المواعظ


الحلقة مفرغة

الحمد لله الذي نزل على عبده الفرقان ليكون للعالمين نذيراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إنه كان بعباده خبيراً بصيراً، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

أيها الأحبة في الله! إن للمواعظ أمراً عظيماً في القلوب، كم نبهت من غافلين، وكم أرشدت من حائرين، كم هدت ودلت إلى صراط الله المستبين، المواعظ زاد القلوب وطمأنينتها، وسلوة الصدور وانشراحها، أحبها الله وحببها للصالحين، فجعلها قرة عيون عباده المؤمنين المحسنين، يا لله.. كم من قلوب خشعت، وكم من عيون من خشية الله بكت، وكم من نفوس اهتدت، وكم من أرواح على طاعة الله ثبتت، يا لله.. كم من كلمات طيبات مباركات خشعت لها قلوب المؤمنين والمؤمنات، وفُتِّحت لها أبواب السماوات! وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33].

الموعظة هي الكلمة الجامعة لخير الدين والدنيا والآخرة، الموعظة وصية الله للأولين ووصيته للآخرين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131]، شرف الله المواعظ حينما وعظ عباده المؤمنين، فذكرهم بحقوق الدين، أخذ بمجامع قلوبهم إليه فذكرهم بما يجب عليهم، ونهاهم عما حرمه عليهم.

المواعظ شرفها الله جل وعلا يوم جعلها رسالة الأنبياء والمرسلين، فصدعوا بالحق وبما أمر به رب العالمين، المواعظ زاد القلوب وسلوة الأرواح، وسبب ثباتها على طاعة الله جل وعلا، فكم من مجلس ذكر حضره عاق فعاد تائباً! وكم من مجلس موعظة حضره شقي طريدٌ بعيدٌ فقام منه سعيداً! وكم من مذنب خطّاء كثير الذنوب عظيم العيوب آوى إلى الله في مجلس يذكِّر بالله فقام وقد بدِّلت سيئاته حسنات! يا لله.. كم من كلمات طيبات مباركات صلحت بها أحوال المؤمنين والمؤمنات!

ما أحوجنا إلى كل كلمة تقربنا إلى الله، ما أحوجنا إلى كل كلمة تذرف بها العيون من خشية الله، ما أحوجنا إلى كل كلمة تُخشع قلوبنا لذكر الله، ما أحوجنا إلى المواعظ إذا خرجت من قلوب صادقة وألسنة موقنة محقة.

الأسرة المسلمة اليوم أحوج ما تكون إلى الموعظة والنصيحة الجامعة، الأسرة المسلمة اليوم من الآباء والأمهات والأبناء والبنات والإخوان والأخوات وآل كلٌ والقرابات هي أحوج ما تكون إلى الموعظة، تحتاج إلى الموعظة في زمان عظمت غربته، وجلت محنته، حتى أصبح المصلي بين أهله غريباً، والذاكر لله بين أهله كأنه يقول شيئاً عجيباً غريباً.. في زمان عظمت فتنته، وجلت محنته؛ حتى أصبح فلذات الأكباد ربما يجهلون توحيد رب العباد.. في زمان عظمت فتنته، وجلت محنته، حتى كثرت فيه الشهوات، وعظم فيه سلطان الملهيات والمغريات، فوقف المؤمن متعطشاً متلهفاً لكل كلمة تدله على ربه، وتأخذ بمجامع قلبه لكي تهديه إلى الصواب؛ فيكون من أهل طاعة رب الأرباب.

أيها الأحبة في الله! الواعظ في الأسرة يكون والداً شعر بالأمانة والمسئولية، وتكون أماً حنوناً مشفقة تخاف على فلذات كبدها من النار.. تخاف أن يفرّق بينها وبين أولادها في يومٌ لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

الموعظة كلمات طيبات يقوم بها الأبناء وتقوم بها البنات، كلمات طيبات هي أكبر من كل أحد إلا الله وحده، فكلنا يحتاج إلى الموعظة، فقد تكون من الوالد، وقد تكون من الولد، يوجه الوالد ولده آمراً له بطاعة الله، ناهياً له عن حدود الله ومحارمه، وكأنه يأخذ بحجزه عن نار الله وغضبه، والوالدة تأخذ بحجز أبنائها وبناتها بوصية جامعة لخير الدين والدنيا والآخرة، والابن يرى أباه قد ضل عن السبيل، وجار فيما يكون منه من فعل وخيم، فتأخذه حميّة الدين والخوف من رب العالمين، فيذكِّر أباه وينصحه ويأخذ بحجزه عن نار الله كما فعل أنبياء الله، والبنت الصالحة ترى أمها قد جارت وحادت عن سبيل ربها، فتقف لها ناصحة مشفقة مبينة حتى تقودها إلى الله وتنتهي بها إلى رحمته، والأخ الصادق يرى أخاه قد تهاوى إلى الرذائل، وقد عميت بصيرته عن الفضائل، فيأخذ بحجزه عن نار الله وقد تفطر قلبه شفقة وحناناً عليه، يريد أن يرحمه برحمة الله. فتخرج الكلمات الطيبات المباركات من الآباء والأمهات، والأبناء والبنات، والإخوان والأخوات، بعظات بالغات بينات، تخشع لهن قلوب المؤمنين والمؤمنات.

وعظ الأبناء بحق الله وتوحيده

أحب الكلام إلى الله ما ذكّر بالله وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ [فصلت:33]، تبتدئ الأسرة المسلمة موعظتها بأعظم الحقوق وأجلها على الإطلاق؛ وهو حق الله جل جلاله، حقه في توحيده وإفراده بالعبادة، والإخلاص لوجهه.

فالناصح والواعظ من الوالد والولد والوالدة يذكِّر من ينصحه بعظيم حق الله عليه، وجميل منته لديه يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] قالها لقمان لفلذة كبده يذكره بالعقيدة والإيمان وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، أخذ بمجامع قلبه إلى الله، وذكره بأعظم الحقوق وهو حق الله. يا بني! يا فلذة الكبد! يا من هو كلحمي ودمي! لا تشرك بالله، نهاه عن أعظم نهي نهى الله عنه ورسوله صلوات الله وسلامه عليه: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) يذكِّره أن الله رضي له التوحيد والإيمان وكره له عبودية الأوثان، يذكره بالسماء ومن بناها، وبالأرض ومن طحاها، وبالجبال ومن أرساها، يذكره بشواهد التوحيد، ودلائل وحدانية العظيم المجيد.

كم من أبٍ ذكر ابنه في ظلمة ليل بمن جعل الظلام في ليله، فما أمسى الابن إلا وتذكر الله! وكم من أم صالحة ذكّرت بنتها بربها وأخذت بمجامع قلبها إلى خالقها، فوحدت وأسلمت واستسلمت! وكل ذلك في ميزان حسناتها.

يحتاج الابن أن تذكره بالله في كل لحظة وطرفة عين، تذكره بجبار السماوات والأرض تذكره بمن بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه؛ حتى يخوض الحياة مؤمناً ويعيش موحداً، حتى تقبض روحه مع السعداء والأولياء الحنفاء.

ينتظر ابنك -في كل لحظة وفي كل طرفة عين- أن تذكره بحق الله، حتى ولو بالكلمة العابرة، ومما تذكره بالله أن تذكره بحقوقه العظيمة، فتأمره بتقواه، وتحثه على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وتستجيب لأمر نبيك صلوات الله وسلامه عليه حيث يقول: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع) الأب الصالح يذكر ابنه بالصلاة، ويعظه حتى يحبب إلى قلبه الوقوف بين يدي الله جل وعلا، والعبد الصالح يأخذ أبناءه إلى بيوت الله بالليل والنهار، والعشي والإبكار.

والله إنك ما علّمت ابنك الوضوء فصب الماء على يده أو جسده إلا كتب الله لك أجره، ووالله إنك ما علّمته الصلاة وكيف يقرأ فاتحتها، وكيف يحسن ركوعها وسجودها، وكيف ينتصب بين يدي الله فيها إلا كان لك مثل أجره كلما وقف بين يدي الله مصلياً، ولو علّم غيره كتب الله لك الحسنات، ورفعك إلى عظيم الدرجات، فالصالحات الباقيات، فمن أمر أبناءه بالصلاة وتفقدهم بالعشي والإبكار والصبح والمساء، أعظم الله أجره، وثقل ميزانه، وأورث في قلوب أبنائه حبه، فكم من آباء ربوا أبناءهم في الصغر على هذه الطاعة المرضية، فما كبروا إلا على حبهم وتقديرهم وإجلالهم لآبائهم، قال بعض العلماء: حث النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمر الأولاد بالصلاة، ومن عوّد نفسه أن يأمر أولاده بالصلاة، اعتاد أولاده من الصغر على السمع والطاعة، وقل أن تجد أباً كان يتفقد أبناءه في الصغر -حتى شبوا على حب الصلاة- إلا وجدته يحيا الحياة السعيدة.. يعيش بين أبنائه حميداً وليموتن قريراً سعيداً، وليدركن صلاح أبنائه إذا ضمته اللحود، وهجمت عليه الكروب، فرفع ابنه كفه إلى الله شافعاً، يسأل ربه أن يسبغ عليه شآبيب الرحمات، فمن وفى لله وفى الله له، ليس بيننا وبين الله حسب ولا نسب، لا يعرفنا الله بأحسابنا ولا بأنسابنا ولا بأموالنا، بل يعرفنا بديننا وإخلاصنا وتوحيدنا وقيامنا بحقوق ربنا، هذا الذي بيننا وبين الله.

ولما كانت الأمة راكعةً ساجدة، أبناؤها وبناتها كبارها وصغارها لا يضيعون حقوق الله؛ عزّت وسادت وكانت في رحمة من ربها، ولما تناسى الناس حقوق رب الجنة والناس، وأصبح الأمر بالصلاة تعقيداً وتضييقاً ونفر الناس منه؛ ضاعت كرامتهم، وعظمت بليتهم، فأصبح الوالد مجهولاً -والعياذ بالله- حتى عند فلذة كبده.

وعظ الأبناء باتباع أوامر الشرع

أعظم الحقوق حق الله جل وعلا، ومن حقوقه سبحانه: أنه أحل الحلال وحرم الحرام، تنشئ ابنك من الصغر على أن يحل حلال الله وأن يحرم حرام الله، وأن يتبع شرع الله، وأن يقول كلما سمع أوامر الله: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285]. تنشئ ابنك على محبة الدين، والاستسلام لرب العالمين، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله أحل أشياء فلا تحرموها، وحرم أشياء فلا تحلوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها) فتعود أبناءك على محبة هذا الدين، وذلك عن طريق ربطهم بالعلماء وإتيان حِلق الذكر، وتعودهم أن يسألوا عن الصغير والكبير، والجليل والحقير، والخردلة والقطمير من أمر هذا الدين، فإذا عظمت وشيجتهم بالدين من خلال العلماء العاملين والأئمة المهديين؛ ألفوا الطاعات والباقيات الصالحات، وسمت أرواحهم إلى الخيرات، وزكت بفعل ما يرضي الله جل وعلا في الحياة وما يوجب حسن الختام عند الممات.

وعظ الأبناء بالمحافظة على الصلاة

من الحقوق التي ينبغي على الآباء والأمهات أن يعظوا أبناءهم بها: حق الله -كما ذكرنا- في الصلاة والزكاة، لأن الله يقول حاكياً عن لقمان أنه قال لابنه وهو يعظه: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ [لقمان:17] أمره بالصلاة، وأثنى على نبيه إسماعيل أنه كان يأمر أهله بالصلاة والزكاة، قال تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا [مريم:55-56]، من هذا الأب الموفق الذي يريد أن يكون عند ربه مرضياً؟ من أراد ذلك فليعظ أبناءه كلما أذن أذان للصلاة، فاعلم أنك تكون عند الله مرضياً إذا تفقدت أبناءك وبناتك -صغاراً وكباراً- في الصلاة، فأخذت كبيرهم إلى المسجد وتابعته فيما تعظه وتأمره به.

وعظ الأبناء بتعظيم شعائر الله وخشيته

من حقوق الله جل وعلا، تعظيم شعائر الله في قلوب الأبناء والبنات، وغرس معاني الدين في نفوسهم، ومن ذلك: أن يحرص الأب على إبعاد أبنائه وبناته عن المحرمات والمفسدات والملهيات والمغريات، التي توجب سخط الله في الحياة والممات، تنشئ ابنك على الخوف من الله، والخشية منه في السر والعلانية، تعوِّده أن يخاف من الله جل وعلا ويخشاه ويتقيه، ففي الحديث الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث أنس بن مالك رضي الله عنه إلى حاجة -وكان أنس صغير السن خادماً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- فانطلق أنس ، فرأى صبياناً يلعبون، فجلس يلعب معهم، فخرج له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمسكه، وقال: يا غلام! لولا أني أخاف الله لضربتك بهذا المسواك). انظر كيف يُعلم الابن، ويعلم الصغير الخوف من الله، وعندها حين قال النبي هذه الكلمات -ماذا تتوقعون من أنس أن يحس في قرارة قلبه من هيبة الله جل وعلا عندما يعلم أن محبة الله وخشيته قد حالت بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وضربه؟!

عوّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأمة صغاراً وكباراً، شباباً وشيباً وأطفالاً على تعظيم الله جل وعلا، والحذر من حدوده ومحارمه، ولذلك قال الله بعد ما نهى عن المحرمات: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا [النور:17] وعظنا الله، فحرم علينا محرمات ينبغي تعليمها للأبناء والبنات، ليس بعيب أن تجلس مع أولادك مع أبنائك وبناتك وتبين لهم ما الذي حرم الله عليهم، من: قول الزور، وغيبة المسلمين، والنميمة، والسب والشتم، وأذية المسلمين باللسان أياً كانت هذه الأذية، ليس بعيب أن تجلس مع أبنائك وبناتك فتذكرهم بحرمات الله التي نهى عنها في السمع والبصر، فتذكرهم أن الله يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19]، فتجعلهم على خوف من الله جل وعلا.

فلا إله إلا الله! كم من عيون غضت للأبناء والبنات بالنصائح الطيبة من الآباء والأمهات، وكم من ابن وقف على حرمة من حُرَم الله ونظر إلى شهوة مغرية فتذكر وعظ أبيه فخاف من الله، ولربما كان أبوه ميتاً فصارت رحمة عليه بعد موته، كل ذلك بالموعظة الصالحة والكلمة والوصية النافعة.

أحب الكلام إلى الله ما ذكّر بالله وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ [فصلت:33]، تبتدئ الأسرة المسلمة موعظتها بأعظم الحقوق وأجلها على الإطلاق؛ وهو حق الله جل جلاله، حقه في توحيده وإفراده بالعبادة، والإخلاص لوجهه.

فالناصح والواعظ من الوالد والولد والوالدة يذكِّر من ينصحه بعظيم حق الله عليه، وجميل منته لديه يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] قالها لقمان لفلذة كبده يذكره بالعقيدة والإيمان وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، أخذ بمجامع قلبه إلى الله، وذكره بأعظم الحقوق وهو حق الله. يا بني! يا فلذة الكبد! يا من هو كلحمي ودمي! لا تشرك بالله، نهاه عن أعظم نهي نهى الله عنه ورسوله صلوات الله وسلامه عليه: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) يذكِّره أن الله رضي له التوحيد والإيمان وكره له عبودية الأوثان، يذكره بالسماء ومن بناها، وبالأرض ومن طحاها، وبالجبال ومن أرساها، يذكره بشواهد التوحيد، ودلائل وحدانية العظيم المجيد.

كم من أبٍ ذكر ابنه في ظلمة ليل بمن جعل الظلام في ليله، فما أمسى الابن إلا وتذكر الله! وكم من أم صالحة ذكّرت بنتها بربها وأخذت بمجامع قلبها إلى خالقها، فوحدت وأسلمت واستسلمت! وكل ذلك في ميزان حسناتها.

يحتاج الابن أن تذكره بالله في كل لحظة وطرفة عين، تذكره بجبار السماوات والأرض تذكره بمن بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه؛ حتى يخوض الحياة مؤمناً ويعيش موحداً، حتى تقبض روحه مع السعداء والأولياء الحنفاء.

ينتظر ابنك -في كل لحظة وفي كل طرفة عين- أن تذكره بحق الله، حتى ولو بالكلمة العابرة، ومما تذكره بالله أن تذكره بحقوقه العظيمة، فتأمره بتقواه، وتحثه على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وتستجيب لأمر نبيك صلوات الله وسلامه عليه حيث يقول: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع) الأب الصالح يذكر ابنه بالصلاة، ويعظه حتى يحبب إلى قلبه الوقوف بين يدي الله جل وعلا، والعبد الصالح يأخذ أبناءه إلى بيوت الله بالليل والنهار، والعشي والإبكار.

والله إنك ما علّمت ابنك الوضوء فصب الماء على يده أو جسده إلا كتب الله لك أجره، ووالله إنك ما علّمته الصلاة وكيف يقرأ فاتحتها، وكيف يحسن ركوعها وسجودها، وكيف ينتصب بين يدي الله فيها إلا كان لك مثل أجره كلما وقف بين يدي الله مصلياً، ولو علّم غيره كتب الله لك الحسنات، ورفعك إلى عظيم الدرجات، فالصالحات الباقيات، فمن أمر أبناءه بالصلاة وتفقدهم بالعشي والإبكار والصبح والمساء، أعظم الله أجره، وثقل ميزانه، وأورث في قلوب أبنائه حبه، فكم من آباء ربوا أبناءهم في الصغر على هذه الطاعة المرضية، فما كبروا إلا على حبهم وتقديرهم وإجلالهم لآبائهم، قال بعض العلماء: حث النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمر الأولاد بالصلاة، ومن عوّد نفسه أن يأمر أولاده بالصلاة، اعتاد أولاده من الصغر على السمع والطاعة، وقل أن تجد أباً كان يتفقد أبناءه في الصغر -حتى شبوا على حب الصلاة- إلا وجدته يحيا الحياة السعيدة.. يعيش بين أبنائه حميداً وليموتن قريراً سعيداً، وليدركن صلاح أبنائه إذا ضمته اللحود، وهجمت عليه الكروب، فرفع ابنه كفه إلى الله شافعاً، يسأل ربه أن يسبغ عليه شآبيب الرحمات، فمن وفى لله وفى الله له، ليس بيننا وبين الله حسب ولا نسب، لا يعرفنا الله بأحسابنا ولا بأنسابنا ولا بأموالنا، بل يعرفنا بديننا وإخلاصنا وتوحيدنا وقيامنا بحقوق ربنا، هذا الذي بيننا وبين الله.

ولما كانت الأمة راكعةً ساجدة، أبناؤها وبناتها كبارها وصغارها لا يضيعون حقوق الله؛ عزّت وسادت وكانت في رحمة من ربها، ولما تناسى الناس حقوق رب الجنة والناس، وأصبح الأمر بالصلاة تعقيداً وتضييقاً ونفر الناس منه؛ ضاعت كرامتهم، وعظمت بليتهم، فأصبح الوالد مجهولاً -والعياذ بالله- حتى عند فلذة كبده.

أعظم الحقوق حق الله جل وعلا، ومن حقوقه سبحانه: أنه أحل الحلال وحرم الحرام، تنشئ ابنك من الصغر على أن يحل حلال الله وأن يحرم حرام الله، وأن يتبع شرع الله، وأن يقول كلما سمع أوامر الله: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285]. تنشئ ابنك على محبة الدين، والاستسلام لرب العالمين، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله أحل أشياء فلا تحرموها، وحرم أشياء فلا تحلوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها) فتعود أبناءك على محبة هذا الدين، وذلك عن طريق ربطهم بالعلماء وإتيان حِلق الذكر، وتعودهم أن يسألوا عن الصغير والكبير، والجليل والحقير، والخردلة والقطمير من أمر هذا الدين، فإذا عظمت وشيجتهم بالدين من خلال العلماء العاملين والأئمة المهديين؛ ألفوا الطاعات والباقيات الصالحات، وسمت أرواحهم إلى الخيرات، وزكت بفعل ما يرضي الله جل وعلا في الحياة وما يوجب حسن الختام عند الممات.

من الحقوق التي ينبغي على الآباء والأمهات أن يعظوا أبناءهم بها: حق الله -كما ذكرنا- في الصلاة والزكاة، لأن الله يقول حاكياً عن لقمان أنه قال لابنه وهو يعظه: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ [لقمان:17] أمره بالصلاة، وأثنى على نبيه إسماعيل أنه كان يأمر أهله بالصلاة والزكاة، قال تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا [مريم:55-56]، من هذا الأب الموفق الذي يريد أن يكون عند ربه مرضياً؟ من أراد ذلك فليعظ أبناءه كلما أذن أذان للصلاة، فاعلم أنك تكون عند الله مرضياً إذا تفقدت أبناءك وبناتك -صغاراً وكباراً- في الصلاة، فأخذت كبيرهم إلى المسجد وتابعته فيما تعظه وتأمره به.

من حقوق الله جل وعلا، تعظيم شعائر الله في قلوب الأبناء والبنات، وغرس معاني الدين في نفوسهم، ومن ذلك: أن يحرص الأب على إبعاد أبنائه وبناته عن المحرمات والمفسدات والملهيات والمغريات، التي توجب سخط الله في الحياة والممات، تنشئ ابنك على الخوف من الله، والخشية منه في السر والعلانية، تعوِّده أن يخاف من الله جل وعلا ويخشاه ويتقيه، ففي الحديث الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث أنس بن مالك رضي الله عنه إلى حاجة -وكان أنس صغير السن خادماً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- فانطلق أنس ، فرأى صبياناً يلعبون، فجلس يلعب معهم، فخرج له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمسكه، وقال: يا غلام! لولا أني أخاف الله لضربتك بهذا المسواك). انظر كيف يُعلم الابن، ويعلم الصغير الخوف من الله، وعندها حين قال النبي هذه الكلمات -ماذا تتوقعون من أنس أن يحس في قرارة قلبه من هيبة الله جل وعلا عندما يعلم أن محبة الله وخشيته قد حالت بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وضربه؟!

عوّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأمة صغاراً وكباراً، شباباً وشيباً وأطفالاً على تعظيم الله جل وعلا، والحذر من حدوده ومحارمه، ولذلك قال الله بعد ما نهى عن المحرمات: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا [النور:17] وعظنا الله، فحرم علينا محرمات ينبغي تعليمها للأبناء والبنات، ليس بعيب أن تجلس مع أولادك مع أبنائك وبناتك وتبين لهم ما الذي حرم الله عليهم، من: قول الزور، وغيبة المسلمين، والنميمة، والسب والشتم، وأذية المسلمين باللسان أياً كانت هذه الأذية، ليس بعيب أن تجلس مع أبنائك وبناتك فتذكرهم بحرمات الله التي نهى عنها في السمع والبصر، فتذكرهم أن الله يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19]، فتجعلهم على خوف من الله جل وعلا.

فلا إله إلا الله! كم من عيون غضت للأبناء والبنات بالنصائح الطيبة من الآباء والأمهات، وكم من ابن وقف على حرمة من حُرَم الله ونظر إلى شهوة مغرية فتذكر وعظ أبيه فخاف من الله، ولربما كان أبوه ميتاً فصارت رحمة عليه بعد موته، كل ذلك بالموعظة الصالحة والكلمة والوصية النافعة.

إنها المواعظ التي هي طريق إلى سعادة العبد، لا يستطيع الأب ولا تستطيع الأم أن تقوم بالموعظة إلا إذا كان هناك سلاح يتسلح به كل واحد منهما، ألا وهو العلم والبصيرة، والنور الذي يهدي الله عز وجل به من اتبعه سبل السلام وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة:16].

ما أحوج الآباء والأمهات إلى معرفة جملة من الأحكام والأمور التي تتعلق بتعليم الأبناء والبنات، وتوجيههم وتربيتهم، ما أحوجهم إلى أن يسمعوا إلى سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهديه وإلى سيرته العطرة ومواقفه الجميلة الجليلة النضرة، كيف كان يأمر بالتوحيد؟ وكيف كان يغرس العقيدة في قلوب الصغار؟ (يا غلام! ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن؟ احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيءٍ، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) الله أكبر! ما أعظمها من كلمات وقعت في قلب حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنه وأرضاه! حتى أصبح إماماً من أئمة الدين، قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه الكلمات التي هي من أسباب السعادة للعبد في الدنيا والآخرة. (يا غلام! احفظ الله يحفظك) وهذا يجمع جميع أوامر الله ونواهيه، احفظ الله بفعل أوامره، واحفظ الله بترك نواهيه.

ثم يقول له عليه الصلاة والسلام: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله) فالمخلوق بين أمرين.. بين رحمة وعذاب، وبين نعمة ونقمة، فإذا كان في نعمة اعتقد الفضل كله لله، وسأل ربه أن يبارك له فيها، وإن كان في نقمة علم علم اليقين أنه لا ينجيه منها إلا الله وحده لا شريك له، الذي يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء سبحانه وتعالى، وعندها تهون عليه مصائب الدنيا كلها.

إنها المواعظ التي تذكِّر العباد بالله وتهديهم إلى صراطه جل وعلا، إنها المواعظ التي ابتدأها خير الواعظين سبحانه إله الأولين والآخرين، فوعظنا وذكّرنا في كتابه المبين، وسار على هذا النهج المبارك صفوته من الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

أيها الأحبة في الله! المواعظ تفتقر إلى أمر عظيم، إذا وجدت في الأب والأم، فإن الله ينفع بها وتقع في القلوب كوقع الغيث على الأرض الطيبة، إنها تحتاج إلى قدوة صالحة، الأب الذي ينصح أبناءه وبناته لابد وأن يكون قد أقام نصيحته لأنه لهم قدوة، ولابد أن يكون إماماً هادياً مهدياً، حتى ينفع الله بنصيحته، وتكون كلماته مؤثرة في النفس عميقة الأثر في القلب؛ لأن الله جبل الأولاد على محبة الوالدين والتأثر بنصيحتهما، وأنهم يشعرون شعوراً عميقاً أن الأب لا يغش أولاده، وأن الأم لا تغش أولادها، فهم يتقبلون النصائح منهما، فيحتاجون إلى القدوة التي تدلهم مع القول بالفعل، فابنك إذا رآك إذا أذن المؤذن تخرج إلى المسجد مبكراً؛ سبقك إلى المسجد، وإذا رآك عند ذكر الله تفيض عيناك من خشية الله فاضت عيناه من خشية الله، وإذا رآك ابنك وقافاً عند حدود الله، لا تغتاب المسلمين، ولا تسب المؤمنين كان ابنك عفيف اللسان عن عباد الله المسلمين.

والبنت إذا رأت أمها قوّامة، صوّامة، ذاكرةً لربها، منيبة إلى خالقها، أحبت الله من كل قلبها، الله أعلم كم من ذريات صلحت بالقدوة الصالحة!

الأبناء والبنات ينتظرون الفعل قبل القول، ولذلك قال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24] فالإمامة في الدين والموعظة التي تذكّر برب العالمين تحتاج إلى الفعل قبل القول، قال بعض السلف: عظوا الناس وأنتم صامتون، قالوا: كيف نعظ ونحن صامتين؟ قال: عظوا الناس بأفعالكم وأخلاقكم قبل أن تعظوهم بأفواهكم.

كذلك تحتاج الموعظة إلى كلمة صالحة صادقة مؤثرة، كالقول البليغ الذي يحكم الوالد اختياره؛ المهذب الذي لا يجرح القلوب ولا يؤثر في النفوس ولا ينفر في الدعوة، هذا الذي ينتظره ابنك وتنتظره ابنتك، فإذا رأيت الابن أو البنت مخطئاً، فعليك -رحمك الله- بالقول الكريم والموعظة الحسنة والكلمة المؤثرة استجابة لقوله تعالى: وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا [النساء:63]، فالقول البليغ والموعظة البليغة مؤثرة في النفوس؛ ولذلك كان رسول الأمة صلى الله عليه وآله وسلم أكمل الخلق بياناً وأحسنهم كلاماً؛ فإذا وعظ الموعظة أثر في القلوب، قال العرباض بن سارية رضي الله عنه وأرضاه: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم موعظة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا)، فكانت مواعظه عليه الصلاة والسلام منتقاة، فعلى الوالد والوالدة أن يحرصا على عدم جرح المشاعر، فلا ينبغي تنفير الأبناء والبنات من الطاعة والدين، ولا ينبغي إذا أردنا أن ننصح أو نعظ أن ننفر أبناءنا وبناتنا من الخير والبِر، بل علينا -إذا رأيناهم أخطئوا- أن نقول الكلمة التي تقع في النفوس موقعاً بليغاً.

والدٌ يقول لولده أخطأ: يا بني! والله إنك أعز في قلبي من أن تقول هذه الكلمة التي لا ينبغي لمثلك أن يقولها، تصور يبكى الابن مباشرة، ويقول: يا أبتي! سامحني.

ووالد يقول لولده-أعاذنا الله وإياكم-: أيها السخيف! يا من لا تستحي! فنفر الابن وصد عن موعظته، فالله الله أن تكون حجر عثرة بين أبنائك وبين رحمة الله وتذكر وأنت تعظ، وتذكري -أيتها الأم الصالحة- وأنت تعظي أبناءك، وبناتك قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا) تذكروا -يا معاشر الآباء والأمهات- أن الدين رحمة وأن الإسلام رحمة، وأنه نور وهدى، تهدى به القلوب في الكلمات، وتهدى به القلوب في العبارات، لا تجرحوا به المشاعر، فقد كان رسول الأمة صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد الموعظة؛ لا ينفر من موعظته، ولا ينفر من قوله وهديه وسمته، فما أحوجنا إلى أن نتأسى به صلوات الله وسلامه عليه.

كم من أبناء وبنات قرت عيونهم بالصلاح والاستقامة والفلاح بالمواعظ التي اشتملت على الكلمات الرقيقة المهذبة، والعكس بالعكس، فكم من قلوب نفرت، وكم من أبناء وبنات وذريّات صدّت بسبب الكلمات الجارحة، فليتق الله الآباء والأمهات في هذه المواعظ وفيما يختار لها.

مما ينبغي على الآباء والأمهات من النصيحة والموعظة للأبناء والبنات، التذكير بالحقوق العظيمة وهي حقوق العباد، فبعد أن يذكر الآباء والأمهات الأبناء والبنات بحقوق الله جل وعلا يذكرونهم بحقوق المسلمين والمسلمات.

المسلم له حق عظيم على أخيه المسلم، ما كانت تنشأ البنت في بيت من بيوت المسلمين إلا وقد عرفت ما الذي لها وما الذي عليها تجاه أخواتها المسلمات، وما كان الابن ينشأ في بيت من بيوت المسلمين إلا وقد عرف ما الذي له وما الذي عليه تجاه إخوانه المسلمين.

كانت الأمة تربي أبناءها وبناتها وفلذات أكبادها على تعظيم حقوق المسلمين، كان أبناء المسلمين وبناتهم ينظرون إلى أخوة الإسلام نظرة التقديس والإكرام، حتى إن المسلم ليقدر أخاه في الإسلام أكثر من تقديره لأخيه في النسب، وذلك حين كان الإسلام أكبر همهم، ومبلغ علمهم، وغاية رغبتهم وسؤلهم، فكانوا يعرفون حقوق المسلمين وعظمها، وكان الآباء والأمهات ينشئون الأبناء والبنات على معرفة ورعاية حقوق العباد، ومن أعظمها: حقوق الوالدين، فكان الوالد يأخذ ولده معه إلى زيارة جده، فيجلس ذلك الوالد بين يدي أبيه -الذي هو الجد- على مرأى ومسمعٍ من ابنه، مجلاً مكرماً لأبيه، لا يتكلم بحضور أبيه، ولا يمكن أن يرد لأبيه طلباً، ولا يعيي أباه في المسألة، خادمٌ له في حاجته، قائم له في سعيه، وإذا بالابن ينظر إلى أبيه وقد صار صغيراً، وقد رآه من قبل كبيراً، وذلك لأنه أمام أبيه، فيتعلم كيف يبره في الغد، فانظروا إلى الشمائل العطرة والأخلاق الجميلة الجليلة النضرة التي كانت تتربى عليها بيوت المسلمين، وهكذا الأم كانت تأخذ بناتها الصغار إلى الجدة فتجلس بين يديها بكل إكرام وإجلال وإعظام، لتعلم بناتها كيف البر.

كان الأب يأخذ أبناءه إلى الأعمام والعمات والأخوال والخالات، وآل كل والقرابات، ما كان يوجد بيت من بيوت المسلمين تمر عليه أيام فيها سعة أو إجازة إلا وخرجت جموعهم في السفر للسياحات والنزهات، لا والله. بل يخرجون لصلة الأعمام والعمات وآل كل والقرابات؛ فكتبت الخطوات، ورفعت الدرجات، وتأذن الله برحمة المؤمنين والمؤمنات، يوم كانت الأمة في فقر وشدة وضعف، ولكن بارك الله لها في أرزاقها وأقواتها وأوقاتها، فقل أن تجد رجلاً مبتلى بمرضٍ في نفسيته أو في عقله أو نفسه؛ بسبب الصلة والرحمة التي رحم الله عز وجل بها الأمة.

كانت الأمة كالجسد الواحد تنشئ أبناءها وبناتها على معرفة الحقوق والواجبات، والقيام بالأمانة والمسئوليات، وكذلك ينشئون الأبناء على تعظيم حقوق أخوة الإسلام، ويبتدئ هذا بالمواقف، فأول ما يبدأ الأب والأم بالجار، فينشأ الابن والبنت على تعظيم حقوق الجيران، فمن أبناء المسلمين من عاش مع أبيه عمراً طويلاً ما سمعه يوماً يسب جاره أو آذى جاره، أو اغتابه أو ذكره بسوء، ومن أبناء المسلمين من عاش مع أبيه دهراً طويلاً، لم يحتج جاره يوماً إلى أحد -بعد الله- غير أبيه، فكان الجار ينزل حاجته بأبيه على مسمع ومرأى من الابن؛ فنشأ الابن على إكرام الجيران، وأصبحت شمائل الإسلام وأخلاق الكرام مغروسة في قلوب المسلمين بالأفعال قبل الأقوال، وذلك يوم كانت معتزة بدينها متمسكة بالإسلام، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا حسن التأسي بهم، وما زال الخير -والحمد لله- موجوداً في الأمة، ولا زالت بقية باقية تشفق على أبنائها وبناتها وفلذات أكبادها، فتسعى لتنشئهم على طاعة الله عز وجل.