أرشيف المقالات

الموعظة النافعة

مدة قراءة المادة : 17 دقائق .
الموعظة النافعة
 
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فتقسو القلوب لأسباب كثيرة، فتحتاج إلى من يلينها، ولذلك وسائل عديدة؛ منها: المواعظ؛ فللمواعظ تأثيرٌ في القلوب، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: المواعظ سياط تُضرب بها القلوب، فتؤثر في القلوب كتأثير السياط في البدن، والضرب لا يؤثر بعد انقضائه كتأثيره في حال وجوده؛ لكن يبقى أثر التألم بحسب قوته وضعفه، فكلما قوي الضرب كانت مدة بقاء الألم أكثر.


والموعظة ينبغي أن تشتمل على الترغيب والترهيب، قال العلامة ابن القيم رحمه الله: العظة هي الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب.
 
والموعظة لا تقتصر على المسموع فقط؛ بل تشمل المسموع والمشهود، قال العلامة ابن القيم رحمه الله: والعظة نوعان: عظة بالمسموع، وعظة بالمشهود.
 
فالعظة بالمسموع: الانتفاع بما يسمعه من الهُدى والرشاد والنصائح التي جاءت على يد الرسل، وكذلك الانتفاع بالعظة من كل ناصح ومرشد في مصالح الدين والدنيا.
 
والعظة بالمشهود: الانتفاع بما يراه ويشهده في العالم من مواقع العِبر وأحكام القدر ومجاريه، وما يشاهده من آيات الله الدالة على صدق رسله.
 
والموعظة النافعة هي الخالصة لله: قال محمد بن واسع رحمه الله: إن الذكر إذا خرج من القلب وقع في القلب، وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: المواعظ درياق الذنوب، فلا ينبغي أن يسقي الدرياقَ إلا طبيبٌ حاذق معافى، فأما لديغ الهوى فهو إلى شرب الدرياق أحوج من أن يسقيه لغيره، وقال بعض السلف: إن العالم إذا لم يرد بموعظته وجه الله زلَّت موعظته عن القلوب كما يزل القطر عن الصفا.


قال أبو حفص لأبي عثمان النيسابوري: إذا جلست للناس فكن واعظًا لقلبك ونفسك، ولا يغرنك اجتماعهم عليك، فإنهم يراقبون ظاهرك، والله يراقب باطنك.
 
قال الحسن رحمه الله: عظ الناس بفعلك، ولا تعظهم بقولك.
 
وقال يحيى بن معاذ الرازي:






مواعظ الواعظ لن تقبلا
حتى يعيها قلبه أولا


يا قوم من أظلم من واعظ
خالف ما قد في الملا


أظهر بين الناس إحسانه
وبارز الرحمن لما خلا






 
ومن وعظ فليوجز،كانت عائشة رضي الله عنها تقول لعبيد بن عمير: "يا عبيد بن عمير، إذا وعظت فأوجز؛ فإن كثير الكلام يُنسي بعضُه بعضًا.قال أبو عبدالله: لا أحب أن يمل الناس، ولا يطيل الموعظة إذا وعظ، وقال الحافظ ابن حجر: الواعظ إذا أثر وعظه في السامعين فخشعوا وبكوا، ينبغي أن يخفف لئلا يملوا.
 
وكلما كانت الموعظة بليغة كان ذلك أنفع، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: البلاغة في الموعظة مُستحسنة؛ لأنها أقرب إلى قبول القلوب واستجلابها، والبلاغة: هي التوصل إلى إفهام المعاني المقصودة، وإيصالها إلى قلوب السامعين بأحسن صورة من الألفاظ الدالة عليها، وأفصحها، وأحلاها للأسماع، وأوقعها في القلوب، وكان صلى الله عليه وسلم يقصر خطبه، ولا يطيلها؛ بل كان يبلغ ويوجز.

والواعظ لا يأخذ مالًا على موعظته، فموعظة المال قليلة النفع، إن لم تكن معدومة النفع، دخل بعض الزهاد على المنصور، فقال: إن الله أعطاك الدنيا بأسرها، فاشترِ نفسك ببعضها، واذكر ليلة تبيت في القبر لم تبت قبلها ليلة، فأفحم المنصورَ قولُه، وأمر له بمالٍ، فقال: لو احتجت إلى مالك ما وعظتك.


وليتجنب الواعظ حظوظ النفس: وليحذَر من مداخل الشيطان، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: الواعظ ينبغي له حال وعظه ألا يأتي بكلام فيه تفخيم لنفسه، بل يبالغ في التواضع؛ لأنه أقرب إلى انتفاع من يسمعه.
 
ومن وعظ فليكن بموعظة حسنة: قال الحافظ ابن رجب: القلوب تستجيب إلى الحق بالموعظة الحسنة، ما لا تستجيب بالعنف، لا سيما إذا عم بالموعظة، ولم يخص أحدًا، وإن خصه فإنه يلين له القول، وقال سفيان: ينبغي لمن وعظ أن لا يعنف، ويذكر من يعظه، ويخوفه ما يناسب الحال، وما يحصل به المقصود، ولا يطيل، ولكل مقام مقال، ولكل فن رجال.
 
ولا يعني هذا أنه لا يعظ إلا معصومٌ قال ابن رجب: ولو لم يعظ الناس إلا معصوم من الزلل لم يعظ الناسَ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدٌ؛ لأنه لا عصمة لأحد بعده، قيل للحسن: إن فلانًا لا يعظ، ويقول: أخاف أن أقول ما لا أفعل، فقال: وأينا يفعل ما يقول؟ ودَّ الشيطان أنه قد ظفر بهذا، فلم يأمر أحدٌ بمعروفٍ، ولم ينه عن منكر.

خطب عمر بن عبدالعزيز رحمه الله يومًا، فقال في موعظته: إني أقول هذه المقالة، وما أعلم عند أحد من الذنوب أكثر مما أعلم عندي، فأستغفر الله، وأتوب إليه.


ومن علامات الخير للعبد: أنه إذا وعظ اتعظ وانتفع، قال العلامة عبدالعزيز بن عبدالله ابن باز رحمه الله: التفقه في الدين، والتعلم، وقبول النصائح، وحضور المواعظ والاستفادة منها، والإقبال بالقلب على ذلك من الدلائل على أن الله أراد بالعبد خيرًا، والإعراض عن ذلك من الدلائل على أن الله أراد بالعبد شرًّا، نسأل الله العافية.
 
ومن أراد الانتفاع بالموعظة، فليعمى عن عيوب الواعظ، فالعمى عن عيب الواعظ من شروط تمام الانتفاع بموعظته، كما ذكر ذلك أهل العلم.
 
والبكاء من الموعظة دليلٌ على لين القلب في الغالب، قال العلامة العثيمين رحمه الله: البكَّاء؛ أي: كثير البكاء، والناس في هذا الوصف يختلفون؛ فمنهم من يكون كثير البكاء؛ بحيث لو ذكر عنده أدنى شيء بكى، وأنا أذكر مؤذنًا رحمه الله عندنا إذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله بكى، ولا استطاع أن يكمل الأذان، وبعض الناس يكون عكس ذلك، فيكون قليل البكاء، حتى لو وجدت المواعظ لا يبكي، ولا شك أن البُكاء دليل على لين القلب في الغالب.

لقد كان سلفنا الصالح يعظون، وكانت مواعظهم نافعة مؤثرة.

• قال أبو ذرٍّ رضي الله عنه: يا أيها الناس، إني لكم ناصح، إني عليكم شفيق، صلوا في ظلمة الليل لوحشة القبور، وصوموا في الدنيا لحر يوم النشور، وتصدقوا مخافة يوم عسير، يا أيها الناس، إني لكم ناصح، إني عليكم شفيق.
 
• قال المزني: دخلت على محمد بن إدريس الشافعي عند وفاته، فقلت له: كيف أصبحت يا أبا عبدالله؟ قال: أصبحت من الدنيا راحلًا، وللإخوان مُفارقًا، وعلى الله واردًا، ولكأس المنية شاربًا، ولسوء أعمالي ملاقيًا، فلا أدري نفسي إلى الجنة فأُهنِّيها، أو إلى النار فأُعزِّيها.
 
فقلت: يا أبا عبدالله، رحمك الله عظني، فقال لي: اتق الله، ومثِّل الآخرة في قلبك، واجعل الموت نُصب عينيك، ولا تنس موقفك بين يدي الله عز وجل، وكُن من الله تعالى على وجل، واجتنب محارمه، وأدِّ فرائضه، وكُن مع الحق حيث كان، ولا تستصغرن نعم الله عليك وإن قلَّت، وقابلها بالشكر، وليكن صمتك تفكرًا، وكلامك ذكرًا، ونظرك عبرة، اعف عمن ظلمك، وصل مَن قطعك، وأحسن إلى مَن أساء إليك، واصبر على النائبات، واستعذ بالله من النار بالتقوى.
 
• حج سليمان بن عبدالملك- وهو خليفة- فلما رأى الناس بالموسم قال لعمر بن عبدالعزيز: ألا ترى هذا الخلق الذي لا يحصي عددَهم إلا اللهُ، ولا يسع رزقهم غيره، فقال: يا أمير المؤمنين، هؤلاء رعيتك اليوم، وهم غدًا خصماؤك عند الله، فبكى سليمان بكاءً شديدًا، ثم قال: بالله أستعين.


• قال أحمد الرشيد لأبيه الخليفة الرشيد: إياك أن تموت في سكرتك هذه، فتندم حيث لا ينفع نادمًا ندمُه، واحذر انصرافك من بين يدي الله إلى الدارين، فإن ما أنت فيه، لو دام لغيرك لم يصل إليك، وسيصير إلى غيرك، وقد بلغك أخبار مَن مضى، فقال الرشيد: والله لقد نصحتني يا بني، ثم بكى.


• وعظ عبدالله بن عبدالعزيز العمري الخليفة الرشيد يومًا وهو واقف على الصفا، فقال له: أتنظر حولها-يعني: الكعبة- من الناس؟ فقال الرشيد: كثير، فقال: كل منهم يسأل يوم القيامة عن خاصة نفسه، وأنت تُسأل عنهم، فبكى الرشيد بكاءً كثيرًا، ثم قال له: يا هارون، إن الرجل ليسرف في ماله، فيستحق الحجر عليه، فكيف بمن يسرف في أموال المسلمين كلهم؟! ثم تركه، وانصرف، والرشيد يبكي.

• لما احتضر الواثق، أمر بالبسط فطويت، وألصق خده بالتراب، وجعل يقول: يا من لا يزول ملكه، ارحم من قد زال ملكه.


• قال المأمون عند الموت: رحم الله عبدًا اتعظ، وفكر فيما حتم الله على جميع خلقه من الفناء، فالحمد لله الذي توحَّد بالبقاء، ثم لينظر امرؤ ما كنت فيه من عزِّ الخلافة، هل أغنى عني شيئًا إذ نزل أمر الله بي؟ لا والله؛ لكن أضعف به على الحساب، فيا ليتني لم أكُ شيئًا.

• قال الرشيد للفضيل بن عياض يومًا: ما أزهدك؟ فقال الفضيل: أنت أزهد مني؛ لأني أنا زهدت في الدنيا التي هي أقل من جناح بعوضة، وأنت زهدت في الآخرة التي لا قيمة لها، فأنا زاهد في فانٍ، وأنت أزهد زاهد في الباقي، ومن زهد في درة، أزهد ممن زهد في بعرة.

ووعظه ليلة بمكة فقال له: يا صبيح الوجه، إنك مسؤول عن هؤلاء كلهم، وقد قال تعالى: ﴿ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ ﴾ [البقرة: 166]، فبكى حتى جعل يشهق.

وقدم هارون الرشيد إلى مكة، فدخل عليه الفضيل بن عياض، فقال له هارون: إنما دعوناك لتحدثنا بشيء وتعظنا، فقال: يا حسن الوجه، حساب الخلائق كلهم عليك، فجعل يبكي ويشهق، فردد عليه، وهو يبكي.
 
• دخل ابن السماك يومًا على هارون الرشيد، فاستسقى الرشيد، فأتى بقلة فيها ماء بارد، فقال لابن السماك: عظني، فقال: يا أمير المؤمنين، بكم كنت مشتريًا هذه الشربة لو مُنِعْتَها؟ فقال: بنصف مُلْكي، فقال: اشرب هنيئًا، فلما شرب قال: أرأيت لو مُنِعْتَ خروجها من بدنك، فكم كنت تشتري ذلك؟ قال: بنصف مُلْكي الآخر، فقال: إن ملكًا قيمة نصفه شربة ماء، وقيمة نصفه الآخر بولة، لخليق أن لا يتنافس فيه، فبكى هارون.

وقال له يومًا: إنك تموت وحدك، وتدخل القبر وحدك، وتبعث منه وحدك، فاحذر المقام بين يدي الله عز وجل، والوقوف بين الجنة والنار حين تزل القدم، ويقع الندم، فلا تقبل توبة، ولا عثرة تقال، ولا يقبل فداء بمال، فجعل الرشيد يبكي حتى علا صوته.

ودخل يومًا على الرشيد، فقال له: إن لك بين يدي الله مقامًا، وإن لك من مقامك منصرفًا، فانظر إلى أين منصرفك إلى الجنة أم النار؟ فبكى الرشيد.

• قال الفضيل: استدعاني الرشيد يومًا، وقد زخرف منازله، وأكثر الطعام والشراب فيها، ثم استدعى أبا العتاهية، فقال له: صف لنا ما نحن فيه من العيش والنعيم، فقال:






عش ما بدا لك سالِمًا
في ظل شاهقة القصور


تسعى عليك بما اشتهي
ت لدى الروائح إلى البكور


فهناك تعلم موقنًا
ما كنت إلا في غرور







فبكى الرشيد بكاءً كثيرًا شديدًا.

وقال يومًا لأبي العتاهية: عظني بأبيات من الشعر وأوجز، فقال:






لا تأمن الموت في طرفٍ ولا نفسٍ
ولو تمتعت بالحجاب والحرسِ


واعلم أن سهام الموت صائبةٌ
لكل مدرع منها ومترسِ


ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها
إن السفينةَ لا تجري على اليبسِ






 
• دخل صالح المري إلى عبيدالله ابن الحسن العنبري- وكان قاضي البصرة وأميرها- يعزيه عن أمه، فقال له: إن كانت مصيبتك بأمك ما أحدثت لك عبرة في نفسك، فمصيبتك بنفسك أعظم من مصيبتك بأمك.
 
• قال إبراهيم بن أدهم: إياكم والكبر، إياكم والإعجاب بالأعمال، انظروا إلى من دونكم، ولا تنظروا إلى من فوقكم، من ذلل نفسه رفعه مولاه، ومن خضع له أعزه، ومن اتقاه وقاه، ومن أطاعه أنجاه، ومن أقبل أرضاه، ومن توكل عليه كفاه، ومن سأله أعطاه، ومن أقرضه قضاه، ومن شكر جازاه، فينبغي للعبد أن يزن نفسه قبل أن يُوزَن، ويحاسب نفسه قبل أن يُحاسَب، ويتزين ويتهيَّأ للعرض على الله العلي الأكبر.
 
اشغلوا قلوبكم بالخوف من الله، وأبدانكم بالدأب في طاعة الله، ووجوهكم بالحياء من الله، وألسنتكم بذكر الله، وغضوا أبصاركم عن محارم الله.
 
• القاضي البلوطي دخل على عبدالرحمن الأموي، وقد بُني له قصر عظيم منيف، وقد زخرف بأنواع الدهانات، وكُسي الستور، وجلس عنده رؤوس دولته يثنون على ذلك البناء ويمدحونه، والقاضي ساكت لا يتكلم، فالتفت إليه الملك وقال: ما تقول أنت؟ فبكى القاضي، وانحدرت دموعه على لحيته، وقال: ما كنت أظنُّ أن الشيطان أخزاه الله يبلغ منك هذا المبلغ المفضح، المهتك، المهلك لصاحبه في الدنيا والآخرة، ولا أنك تمكنه من قيادتك مع ما أتاك الله، وفضلك به على كثير من الناس حتى أنزلك منازل الكافرين والفاسقين، قال الله تعالى: ﴿ وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ﴾ [الزخرف: 33]، فوجم الملك عند ذلك، وبكى، وقال: جزاك الله خيرًا، وأكثر من المسلمين مثلك.


• وعظ الإمام ابن الجوزي الخليفة المستضيء قال: يا أمير المؤمنين، إن تكلمت خفت منك، وإن سكت خفت عليك، وإن قول القائل لك: اتق الله، خيرٌ لك من قوله: إنكم أهل بيت مغفور لكم، كان عمر بن الخطاب يقول: إذا بلغني عن عامل لي أنه ظلم، فلم أغيره فأنا الظالم، يا أمير المؤمنين، كان يوسف لا يشبع في زمن القحط حتى لا ينسى الجائع، وكان عمر يضرب بطنه عام الرمادة ويقول: قَرْقِرْ أو لا تُقَرْقِرْ، والله لا ذاق عمر سمنًا ولاسمينًا حتى يُخْصِبَ الناسُ، فبكى المستضيء، وتصدق بمال كثير.

• كتب سفيان برسالة إلى أخ له قال فيها: أوصيك وإياي بتقوى الله، وأحذرك أن تجهل بعد إذ علمت، وتهلك إذ أبصرت، وتدع الطريق بعد إذ وضح لك، وتغتر بأهل الدنيا بطلبهم لها، وحرصهم عليها، وجمعهم لها، فإن الهول شديد، والخطر عظيم، والأمر قريب، ثم الجد الجد، والهرب الهرب، وارتحل إلى الآخرة قبل أن يرتحل بك.
 
• قال العلامة ابن القيم: أكثر أصحاب القبور معذبون، والفائز منهم قليل، فظواهر القبور تراب وبواطنها حسرات وعذاب، ظواهرها بالتراب والحجارة المنقوشة مبينات، وفي باطنها الدواهي والبِليَّات تغلي بالحسرات، كما تغلي القدور بما فيها، ويحق لها، وقد حيل بينها وبين شهواتها وأمانيها، تالله لقد وعظت، فما تركت لواعظ مقالًا، ونادت: يا عمار الدنيا، لقد أعمرتم دارًا موشكة بكم زوالًا، وخربتم دارًا أنتم مسرعون إليها انتقالًا، عمرتم بيوتًا لغيركم منافعها وسكناها، خربتم بيوتًا ليس لكم مساكن سواها.

وقال: أكثر الخلق لا ينظرون في المراد من إيجادهم وإخراجهم إلى هذه الدار، ولا يتفكرون في قلة مقامهم في دار الغرور، ولا في رحيلهم وانتقالهم عنها، ولا أين يرحلون وأين يستقرون، قد شملتهم الغفلة، وغرتهم الأماني التي هي كالسراب، وخدعهم طول الأمل، فكأن المقيم لا يرحل، وكأن أحدهم لا يُبعَث ولا يُسأل، وكأن مع كل مقيم توقيع من الله لفلان بن فلان بالأمان من عذابه، والفوز بجزيل ثوابه.

يسعون لما لا يدركون، ويتركون ما هم به مطالبون، ويعمرون ما هم عنه منتقلون، ويخربون ما هم إليه صائرون.

والعجب كل العجب من غفلة من تُعد لحظاته، وتُحصى عليه أنفاسه، ومطايا الليل والنهار تسرع به، ولا يتفكر إلى أين يُحمل، ولا إلى أي منزل يُنقل.

وإذا نزل بأحدهم الموت قلق لخراب ذاته، وذهاب لذاته، لا لما سبق من جناياته، ولا لسوء منقلبه بعد مماته، فإن خطرت على قلب أحدهم خطرة من ذلك، اعتمد على العفو والرحمة، كأنه يتيقَّن أن ذلك نصيبه ولا بد.

فلو أن العاقل أحضر ذهنه، واستحضر عقله، وسار بفكره، وأنعم النظر وتأمل الآيات؛ لفهم المراد من إيجاده، ولنظرت عين الراحل إلى الطريق، ولأخذ المسافر في التزود، والمريض في التداوي، والحازم يعد لما يجوز أن يأتي، فما الظن بأمر متيقن؟!

وختامًا، فقد بلغ من حرص السلف الصالح أن يطلبوا من غيرهم أن يعظهم إذا رأى منهم أمرًا يتطلب الموعظة، قال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله لمزاحم مولاه: قد جعلتك عينًا عليَّ، إن رأيت مني شيئًا فعظني، ونبهني عليه.
 
رحم الله سلف هذه الأمة، ووفقنا اللهم للاقتداء بهم.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣