شرح العقيدة الطحاوية [8]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهذا الذي أخبر به صلى الله عليه وسلم هو الذي تشهد الأدلة العقلية بصدقه، منها: أن يقال: لا ريب أن الإنسان قد يحصل له من الاعتقادات والإرادات ما يكون حقاً..].

الميل بالفطرة إلى التصديق بوجود الخالق المقتضي للانتفاع

قوله: (وهذا الذي أخبر به صلى الله عليه وسلم هو الذي تشهد له الأدلة العقلية) يقصد به الإخبار عما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من توحيد الله وطاعته وصدق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.

ويبدو لي أن العنوان الذي وضعه المحقق هنا ليس بدقيق، حيث قال: (الأدلة العقلية على صدق ما أخبر به الرسول) صلى الله عليه وسلم؛ إذ ليس مراده الأدلة على صدق ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، إنما أراد الأدلة العقلية على توحيد الربوبية وأنه مستلزم لتوحيد الإلهية الذي هو ضرورة طاعة الله واتباع شرعه، بناءً على دلالة العقل السليم والفطرة السليمة على وجود الله وكماله وقدرته، كما سيأتي تفصيله.

قال رحمه الله تعالى: [وتارة ما يكون باطلاً، وهو حساس متحرك بالإرادة فلا بد له من أحدهما، ولا بد له من مرجح لأحدهما].

هنا سيقرر الشارح ابن أبي العز أدلة وجود الله تعالى وتوحيده -أي: توحيد ربوبيته وإلهيته- من الفطرة السليمة والعقل السليم من وجوه متعددة كلها ترجع إلى أصل واحد في الاستدلال، وهو أن الفطرة السليمة والعقل السليم يدلان قطعاً على ضرورة توحيد الله تعالى في الربوبية والإلهية دون تفريق بين هذه الأمور.

قال رحمه الله تعالى: [ونعلم أنه إذا عرض على كل أحد أن يصدق وينتفع، وأن يكذب ويتضرر؛ مال بفطرته إلى أن يصدق وينتفع، وحينئذ فالاعتراف بوجود الصانع والإيمان به هو الحق أو نقيضه، والثاني فاسد قطعاً، فتعين الأول].

بناءً على القول بأن فطرة أي إنسان تميل إلى الصدق والانتفاع بالصدق وإلى ما ينفع إطلاقاً، وتنفر من الكذب وتتضرر به؛ فإن الإنسان بفطرته إما أن يصدق ما ينفعه -وهو الإقرار بوجود الصانع- أو لا يصدق، وإذا كان الإنسان قد فطر على التصديق والانتفاع، والتصديق والانتفاع هو في الإقرار بوجود الله تعالى وبعبادته وإلهيته؛ فحتماً لا بد من أن يكون هذا هو الافتراض اللازم؛ لأن الثاني قطعاً فاسد، أي: الميل إلى الكذب وإلى التضرر، فإذا كان كذلك تحتم الأول، وهو الإيمان بوجود الله سبحانه وتعالى النافع الضار.

قال رحمه الله تعالى: [فوجب أن يكون في الفطرة ما يقتضي معرفة الصانع والإيمان به، وبعد ذلك: إما أن تكون محبته أنفع للعبد أو لا، والثاني فاسد قطعاً، فوجب أن يكون في فطرته محبة ما ينفعه].

الفطرة على جلب المنافع ودفع المضار حال قيام السبب عند حصول الشرط وانتفاء المانع

قال رحمه الله تعالى: [ومنها: أنه مفطور على جلب المنافع ودفع المضار بحسبه، وحينئذ وإن لم تكن فطرة كل واحد مستقلة بتحصيل ذلك، بل يحتاج إلى سبب معين للفطرة كالتعليم ونحوه، فإذا وجد الشرط وانتفى المانع استجابت لما فيها من المقتضي لذلك].

الشرط هنا يعني: الشرط الذي يتوافر لإثارة الفطرة الكامنة التي هي فطرة التوحيد والفطرة على الخير، وتوافر الشرط يكون بالتعليم السليم وبالهدى وبما أنزله الله من الوحي ومن الخير على ألسنة الأنبياء، هذا هو الشرط.

والمانع: هو ما يحجب فطرة الإنسان عن الخير من الهوى، والشهوات، والشبهات، والتعليم المنحرف وهو أخطرها، فأكثر هذه الأسباب إضلالاً للبشر هو التعليم المنحرف، كما جاء في الحديث السابق عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الإنسان: (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه).

وقوله: (بحسبه) علق عليه المحقق فقال: إنها في جميع النسخ (بحسبه)، وكذلك في (درء تعارض العقل والنقل)، وفي بعض النسخ (بحسه)، وكله جائز، و(بحسه) كأنها أقرب، لكن نظراً لأن النسخ توافرت على (بحسبه) فهي جائزة، أي: تجوز في السياق، يعني: أن الإنسان مفطور على جلب المنافع ودفع المضار بحسبه، أي: بحسب مداركه، فبعضهم يدرك المنافع إدراكاً بيناً إذا كان إدراكه جيداً، وبعض الناس يدرك المنافع إدراكاً ضعيفاً بحسب إدراكه.

القوة الكامنة في النفس لقبول الحق إذا لم يحصل ما يفسد الفطرة

قال رحمه الله تعالى: [ومنها: أن يقال: من المعلوم أن كل نفس قابلة للعلم وإرادة الحق، ومجرد التعليم والتحضيض لا يوجب العلم والإرادة لولا أن في النفس قوة تقبل ذلك، وإلا فلو علّم الجماد والبهائم وحضضا لم يقبلا. ومعلوم أن حصول إقرارها بالصانع ممكن من غير سبب منفصل من خارج، وتكون الذات كافية في ذلك، فإذا كان المقتضي قائماً في النفس وقدر عدم المعارض؛ فالمقتضي السالم عن المعارض يوجب مقتضاه، فعلم أن الفطرة السليمة إذا لم يحصل لها ما يفسدها؛ كانت مقرة بالصانع عابدة له].

المقتضي السالم: هو الفطرة السليمة، والسالم عن المعارض يعني: عما يحجب هذه الفطرة عن الاستدلال على الخير، فالفطرة الأصل فيها أن تقتضي الدلالة على الخير والدلالة على الهدى والدلالة على الصلاح والإصلاح، هذا هو المقتضي للفطرة، فإذا سلمت هذه الفطرة من المعارض فإنها تبقى دالة على وجود الله تعالى وعلى طاعته وعبادته، ليس على الوجود فقط؛ لأن الوجود قل أن تنزع إلى إنكاره، لكن قد تنكر ما بعد ذلك من عبادة الله تعالى ومن طاعته واتباع أوامره، والمعارض: هو التربية السيئة أو الهوى أو الشهوة أو الشبهة أو وساوس الشيطان أو نحو ذلك، هذه كلها قد تحجب الفطرة عن الحق، فإذا سلمت الفطرة وبقيت على نقاوتها بقيت مستعدة للإقرار بتوحيد الإلهية تبعاً لتوحيد الربوبية.

اقتضاء الفطرة للصلاح بغير مؤثر خارجي

قال رحمه الله تعالى: [ومنها: أن يقال: إنه إذا لم يحصل المفسد الخارج؛ ولا المصلح الخارج، كانت الفطرة مقتضية للصلاح؛ لأن المقتضي فيها للعلم والإرادة قائم والمانع منتف].

الكلام على المفسد الخارج والمصلح الخارج ينطبق على ما سبق، ويقصد بذلك: أن الأصل في الفطرة الصلاح، والمفسد آت من الخارج، وكذلك المصلح الخارج الذي يضيف إلى الفطرة شيئاً من معرفة الهدى، بمعنى: أن الفطرة عبارة عن قوة كامنة مستعدة للحق، فإن جاءها مفسد خارج من تربية أو شهوة أو شبهة أو ضلال أو تقليد أو غير ذلك أو شبهات الشيطان ووساوسه؛ فإنها قد تنحرف، وإذا جاءها مصلح من الخارج -وهو الوحي الذي أنزله الله على رسله وما يتفرع عن هذا الوحي من أمور أخرى دالة على الخير- فإن الفطرة تستقيم.

قال رحمه الله تعالى: [ ويحكى عن أبي حنيفة رحمه الله: أن قوماً من أهل الكلام أرادوا البحث معه في تقرير توحيد الربوبية، فقال لهم: أخبروني قبل أن نتكلم في هذه المسألة عن سفينة في دجلة تذهب فتمتلئ من الطعام والمتاع وغيره بنفسها، وتعود بنفسها، فترسي بنفسها، وتتفرغ وترجع، كل ذلك من غير أن يدبرها أحد، فقالوا: هذا محال لا يمكن أبداً! فقال لهم: إذا كان هذا محالاً في سفينة؛ فكيف في هذا العالم كله علوه وسفله؟! وتحكى هذه الحكاية عن غير أبي حنيفة .

فلو أقر رجل بتوحيد الربوبية الذي يقر به هؤلاء النظار، ويفنى فيه كثير من أهل التصوف، ويجعلونه غاية السالكين، كما ذكره صاحب منازل السائرين وغيره، وهو مع ذلك إن لم يعبد الله وحده ويتبرأ من عبادة ما سواه، كان مشركاً من جنس أمثاله من المشركين].

قوله: (وهذا الذي أخبر به صلى الله عليه وسلم هو الذي تشهد له الأدلة العقلية) يقصد به الإخبار عما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من توحيد الله وطاعته وصدق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.

ويبدو لي أن العنوان الذي وضعه المحقق هنا ليس بدقيق، حيث قال: (الأدلة العقلية على صدق ما أخبر به الرسول) صلى الله عليه وسلم؛ إذ ليس مراده الأدلة على صدق ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، إنما أراد الأدلة العقلية على توحيد الربوبية وأنه مستلزم لتوحيد الإلهية الذي هو ضرورة طاعة الله واتباع شرعه، بناءً على دلالة العقل السليم والفطرة السليمة على وجود الله وكماله وقدرته، كما سيأتي تفصيله.

قال رحمه الله تعالى: [وتارة ما يكون باطلاً، وهو حساس متحرك بالإرادة فلا بد له من أحدهما، ولا بد له من مرجح لأحدهما].

هنا سيقرر الشارح ابن أبي العز أدلة وجود الله تعالى وتوحيده -أي: توحيد ربوبيته وإلهيته- من الفطرة السليمة والعقل السليم من وجوه متعددة كلها ترجع إلى أصل واحد في الاستدلال، وهو أن الفطرة السليمة والعقل السليم يدلان قطعاً على ضرورة توحيد الله تعالى في الربوبية والإلهية دون تفريق بين هذه الأمور.

قال رحمه الله تعالى: [ونعلم أنه إذا عرض على كل أحد أن يصدق وينتفع، وأن يكذب ويتضرر؛ مال بفطرته إلى أن يصدق وينتفع، وحينئذ فالاعتراف بوجود الصانع والإيمان به هو الحق أو نقيضه، والثاني فاسد قطعاً، فتعين الأول].

بناءً على القول بأن فطرة أي إنسان تميل إلى الصدق والانتفاع بالصدق وإلى ما ينفع إطلاقاً، وتنفر من الكذب وتتضرر به؛ فإن الإنسان بفطرته إما أن يصدق ما ينفعه -وهو الإقرار بوجود الصانع- أو لا يصدق، وإذا كان الإنسان قد فطر على التصديق والانتفاع، والتصديق والانتفاع هو في الإقرار بوجود الله تعالى وبعبادته وإلهيته؛ فحتماً لا بد من أن يكون هذا هو الافتراض اللازم؛ لأن الثاني قطعاً فاسد، أي: الميل إلى الكذب وإلى التضرر، فإذا كان كذلك تحتم الأول، وهو الإيمان بوجود الله سبحانه وتعالى النافع الضار.

قال رحمه الله تعالى: [فوجب أن يكون في الفطرة ما يقتضي معرفة الصانع والإيمان به، وبعد ذلك: إما أن تكون محبته أنفع للعبد أو لا، والثاني فاسد قطعاً، فوجب أن يكون في فطرته محبة ما ينفعه].

قال رحمه الله تعالى: [ومنها: أنه مفطور على جلب المنافع ودفع المضار بحسبه، وحينئذ وإن لم تكن فطرة كل واحد مستقلة بتحصيل ذلك، بل يحتاج إلى سبب معين للفطرة كالتعليم ونحوه، فإذا وجد الشرط وانتفى المانع استجابت لما فيها من المقتضي لذلك].

الشرط هنا يعني: الشرط الذي يتوافر لإثارة الفطرة الكامنة التي هي فطرة التوحيد والفطرة على الخير، وتوافر الشرط يكون بالتعليم السليم وبالهدى وبما أنزله الله من الوحي ومن الخير على ألسنة الأنبياء، هذا هو الشرط.

والمانع: هو ما يحجب فطرة الإنسان عن الخير من الهوى، والشهوات، والشبهات، والتعليم المنحرف وهو أخطرها، فأكثر هذه الأسباب إضلالاً للبشر هو التعليم المنحرف، كما جاء في الحديث السابق عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الإنسان: (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه).

وقوله: (بحسبه) علق عليه المحقق فقال: إنها في جميع النسخ (بحسبه)، وكذلك في (درء تعارض العقل والنقل)، وفي بعض النسخ (بحسه)، وكله جائز، و(بحسه) كأنها أقرب، لكن نظراً لأن النسخ توافرت على (بحسبه) فهي جائزة، أي: تجوز في السياق، يعني: أن الإنسان مفطور على جلب المنافع ودفع المضار بحسبه، أي: بحسب مداركه، فبعضهم يدرك المنافع إدراكاً بيناً إذا كان إدراكه جيداً، وبعض الناس يدرك المنافع إدراكاً ضعيفاً بحسب إدراكه.