خطب ومحاضرات
حياة القلوب
الحلقة مفرغة
إنها بحق قصة الغواية الكبرى، والأماني الكاذبة، يعترف بها كبيرهم، متنصلاً بذلك عن تحمل تبعات تلك الرزية، ومصرّحاً بالندم والتوبة لكن ساعة لا مندم، فليس إلا التحمل يوم لا يجدي التنصل، فأنت الآن في زنزانة دفع الثمن، وليس إلا الحسرة في ساعة العسرة، فليبك التابع والمتبوع، خصوصاً وقد فاز أهل الصبر بالمطلوب.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه.
أما بعد:
إخواني في الله: اللسان نعمة من الله تبارك وتعالى على العبد، وهذه النعمة تستوجب من العبد أن يشكرها لا أن يكفرها، وأن يسخرها في محبة ربها ومولاها سبحانه وتعالى، ويكون ذلك باستغراقها في ذكر وشكر يرضي الله عز وجل، فإذا كان الإنسان قد أراد الله عز وجل له التوفيق ألهمه استدامة الذكر، ولذلك من ذكر الله كان في حصن حصين من عدوه وهو إبليس لعنه الله، والعكس بالعكس.
ولن تجد الإنسان قد انشرح قلبه واطمأن فؤاده، وأصبحت نفسه طيبة مطمئنة إلا وجدته محافظاً على ذكر الله عز وجل، والعكس بالعكس، فالذين يكثرون الكلام في فضول ولغط الدنيا غالباً ما تجدهم قد قست قلوبهم، وكذلك تجدهم في بعد وغفلة عن آخرتهم، ولذلك نصح العلماء رحمهم الله باغتنام الحديث فيما يرضي الله عز وجل، وحذر العلماء والأخيار من فتنة القول التي توجب قسوة القلب.
فالمقصود: أن الإنسان إذا كان مبتلىً بكثرة الحديث في لغط الدنيا ننظر في الأسباب، الأمر الأول: أحياناً يكون السبب القرناء الذين تجلس معهم، فإذا كان القرناء الذين يجلس معهم الإنسان أقوام شغلتهم الدنيا عن الآخرة، وألهتهم فضول الدنيا عن الآخرة، وعن التجارة الرابحة مع الله تبارك وتعالى، فالعلاج أن تلتمس قرناء أخيار أهل ذكر وشكر وعبادة وطاعة وإنابة إلى الله عز وجل، هذا إذا كان السبب الخلطاء، وهذا هو من أعظم الأسباب: القرناء.
الأمر الثاني: قد يكون السبب ضعف الإيمان في القلب، فإن الإنسان إذا ضعف إيمانه اتجه إلى ما هو ضد ذلك، وهو فضول أحاديث الدنيا، والاشتغال بلغط هذه الأحاديث التي قد تنتهي به إلى ما لا تحمد عقباه.
الأمر الثالث: هذا الضعف -ضعف الإيمان- علاجه: أخذ الأسباب التي تعين على قوة الإيمان بدرجة يكثر فيها ذكر العبد لربه، وكذلك اغتنامه للسانه في طاعة الله عز وجل، قد أفلح والله من رزقه الله لساناً ذاكراً، وأفلح والله من رزقه الله لساناً شاكراً، وما الذي يجنيه الإنسان من هذه الحروف والكلمات، إما كلمة له وإما كلمة عليه، كلمة تسره إذا لقي الله عز وجل، ويبيض بها وجهه، ويثقل بها ميزانه، وتنصع بها صحيفة عمله عند ربه يوم القيامة، فالإنسان يحافظ على أن يكون من أهل ذكر الله عز وجل، ويحافظ على مرتبة السلامة وهي الصمت، فإذا لم يجد من يعينه على ذكر الله يقتصر على الصمت.
الحلم زين والسكوت سلامـة فإذا نطقت فلا تكن مهذارا
ما إن ندمت على السكوت بمرة ولقد ندمت على الكلام مرارا
والكلمة إذا خرجت من الفم لن تعود أبداً، فهي إما للإنسان وإما عليه، وقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه يمسك بلسان نفسه ويقول: [هذا الذي أوردني الموارد] كم كلمة تلفظت بها فاشتريت بها رحمة الله، وكم كلمة تلفظ بها العبد أوجبت سخط الله وغضبه، وقد قال عليه الصلاة والسلام في هذا المعنى: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يكتب الله له بها رضاه إلى يوم يلقاه) تتكلم بكلمة واحدة تثني بها على الله عز وجل.
كنت جالساً لوحدك فتذكرت آلاء الله عز وجل، وقلت: كنت محروماً فأعطاني الله، وضعيفاً فقواني الله، وجاهلاً فعلمني الله، وخائفاً فأمنني الله وكنت وكنت .. هذا الكلام التي تتلفظه وتثني به على الله عز وجل يكتب الله لك به الرضا، وقد تكون هذه الحروف تلفظها وتتكلم بها لا تلقي لها بالاً تصعد إلى السماء، هذا الكلام اليسير الذي تثني به على العلي الكبير يصعد إلى الله: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10] تصعد فتفتح لها أبواب السماء، لكي تنتهي إلى ذلك المكان الذي شاء الله أن تنتهي إليه، لماذا؟ لأنها كلام يحبه الله ويرضاه.
والعكس بالعكس -والعياذ بالله- قد يتكلم الإنسان بالكلمة لا يلقي لها بالاً يكون فيها غيبة، أو نميمة، أو لمز، أو انتقاص للناس، يهوي بها في سفال -والعياذ بالله- وليأتين عليه يومٌ يتمنى فيه أن أمه لم تلده حتى لا يتكلم بتلك الكلمة.
والعبد قد ينجو بكلمة صالحة، وقد يهلك بكلمة طالحة، ينصب للعبد ميزانه وينشر له ديوانه ويقال: هات ما عندك من صلاح وطلاح، فيأتي بأعماله الصالحة لكي توزن، ويأتي بأعماله السيئة لكي توزن، فتستوي كفة الحسنات والسيئات، وتأتي تسبيحة واحدة أو تحميدة أو استغفارة توجب نجاته من عرصات يوم القيامة وهي كلمة واحدة.
فالمقصود: أن العبد إذا تكلم أو كان في مجلس أن يحرص على أحد أمرين: إما أن تكون من أهل الكمال -رحمك الله- بالكلام الطيب، والتذكير بالله عز وجل، وتقريب القلوب إلى الله عز وجل، أو على الأقل تكون صامتاً وهو حال أهل السلامة، قال عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) ولذلك قال بعض السلف: [من علم أن الله يسأله عن كلام فيه؛ قَلَّ قوله إلا فيما يعنيه] من علم أن الله سيسأله عن قول فيه، يعني: الكلام الذي تكلمه بفمه، قلَّ كلامه إلا فيما يعنيه.
ولذلك كان السلف الصالح رحمهم الله حريصين على عدم كثرة الكلام، والثرثرة فيما لا يرضي، خاصة إذا كانت فيما لا يرضي الله عز وجل، الآن بعض الشباب الأخيار يصلون ويخرجون من تلك البيوت الطاهرة ثم نزل بهم القدم إلى الوقوع في ذلك، فأنت إذا صليت في مسجد من المساجد تخرج بانشراح عجيب، وطمأنينة غريبة، حتى إذا جلست المجلس ونطقت بكلمة واحدة من غضب الله وإذا بالقلب يضنك، وإذا بذلك الانشراح يخلفه انقباض، وذلك النور تعقبه الظلمة، فإذا بالقلب قد تغير، وإذا بالنفس التي كانت مطمئنة متلهفة على طاعة الله إذا بها على العكس أو الضد من ذلك والعياذ بالله.
فالمقصود: لا بد من مراقبة اللسان والكلام الذي يتفوه به، فهذا من علامة السعادة والتوفيق -جعلنا الله وإياكم من أصحابها- ولذلك ذكروا عن بعض السلف أنه كان يحصي عدد الكلمات التي يتكلم بها من الجمعة إلى الجمعة، ولذلك يقول بعض الفضلاء: لو أن إنساناً جرب يوماً من الأيام أن يكتب بعض كلامه لأخذ صفحات كثيرة، فكيف بكل الكلام.
فالمقصود: أنه ينبغي الحذر من هذا، ونسأل الله عز وجل أن يرزقنا وإياكم لساناً ذاكراً، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.
شرح حديث: (لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة )
الجواب: لكل عمل شرة: الإنسان إذا أقبل على العمل الصالح والطاعة وجد في نفسه -خاصة في بدايته- أنه شره، وأنه يريد أن يستغرق الطاعة بكل ما يستطيع، وهذا من نعم الله تبارك وتعالى، فالخير دائم إليه، ومحبب إلى القلوب والنفوس، ففي البداية تجد أنك تريد أن تقبل على الخير بكليتك، وهذا أمر موجود، تجد بعض الشباب إذا ابتدأ الهداية يود أن جميع حركاته وسكناته في طاعة ومرضاة الله من لذة وحلاوة الإيمان التي خالطت بشاشة قلبه.
لكن هذه الشرة لها فترة تعقبها أحوال، بمعنى: يضعف فيها الإيمان، ويضعف فيها القلب عن محبة الرحمن، وهذه سنة من الله عز وجل له فيها الحكمة البالغة، أحياناً تجد من نفسك في بداية شهر رمضان أنك لو استغللت كل لحظة وثانية من هذا الشهر في محبة الله عز وجل، هذا كمثال بسيط كنا فيه منذ أيام قليلة، فلما دخل الإنسان ونافس في الأيام الأولى والثانية والثالثة فألف الطاعة، فتأتيه الفترة، هذه الفترة لله فيها حكم، من الحكم: أنه يظهر فيها صدق الصادق، بعض الناس إذا جاءته الفترة استمسك، وأصبح في ابتهال ودعاء وإنابة إلى الله عز وجل، وخوف أن يسلب منه ذلك العمل الصالح، وهؤلاء هم الأخيار، وهم أعلى الناس مقاماً في العمل الصالح، وتجده يتألم، يكون محافظاً على قيام الليل والنوافل والطاعات، حتى إذا أصبح منه -ولو شيئاً يسيراً- من التقصير في أمور ليست بالواجبة يتألم ويضجر، ويحس أنه قد فقد حياته؛ لأنه من حياة قلبه يحس أن مصيبته كل المصيبة دينه، وأنه إذا أصيب بنقص في دينه أنها هي الخسارة، عبد طائع منيب لله يحس أنه ينبغي أن تستغل الحركات والسكنات والأوقات في محبة الله.
هذه الحلاوة إذا جاءت في بداية العمل لا بد من وجود ضعف بعدها؛ لأنه لو كان الإنسان دائماً في طاعة واستقامة فإنه قد يخرج عن الحد المألوف، وقد يتجاوز إلى مقام التنطع والغلو في الدين، ولكن الله يبتلي العبد بنوع من الضعف، ويكون لهذا الضعف حكمة بحيث يشوق بعد ذلك إلى الخير أكثر، فبعض الأخيار يكون -مثلاً- على طاعة، ثم يسلب الطاعة، فتأتيه فترة، فإذا جاءته الفترة والضعف استمسك بالفرائض، لكن عنده شوق إلى العمل الصالح، فلو عاد للعمل الصالح مرة ثانية يعود أكثر شوقاً وأكثر حرصاً.
ولذلك ينبغي للإنسان أن يحسن الظن بالله عز وجل إذا سلب أي شيء من الطاعة، وأن يدمن سؤال الله عز وجل أن يعيدها إليه، والله تعالى أعلم.
كيفية التأثر بالقرآن
الجواب: أما التأثر بالقرآن، ووجود نفعه في القلوب، وحياة الإنسان، فهذه منحة من الله عز وجل يختص بها من شاء.
القرآن له رجال، وله صفوة اختارهم الله عز وجل له، فهم أهل القرآن العالمون به العاملون بأحكامه وشرائعه -جعلنا الله وإياكم منهم- والله ما دخلت محبة القرآن إلى قلب عبد فأعقبها تطبيق هذا القرآن إلا كان أشد الناس تأثراً به، وإن من دلائل السعادة والإيمان الحقة محبة القرآن، ومحبة سماعه وتلاوته والحياة، والعيش معه، هذا هو الذي سعد به السلف الصالح، ونالوا به مراتب الفوز والكرامة، وأذاقهم الله به حلاوة الإيمان، فعاشوا عيشة طيبة هنيئة راضية، ما بين ذكر وشكر، وكلام مستقيم، وفعل قويم، كل ذلك حينما كانوا مع القرآن.
من كان مع القرآن كان الله معه، ومن عاش مع القرآن أحيا الله قلبه بالقرآن، وما حييت القلوب بشيء مثل القرآن، ولا استنارت ولا أشرقت بشيء مثل كلام الرحمن، وإذا لم تسعد القلوب للقرآن فلأي شيء ترتاح، وإذا لم تهتد بالقرآن فبأي شيء تهتدي؟ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:185] .. فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ [الجاثـية:6] أي حديث هذا؟ القرآن الذي هو الآية العظمى، والهداية الكبرى، والمنحة الجليلة من الله، هدىً وأي هدى.
هذا القرآن ما عرفنا قدره؛ ولذلك لما عرف قدره السلف الصالح رحمهم الله اكتحلوا السهر، فباتوا مع القرآن، وظمئوا الهواجر وهم يتلون القرآن، ما وجدوا فترة ولا ضعفاً ولا خوراً مع القرآن، وكان الواحد منهم من مجلس قرآن إلى مجلس قرآن، يجلس في بيته يتلو القرآن، حتى إذا خرج للناس قضى حوائجه فإن وجد الغفلة من الناس تلا القرآن، بل أعرف أخياراً إلى عهد قريب والله يمشون في السوق وألسنتهم تلهج بتلاوة القرآن.
هذا القرآن من عاش معه حيي مع السعادة، وعاش والله الحياة الطيبة المباركة، جرب وحافظ على تلاوة القرآن، فتالي القرآن لا يعرف قسوة القلب، وإحياء الليل بالقرآن يلين القلب، وإن كان في البداية وجد قسوة القلب بعد فترة والله يلين قلبه، هذا القرآن لا يمكن أن تبقى معه قسوة، قال تعالى: كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:23] يعني: القرآن هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ [الزمر:23] فلذلك إذا عشت وحييت مع القرآن والله أصبت الحياة الطيبة.
ولما كانت هذه الحياة عزيزة، فهي لا تكون حياة طيبة إلا إذا استجمعت صفة واحدة، يعني: لن تكون حياتك مع القرآن كاملة إلا استجمعت صفة وعقب هذه الصفة أثر، ما هي الصفة؟ الصفة: التأثر بالقرآن، أن تقف مع كل آية من القرآن .. بل تقف مع كل كلمة، تقف معه لكي تتدبره وتتأمله كما نزل رحمك الله، وهذا الكتاب ما نزل من فوق سبع سماوات إلا لكي نقف معه المواقف الصادقة، ونتدبره ونتأمله ونجد فيه الذكرى، قال تعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص:29].
كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [ص:29] هذا أول شيء التدبر، ثم بعد ذلك وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص:29] فهناك ثلاث مراحل: اقرأ القرآن، وأثناء القراءة تدبر، ثم بعد التدبر يأتيك أثر يسمى الذكرى، فإذا جاءت الذكرى جاء لها أثر ثالث وهو العمل الصالح سواء كان قولاً أو فعلاً، خذ سورة من القرآن اقرأها، ثم قف مع الكلمة الأولى والثانية، والسطر الأول والثاني موقف المتأمل المتدبر، سرعان ما تمضي لحظات يسيرة تلامس فيها هذه الآيات القليلة شغاف قلبك، وتلامس هذه الحروف والكلمات فؤادك وروحك، وإذا بك بعد هذا التدبر تحس أنك وجدت أثراً.
ولذلك تجد بعض الأخيار الصالحين إذا تلا القرآن أو الآية أحياناً لا يستطيع أن يكملها، يقف فيتأثر فما يستطيع أن يكمل، وبعضهم تغرورق عينه من الدمع، وبعضهم يبكي ويجهش بالبكاء، هذا من أثر التدبر، والتدبر يكون أثناء القراءة أو السماع قال تعالى: وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ [المائدة:83] ثم قال تعالى: مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ [المائدة:83] (من) سببية كقوله تعالى: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ [نوح:25] أي: بسبب خطيئاتهم، فقوله تعالى: مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ [المائدة:83] معناها: أن إفاضة العين بالدمع كانت بسبب معرفة الحق.
إذاً: إذا وجد السماع مع المعرفة التي تكون عن طريق التدبر والتأمل تأتي الذكرى، وترى بعدها عجباً عجاباً، إذا دخلت الآية إلى القلب واستقرت فيه لا بد لها من أثر، وكونك تشكي أنك لا تجد الأثر فإن هذا أمر لا بد له من أسباب، لكن ما من إنسان يقرأ ويجمع هذه الثلاثة الأمور: القراءة مع التدبر، والتهيؤ للذكرى، للعمل، إلا وجد أثر القرآن، ما من آية من كتاب الله تقرأها وتتدبر فيها، وتدخل إلى سويداء قلبك .. والله لن تصنع ذلك إلا بقيت في قلبك ما شاء الله أن تبقى.
ولذلك العبد الصالح يقرأ القرآن، وإذا به ينجو من السيئات بالقرآن، وكيف هذا؟ مثلاً: قرأ سورة، خذ من أيسر السور مثلاً سورة القارعة: الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ * فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ [القارعة:1-11] قرأ هذه السورة الكريمة، فعلم نهاية الدنيا، وانتهاء كل شيء فيها، من جبال تسير كالعهن المنفوش، ثم علم أن العاقبة ميزان حسنات أو سيئات، ثقل بحسنات أو ثقل بسيئات، ثم رأى منظرين: عيشة راضية، ونار حامية؛ فلما علم هذا دخلت قلبه.
هذه الآيات لما تدخل القلب ثم تأتي المعصية لن تجد مع هذه الآيات مكاناً في القلب، وإذا جاء داعي الهوى وهذه الآيات في القلب لن يجد مكاناً معها، فسرعان ما تجده يمتنع من محارم وحدود الله بآيات من القرآن، بعض الأخيار تأتيه الشهوة، ويأتيه موقف من المواقف العصيبة التي يمتحن بها في دينه، والله تردعه آية واحدة من كتاب الله عز وجل، تردعه آية في ذكر الجنة، أو النار، أو العرض، أو الحساب، أو الميزان .. قرأ هذه الآية منذ أمد، فجاءته الشهوة وتزينت له وتجملت، فتحركت هذه الشهوة ودخلت إلى القلب، فلما دخلت القلب جاءت تحرك الآيات الموجودة فيه، فجاءه ذكر تلك الآيات، فتذكر آيات الصحف: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً [الانشقاق:7-9] فإذا بلذة الآخرة تنسيه لذة الدنيا، وإذا بعظة الآخرة تصرفه عن عظة الدنيا، وإذا بالإنسان قد اتجه إلى الله عز وجل.
فالمقصود: لماذا نقرأ ولا نجد الأثر؟!
لأننا ما جمعنا هذه الثلاث الصفات: قراءة مع التدبر، مع الأثر الذي يعقب التدبر. إذاً: ما هو العلاج؟ العلاج إذا نظرت إلى أي آية في كتاب الله انظر إليها نظرة المتفكر والمتدبر، انظر إليها وأنت تحس أن الله يخاطبك بها، المشكلة أننا نقرأ القرآن ونظن أنه يخاطب به غيرنا، السلف الصالح رحمهم الله يقرءون القرآن بقلوب ترى كأنها هي التي تعاتب، وكأنها هي التي فعلت وأسرفت، يقرأ صفات في النكال والعذاب يحس أنه من أصحابها، ويقرأ صفات في النعيم والخير يحس أنه ليس من أهلها؛ وهذا من احتقار النفس في جنب الله.
ولكننا على العكس: نقرأ آيات في ذكر النار فنحملها على غيرنا، ونقرأ آيات في ذكر الجنان فنعد أننا قد قطعت لنا تلك المنازل، فرق كبير، قال بعض السلف: [والله ما عرضت نفسي على القرآن إلا عددت نفسي من الراسخين في النفاق] ليس منافقاً فقط، بل من الراسخين في النفاق، هكذا كانت حياة السلف رحمهم الله، كانوا يقرءون القرآن بقلوب حية تتفاعل مع هذا الكتاب المبارك.
فاقرأ وتأمل، واعرض نفسك وعملك وأقولك وأفعالك على القرآن، سرعان ما تعيش معه.
ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا وإياكم حلاوته وتلاوته، وأن يجعلنا وإياكم من المهتدين المرحومين به، والله تعالى أعلم.
سبل التخلص من الذنوب التي يصعب على النفس تركها
وآخر يقول: كيف أخلص نفسي من تعلقي بمعصية وشهوات كثيراً ما بكيت منها ولا أستطيع تركها، أرشدوني أثابكم الله؟
الجواب: يقول الله عز وجل بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى [النازعات:40].
أخي في الله: هو طريق واحد، إما أن ينتهي إلى الجنة أو إلى النار، والله تعالى بين أنك لن تنجو ولن ينجو عبد من النار إلا بأمرين: أحدهما يتركب من الآخر، ما هما الأمران؟ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ [النازعات:40] يتركب على الخوف من المقام والموقف بين يدي الله وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى [النازعات:40] ما هي النتيجة؟ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:41] هذا هو الطريق الوحيد الذي تنجو به من عذاب الله وسخط الله.
يا هذا! الأيام مراحل تطوى بك لكي تقربك إلى الله عز وجل، كل يوم تصبح فيه فتأتيك دواعي المعاصي، تذكر يا أخي ما هذا اليوم؟ هذا اليوم خطوة إلى الله عز وجل .. خطوة تقربك إلى الله سبحانه وتعالى .. خطوة تدنيك من الله عز وجل، إذا كانت الأيام والليالي لا تزيد العبد صلاحاً فوالله لا خير في العيش، لماذا نطلب الحياة، ونطمع فيها؟ والله والله لقد تنكد العيش، ولم يعد للعبد أمل في العيش إلا أن يزاد فقط له من الحسنات، والله ثم والله ثم والله! لو علم العبد أن الحياة لا تزيده من الله قرباً لسأل الله الموت؛ لأنه لا ينجو، الحياة ملئت بالفتن وبالمعاصي وبالمحن، كلما وقف الإنسان في سبيله إلى الله جاءته هذه الفتن والمحن من كل حدب وصوب، من القريب والبعيد، ممن يعرف وممن لا يعرف.
إذاً أخي في الله! هو طريق واحد: طريق الناجين، ووالله لا نجاة في غيره أبداً، طريق واحد، قال تعالى: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] .. فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً [النساء:69].
فلذلك أخي في الله! هذه المعصية كل يوم تصبح فيه تفكر وانظر، أولاً: أدعوك أن تقطعها بالكلية، أصبحت اليوم فجاءك الشيطان يحدثك بهذه المعصية فاجتهد وجاهد أن تترك هذه المعصية لله عز وجل.
وأوصيك بأمور وبوصايا: الأمر الأول: إذا أصبحت فاعتبر كأنه آخر يوم لك من الدنيا، ووالله لا أضمن أن أقوم من مجلسي هذا، وليس أن أنتظر الصباح، لا أحد يضمن، الإنسان لا يضمن نفسه في طرفة عين.
بينما امرؤ بين يديك حيا إذ صرت لا تبصر منه شيئا
في طرفة عين فقط، تأتي -سبحان لله!- إلى البيت الصباح تخرج منه ترى جارك، يمكن أحياناً ساعات وإذا بصراخ وعويل، ماذا هناك؟ فلان مات، حادث أو ما شابه، إنا لله وإنا إليه راجعون، ما يملك أحد لأحد من الله شيئاً.
إذاً: هذه الحياة مطايا تقربنا من الله عز وجل، إذا أصبحت أول شيء تحدث نفسك كأنه آخر يوم عهدك من الدنيا، فإذا استطعت أن تترك المعصية بالكلية فوالله قد فزت، استعن بالله ثم بالدعاء، أكثر من الدعاء، كذلك أيضاً ذكر الله عز وجل حتى تكون في الحصن الحصين، الفرار إلى الأخيار، إلى مجالس الذكر، تستجمع هذه الأسباب في يومك ذلك.
ابتعد ما استطعت أن تبتعد، ولا أظن إن شاء الله إذا فعلت هذه الأسباب إلا وسيوفقك الله عز وجل، ولا تستلم، المشكلة أن الإنسان إذا اعتقد أنه ضعيف خذله الله عز وجل، لكن إذا اعتقد أنه قوي بإذن الله، وأحسن الظن بالله يوفق.
الأمر الثاني: إذا كان لا سمح الله ما استطاع الإنسان أن يكبح جماح الشهوة، فما هو الحل؟ يحاول أن يقلل منها، حولها من معصيتين إلأى واحدة، وإذا كانت أربع إلى اثنتين، قدر ما يستطيع، فإن تقليل المعصية جزء من التوبة إلى الله عز وجل، ويعتبر جزء إنابة إلى الله سبحانه وتعالى، تخفف من المعصية.
الأمر الثالث: انظر إلى الأسباب التي تحرك المعصية، إن كان النظر اكسر النظر بخشية الله وارمه في الأرض، وإن كان الخلوة لا تجلس لوحدك، بعض المعاصي تتحرك بالخلوة، يختلي الإنسان فيقوى سلطان الشيطان عليه فيتحرك لفعلها، إن كان مثلاً النظر إلى أشياء أو سماع أشياء لا تستمع، المهم تتعاطى الأسباب التي تعينك على البعد من هذه المعصية، وجماع الخير: أن تتذكر أنك إلى الله عز وجل صائر، وأنك ستسأل عن هذه الروح التي أنفقت لياليها وساعاتها في معاصي الله عز وجل.
ثم سل النفس: ما الذي جنيته؟ كم من شهوات أصابها العاصي ما هي النتيجة؟ ما هي الثمرة؟ وكم من رحمات أصابها المطيع فماذا بقي من تعبه؟ بالأمس القريب كنا في رمضان، كان هناك صيام وقيام وعناء في طاعة الله، ما الذي بقي من التعب؟ ذهب النصب والتعب وثبت الأجر إن شاء الله، فلذلك الواجب على الإنسان أن يعزي نفسه ويسليها بذلك، وأسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم ممن خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى [النازعات:40] ولذلك يقول بعض العلماء: إن في هذه الآية دليل على أن العبد إذا تحركت نفسه إلى المعصية، وكان يستدمن الخوف من الله عز وجل فإنه غالباً ينجو منها؛ لأن الخوف من الله أثره ترك الهوى، والمعصية مما تهواه النفوس وتميل إليه.
فلذلك علاج ترك المعاصي والطريق الأمثل: الخوف من الله، ولذلك أكثر من ذكر الله عز وجل، واعرف من هو الله الذي تريد أن تعصيه، وبإذن الله عز وجل سيكون ذلك أعظم زاجر لك عن معصية الله، والله تعالى أعلم.
مراتب الكياسة وكيف تكتسب
الجواب: أما بلوغ درجة الكمال في الكياسة فهذه منحة ربانية، وعطية إلهية يمنحها سبحانه وتعالى لقلوب تعرفه، وجوارح تتعبده، الإنابة إلى الله عز وجل إلى درجة يكون الإنسان فيها كيساً يحفظ نفسه عن محارم الله، ويشحذ همته لطاعة الله عز وجل، هذه مرتبة وأي مرتبة، مرتبة أهل الفلاح، والصلاح، والفوز والنجاح، فإن أنبياء الله تمنوا وسألوا الله أن يجعلهم من أهلها، حتى قال نبي الله سليمان الذي له المكانة عند الله، يقول الله له تعالى: هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [ص:39] .. وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ [ص:25] هذا النبي الكريم يضرع إلى الله يقول: وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصالِحِينَ [النمل:19].
إن مرتبة الكياسة توجب صلاح القول والعمل، وهي مرتبة عظيمة، ويستطيع الإنسان بلوغها إذا شاء الله له ذلك، فيدعو الله عز وجل أن يجعله ممن حفظ قوله وعمله عن أن يصيب محارم الله، الإنسان الكيس هو: الذي يحسن القول والعمل، والمعاملة لله تبارك وتعالى، وتجد حاله حال حزم وانتقاص موجب للكمال، حال حزم بمعنى: أنه لا يعطي نفسه هواها، ولا يتمنى على الله الأماني، ولذلك قالوا من الحكمة: الكيس -ويروى أيضاً أثر- من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت. دان نفسه أي: أهانها وأذلها في الظاهر لطاعة الله عز وجل، ولكن في الباطن أكرمها، من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز أي: الذي فقد الكياسة، من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، من أتبع نفسه هواه: مسترسل في غيه وهواه، وفجوره وبعده عن تقواه.
فإذاً: الكياسة تستوجب من الإنسان الحزم، ومن أمثلتها: العبد مثلاً يقول: أريد أن أصوم اليوم، فيأتيه الشيطان ويقول له: لا. إلى غد، الحياة طويلة وأنت شاب. فيقول: لا. الآن أصوم. إذاً هو أخذ بالحزم، وعمل لما بعد الموت، لكن إذا كان عاجزاً محروماً من الكياسة يقول: نعم. الحياة طويلة، إذاً إلى غد.
كذلك عندما يريد أن ينفق من المال، مر على مسكين أو محروم أو بائس أو أرملة أو يتيم أو جاءه إنسان هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ [محمد:38].
ويأتيه إنسان يقول له: عندنا قضية تحتاج إلى مساعدة، تحتاج إلى سخاء وجود، فيأتيه الشيطان ويأتيه الهوى، يقول له: يا أخي! أنت الآن ما تزوجت، أنت ما فعلت كذا ولا كذا، ابنِ مستقبلك -كما يقولون- فيأتيه هوى وحظوظ النفس، لكن إذا كان كيساً حازماً ماذا يقول؟ يقول: أليس الكون كون الله، والمال مال الله، والفقر والغنى من الله؟ فما الذي تغنيه عني أموالي لو شاء الله أن أكون فقيراً؟ وما الذي يضرني لو أني أنفقت في طاعة الله عز وجل؟ وكما قال الشاعر:
أروني بخيلاً طال عمراً ببخلـه وهاتوا جواداً مات من كثرة البذل
فإذا تحركت في النفس معالم السخاء والجود والعطاء في محبة رب الأرض والسماء؛ جاء الحازم لكي يقوي تلك الهمة، ويشحذها على طاعة الله، ولكن جاء العاجز فقال: كيف أضيع مستقبلي وأبني مستقبل غيري؟ كيف أهدم حياتي وأصلح حياة غيري؟ فيعيش مع أشجان يعمرها بسوء الظن بالله عز وجل.
الكيس عبد صالح يعرف كيف يعامل الله عز وجل، مثلاً جاءه حديث نفس بالطاعة، الآن أنت جالس فجاء حديث النفس بالطاعة، لو قمت وتوضأت وصليت ركعتين، فإن كان كيساً قال: ركعتان كم فيهما من حسنات؟ فقام مباشرة وتوضأ وصلى ركعتين، وناجى ربه وناداه، وسأله من خيري الدنيا والآخرة، هذه كياسة .. حرص على الطاعة .. شحذ همة، ولذلك بعض الأخيار إذا جئت تدعوه إلى أي عمل خير، ما ينتظر، كل شيء يحتمل التأخير إلا طاعة الله. من الكياسة: حسن المعاملة لله عز وجل.
والعكس بالعكس -والعياذ بالله- إنسان خامل، نائم، يريد أن يصل إلى الدرجات العلى وهو في شهوات وملهيات، وتسويف في طاعة رب البريات، شتان ما بينهما، أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص:28] كلا والله، الله عدل لا يمكن أن يساوي بين الفريقين، وشتان ما بين الطائفتين.
فالمقصود: لا بد للإنسان أن يشحذ همته إلى الكياسة، وأن يحاول أن يستجمع من نفسه ما يدعوه إلى كسب الوقت في طاعة الله ومرضاة الله عز وجل، جاءك حديث نفسك، فقال لك: هناك محاضرة لشيخ داعية. فيأتي الشيطان يقول: ما هو عنوان المحاضرة؟ الصبر، سمعنا عن الصبر كثيراً. عاجز، خاذل، لكن بعض الأخيار لو سمع عن الصبر مائة مرة، كلما سمع كأنه أول مرة يسمع، يقول: يا الله، محاضرة كي نذهب. يريد أن يشغل وقته في طاعة الله.
عندنا مجلس فيه إخوان يقرءون كتاباً مفيداً يتذاكرون العمل، يقول: بسم الله، يا الله. حازم، ما يسوف ولا يضيع في طاعة الله -جعلنا الله وإياكم ذلك الرجل- والله إنها لحياة القلوب، ونسأل الله أن يحيي قلوبنا وقلوبكم بذكره وشكره، والله تعالى أعلم.
علاج العجب والرياء والوسوسة
الجواب: هنا قضيتان وردت في السؤال:
القضية الأولى: قضية العجب، والقضية الثانية: قضية الرياء في العمل الصالح.
أما قضية العجب فهو: شعور من النفس يجعل الإنسان مدلياً على ربه -والعياذ بالله- كأنه يعتقد أنه استوجب الطاعة على الله، وأنه ذاك الرجل الذي قد بلغ ما بلغ من طاعة الله ومرضاة الله بحوله وقوته، نسأل السلامة والعافية.
العُجب من أعظم البلايا وأشد الرزايا، وقد يكون الإنسان من أصلح خلق الله قولاً وعملاً، ولكنه عند الله في سفال بسبب عجبه بعمله، وقد يكون العبد من أقل الناس عملاً، ولكن عنده شعور بالتقصير، وعنده ندم في حق العلي الكبير، ومحبة لأن يكون مكملاً لذلك النقص، وإذا به يرفعه الله بهذا الشعور إلى أعلى الدرجات، إن الندم الذي يصحب التقصير نعمة من الله عز وجل، وإن كان المفروض أن الإنسان يشحذ نفسه إلى الكمال.
لكن المقصود: أن الإنسان قد يغتر بكثرة الصلاح والعمل، وقد بين الله تعالى ذلك حينما قص لنا خبر ذلك الذي عجب بصلاحه وقوله، فأورده الله عز وجل الموارد، وكانت نهايته خسارة الدنيا والآخرة، يقول تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف:175-176] انظر ماذا كانت النهاية, النهاية أن جعل بمثابة الكلب -والعياذ بالله- لا يحفظ الخير لربه.
فلذلك يبكى على هذا العبد، أعطاه الله عز وجل ما أعطاه، وبلغه ما بلغه وآتاه، فأدلى على الله بعمله، وكان في عجب من صلاحه حتى تأبى على الرسالة حينما عرضت عليه أن يتبع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: كنت أرجو أن أكون ذلك الرجل، فعجب بنفسه؛ فأورده الله السفال -والعياذ بالله- كان آتاه الله عز وجل من آياته ما أعطاه، فكانت كلماته عجيبة في التذكير بالله عز وجل، ثم كانت الخاتمة -والعياذ بالله- خاتمة سوء، بماذا؟ بسبب الغرور والعجب.
ولذلك مواضع عديدة ذكر الله عز وجل فيها خاتمة الذين كفروا وقرنها بالغرور، فلذلك الإنسان الصالح الموفق يجاهد نفسه في ترك الغرور، إذا دخل الغرور للداعية أفسد الله دعوته، وإذا دخل الغرور لتالي القرآن حبطت قراءته وذهب أجره، وإذا دخل الغرور للإمام هلك في أمانته، وإذا دخل الغرور للشاب الصالح تلف في صلاحه، الغرور لا يدخل في شيء إلا أهلكه، قال بعض السلف: والله ما دخلت مجلساً وأنا أرى نفسي أحقر القوم إلا رفعني الله فكنت أعلاهم، ولا دخلت مجلساً أرى نفسي أعلى القوم إلا جعلني الله أسفلهم.
ولذلك كان من سما ت السلف الصالح رحمهم الله أنهم ما كانوا يغترون، ولذلك تقرأ في قصصهم وتراجمهم، فتجد أن من أبرز الصفات التواضع واحتقارهم لأنفسهم، كان إبراهيم النخعي هو المرجع في الفتوى في الكوفة ، ذلك الإمام الجليل والعابد الصالح، وكان آية في الفقه والفهم، ومع ذلك كان لا يجلس تحت سارية في مجلس بعينها خوف الغرور والشهرة، كان يخاف أن يجلس تحت سارية حتى لا يقصده الناس في ذلك الموضع رحمه الله، وهو إمام جليل ذو قدم راسخة في طاعة الله عز وجل ومرضاته، حتى أثر عنه أنه مكث ثلاثين سنة ما فاتته تكبيرة الإحرام مع الإمام رحمة الله عليه، ومع ذلك يحتقر نفسه هذا الاحتقار.
كان سفيان الثوري رحمه الله وهو من أئمة السلف والمحدثين الأجلاء، إذا جلس في المجلس وهو إمام وأي إمام، صلاح وديانة واستقامة وعفة، كان إذا جلس في المجلس ضم ركبة إلى ركبة، وأدلى بعينيه بين ركبتيه أو على ركبتيه، كأنه من الجلاس فيجلس في أطراف المجلس؛ من التواضع واحتقار النفس.
من كمال الرجل وصلاحه إذا ازداد من الخير لا يغتر بل ينزل إلى الناس.
إن كريم الأصل كالغصن كلما ازداد من خير تواضع وانحنى
كريم الأصل، من كثرة الخير الموجود فيه يتواضع للناس ولا يغتر، ما يريد من الناس أن تقوم له وتقعد وتبجله، ويأخذ الدنيا كلها سمعةً ورياء، لا، ما يريد هذا، يريد فقط مرضاة الله عز وجل، ثم تجده يتدلى للناس مثل غصن الشجرة إذا جاء الثمر فيه ماذا يفعل؟ كلما ثقلت الثمرة ماذا يفعل الغصن؟ ينزل، وصف الله الجنة فقال: قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ [الحاقة:23].
فلذلك هكذا أهل الخير والصلاح، إذا كنت على صلاح واستقامة تواضعت للناس، الشاب الصالح الذي أصلح الله قوله وعمله ليس عنده غرور لا في القول ولا في العمل، إذا جئت قلت له: الناس يفعلون الجرائم وكذا. يقول لك: أنا المجرم، المسيء، المقصر في جنب الله عز وجل. ما يقول: فعل الله بهم وفعل، يغتر بنفسه، تقول له: الناس. يقول: دع الناس، أين أنا وأنت من رحمة الله عز وجل؟ أين أنا وأنت من طاعة الله؟ ويتهم نفسه بالتقصير، هذا شأن أهل الصلاح والفلاح -ونسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم منهم- فلذلك من طريق الكمال وطريق أهل الكمال احتقار النفس حتى تسمو إلى درجات الرضا.
الأمر الثاني الذي ورد في السؤال: الرياء: وهو لا يأتي إلا بسبب ضعف الإيمان، والله تعالى أشار إلى أن الرياء من صفات أهل النفاق، وجعل من علامة النجاة منه تحقيق التوبة بثلاثة أمور: فقال سبحانه وتعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً [النساء:145-146] إذاً تابوا وأصلحوا، الذي هو تحقيق التوبة، فأصبحا بمثابة الشرط الواحد، واعتصموا بالله فأصبح معاذاً لهم وملاذاً، وأخلصوا دينهم لله.
إذاً كيف ينجو الإنسان من الرياء؟ بهذه الأمور: التوبة من الرياء، وإصلاح العمل، بعد أن كان يرائي يصبح ما يرائي؛ لأنه من دلائل التوبة الصادقة، واعتصموا -الاعتصام بالله- والمراد بذلك: الاعتصام بكتاب الله، فيقدم ويؤخر الرجل وفق تقديم القرآن وتأخيره، ثم الأمر الأخير: وأخلصوا دينهم لله، فيرجع إلى الإخلاص، إخلاص الديانة والعبودية لله، فالرياء بلاء من الله تبارك وتعالى يبتلى به العبد، وسببه -كما قال العلماء-: ضعف الإيمان، ولذلك يجعل الله عز وجل في ضد أهل النفاق أهل الإيمان، ولما ذكر الله توبة المنافقين قال: فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:146].
ولذلك بعض المفسرين يأتي بعبارة لطيفة يقول: فأولئك مع المؤمنين، ولم يقل الله تعالى: في المؤمنين؛ لأن تحقيق النجاة من الرياء أمر من الصعوبة بمكان، فقال: مع المؤمنين، ولم يقل: في المؤمنين، ثم قال: وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً [النساء:146] ما قال: وسوف نؤتيهم أجراً عظيماً، وهذه نكات لطيفة في القرآن أشار إليها الإمام القرطبي وغيره في تفسيره.
المقصود: أن الإنسان إذا أراد أن ينجو من الرياء، ينظر أولاً: ما سبب الرياء؟ الرياء ما يمكن أن يدخل القلب إلا إذا ضعف فيه الإيمان، فالجاهل بربه هو الذي يرائي، ولذلك عظم عنده الشيطان، ومحبة رؤية بني الإنسان له في طاعته وذكره وشكره، وهان عليه ألا ينظر الله إليه -نسأل الله السلامة والعافية- ما عرف الله عز وجل، لو عرف من هو الله الذي يتعبده كان بكل قلبه يتمنى فقط أنه يقف بالطاعة وليس أن يرائي في الطاعة.
فذلك أول طريق للعلاج من الرياء: الإيمان، أن تتعرف على الله عز وجل، ولذلك جرب، سبحان الله! إذا قرأت شيئاً من صفات الله عز وجل الواردة في القرآن أحببت الله، وأحببت أن تعمل العمل بينك وبين الله، ولذلك من دلائل النجاة من الرياء: أن تجد العبد أحب ما يكون إليه أن يكون العمل بينه وبين الله، لا ترمقه عين، ولا تسمع به أذن، بل بعضهم يتمنى ذلك، ويفرون من رؤية ومعرفة الناس، كل ذلك خشية الفتنة.
وهذا هو شأن السلف الصالح رحمهم الله، إن كانوا علماء عجبت لفرارهم من الرياء، حتى إن الواحد يدخل بين الناس كواحد منهم.
عبد الله بن المبارك رحمه الله لما أراد أن يستقي من البئر قال له أحد تلامذته: نسقيك يا إمام! فقال: رويداً.. هلم بنا ندخل مع الناس. فدخل مع الناس، هذا ضربه، وهذا أصاب من ثوبه ما أصاب من طشاش الطين، فتغيرت ثيابه، وتغير لونه من الزحام، فلما خرج قال له تلميذه: قد كنا نكفيك المئونة، أي: هلاّ تركتنا نكفيك المئونة؟ قال: ما طاب لنا العيش إلا بهذا، دخلنا مع الناس وخرجنا مع الناس. أي: كواحد من الناس.
فهذه من دلائل أهل الصلاح، والله إذا دخل الصلاح إلى القلب تمنى الواحد أنه في عافية من أن يراه أحد، العبد الصالح شأنه عجيب، والله تعالى وصفه بذلك فقال: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا [القصص:83] لمن يا رب؟ لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً [القصص:83] فالعلو هو شأن أهل الرياء، يحبون أن يرتفعوا إلى الأنظار، ويكسبوا تمجيد، وثناء، ومدح الناس، يريد أن يكون ذلك الرجل الذي يشار إليه بالبنان، ولكن العبد الصالح لا يريد هذا.
والله إنه يبلغ بالعبد في الإخلاص أنه يكره أن الناس تعرفه، ويمقت ذلك، ويحاول أن يتهرب منه، بل إنني أذكر بعض العلماء رحمة الله عليهم ذات مرة في موقف من المواقف حصلت قضية فبكى وكان في مجلسه وكان مع بعض الطلاب وكنت معهم، فقيل له: ما هذا؟ قال: هذا من البلاء الذي بليت به، أصبحت معروفاً بين الناس، يا ليت أن الناس ما عرفوني. هذه فتنة، هذا بلاء، وجلس يلوم نفسه في معرفة الناس له، هذا شأن أهل الإخلاص، أهل الإخلاص فقط يريدون أن يرضى الله عنهم فقط، إذا علم أو أحس أن الطاعة بينه وبين الله عز وجل فتلك السعادة التي يتمناها، ولذلك والله بعض العباد وبعض الصالحين الأخيار من أكره ما عنده إذا قام الليل في المسجد، مثلاً يريد أن ينزل مبكراً حتى يكسب فضل الصف الأول، وهو يتمنى في صلاة الليل عدم اطلاع أحد عليه وهو يؤديها، يحتاج إلى التبكير، فيبقى عليه شيء من ورد الليل، والله يتضايق من صلاحه وإخلاصه وتوفيق الله له ويكره ذلك كراهية شديدة، لولا فضل الصف الأول ما بكر.
هذا شأن أهل الإخلاص على العكس من أهل الرياء، ثم ماذا يجني الإنسان من الرياء؟ يسأل الإنسان نفسه: لو أن الناس عرفته ماذا يستفيد؟
فلذلك ينبغي للإنسان أن يزع نفسه بوازع الإيمان الذي يدعوه لإخلاص القول والعمل لله عز وجل، إن العبد إذا نجا من الرياء كان قليل العمل موجباً لرضوان الله عنه، وقليل العمل مقرب له إلى الله، على خلاف من كان مرائياً، فإنه ولو كثر عمله أبعده الله عز وجل، وحبط عمله فكان من الخاسرين.
وأما ما ذكرت من النقل عن الإمام ابن القيم رحمه الله: من أن العبد يعمل العمل أمام الناس وهو من أخلص ما يكون لله عز وجل قلباً، وقد يعمله في الخفاء وهو في سفال لا يقبل الله منه عملاً، هذا له أسباب.
أما كونه يعمل العمل أمام الناس ولا يتأثر، فهذه درجة نسأل الله أن يبلغنا وإياكم إياها، العبد إذا قوي إيمانه والله لو وقف أمام الناس جميعاً يبكي ويخشع ويتأثر، فوجود الناس وعدم وجودهم عنده سواء، كأن الأمة في عالم وهو في عالم، كأن الناس غير موجودين، هذا من قوة الإيمان، ومن أعلى الدرجات.
بعض الناس يستوي عنده أن يقوم الليل أمام الناس أو يقومه في البيت، أبداً ما عليه من الناس، تقول له: يا أخي! يقول: مالي وللناس؟ يحس أن هذه الأمة شيء آخر، المهم قلبه الذي مع الله، هذا هو المهم.
فلذلك بعض الأخيار فعلاً، حتى إن بعض الصالحين تعجب منهم يتكلمون في مجالس الناس ويتحدثون، ولا يبالون بالرياء؛ من صلاح القلوب، وهذه نعمة من الله عز وجل.
أما النوع الثاني الذي أشار إليه أنه قد يكون خال فيكون في سفال، هذا له أسباب أيضاً:
من أعظمها: أنه يكون خالٍ، فيغتر بخلوته ويدلي على ربه فيحبط عمله -والعياذ بالله- يقول: هذا الإخلاص، من مثلي بهذه الحال؟ أنا ما شاء الله وصلت إلى مقام عظيم! يغتر ويدلي بعمله على الله عز وجل فيهلك، وهو في خلوة لا أحد يراه، وجاءه الشعور بالعجب.
كذلك أيضاً شعور العجب أوجب إحباط العمل، يأتيه شعور آخر من جنس الرياء، يكون واقفاً في مكان ليس فيه أحد، لكنه مظنة أن يوجد أحد، فيقول: لو جاء أحد حتى يقتدي بمثلي؟ لو جاء أحد فينظر كيف عبادتي فيقتدي؟ فيهلك والعياذ بالله بهذا الشعور.
فإذاً القضية تدور على شيء واحد وهو: توجه القلب إلى الله عز وجل.
وأما الجزئية الأخيرة من السؤال: الوسوسة في هذا الأمر، الحقيقة ما بينك وبين الله كاف للعبد، الوسوسة على حالتين: الحالة الأولى: إن كانت دعتك إلى الزيادة في الصلاح فهي نعمة من الله عز وجل، مثلاً: تأتي وتصلي، وتقول: أنا ما أخلصت كامل الإخلاص في هذه الصلاة، اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك إن كنت رآيتك في هذه الصلاة. هذه نعمة، وهذا حديث نفس حمل على احتقار العمل، وكلنا لا بد أن يخطئ، وكلنا عمله ناقص، فهذه الوسوسة وهذا الحديث نعمة من الله، وقد يكون لمة من الملك كما ورد في الحديث: (إن للملك لمة) فهي: إيعاد بالخير وتسويف بالشر، فلذلك قد تتحدث النفس بخير يعينها على طاعة الله عز وجل ويكون هذا من جنسه.
الحالة الثانية: تكون وسوسة تدعو إلى العكس، وهذا -يا إخوان- ضابط في كثير من المسائل التي تشكل على كثير من الإخوان، إذا كان حديث النفس يدعوك إلى زيادة العمل الصالح فنعم الحديث والله، لكن إذا كان يدعو إلى سوء الظن بالله، والتقاعس عن طاعة الله، يأتيك فيقول لك: من أنت؟ أنت ما أخلصت، لا. لا. هذه عبادتك ما أخلصت فيها، أنت لا تعرف تصلي، لا تعرف كيف تقرأ القرآن خالصاً لوجه الله، طلب العلم ما أخلصت فيه لوجه الله عز وجل، أنت تفعل كذا وكذا، إذاً الحل: اترك هذا العمل، الحل اترك الصلاة، لا. هذه وسوسة من الشيطان.
لكن كيف علاجها؟ إذا جاءك وقال لك هذا الكلام، ماذا تقول؟ تقول له: رآيت؟ إذا كنت رآيت اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك. يدحر عدو الله بهذه الكلمة، يتأثر بها وينخنس، فإذا وجدك وكلما جاء يوسوس لك بهذه الوسوسة التي يريد بها أن يثبط همتك ويبطئها عن طاعة الله، ووجدك تذكر الله لا يعود؛ لأنه ما يريدك أن تذكر الله عز وجل، يريدك أن تكون في تقصير، ويريد أن يقطعك عن الخير، فإذا وجد الأمر خلاف ذلك ينقطع.
فهذا هو ما ينبغي العناية به، فالوسوسة وسوستان: وسوسة تعين على الطاعة، ووسوسة بضدها، والله تعالى أعلم.
السؤال: هذا سائل يطلب شرحاً موجزاً لحديث: (لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة)؟
الجواب: لكل عمل شرة: الإنسان إذا أقبل على العمل الصالح والطاعة وجد في نفسه -خاصة في بدايته- أنه شره، وأنه يريد أن يستغرق الطاعة بكل ما يستطيع، وهذا من نعم الله تبارك وتعالى، فالخير دائم إليه، ومحبب إلى القلوب والنفوس، ففي البداية تجد أنك تريد أن تقبل على الخير بكليتك، وهذا أمر موجود، تجد بعض الشباب إذا ابتدأ الهداية يود أن جميع حركاته وسكناته في طاعة ومرضاة الله من لذة وحلاوة الإيمان التي خالطت بشاشة قلبه.
لكن هذه الشرة لها فترة تعقبها أحوال، بمعنى: يضعف فيها الإيمان، ويضعف فيها القلب عن محبة الرحمن، وهذه سنة من الله عز وجل له فيها الحكمة البالغة، أحياناً تجد من نفسك في بداية شهر رمضان أنك لو استغللت كل لحظة وثانية من هذا الشهر في محبة الله عز وجل، هذا كمثال بسيط كنا فيه منذ أيام قليلة، فلما دخل الإنسان ونافس في الأيام الأولى والثانية والثالثة فألف الطاعة، فتأتيه الفترة، هذه الفترة لله فيها حكم، من الحكم: أنه يظهر فيها صدق الصادق، بعض الناس إذا جاءته الفترة استمسك، وأصبح في ابتهال ودعاء وإنابة إلى الله عز وجل، وخوف أن يسلب منه ذلك العمل الصالح، وهؤلاء هم الأخيار، وهم أعلى الناس مقاماً في العمل الصالح، وتجده يتألم، يكون محافظاً على قيام الليل والنوافل والطاعات، حتى إذا أصبح منه -ولو شيئاً يسيراً- من التقصير في أمور ليست بالواجبة يتألم ويضجر، ويحس أنه قد فقد حياته؛ لأنه من حياة قلبه يحس أن مصيبته كل المصيبة دينه، وأنه إذا أصيب بنقص في دينه أنها هي الخسارة، عبد طائع منيب لله يحس أنه ينبغي أن تستغل الحركات والسكنات والأوقات في محبة الله.
هذه الحلاوة إذا جاءت في بداية العمل لا بد من وجود ضعف بعدها؛ لأنه لو كان الإنسان دائماً في طاعة واستقامة فإنه قد يخرج عن الحد المألوف، وقد يتجاوز إلى مقام التنطع والغلو في الدين، ولكن الله يبتلي العبد بنوع من الضعف، ويكون لهذا الضعف حكمة بحيث يشوق بعد ذلك إلى الخير أكثر، فبعض الأخيار يكون -مثلاً- على طاعة، ثم يسلب الطاعة، فتأتيه فترة، فإذا جاءته الفترة والضعف استمسك بالفرائض، لكن عنده شوق إلى العمل الصالح، فلو عاد للعمل الصالح مرة ثانية يعود أكثر شوقاً وأكثر حرصاً.
ولذلك ينبغي للإنسان أن يحسن الظن بالله عز وجل إذا سلب أي شيء من الطاعة، وأن يدمن سؤال الله عز وجل أن يعيدها إليه، والله تعالى أعلم.
استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
المشكلات الزوجية وعلاجها | 3461 استماع |
رسالة إلى الدعاة | 3435 استماع |
وصية نبوية | 3327 استماع |
أهم الحقوق | 3305 استماع |
توجيه الدعاة إلى الله تعالى | 3215 استماع |
كيف نواجه الفتن؟ | 3166 استماع |
حقيقة الالتزام | 3144 استماع |
وصايا للصائمين والقائمين | 3086 استماع |
الوصايا الذهبية | 3040 استماع |
مناقشة لرسالة الدكتوراه (2) | 3008 استماع |