلام والنظر في سياق واحد يدل على أن كل واحد منهما يثبت الآخر، فلو أولوا الكلام هنا دحضوا بالنظر، ولو أولوا النظر دحضوا بالكلام، فكلام الله محكم، ومهما أتوا من باب فإن الأبواب الأخرى تسد عليهم باب التأويل والتعطيل.

قال رحمه الله تعالى: [ وقال البخاري في صحيحه: باب كلام الرب تبارك وتعالى مع أهل الجنة. وساق فيه عدة أحاديث].

ساق فيه حديثين، وفي هذين الحديثين ما أشرت إليه سابقاً من أنه ذكر في البخاري أن الله سبحانه وتعالى يقول لأهل الجنة، ثم يقولون ثم يقول، كما ورد في الحديث، فالقصد بالسياق هنا أن البخاري أورد في الصحيح أن الله تعالى يقول، والقول كلام.

قال رحمه الله تعالى: [فأفضل نعيم أهل الجنة رؤية وجهه تبارك وتعالى وتكليمه لهم، فإنكار ذلك إنكار لروح الجنة وأعلى نعيمها وأفضله الذي ما طابت لأهلها إلا به].