لماذا نخاف من النقد؟


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيراً يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ الحشر:18].

أما بعد:

هذا هو الدرس الخامس والأربعون من سلسلة الدروس العلمية العامة، وهذه ليلة الإثنين (12) جمادي الأولى لعام (1412هـ).

أيها الأحبة الكرام، حديثي إليكم هذه الليلة عنوانه: (لماذا نخاف من النقد)؟

اعتبار النقد جريمة عند بعض ا لناس

أولاً لماذا الحديث عن هذا الموضوع بالذات؟

لعله ليس بغريب على أسماعكم، الحديث عن التخلف المطبق في العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، سواء من الناحية العلمية، أو من الناحية الدعوية، أو من الناحية الاجتماعية، أو من الناحية السياسية على المستوى الفردي وعلى المستوى الجماعي فإننا نعلم جميعاً وهذا مما لا يحتاج إلى إعادة أو تكرار أن المسلمين يعيشون اليوم أحط عصورهم، وأردأ أيامهم، ولعله ليس من قبيل المبالغة أن نقول: إنه لم تمر بالأمة الإسلامية منذ بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، وقامت دولة الإسلام في المدينة، وعبر حقب التاريخ في عصوره، مثل هذه الأيام الكالحة المظلمة، التي استحكمت فيها غربة الدين، وأطبق الأعداء بفكيهم على المسلمين، فهم يعيشون في تخلف مريع لا يعلمه إلا الله.

ومع ذلك كله، ومع أن التخلف في عالم الإسلام شامل لكل مجالات الحياة دون استثناء، إلا أننا نجد من المسلمين عموماً، مقتاً وبغضاً وكراهية لأي لون من ألوان النقد، أو المراجعة أو التصحيح بل إنك تجد المسلمين اليوم أفراداً وجماعات وأمماً ودولاً، يعتبرون النقد في كثير من الأحيان جريمة، فيجرمون المنتقد ويعتبرونه -كما يعبر بعضهم- خارجاً عن القانون، أو أنه مشكك في المكتسبات التي حققتها هذه الأمة، أو هذه الفئة، أو تلك الجماعة، أو تلك الدولة، أو أنه يسعى إلى زعزعة أمن البلد والمجتمع واستقراره، أو أنه يحمل أهدافاً سياسية، وهو يعبر عنها من خلال النقد والتصحيح والمراجعة، ولذلك نجد أن الدول تصنف الذين ينتقدون أو يصححون أو يراجعون، أو- بأسلوب آخر- تصنف الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، أنهم ضمن الخصوم.

وكذلك أقول: مع الأسف إن كثيراً من الجماعات الإسلامية قد تعتبر من ينتقدونها هم أعداء لها، بل ربما تعتبرهم أحياناً أعداءً للإسلام ذاته، أما الأفراد فغالبنا يعتبر من ينتقده، أو يستدرك عليه أو يصحح خطأ وقع فيه، يعتبره عدواً له، أو حاقداً عليه. هذه نقطة.

الاعتراف بالنقص والتقصير

وهناك نقطة أخرى، أننا نجد لدى بعض الناس على كافة المستويات بدون استثناء، اعترافاً مجملاً بالنقص أو التقصير، فليس غريباً أنك تجد إنساناً ما سواء أكان عالماً، أم حاكماً، أم داعية، أم تاجراً أم أي شيء آخر، قد تجد أن من السهل أن يقول هذا الإنسان: أنا بشر، أو نحن لسنا بمعصومين، أو قد يقول: نحن جميعاً عرضة للخطأ لكنه يقف عند حد هذا الاعتراف المجمل الغامض المبهم، فلا ينتقل من هذا الكلام العام إلى تشخيص الأخطاء، وتحديد هذه الأخطاء وما هي؟ والاعتراف بها، وهذه الأخطاء ونوعياتها وعيناتها، ومن ثم السعي إلى التصحيح، نعم، نحن نقول: لم يدَّعِ أحد لك - مثلاً - أنك ملك، حتى تقول: أنا بشر، ولم يدعِ لك أحد أنك نبي أو رسول حتى تقول: إنك لست بمعصوم، كل الناس يعرفون أنك بشر، وأنك إنسان، وأنك لست بمعصوم، وأنك عرضة للخطأ، وكل إنسان يعترف بهذا، بل ربما أقول: إن كثيراً من الناس -وهم بصدد تجاهل الأخطاء، والدفاع عنها، ومحاولة إظهارها، وإلباسها بثوب الصواب- تجد أنهم يبتدئون حديثهم بقولهم: لسنا معصومين، نحن بشر يخطئ ونصيب، نحن عرضة، نحن كذا، نحن كذا، ثم بعد ذلك ينتقل إلى محاولة فلسفة الأخطاء، وتحويلها إلى نوع من الصواب؟

وبناءً عليه نقول: هذا الاعتراف الغامض المبهم بأنك بشر، أو لست بمعصوم، أو عرضة للخطأ، هذا الاعتراف لا يسمن ولا يغني من جوع، ولا ينفعنا في قليل ولا في كثير.

المسلمون والنقد

أمر ثالث: إننا -أيها الأحبة- نملك تراثاً إسلامياً عظيماً، بل نملك -قبل هذا التراث الإسلامي العظيم من تاريخ الأمة- تاريخ الرسول عليه الصلاة والسلام، وتاريخ الصحابة رضي الله عنهم، وتاريخ الخلفاء المؤمنين الصادقين، وتاريخ العلماء العاملين الداعين إلى الله على بصيرة.

قبل هذا نملك منهجاً إلهياً ربانياً، وضح لنا كيف نتعرف على الخطأ في أنفسنا وفي غيرنا، وكيف نقوم بتصحيح هذا الخطأ، سواء كان هذا خطأنا نحن أم كان خطأ الآخرين -كما سوف تأتي الإشارة إلى شيء من ذلك - والمؤسف جداً أن هذا المنهج الذي هو في أصله منهج إسلامي ينبثق من هذا القرآن الكريم، ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، أن الغرب أفاد من هذا المنهج على الأقل في الناحية الدنيوية، فأرسوا قواعد النقد بين الحاكم والمحكوم، ووضعوا أسسه وضوابطه، سواء في المجال الإعلامي، أم في المجال العلمي، أم في المجال السياسي أم غيرها، بحيث أصبح كل فرد منهم يعرف كيف ينتقد، وكيف يوجه، وكيف يشارك برأيه في كل قضية صغرت أم كبرت، جلت أم عظمت، فأصبح كل إنسان منهم يحس أنه يشارك مشاركة فعالة في إدارة دفة المجتمع، وفي تصحيح الأخطاء، وفي توجيه الناس، أفادوا من المنهج الإسلامي من الناحية الدنيوية، أما المسلمون، فإن كثيراً من المنتسبين إلى الإسلام أقرب ما يكونون -وأقولها مهما كانت ثقيلة على لساني- أقرب ما يكونون إلى سلوك المنهج الفرعوني، الذي يقول: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر:29] ومن الصعب جداً على كثير من الناس اليوم، ممن ينتسبون إلى هذا الدين أياً كانوا، سواء كانوا من أصحاب النفوذ والسلطان، أم كانوا من العلماء، أم كانوا من الدعاة، أم كانوا من عامة الناس، فمن أصعب الأمور على الواحد منهم أن يصغي أذنه لتقبل نقداً أو ملاحظة، فضلاً عن أن يوافق على ذلك أو يسعى إلى تصحيحه.

أولاً لماذا الحديث عن هذا الموضوع بالذات؟

لعله ليس بغريب على أسماعكم، الحديث عن التخلف المطبق في العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، سواء من الناحية العلمية، أو من الناحية الدعوية، أو من الناحية الاجتماعية، أو من الناحية السياسية على المستوى الفردي وعلى المستوى الجماعي فإننا نعلم جميعاً وهذا مما لا يحتاج إلى إعادة أو تكرار أن المسلمين يعيشون اليوم أحط عصورهم، وأردأ أيامهم، ولعله ليس من قبيل المبالغة أن نقول: إنه لم تمر بالأمة الإسلامية منذ بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، وقامت دولة الإسلام في المدينة، وعبر حقب التاريخ في عصوره، مثل هذه الأيام الكالحة المظلمة، التي استحكمت فيها غربة الدين، وأطبق الأعداء بفكيهم على المسلمين، فهم يعيشون في تخلف مريع لا يعلمه إلا الله.

ومع ذلك كله، ومع أن التخلف في عالم الإسلام شامل لكل مجالات الحياة دون استثناء، إلا أننا نجد من المسلمين عموماً، مقتاً وبغضاً وكراهية لأي لون من ألوان النقد، أو المراجعة أو التصحيح بل إنك تجد المسلمين اليوم أفراداً وجماعات وأمماً ودولاً، يعتبرون النقد في كثير من الأحيان جريمة، فيجرمون المنتقد ويعتبرونه -كما يعبر بعضهم- خارجاً عن القانون، أو أنه مشكك في المكتسبات التي حققتها هذه الأمة، أو هذه الفئة، أو تلك الجماعة، أو تلك الدولة، أو أنه يسعى إلى زعزعة أمن البلد والمجتمع واستقراره، أو أنه يحمل أهدافاً سياسية، وهو يعبر عنها من خلال النقد والتصحيح والمراجعة، ولذلك نجد أن الدول تصنف الذين ينتقدون أو يصححون أو يراجعون، أو- بأسلوب آخر- تصنف الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، أنهم ضمن الخصوم.

وكذلك أقول: مع الأسف إن كثيراً من الجماعات الإسلامية قد تعتبر من ينتقدونها هم أعداء لها، بل ربما تعتبرهم أحياناً أعداءً للإسلام ذاته، أما الأفراد فغالبنا يعتبر من ينتقده، أو يستدرك عليه أو يصحح خطأ وقع فيه، يعتبره عدواً له، أو حاقداً عليه. هذه نقطة.

وهناك نقطة أخرى، أننا نجد لدى بعض الناس على كافة المستويات بدون استثناء، اعترافاً مجملاً بالنقص أو التقصير، فليس غريباً أنك تجد إنساناً ما سواء أكان عالماً، أم حاكماً، أم داعية، أم تاجراً أم أي شيء آخر، قد تجد أن من السهل أن يقول هذا الإنسان: أنا بشر، أو نحن لسنا بمعصومين، أو قد يقول: نحن جميعاً عرضة للخطأ لكنه يقف عند حد هذا الاعتراف المجمل الغامض المبهم، فلا ينتقل من هذا الكلام العام إلى تشخيص الأخطاء، وتحديد هذه الأخطاء وما هي؟ والاعتراف بها، وهذه الأخطاء ونوعياتها وعيناتها، ومن ثم السعي إلى التصحيح، نعم، نحن نقول: لم يدَّعِ أحد لك - مثلاً - أنك ملك، حتى تقول: أنا بشر، ولم يدعِ لك أحد أنك نبي أو رسول حتى تقول: إنك لست بمعصوم، كل الناس يعرفون أنك بشر، وأنك إنسان، وأنك لست بمعصوم، وأنك عرضة للخطأ، وكل إنسان يعترف بهذا، بل ربما أقول: إن كثيراً من الناس -وهم بصدد تجاهل الأخطاء، والدفاع عنها، ومحاولة إظهارها، وإلباسها بثوب الصواب- تجد أنهم يبتدئون حديثهم بقولهم: لسنا معصومين، نحن بشر يخطئ ونصيب، نحن عرضة، نحن كذا، نحن كذا، ثم بعد ذلك ينتقل إلى محاولة فلسفة الأخطاء، وتحويلها إلى نوع من الصواب؟

وبناءً عليه نقول: هذا الاعتراف الغامض المبهم بأنك بشر، أو لست بمعصوم، أو عرضة للخطأ، هذا الاعتراف لا يسمن ولا يغني من جوع، ولا ينفعنا في قليل ولا في كثير.

أمر ثالث: إننا -أيها الأحبة- نملك تراثاً إسلامياً عظيماً، بل نملك -قبل هذا التراث الإسلامي العظيم من تاريخ الأمة- تاريخ الرسول عليه الصلاة والسلام، وتاريخ الصحابة رضي الله عنهم، وتاريخ الخلفاء المؤمنين الصادقين، وتاريخ العلماء العاملين الداعين إلى الله على بصيرة.

قبل هذا نملك منهجاً إلهياً ربانياً، وضح لنا كيف نتعرف على الخطأ في أنفسنا وفي غيرنا، وكيف نقوم بتصحيح هذا الخطأ، سواء كان هذا خطأنا نحن أم كان خطأ الآخرين -كما سوف تأتي الإشارة إلى شيء من ذلك - والمؤسف جداً أن هذا المنهج الذي هو في أصله منهج إسلامي ينبثق من هذا القرآن الكريم، ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، أن الغرب أفاد من هذا المنهج على الأقل في الناحية الدنيوية، فأرسوا قواعد النقد بين الحاكم والمحكوم، ووضعوا أسسه وضوابطه، سواء في المجال الإعلامي، أم في المجال العلمي، أم في المجال السياسي أم غيرها، بحيث أصبح كل فرد منهم يعرف كيف ينتقد، وكيف يوجه، وكيف يشارك برأيه في كل قضية صغرت أم كبرت، جلت أم عظمت، فأصبح كل إنسان منهم يحس أنه يشارك مشاركة فعالة في إدارة دفة المجتمع، وفي تصحيح الأخطاء، وفي توجيه الناس، أفادوا من المنهج الإسلامي من الناحية الدنيوية، أما المسلمون، فإن كثيراً من المنتسبين إلى الإسلام أقرب ما يكونون -وأقولها مهما كانت ثقيلة على لساني- أقرب ما يكونون إلى سلوك المنهج الفرعوني، الذي يقول: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر:29] ومن الصعب جداً على كثير من الناس اليوم، ممن ينتسبون إلى هذا الدين أياً كانوا، سواء كانوا من أصحاب النفوذ والسلطان، أم كانوا من العلماء، أم كانوا من الدعاة، أم كانوا من عامة الناس، فمن أصعب الأمور على الواحد منهم أن يصغي أذنه لتقبل نقداً أو ملاحظة، فضلاً عن أن يوافق على ذلك أو يسعى إلى تصحيحه.

ما هو النقد؟ النقد في لغة العرب يطلق على معنيين:

معاني النقد

المعنى الأول: تمييز الجيد من الرديء من الدراهم والدنانير - يعني: من النقود-، فأنت تقول: نقدت الدراهم وانتقدتها، إذا ميزت جيدها من رديئها، وأخرجت زيفها، ولذلك قال الشاعر:

الموت نقاد على كفه     دراهم يختار منها الثمين

فهذا معنى للنقد: اختيار الجيد وتمييز الزيف.

المعنى الثاني: هو العيب والتجريح فأنت تقول: نقدت فلاناً بإصبعي إذا ضربته به، ولهذا قال أبو الدرداء رضي الله عنه: [[الناس إن نقدتهم نقدوك وإن تركتهم لم يتركوك]] أي: إن عبتهم عابوك، وإن سكت عنهم عابوك أيضا- فلا سلامة منهم (سلمتُ وهل حيٌ على الناس يسلمُ)

بيان المعنى الأول للنقد

فالمعنى الأول في النقد، الذي هو: تمييز الطيب من الخبيث، والحسن من القبيح، والصالح من الطالح، والزيف من الحقيقي، هذا المعنى هو الذي ينطبق على المفهوم الشرعي للنقد، فالنقد في الشرع يعني: معرفة الخطأ والصواب، ويعني: الثناء على الخير ومدحه وذم الشر ونقده، سواءً كان هذا الخير أو الشر في شخص، أم في كتاب، أم في عمل، أم في هيئة، أم في دولة، أم في جماعة، أم في أمة، أم في غير ذلك، وهذا هو المعروف لدى أهل العلم والإيمان، أفراداً وجماعات، خاصة لدى أهل القرون الأولى المفضلة، فإن الغالب على نقدهم أنهم كانوا ينتقدون لبيان الحق والأمر به، وبيان المنكر والنهي عنه، وهذا هو المعروف من سيرتهم وأقوالهم رضي الله تعالى عنهم.

بيان المعنى الثاني للنقد

أما المعني الثاني في النقد، الذي هو: الثلب والثلم والعيب والتجريح، فهذا هو الغالب على هذا الزمان، الذين يعتبرون النقد -كما أسلفتُ- صورة من صورة العداوة والحقد والبغضاء، والتشهير والتأليب على الشخص المنقود، أو على الجهة المنقودة، ولذلك لا يقبلون النقد؛ لأنهم يعتبرونه نوعاً من التنقص، وكذلك هم لا ينتقدون إنساناً إلا إذا أبغضوه وحاربوه ومقتوه فهم ينتقدونه؛ لأنهم يسعون إلى إسقاطه فهم لا يسعون إلى معرفة الحق من الباطل والخطأ من الصواب والخير من الشر، بل همهم جمع المثالب على فلان وعلان، أو على الجهة الفلانية وحشد المعايب.

ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم، في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي الدرداء: {اللاعنون لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة} فاللعان هو الذي لا يعرف الناس إلا موضع العيب، كل ما ذكر عنده شخص عابه فإن ذكر عنده شخص بعبادة، قال: نعم عابد، ولكنه ليس بعالم، والعبادة بلا علم تضر أكثر مما تنفع، فإن ذكر عنده شخص بعلم، قال: نعم هو عالم، ولكن المشكلة في النية، إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فإن ذكر عنده شخص بجهاد قال: ورب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته، فإن ذكر عنده شخص بالإنفاق في سبيل الله، قال: فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً [الأنفال:36] وهكذا كلما ذكر عنده شخص بمحمدة أو مدح أو ثناء، بحث عن عيب ويلصقه به، وكأنه لا يسره إلا ذكر الناس عنده بالشر والسوء هذا الموجود على غالب الناس اليوم.

وهذا يشبه القصة التي رواها البخاري ومسلم في صحيحيهما، في قصة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه وفيها عبرة، فإن أهل الكوفة شكوا سعداً إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأرسل عمر إليه فجاءه، فقال له: يا أبا إسحاق، لقد شكوك في كل شيء حتى قالوا: لا يحسن يصلي- حتى الصلاة قالوا: لا يعرف كيف يصلي- فقال سعد رضي الله عنه وأرضاه: أما والله يا أمير المؤمنين، إني لا آلو أن أصلي بهم، كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا، أطيل في الأوليين، وأخف أو أحذف في الأخريين، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: هذا هو الظن بك يا أبا إسحاق -هذا ظني بك-، لكن عمر رضي الله عنه وأرضاه، لم يكتف بمجرد قناعته الشخصية بـسعد بن أبي وقاص؛ لأنه أمام شكوى من الشعب، من المواطنين، فلا بد أن يتثبت من هذه الشكوى بروح المحايدة، والعدل، والإنصاف، ويعتبر أن سعداً طرف وخصم، وأن أهل الكوفة طرف وخصم آخر، فيرسل عمر رضي الله عنه لجنة لتقصي الحقائق، وتذهب هذه اللجنة لا لتسأل أعيان البلد أو خواصهم، الذين يفترض أن الأمير قد يدنيهم إليه، وقد يكسب رضاهم بأي وسيلة وبأي ثمن! لا بل تذهب هذه اللجنة، لتقف في المساجد والأسواق، ويقولون لأهل المساجد: ماذا تقولون في أميركم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه؟ فكلما ذكروه في مسجد أثنوا عليه خيراً، حتى جاءوا إلى مسجد من مساجد بني عبس، فقالوا: ما تقولون في أميركم سعد بن أبي وقاص؟ فسكتوا وأثنوا خيراً فقال رجل، يقال له: أسامة بن قتادة: أما إذ سألتنا فوالله إن أميرنا سعد بن أبي وقاص لا يعدل في القضية، ولا يحكم بالسوية، ولا يسير بالسرية وصفه بالجبن، والظلم، والحيف، وعدم الإنصاف والعياذ بالله، فغضب سعد بن أبي وقاص من ذلك أشد الغضب؛ لأنه يعلم أن هذا الرجل كاذب، فقال: [[اللهم إن كان هذا قام رياءً وسمعة وكذباً، فإني أسألك ثلاثاً: اللهم أطل عمره، وأطل فقره، وعرضه للفتن]] يقول أحد رواة الحديث: فأنا والله قد رأيتُ هذا الرجل شيخاً كبيراً قد عمي، وهو يقف في الأسواق يتعرض للجواري يغازلهن ويغمزهن، وقد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وهو يقول: شيخ كبير مفتون أصابته دعوة سعد، فأنت تلاحظ هاهنا، كيف أن هذا الرجل لم يعرف لـسعد بن أبي وقاص، أنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا بلاءه وجهاده في الإسلام، ولا أنه من أهل الجنة، ولا شيئاً من ذلك، إنما ذكر مثالبه ومعايبه التي هي -في الواقع- كذب وافتراء، وإلا فإن سعداً بريء منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب، ولا شك أن النقد بهذا المعنى محرم، لأنه نوع من الغيبة، والله عز وجل يقول: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [الحجرات:12].

وفي صحيح مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل ما الغيبة؟ فقال: {ذكرك أخاك بما يكره. قال: يا رسول الله أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته}.

وقد ذكر القرطبي رحمه الله، إجماع العلماء على أن الغيبة من كبائر الذنوب، فهي إما أن تكون غيبة بهذا الاعتبار، وذلك كالذين يبحثون عن عيوب الناس ومثالبهم، ويفترض أن هذه العيوب والمثالب موجودة فيهم، فيتكلمون بهم في المجالس ويغتابونهم، ويقعون في أعراضهم، ويبتغون للبرآءِ العيب، فهي غيبة حينئذٍ فإن كانوا أبرياء مما وصفوهم به فهو بهتان وظلم، والله سبحانه وتعالى لا يهدي القوم الظالمين، يقول عز وجل في الحديث القدسي الذي رواه مسلم عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: {يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا} لا يظلم بعضكم بعضاً، وليس دافع هؤلاء بكل حال الإصلاح، لا. ولا تصحيح الأخطاء وإنما دافعهم الحسد والبغي والحقد والظلم، وما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى له العقوبة في الدنيا -مع ما يدخره لصاحبه في الدار الآخرة- من البغي وقطيعة الرحم، كما صح بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

صحيح أن هناك حالات قد يجوز للإنسان فيها أن يغتاب، والقاعدة العامة والضابط العام في مثل هذه الحالات، هي ما إذا كانت مصلحة الغيبة أعظم من مفسدتها، راجحة على مفسدتها، وذلك لأن الغيبة مفسدة ظاهرة في إيذاء الإنسان الذي اغتبته، إيذاءه وظلمه، والحط من قدره فهذه، مفسدة ظاهرة، ولذلك حرم الله تعالى الغيبة.

لكن إذا كان في الغيبة مصلحة أعظم من ذلك، فحينئذٍ تجوز الغيبة، وقد ذكر العلماء ست حالات، بل ذكر بعضهم تسع حالات، قالوا: إنه يجوز فيها أن ينال من الشخص بعينه وبذاته؛ لأن مصلحة الغيبة حينئذٍ راجحة ظاهرة، وذلك كالتحذير من الفساق والتحذير من المنافقين، والتحذير من أهل البدع وغير ذلك.

المعنى الأول: تمييز الجيد من الرديء من الدراهم والدنانير - يعني: من النقود-، فأنت تقول: نقدت الدراهم وانتقدتها، إذا ميزت جيدها من رديئها، وأخرجت زيفها، ولذلك قال الشاعر:

الموت نقاد على كفه     دراهم يختار منها الثمين

فهذا معنى للنقد: اختيار الجيد وتمييز الزيف.

المعنى الثاني: هو العيب والتجريح فأنت تقول: نقدت فلاناً بإصبعي إذا ضربته به، ولهذا قال أبو الدرداء رضي الله عنه: [[الناس إن نقدتهم نقدوك وإن تركتهم لم يتركوك]] أي: إن عبتهم عابوك، وإن سكت عنهم عابوك أيضا- فلا سلامة منهم (سلمتُ وهل حيٌ على الناس يسلمُ)

فالمعنى الأول في النقد، الذي هو: تمييز الطيب من الخبيث، والحسن من القبيح، والصالح من الطالح، والزيف من الحقيقي، هذا المعنى هو الذي ينطبق على المفهوم الشرعي للنقد، فالنقد في الشرع يعني: معرفة الخطأ والصواب، ويعني: الثناء على الخير ومدحه وذم الشر ونقده، سواءً كان هذا الخير أو الشر في شخص، أم في كتاب، أم في عمل، أم في هيئة، أم في دولة، أم في جماعة، أم في أمة، أم في غير ذلك، وهذا هو المعروف لدى أهل العلم والإيمان، أفراداً وجماعات، خاصة لدى أهل القرون الأولى المفضلة، فإن الغالب على نقدهم أنهم كانوا ينتقدون لبيان الحق والأمر به، وبيان المنكر والنهي عنه، وهذا هو المعروف من سيرتهم وأقوالهم رضي الله تعالى عنهم.

أما المعني الثاني في النقد، الذي هو: الثلب والثلم والعيب والتجريح، فهذا هو الغالب على هذا الزمان، الذين يعتبرون النقد -كما أسلفتُ- صورة من صورة العداوة والحقد والبغضاء، والتشهير والتأليب على الشخص المنقود، أو على الجهة المنقودة، ولذلك لا يقبلون النقد؛ لأنهم يعتبرونه نوعاً من التنقص، وكذلك هم لا ينتقدون إنساناً إلا إذا أبغضوه وحاربوه ومقتوه فهم ينتقدونه؛ لأنهم يسعون إلى إسقاطه فهم لا يسعون إلى معرفة الحق من الباطل والخطأ من الصواب والخير من الشر، بل همهم جمع المثالب على فلان وعلان، أو على الجهة الفلانية وحشد المعايب.

ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم، في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي الدرداء: {اللاعنون لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة} فاللعان هو الذي لا يعرف الناس إلا موضع العيب، كل ما ذكر عنده شخص عابه فإن ذكر عنده شخص بعبادة، قال: نعم عابد، ولكنه ليس بعالم، والعبادة بلا علم تضر أكثر مما تنفع، فإن ذكر عنده شخص بعلم، قال: نعم هو عالم، ولكن المشكلة في النية، إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فإن ذكر عنده شخص بجهاد قال: ورب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته، فإن ذكر عنده شخص بالإنفاق في سبيل الله، قال: فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً [الأنفال:36] وهكذا كلما ذكر عنده شخص بمحمدة أو مدح أو ثناء، بحث عن عيب ويلصقه به، وكأنه لا يسره إلا ذكر الناس عنده بالشر والسوء هذا الموجود على غالب الناس اليوم.

وهذا يشبه القصة التي رواها البخاري ومسلم في صحيحيهما، في قصة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه وفيها عبرة، فإن أهل الكوفة شكوا سعداً إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأرسل عمر إليه فجاءه، فقال له: يا أبا إسحاق، لقد شكوك في كل شيء حتى قالوا: لا يحسن يصلي- حتى الصلاة قالوا: لا يعرف كيف يصلي- فقال سعد رضي الله عنه وأرضاه: أما والله يا أمير المؤمنين، إني لا آلو أن أصلي بهم، كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا، أطيل في الأوليين، وأخف أو أحذف في الأخريين، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: هذا هو الظن بك يا أبا إسحاق -هذا ظني بك-، لكن عمر رضي الله عنه وأرضاه، لم يكتف بمجرد قناعته الشخصية بـسعد بن أبي وقاص؛ لأنه أمام شكوى من الشعب، من المواطنين، فلا بد أن يتثبت من هذه الشكوى بروح المحايدة، والعدل، والإنصاف، ويعتبر أن سعداً طرف وخصم، وأن أهل الكوفة طرف وخصم آخر، فيرسل عمر رضي الله عنه لجنة لتقصي الحقائق، وتذهب هذه اللجنة لا لتسأل أعيان البلد أو خواصهم، الذين يفترض أن الأمير قد يدنيهم إليه، وقد يكسب رضاهم بأي وسيلة وبأي ثمن! لا بل تذهب هذه اللجنة، لتقف في المساجد والأسواق، ويقولون لأهل المساجد: ماذا تقولون في أميركم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه؟ فكلما ذكروه في مسجد أثنوا عليه خيراً، حتى جاءوا إلى مسجد من مساجد بني عبس، فقالوا: ما تقولون في أميركم سعد بن أبي وقاص؟ فسكتوا وأثنوا خيراً فقال رجل، يقال له: أسامة بن قتادة: أما إذ سألتنا فوالله إن أميرنا سعد بن أبي وقاص لا يعدل في القضية، ولا يحكم بالسوية، ولا يسير بالسرية وصفه بالجبن، والظلم، والحيف، وعدم الإنصاف والعياذ بالله، فغضب سعد بن أبي وقاص من ذلك أشد الغضب؛ لأنه يعلم أن هذا الرجل كاذب، فقال: [[اللهم إن كان هذا قام رياءً وسمعة وكذباً، فإني أسألك ثلاثاً: اللهم أطل عمره، وأطل فقره، وعرضه للفتن]] يقول أحد رواة الحديث: فأنا والله قد رأيتُ هذا الرجل شيخاً كبيراً قد عمي، وهو يقف في الأسواق يتعرض للجواري يغازلهن ويغمزهن، وقد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وهو يقول: شيخ كبير مفتون أصابته دعوة سعد، فأنت تلاحظ هاهنا، كيف أن هذا الرجل لم يعرف لـسعد بن أبي وقاص، أنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا بلاءه وجهاده في الإسلام، ولا أنه من أهل الجنة، ولا شيئاً من ذلك، إنما ذكر مثالبه ومعايبه التي هي -في الواقع- كذب وافتراء، وإلا فإن سعداً بريء منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب، ولا شك أن النقد بهذا المعنى محرم، لأنه نوع من الغيبة، والله عز وجل يقول: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [الحجرات:12].

وفي صحيح مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل ما الغيبة؟ فقال: {ذكرك أخاك بما يكره. قال: يا رسول الله أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته}.

وقد ذكر القرطبي رحمه الله، إجماع العلماء على أن الغيبة من كبائر الذنوب، فهي إما أن تكون غيبة بهذا الاعتبار، وذلك كالذين يبحثون عن عيوب الناس ومثالبهم، ويفترض أن هذه العيوب والمثالب موجودة فيهم، فيتكلمون بهم في المجالس ويغتابونهم، ويقعون في أعراضهم، ويبتغون للبرآءِ العيب، فهي غيبة حينئذٍ فإن كانوا أبرياء مما وصفوهم به فهو بهتان وظلم، والله سبحانه وتعالى لا يهدي القوم الظالمين، يقول عز وجل في الحديث القدسي الذي رواه مسلم عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: {يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا} لا يظلم بعضكم بعضاً، وليس دافع هؤلاء بكل حال الإصلاح، لا. ولا تصحيح الأخطاء وإنما دافعهم الحسد والبغي والحقد والظلم، وما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى له العقوبة في الدنيا -مع ما يدخره لصاحبه في الدار الآخرة- من البغي وقطيعة الرحم، كما صح بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

صحيح أن هناك حالات قد يجوز للإنسان فيها أن يغتاب، والقاعدة العامة والضابط العام في مثل هذه الحالات، هي ما إذا كانت مصلحة الغيبة أعظم من مفسدتها، راجحة على مفسدتها، وذلك لأن الغيبة مفسدة ظاهرة في إيذاء الإنسان الذي اغتبته، إيذاءه وظلمه، والحط من قدره فهذه، مفسدة ظاهرة، ولذلك حرم الله تعالى الغيبة.

لكن إذا كان في الغيبة مصلحة أعظم من ذلك، فحينئذٍ تجوز الغيبة، وقد ذكر العلماء ست حالات، بل ذكر بعضهم تسع حالات، قالوا: إنه يجوز فيها أن ينال من الشخص بعينه وبذاته؛ لأن مصلحة الغيبة حينئذٍ راجحة ظاهرة، وذلك كالتحذير من الفساق والتحذير من المنافقين، والتحذير من أهل البدع وغير ذلك.

ما هو الأصل في موضوع النقد من الناحية الشرعية؟

مما يدخل في باب النقد من الناحية الشرعية، أمور:

النصيحة

الأمر الأول: النصيحة فإن النقد هو نوع في حقيقة الأمر من النصيحة، وقد قال الله عز وجل: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ [التوبة:91] فذكر النصيحة لله تعالى، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك النصيحة للمؤمنين.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم، فيما رواه مسلم عن أبي هريرة في حق المسلم على المسلم، قال: {وإذا استنصحك فانصحه} وفي الحديث الثالث، وهو صحيح أيضا: {إن الله يرضى لكم ثلاثاً... وذكر منها: أن تناصحوا من ولاه الله أمركم} والحديث المشهور حديث تميم بن أوس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {الدين النصيحة -ثلاثاً- قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم} بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قال، في الحديث الذي رواه أبو داود بسند حسن، كما يقول الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام، يقول: {المؤمن مرآة أخيه المؤمن} فانظر كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم شبه المؤمن بالمرآة، إذا وقف أمامها الإنسان رأى صورته الحقيقية، بما فيها من حسنات وما فيها من عيوب؟! فإننا نعرف أن المرآة تعكس صورة الشخص بحسنها وقبيحها، وحلوها ومرها، وجيدها ورديئها؛ وذلك لأن الإنسان ربما لا يستطيع أن يعرف نفسه، ولا يرى نفسه جيداً، إلا من خلال رؤيته لنفسه في أخيه المسلم الذي هو مرآة له.

فالعين تبصر فيها ما دنا ونأى ولا ترى نفسها إلا بمرآةِ<

الأمر بالمعروف والنهي والمنكر

الأمر الثاني: موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهو شعيرة عظيمة، ألَّف فيها خلق من أهل العلم كتباً كثيرة، ونصوص هذا الباب أكثر من أن تذكر وأشهر من أن تحصر، منها قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110] وذكر عن المؤمنين: بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة:71] إلى غير ذلك.

وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، لا يعتبرون أن أحداً يُقصر في ذلك، لا أميراً ولا مأموراً، ولا كبيراً ولا صغيراً، ولا يجاملون فيها أحداً قط، وما قصص الصحابة رضي الله عنهم من ذلك بأمر قليل، فإنهم قد انتقدوا على بعضهم بعضاً أموراً كثيرة، كما انتقد علي رضي الله عنه على عثمان أنه نهى عن المتعة في الحج، ولما سمع أنه ينهى عنها، أهلَّ بها علي بأعلى صوته: لبيك عمرةً متمتعاً بها إلى الحجِ، ولم يقُل: هذا أجامله، أو أستحي منه أو أقره؛ لأنه لا يرى أن في هذا حطاً من قدره؛ لأن فيه إحياءً لسنةٍ من سنن النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك لما رأى ابن عباسٍ معاويةَ يستلم أركان البيت كلها، ويقول: ليس شيء من البيت مهجوراً انتقده ابن عباس علانيه، وهو كان له مكانة عالية وأمير، وقال له ابن عباس: [[لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يستلم إلا الركنين]].

ولم ير معاويةَ أن في هذا حطاً من قدره ولا بخساً لمكانته، كما لم ير ابن عباس أن مكانة معاويةَ تمنع من أن يُؤمر بالمعروف ويُنهى عن المنكر، ويُقال له: هذا هو الطريق فالزمه.

محاسبة النفس

كذلك مما يدخل في باب النقد: محاسبة النفس. فإن الإنسان قد ينتقد نفسه دون أن يحتاج إلى غيره، وكذلك الجماعة قد تنتقد نفسها، بل الدولة من الدول، قد تنتقد نفسها، وتجعل هناك مؤسسات وأجهزة، مهمتها المتابعة، والمراقبة والمراجعة، والتصحيح والتعديل، على سبيل الحقيقة لا على سبيل التغطية أو التورية أو التسكيت.كلا، فإننا قد نجد في كثير من الدول، أنها قد تضع مؤسسات للإشراف، أو التفتيش أو المراجعة، لكن تكون مهمة هذه الأشياء مهمةً شكلية، فإن الدولة في الإسلام تجعل هناك مؤسسات وأجهزة، مهمتها مهمة نـزيهة نظيفة حرة مستقلة، تقوم بالمراجعة والتصحيح على الكبير والصغير والمأمور والأمير، دون أن تجد في ذلك حرجاً أو غرابةً، بل هذا هو عين الكمال وعين القوة وعين الصواب.

موقف السلف من محاسبة أنفسهم:

إذاً الفرد والجماعة والدولة والأمة، كلها تراقب نفسها، ولذلك قال عمر رضي الله عنه -كما في سنن الترمذي- قال: [حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غداً عند الله عز وجل، أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتهيئوا للعرض الأكبر يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18]]] والحديث أيضاً رواه ابن أبي الدنيا في كتابه محاسبة النفس والإزراء عليها.

كذلك حنظلة بن الربيع الأسيدي كما في صحيح مسلم جاء إلى أبي بكر رضي الله عنه وهو حزين يبكي، وقال: يا أبا بكر نافق حنظلة -أنا منافق-. قال: وما ذاك؟ قال: أكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم على حال، فإذا ذهبنا منه عافسنا الأولاد والأزواج والضيعات، ونسينا كثيراً.

إذاً: هو انتقد نفسه وحاسبها، حتى اتهم نفسه بالنفاق، وقال أبو بكر: والله إن كلنا كذلك، وجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: {لو تكونون على كل حال كما تكونون عندي، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة}.

إذن الإنسان أول ما ينتقد ينتقد نفسه، وكذلك الفئة والجماعة، والطائفة والأمة والدولة، تنتقد نفسها قبل أن تترك فرصة لينتقدها الآخرون، أو تترك فرصة لاستفحال الأخطاء والأمراض والآفات والمنكرات، بحيث يصعب بعد ذلك تصحيحها أو استدراكها. ورضي الله عن سلف هذه الأمة الكرام، كيف كانوا في صدق عبوديتهم لله عز وجل، وخالص إيمانهم وحرارة تقواهم وصفاء قلوبهم، ومع ذلك كله لم يكن هناك أحدٌ أكثر منهم محاسبةً لأنفسهم، وإننا نجد اليوم من الناس من يكون والغاً في المعاصي والفسوق، ومع ذلك لو أُنكر عليه أو صُحح، لقال: أنا.

أما هم فمع صيام النهار، وقيام الليل، وصدق التعبد، وحرارة التقوى، مع ذلك، اسمع ماذا يقول مطرف بن عبد الله رضي الله عنه وهو من عباد السلف وزهادهم في يوم عرفة، يقول: [[اللهم لا ترد هذا الجمع كله من أجلي]]- رأى الحجاج وما هم فيه من البكاء والابتهال، فأنحى على نفسه، وخشي أن يُرد الحجاج بسببه هو- فقال: [[اللهم لا ترد هذا الجمع كله من أجلي]] ومثله بكر بن عبد الله المزني، يقول: [[لما نظرت إلى أهل عرفات ظننت أن الله غفر لهم لولا أني كنت فيهم]].

يونس بن عبيد رحمه الله، يقول: [[والله إني لأعد مائة خصلةٍ من خصال الخير ما أعلم في نفسي واحدةً منها]] فليس عندهم كبرياء، ولا غطرسة، ولا غرور، وما فيهم أحد يقول: أنا أنا.

يقول ابن أبي مليكة: [[لقد أدركت ثلاثين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ما فيهم واحد إلا يخاف النفاق على نفسه، وما منهم أحد يقول: إن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل وإسرافيل]].

هؤلاء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء هم التابعون لهم بإحسان.

هذا محمد بن واسع يقول - وقد مدحه الناس وأثنوا عليه وهو مريض- قال: [[وما يغني عني ما يقوله الناس، إذا أُخذ بيدي ورجلي وذهب بي إلى النار]].

إذاً مدح الناس وثناؤهم والضجيج الإعلامي، حول فلان من العلماء أو فلان من المسئولين، أو مدح الناس لفلان؛ لأنه مشهور أو معروف، هذا لا يغني عنه شيئاً إذا كان ما بينه وبين الله غير مستقيم، وإذا كان ما بينه وبين الله حسن فلا يضره أن يكون الناس بخلاف ذلك.

وليت الذي بيني وبينك عامر     وبيني وبين العالمين خراب

إذا صح منك الود فالكل هين      وكل الذي فوق التراب تراب

فوائد محاسبة النفس سراً وعلانية:

وقد يحاسب الإنسان نفسه سراً بينه وبين نفسه، فيعاتبها ويوبخها، وهذا لا شك أنه أبعد عن الرياء، وهو يدعو الإنسان إلى أن يتواضع ويعترف بالخطأ، ويراجع نفسه أولاً بأول، وقد يحاسبها علانية وعلى ملأ من الناس، وعلى مرأى ومسمع منهم، وهذا له إيجابية ومنافع كثيرة، منها:

الفائدة الأولى: أنه يعترف بهذا الخطأ لئلا يُتابع عليه، وذلك إذا كان خطأ مشهوراً معروفاً متداولاً عند الناس، فيعلن أنه رجع عنه أو تاب منه؛ لئلا يتابعه الناس عليه، كأن يكون صاحب بدعة تاب منها، فيقول للناس: من كان يعرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا فلان بن فلان، كنت أقول كذا وكذا والآن تبت منه مثل ما قاله أبو الحسن الأشعري في خطبته المعروفة.

الفائدة الثانية: والاعتراف علانية أيضاً من فوائده: أنه يعود الآخرين على ذلك. فإن الناس يحن بعضهم إلى بعض، ويقلد بعضهم بعضاً، فإذا كان العالم أو الحاكم أو الداعية، عود الناس أنه يعترف بالخطأ علانية وأمامهم، يقول: قلت كذا وهذا خطأ، وفعلت كذا وهذا خطأ وأنا أتوب، فإن الناس حينئذٍ يتعودون على أن يعترفوا هم أيضاً بأخطائهم، ويرجعوا عنها، ويحاولوا تصحيحها أولاً بأول.

الفائدة الثالثة: من الاعتراف العلني: أنه يقطع الطريق على خصومك؛ لأنهم قد يأخذوا هذه الأخطاء ويشنعون بها عليك، فإذا اعترفت بها علانية قطعت الطريق عليهم.

الفائدة الرابعة: أنه يضع الإنسان في مكانه الطبيعي، فلا يكون هناك تعصب لفلان من الناس، فإننا نجد -مثلاً- من الطلاب من يتعصب لعالم من العلماء، لماذا؟ لأنه لا يعرف إلا الصواب من أقواله. لكن لو أن هذا العالم قال: أنا أخطأت في كذا وكذا. عرف الناس حينئذٍ أنه ينبغي ألا يتعصبوا، وأن يأخذوا أقواله باعتدال ودراسة ومقارنة ولا يغلوا فيه أو يفرطوا.

وكذلك الحال بالنسبة لغيره، مثلاً: المتنفذ أو المسئول، إذا كان يعترف بخطئه ويتراجع عنه، فإنه بذلك يشجع الناس على أن يوافوه ويواصلوه بالخطأ ويناصحوه، كلما رأوا عليه شيئاً يحتاج إلى مناصحة.




استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 5007 استماع
حديث الهجرة 4966 استماع
تلك الرسل 4144 استماع
الصومال الجريح 4140 استماع
مصير المترفين 4078 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4043 استماع
وقفات مع سورة ق 3969 استماع
مقياس الربح والخسارة 3922 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3862 استماع
التخريج بواسطة المعجم المفهرس 3821 استماع