دمعة في الحج


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة وأدى الأمانة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعد:

الحج ركن من أركان الإسلام، وشعيرة من شعائره العظام، دعا إليه رب العالمين، وأوجبه على عباده المستطيعين، نادى به نبيه الخليل، كما قص الله عز وجل خبره في التنزيل، نادى به فأذن، فبلغ الله أذانه، فلما علم عباد الله المؤمنين بذلك الدعاء وذلك النداء، تفتحت له أسماعهم، وتفتحت له قلوبهم، فصاروا له مجيبين ولداعيه ملبين، قطعوا الوهاد وساروا الفيافي وجاوزوا النجاد؛ محبة ومرضاة لرب العباد، ساروا إلى الله ملبين، ولرحمته طالبين، لم يخرجوا للدنيا، وإنما خرجوا لرحمة الله طامعين، وفي جوده وإحسانه وعظيم كرمه آملين، خرجوا إلى الله وقلوبهم مليئة بالإجلال والشوق والحنين إلى عفو الله، خرجوا وما كانت الدنيا نصب أعينهم إذ خرجوا، خرجوا وكلهم أمل في الله تبارك وتعالى أن يناديهم: حج مبرور، وسعي مشكور، وذنب مغفور.

لذلك أحبتي في الله! ما ضربت قدم على الأرض أشرف عند الله عز وجل ولا أزكى من قدم المطيع لربه، وما وفد وافد يسير على الفجاج أحب إلى الله من وافد على بيته من هذا الركب العزيز الذي فارق كل عزيز.

إنه ركب الله ووفد الله القادم على الله، لذلك قصة هذا الركب قصة مليئة بالعبر والعظات، فهو الوفد الذي لله خشع، وفي رحمة الله طمع، إنه وفد الله الذي تذكرك أقواله وأفعاله برحمة الله، أقوام باعوا الساعات واللحظات لكي يتقربوا إلى رب البريات.

خرجوا إلى الله تبارك وتعالى بهذه الرحلة التي سطرت في دواوين الحسنات، فأقيلت بها العثرات، ورفعت بها الدرجات، فيا لله! كم فائز منهم برحمة الله! ويا لله! كم سعيد منهم برضوان الله!

الوقفة الأولى: تذكر فراق الدنيا عند وداع الأهل والأحباب

لذلك أحبتي في الله نسير مع هذه الركاب، وننتقل مع هذه الرحلة مرحلة مرحلة، لماذا عز عند الله شأنهم وارتفع عند الله قدرهم؟ لأن الحاج إلى بيت الله في جهاد وجلاد، من أول لحظة تدخل فيها تلك الكلمة التي تدعوه إلى الإقبال إلى بيت الله يعيش الصراع، هل أحج هذا العام أم أرجئ إلى الأعوام القادمة؟ يعيش أول ما يعيش في صراع مع نفس متخاذلة عن طاعة الله متثابطة، يصارعها.. يجالدها.. يجاهدها، ثم مع الزوجات، ثم مع الأبناء والبنات، ثم مع الأموال والتجارات، أأحج أم لا أحج؟ أأنتظر أم أبادر..؟ حتى يشاء الله عز وجل أن يختاره في الركاب.

فإذا عقدت النفس النية، وعقد القلب العزم على المسير إلى الله، والانتقال إلى رياض رحمة الله، إلى البيت العتيق، حتى إذا صدق عزمه وقوي يقينه؛ عندها تكون أول وقفة لنا مع الحاج إلى بيت الله الحرام.

إذا عقدت الحج إلى بيت الله الحرام كانت أول وقفة حينما تشد الرحال، وتعزم على المسير إلى الكبير المتعال.

فتقف على الباب لكي تنظر إلى الابن والبنت، لكي تنظر إلى الأخ والأخت، لكي تنظر بدمعة تسح على الخد لفراقهم، حتى إذا أصابت سويداء قلبك تلك الحسرة على فراقهم، إذا بنداء من الأعماق يذكرك بيوم عظيم، يذكرك بساعة للفراق وأي ساعة فراق! تناديك نفسك: يا عبد الله! اليوم تودعهم، وأنت قادر على الوداع بكلمات رقيقات؛ فكيف إذا انقطع الأثر وخسف البصر ونفذ القدر.

كيف بك إذا أصبحت أسيراً للمسير إلى الله؟ فلذلك تتحرك في النفس ذكر الآخرة، تتحرك في سويداء القلب تلك العظة البالغة، اليوم تودعهم وغداً يودعونك، واليوم تنظر إليهم وغداً ينظرونك، اليوم تبادلهم الكلمات فمن لك إذا انقطع لسانك، ووجل جنانك، ولم تستطع أن تبيح بما في النفس من حسراتها.

فهذه أول وقفة، ومن هذه الوقفة إلى ختام الحج تنتقل من مرحلة إلى مرحلة تذكر بالآخرة؛ فتجيش في النفس عبرتها؛ وتحرك في القلوب خشوعها.

الوقفة الثانية: العظات والعبر التي يستفيدها الحاج من لبس الإحرام

أما الوقفة الثانية: فبعد لحظات يسيرة فارقت الأهل والإخوان، وودعت الأحباب والخلان، فإذا بأوامر الشرع تأتيك عند الميقات، انزع ثيابك، وتجرد عن مخيطك، واغتسل لحجك وعمرتك؛ فاستجبت ولبيت، وقلت: سمعاً وطاعة. فغسلت واغتسلت وأزلت عنك الثياب.

وما إن رفعت الثوب عن الجسد حتى تحركت في النفس أشجانها، وانبعثت في القلوب أحزانها، اليوم أزيل لباسي بنفسي، فكيف بغدٍ إذا أزيل عني لباسي؟! اليوم أرفع ثوبي بنفسي وأجرد عني المخيط، فكيف بي غداً إذا جردت من الثياب، وولجت من ذلك الباب مصيراً إلى رب الأرباب؟! اليوم أغسل نفسي، فكيف بي غداً إذ يغسلونني؟! وكيف بي إذ يكفنونني؟!

وما هي إلا لحظات حتى تلبس الإزار وتنزع المخيط، وتنخرط مع تلك الجماعات؛ تلبية.. توحيداً.. تكبيراً.. تمجيداً، لا إله إلا الله! ما أعزها من خُطىً عند الله، وما أكرمها من وفود على الله، منذ أن تجردت من لباسك وأصبحت في عداد المحرمين، كأن هيئتك تقول لك: الآن أصبحت مع المحرمين، وغداً ستصير في عداد المغتربين.

كما أن صاحب الإحرام تحظر عليه محظورات الإحرام، فلا طيب ولا متعة من الأمور المرفهة، كذلك إذا أوسد في لحده وأودع في قبره، فكأنه في المرحلة الثانية بعد لبس إزاره وردائه، فالله أكبر! ما أجلها من عظات، والله أكبر! ما أعظمها من آيات، دلت وشهدت بوحدانية رب البريات، فسارت الخطى على تلك الأرض، التي والله ما رفعت قدماً ولا حططت أخرى إلا سطرت في ديوانك، ولقيت بها رباً يبيض بها الوجوه إذا لقيه أصحابها.

الوقفة الثالثة: العظات والعبر التي يستفيدها الحاج حين يتوجه إلى بيت الله

حين تسير مع الوافدين في عداد المسافرين، وكأن سفر الحج يذكرك بالسفر الطويل، يذكرك بالمسير إلى العظيم الجليل، سرت معهم فرأيت عبراً لا تنسى، وآيات عظيمة جل من وضعها وعلا، تسير في الركاب فترى في السفر عجباً وأي عجب! تسير مع الأصحاب والأحباب وترى إن نظرت أمامك إلى قفار ووهاد، إلى أشجار وثمار، إلى جبال وأنهار، تذكر بالواحد العظيم القهار.

ما تقدمت ولا خطوت إلا وكان في قلبك أثر يذكرك بأن لا إله إلا الله، إنه كون مليء بالعبر، وعبادة تهز كيانك حتى تكون من المعتبرين، فسرت مع الراحلين وسرت مع المغتربين، وما هي إلا أيام حتى وطئت دار السلام.

الوقفة الرابعة: ما ينبغي على الحاج حين وصوله إلى بيت الله

أخي في الله! تصدع بشكر الله والثناء على الله، فكم من وفود تمنت! وكم من قلوب حنت لكي تدخل البيت الحرام! كم من عيون تمنى أصحابها رؤية البيت الحرام! وكم من أجساد وأرواح طمعت أن تطوف ببيت الله! اخترمتها البحار، والتقمتها القفار، وصارت إلى العزيز القهار، والله تفضل فاختارك من بين العباد حاجاً وافداً، فما أجلها من نعمة وما أعظمها من منة!

حتى إذا وطئت بيت الله وطئته وأنت تجل نعمة الله، وتعظم منحة الله، وطئت البيت الحرام وكلك إجلال وإعظام للملك العلام.

أي بيت؟! أي مكان؟! أي بلد؟! أي منزل؟! إنه البلد الذي اختاره الله من بين البلاد، صحيح أنه ليس فيه أنهار ولا أشجار ولا فتن من الدنيا بادية، ولكن فيه الروح والريحان، فيه الرضا والغفران، فيه الصفح والإحسان، فيا لله! ما أعظمها من منازل! عظمها الله ورفع شأنها الله، ما أعظمها من منازل!

لو أذن لتلك البقاع أن تتحدث، لو أذن لتلك المواضع أن تنطق، فكم عليها من دعوات أجيبت! وكم عليها من هموم فرجت! وكم عليها من أمور نفست،! إنها منازل الله، ومحط رحمة الله، حتى إذا وطئتها وطئتها بقلب يعظمها: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32].

يا عبد الله! إذا نزلت إلى بيت الله فادخله لله منكسراً، ومن هيبته خاشعاً، ادخله بذلة لله، ادخله بالسكينة والوقار، فإن النبي صلى الله عليه وسلم دخل يوم الفتح في يوم أعز الله فيه أهل دينه، دخل صلوات الله وسلامه عليه مطأطئاً رأسه ذلة لله، حتى إن لحيته تكاد تمس رحل دابته صلوات الله وسلامه عليه؛ ذلة وتواضع لله عز وجل، منازل لا ترفع فيها الرءوس خشية لله، ولا يظهر الإنسان فيها إلا الفاقة والحاجة إلى الله، فيها بيت توجهت إليه القلوب والقوالب، من الصفا، والمروة، ومنى، ومزدلفة، وعرفات، وأي عرفات! منازل مباركات، منازل عند الله جليلة، وأماكن عند الله عظيمة!

لذلك أحبتي في الله! إذا دخل الحاج إلى تلك المواطن دخلها بقلب يعظم الله، دخلها وكله ثناء على الله إذ بلغها، وأما إجلالها فكله شوق وطمع في الله أن يرزقه الأدب في جوار بيته المحرم، فما أسعده من عبد رزقه الله عز وجل عفة السمع والبصر! وما أسعده من عبد رزقه الله عز وجل الأدب معه، والأدب مع خلقه، في جوار كعبته وبيته!

وما هي إلا لحظات حتى يرى العبد بيت رب البريات، وعندها يخشع القلب لله، ويذل لله تبارك وتعالى، ويبتدئ في طوافه، وينتهي من مطافه حتى يرقى الصفا.

الوقفة الخامسة: أن يتذكر الحاج حال النبي عند ما قى الصفا

لقد رقى النبي صلى الله عليه وسلم الصفا، فلما رقاها قال: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) .

لماذا هلل؟ هلل لأنه بالأمس القريب كان يقف على الصفا يقول لهم -منذراً ومحذراً ومبيناً-: (سلوني من مالي ما شئتم، لا أغني عنكم من الله شيئاً، فقال له أبو لهب: تباً لك! ألهذا جمعتنا؟!) فبالأمس يكذب وبالأمس يهان وعلى هذا المكان، ويشاء الله عز وجل يوم حجة الوداع أن تأتي مائة ألف نفس تأتمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

فلما رقى الصفا تذكر عندما كان يهان بجوار البيت، فكان أول ما لفظ به توحيد الله، فقال: (لا إله إلا الله وحده، نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده) تذكر نعمة الله عز وجل، وهذا هو شأن الأخيار، شأن الصفوة الأبرار، إذا أصابهم الله بنعمته، وتفضل عليهم بمنته؛ أجلَّوا الله عز وجل حق إجلاله؛ وعظموه حق إعظامه.

الوقفة السادسة: فضل يوم عرفة وحال الحاج في هذا اليوم

حتى إذا شاء الله عز وجل ما شاء فمضيت بين الصفا والمروة، تنتقل من معلم توحيد إلى معلم توحيد لرب العبيد، حتى إذا شاء الله لك أن تبلغ الموطن المبارك، الذي هو الحج الأكبر، إنه عرفات، وما أدراك ما يوم عرفات؟! يوم تفطرت فيه القلوب لرب البريات، ما طلعت الشمس على يوم أفضل عند الله من يوم عرفة.

أخي في الله! إذا طلعت عليك الشمس ذلك اليوم فنادي النفس نداءاً صادقاً، هو يوم واحد، وقد كان من لطف الله وتيسيره أن جعل الموقف بعد الزوال سويعات، فاحتسب عند الله تبارك وتعالى فيها بالدعوات، وادخل إلى عرفات بقلب منكسر لرب البريات، وأصب من سنن النبي صلى الله عليه وسلم ما بين لك.

حتى إذا انتهيت من صلاتك، وسمعت المواعظ التي ينبغي لكل مؤمن بالله واليوم الآخر أن يترسم نهجها، وأن يسير على سبيلها، حتى إذا قضيت ذلك كله سرت إلى الموقف، سرت بذلك القلب المنكسر إلى الله تبارك وتعالى، سرت وأنت تتذكر ذنوباً بينك وبين الله، والعبد يسير إلى الموقف بخطىً ثقيلة؛ حينما يتذكر الذنوب فيما بينه وبين الله، يسير وهو منكسر إلى العلي الكبير، يسير وهو يحس من نفسه أن الذنوب تؤرقه، وأن الخطايا تحطه وتهده.

حتى إذا صار إلى موقفه ووقف بين يدي الله تبارك وتعالى نسي الدنيا وما فيها، وأقبل على الله يناجيه ويناديه، بين لوعتين: لوعة الماضي، ولوعة المستقبل؛ أما الماضي فبينه وبين الله حدود طالما جاوزها، ومحارم طالما أصابها، وبينه وبين الله حدود لعباده أصابها، وحقوق لخلقه ضيعها، فإذا صار العبد إلى ذلك الموقف، يصير بذلك القلب الخاشع الذليل، ويا لله ما أعظمه من موقف!

لو أن الإنسان استشعر تلك الساعة المباركة، التي يدنو الله عز وجل فيها دنواً يليق بجلاله وعظمته لأهل الموقف، ويقول لملائكته: (ما أراد هؤلاء؟) يقول بعض العلماء: استفهام إجلال وإعظام وإكبار، أي : أي شيء أراد هؤلاء؟ يدل على أن الله سينزل عليهم من رحمته ورضوانه بما لم يخطر على بال، (ماذا أراد هؤلاء؟) أينسى الله تبارك وتعالى؟! وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مريم:64].

تلك الخطى التي قدمت بها عليه، أينسى إذ تغبر الخطى إليه؟ أينسى الشعث الذي تقربت به إليه؟ حتى إن الإمام أحمد رحمه الله سئل: هل ينظر الحاج في المرآة؟

قال: إن كان ينظر من أجل إصلاح شعره فلا؛ حتى لا يذهب شعثه.

يقول بعض العلماء: إن الله تعالى يباهي بشعث الإنسان وغبره، ولذلك استحب العلماء إذا كان الإنسان له إزاراً فاتسخ أو أصابه شيء من القذر أن يقف به، حتى يكون أبلغ في الذلة لله عز وجل، حتى يكون أبلغ في التجرد من الدنيا، حتى يكون أبلغ في أنه يحس بالآخرة، وأنه والله ما قدم لكي يتعالى على عباد الله؛ ولكن ليذل لله حق والله للعبد أن يتذلل له سبحانه، وحق له أن ينكسر لربه تبارك وتعالى.

تبارك الله وجل الله فهو أعظم ما فاهت به الأفواه!

سبحان من ذلت له الأشراف أكرم من يرجى ومن يخاف

وإذا لم يذل العبد لربه فلمن يذل؟!

ثم ارم بطرفك إلى هذه الأمم التي اجتمعت على عرفات، ذابت أنسابهم، وذهبت أحسابهم، وأصبحوا لا تستطيع أن تفرق بين الغني والفقير، لا تستطيع أن تميز بين الجليل والحقير، أكف إلى الله رافعة، وعيون من خشيته دامعة، وقلوب وأفئدة لجلاله منكسرة، كم فيها من مظاهر تراهم وكأنهم على صفة رجل واحد، ولكن بين بعضهم بعضاً من الفضل والدرجات كما بين السماء والأرض، بماذا؟ بالقلوب.

وقفوا في تلك المواقف، وقلوبهم متباينة في الإجلال والإعظام والانكسار، والذكر للعليم القهار؛ لذلك يوم عرفة يوم مشهود، هذا اليوم يذكر بالموقف بين يدي الله عز وجل، ولذلك إذا وقف العبد بعرفات، ونظر إلى تلك البريات، ونظر إلى تلك الأصوات والصيحات، فسبحان من علم لغاتها! وسبحان من ميز ألفاظها! وسبحان من قضى حوائجها! لا يخفى عليه صوت، ولا تعجزه حاجة، أحد فرد صمد، لا يعييه سؤال سائل!

لذلك أحبتي في الله! النظر في حال يوم عرفة يذكر بالله تبارك وتعالى.

كان الناس مع الخليفة سليمان بن عبد الملك فجاءت صاعقة وهم وقوف بعرفة، ففزع الناس فزعاً شديداً، وفزع الخليفة سليمان رحمه الله فزعاً شديداً من تلك الصاعقة، فقال له عمر : يا أمير المؤمنين! هذه بين يدي رحمته؛ فكيف بالتي بين يدي عذابه؟! إذا كان هذا والناس وقوف بين يدي الله يرجون رحمته؛ فكيف إذا وقفوا بعرصات يوم القيامة؟!

وكما ثبت في الخبر يقول: (لقد غضب الله في هذا اليوم غضباً لم يغضب قبله قط ولم يغضب مثله قط)، وهذا يدل على عظم الموقف بين يدي الله تبارك وتعالى.

اللهم سلمنا في ذلك الموقف! اللهم سلمنا فيه بعظمتك يا عظيم! ورحمتك يا رحيم!

أحبتي في الله! يوم عرفة وما يوم عرفة! كل من حولك يحرك وجدانه، كل من حولك يحرك إحساسه، إن كان القلب قاسياً فإنه يصير خاشعاً، تسمع هذا يبكي وهذا يشتكي، وهذا يشجي، فتقول: سبحان الله! من لهذه الحاجات سوى الله؟ من لهذه الدعوات غير الله؟ جاءوا إليه من بلاد بعيدة، وقطعوها في أزمنة مديدة، جاءوا بهموم لا يفرجها سواه، وكربات لا ينفسها أحد عداه، جاءوا وكلهم يقين في أنه ليس لحاجتهم أحد غيره؛ وحق لهم ذلك.

أحبتي في الله! وما هي إلا لحظات حتى يشاء الله عز وجل للعبد، فينقضي موقفه، وتغيب عليه شمسه، ويأذن الله لأهل ذلك الموقف بالانصراف.

وتأتي تلك الساعة العصيبة، والله إنها لمن أمر الساعات في الحج، وأعظم ساعة يتألم الإنسان فيها أثناء الحج، إنها ساعة الانصراف من عرفة، لا يدري هل الله عز وجل قبل دعوته أم لم يقبلها؟! لا يدري هل أجاب الله سؤاله أم لم يجبه؟! لا يدري أمرحوم أم محروم؟! لا يدري أيعطيه أم يحرمه؟! فلذلك يبلغ بالإنسان من الشجن والأسى ما لا يعلمه إلا الله، فهو يقول: أأفيض ربي؟! فهل أنت راضٍ عني، أم لست راضياً عني؟! يناديه بقلب متقطع منفطر، رباه! إن لم ترض عني قبل هذا الموقف فارضَ عني قبل أن أفارق موقفي، يناديه بحسرة، يناديه بقلب متقطع يرجو رحمة الله؛ حتى لا يكون محروماً من عفو الله وفضل الله.

أحبتي في الله! تلك ساعة مؤلمة، ساعة تهز وجدان المؤمن، حينما يتذكر أنه ينصرف من ذلك الموقف، ولذلك كان بعض السلف إذا حضرت ساعة النفرة من عرفة والدفع منها يشتد بكاؤه، ويعظم تضرعه إلى الله تبارك وتعالى، وقال بعضهم: والله! لو نادى منادي الله في أهل هذا الموقف: قد غفرت لكم إلا واحداً لعددت نفسي ذلك الرجل.

أخي في الله! حتى إذا سرت بين الشعاب وسرت بين تلك الوهاد، فلا إله إلا الله كم يسير عليها عبد غفرت ذنوبه فهو كيوم ولدته أمه! لا إله إلا الله يدفعون من عرفات، دخلوها مثقلين، ليخرجوا منها من الذنوب والخطايا مغسولين! ما أعظمه من موقف، لا إله إلا الله! يسيرون بين تلك الشعاب، يسيرون بين تلك الأودية كيوم ولدتهم أمهاتهم، ما نظر الله إلى سيئات مضت ولا عاملهم بها.

فيا لله! كم دعوة كتب لصاحبها سعادة لا يشقى بعدها أبداً! ويا لله! كم دعوة كتب لصاحبها رحمة لا يعذب بعدها أبداً!

يسيرون بين تلك الشعاب العزيزة عند الله، بقلوب مليئة بإجلال الله، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، يحسون معناها، ويتلذذون حلاوتها، ويصيبون فضلها وبغيتها.

الوقفة السابعة: حال الحاج عند إفاضته من عرفات إلى المشعر الحرام

ثم إلى المشعر وعند المشعر يفيضون إليه بقلوب مغسولة، مليئة بالخشوع مليئة بالإنابة والخضوع، قلوب تعظم الله تبارك وتعالى، كيف وقد حطت الخطايا، كيف وقد غسلت الرزايا. يقفون بالمشعر حتى إذا شاء الله عز وجل لهم وقضوا منسكهم فصلوا فجرهم ووقفوا موقفهم أنابوا وتضرعوا، ورفعوا الأكف إلى الله وقالوا: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار. يحسون بهيبة المشعر وجلال ذلك الموقف، يقفون وكلهم شوق إلى رحمة الله بعد أن أفاضوا وأنابوا إلى ربهم، ولرحمته أصابوا.

الوقفة الثامنة: حال الحاج في منى

ثم إلى منى، ومن منى إلى البيت العتيق: لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29] في هذه الأيام المباركات.. الأيام المعدودات ذكر وشكر واستغفار وتعظيم للعظيم القهار، أيام منىً أيام الذاكرين.. أيام الشاكرين، أحسوا بأن الله أصابهم برحمته، وأصابهم بعفوه ولطفه؛ فأخذت الألسن لا تفتر عن ذكره وشكره، وحق لها والله! بعد أن أصابت رحمة الله أن تثني على الله، وكيف لا تثني عليه وقد أعطاها عطاءً هو العطاء في الدنيا؟! فليس هناك عطاء أعظم من أن يغفر الله ذنبك وأن يضع عنك وزرك، وهي المنة التي امتن الله بها على عباده، وامتن بها على خير خلقه صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين.

وفي منى تلك الساعات الطيبات، تلقى فيها الوجوه مضيئة، تلقى فيها الوجوه مشرقة من آثار العبادة، تلقى فيها إخواناً لك في الإسلام والدين لم يجمعك بهم حسب ولا نسب، ولم تجمعك بهم قربى، بل لم ترهم عينك من قبل قط، ولكن ترى وجهه فتعلم أنه يشهد أن لا إله إلا الله فتحبه وتسلم عليه وتهنئه، تهنئه برحمة الله عليك وعليه.

يا أحبتي في الله! أيام منى أيام جمع للمسلمين، لا يليق بالمسلم وهو يسير أمام إخوانه إلا وهو يفشي السلام بين المسلمين ويحسن إليهم بالإجلال والإكرام. إذا ضاعت أخوة الإسلام في أيام منى وأنت مع إخوانك الطيبين المباركين، الذين أصابهم الله برحمته، فأين توجد أخوة الإسلام؟!

أحبتي في الله! إنها الأيام الطيبات، أيام تتلذذ فيها الأسماع بالتكبير والتحميد.

أين المكبرون؟! أين الحامدون؟! أين المهللون؟! أين الذاكرون؟! ولقد كنا منذ أعوام يسيرة في الحج إذا مضينا إلى الجمرات والله ثم والله لا تفتر ألسنتنا عن ذكر الله: الله أكبر، ترتج بها أسواق منى وترتج منها خيام منى، فأين تلك الصفوة المباركة، ما بالنا قد نسينا شرعنا؟! ما بالنا نظرنا إلى هذا الحج وكأنه طقوس لا معنى لها؟!

أحبتي في الله! حق لمن وقف بها، وحق لمن نزل إليها أن يرفع صوته بالتكبير إعظاماً للعلي الكبير، وشكراً للعزيز الغفور.

الوقفة الأخيرة: حال الحاج عند طواف الوداع

أحبتي في الله! وبعد ذلك -وما بعد ذلك؟- يسير العبد إلى آخر مرحلة من حجه، وهي: طواف الوداع، وهيا للحظة الأخيرة التي يودع فيها الإنسان بيت الله الحرام، يودع فيها دار السلام، يطوف بذلك البيت لكي يكون آخر عهده بالبيت طوافاً، ولطواف الوداع حلاوة، ولطواف الوداع لذة وطلاوة. طواف الوداع يذكرك بفضل هذه المنازل، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها قالت: (كان الناس يسفرون من فجاج منى وعرفات) كان الناس يسفرون، يعني: يخرجون إلى ديارهم، ويرجعون إلى أمصارهم من فجاج منى وعرفات (فأمروا أن يجعلوا آخر عهدهم بالبيت طوافاً).

فإذا طاف الإنسان طواف الوداع طافت به أشجان وأحزان، لأن العبد الصالح من أعظم ما يؤلمه، وأشد ما يجده في دينه إذا فارق الطاعة والعبادة، ولذلك كان بعض السلف إذا كانت آخر ليلة من رمضان جلس يبكي ويقول: ألا ليت شعري من هو المحروم فنعزيه؟ ألا ليت شعري من هو المقبول فنهنيه؟

فالإنسان إذا قضى عبادته وانتهى من حجه، فإنه لا يدري أقبل الله حجته أم لم يقبلها، وإن كان الظن بالله حسناً، فوالله لو عاملنا الله بما نحن أهل ما طمعنا في شيء، ولكن هي رحمته، وهو حلمه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا؛ إلا أن يتغمدني الله برحمته) .

فما هذه العبادة التي قمت بها؟ وما هذا الموقف الذي وقفته؟ وما هذه الجمرات التي رميت؟ وما هذه الليالي التي بت في جنب نعم الله، وفي جنب منن الله، وفي جنب فضائل الله وإحسان الله بي؟ فتأتي تلك الساعة وهو يحتقر العبادة. إياك ثم إياك أن يأتي وأنت تدلي على الله بالعمل، إياك ثم إياك أن تحس من النفس غرورها، أو يلتهب في النفس شرورها، فتقول: أنت العبد الصالح، ها قد أديت فريضة الله، ها قد فعلت وها قد فعلت. لا، إنها ساعة الفراق التي يمتلئ فيها القلب ذلة لله عز وجل وطمعاً في أن يتقبل الله منك العمل.

كان عبد الله بن عمر صحابياً جليلاً، حتى ورد في بعض كتب السير: -كما في الحلية وغيرها- (أن النبي صلى الله عليه وسلم بشره بالجنة) من صلاحه رضي الله عنه وأرضاه، وكان إذا رأى عبداً يصلي ويكثر الصلاة أعتقه لوجه الله، قالوا له: إنهم يخدعونك بكثرة الصلاة. قال: من خدعنا لله انخدعنا له.

هذا الصحابي الجليل حضرته الوفاة فجلس يبكي فجاءه ابنه سالم ، وقال: يا أبتاه! ألم تكن كذا وكذا وكذا. يذكره بما كان عليه من صحبة النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ يعدد فضائله التي فضله الله عز وجل بها حتى أكثر عليه، فقال رضي الله عنه: أجلسوني، ثم قال: يا بني! أتدري ممن يتقبل الله؟ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27].. ما عد نفسه شيئاً.

إذا كان هذا عبد الله بن عمر ، فكيف نحن نطمع بحسناتنا وصالح أقوالنا وأفعالنا؟! وما يدري العبد لعل ذنباً أصابه أوجب عليه سخطاً لا رضا بعده، ولعل كبيرةً أصابها، ولعل عبداً من عباد الله ظلمه بمظلمة لم يقبل الله عز وجل عليه بعدها؟! والأمور مردها إلى الله عز وجل: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [المائدة:105].

لا أحد يدري هل قبل الله العبادة أم لم يقبلها؟! لذلك فإن الإنسان في هذه اللحظات يوصى باحتقار العمل، ولذلك قال العلماء: إن احتقار العمل من مظان القبول. إذا جاءت هذه اللحظة وصدرت عن البيت صدرت وكلك شوق وحنين أن يرحمك الله بقبول الحجة، وناديه وناديه وقل: يا رب! اقبل حجتي، واغفر ذنبي، وضع عني إصري. ادع الله دعاء المضطر ودعاء المستغيث المستجير به جل شأنه.

حتى إذا انتهيت من ذلك فاسأل الله أن لا يجعله آخر العهد ببيته، بل تعود مرات ومرات. ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله عن بعض السلف: أنه وقف بمزدلفة -في المشعر- وقال: والله الذي لا إله إلا هو! إن لي ثلاثين عاماً أسأل الله ألا يجعله آخر العهد بهذا الموضع، وقد استجاب الله دعوتي، وإني لأستحيي أن أسأله هذا العام. فرجع فقبضه الله عز وجل.

ولذلك من طمع في أن الله عز وجل لا يجعلها آخر حجة له فإن الله كريم قد لا يخيبه في طمعه، فاجعل في نفسك حنيناً ألا يجعلها آخر العهد ببيته، وألا يجعله آخر العهد بطاعته.

حتى إذا رجعت إلى الديار، وأقبلت على الأمصار عندها تذكر ما بينك وبين الله من العهود، تذكر ما بينك وبين الله من المواثيق، وقل بلسان الحال والمقال: توبة نصوح لا ذنب بعدها إن شاء الله. قال بعض العلماء: من علامة قبول الحج أن يكون العبد بعد الحج أصلح منه حالاً قبل الحج.

يا عبد الله! إذا لبيت لله فاعلم أنك قد عاهدت الله على توحيده؛ فإياك أن ترجع -والعياذ بالله- بالله مشركاً، إياك بعد أن ناديته وتشرفت بالوقوف بين يديه أن تستغيث بأحد سواه، أو تستجير بمن عداه، فقد وجدته حليماً رحيماً، ووجدته جواداً كريماً، فإلى أين تفر؟! إلى أين تعرض؟! فلذلك اجعله عهداً بينك وبين الله أن لا معاذ ولا ملاذ ولا منجى ولا ملجأ من الله إلا إلى الله، اجعله عهداً مؤكداً، واجعله عهداً موثقاً أن تكون على طاعة واستقامة إلى أن تلقى الله تبارك وتعالى.

إذا كنت بالمعاصي مبتلى فخذها طريقاً إلى التوبة النصوح، خذها حجة تمنعك وتحجبك عن معاصي الله عز وجل، فقد حللت به ضيفاً، وضيف الله يستحيي من الله، فبعد أن أقدمك الله إلى هذه الديار، وتشرفت بذكر العظيم القهار، عندها ترجع عبداً صالحاً تقياً ورعاً.

اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى حجاً مبروراً! وسعياً مشكوراً! وذنباً مغفوراً!

اللهم إنا نسألك أن تيسر لحجاج بيتك الحرام حجهم، اللهم يسر لهم حجهم! اللهم ارحم ضعفهم! اللهم ارحم غربتهم! اللهم ارحم فقرهم!

اللهم ردهم إلى ديارهم سالمين غانمين رابحين! اللهم ردهم إلى ديارهم مرداً جميلاً! اللهم ردهم إلى ديارهم مرداً جميلاً! وهب لهم عملاً صالحاً مباركاً جليلاً، برحمتك يا أرحم الراحمين!!

اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تؤمنهم في حجهم بأمنك! اللهم أمنهم في حجهم بأمنك! اللهم أمنهم في حجهم بأمنك! اللهم الطف بهم حضراً وسفراً! اللهم الطف بهم حضراً وسفراً! اللهم ادفع عنهم الوباء! وأزل عنهم الشعث والعناء، واجعلهم في صحة وعافية، وبلغهم رضوانك يا رب العالمين!

اللهم اغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا ولمن له حق علينا، ولجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات!

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

لذلك أحبتي في الله نسير مع هذه الركاب، وننتقل مع هذه الرحلة مرحلة مرحلة، لماذا عز عند الله شأنهم وارتفع عند الله قدرهم؟ لأن الحاج إلى بيت الله في جهاد وجلاد، من أول لحظة تدخل فيها تلك الكلمة التي تدعوه إلى الإقبال إلى بيت الله يعيش الصراع، هل أحج هذا العام أم أرجئ إلى الأعوام القادمة؟ يعيش أول ما يعيش في صراع مع نفس متخاذلة عن طاعة الله متثابطة، يصارعها.. يجالدها.. يجاهدها، ثم مع الزوجات، ثم مع الأبناء والبنات، ثم مع الأموال والتجارات، أأحج أم لا أحج؟ أأنتظر أم أبادر..؟ حتى يشاء الله عز وجل أن يختاره في الركاب.

فإذا عقدت النفس النية، وعقد القلب العزم على المسير إلى الله، والانتقال إلى رياض رحمة الله، إلى البيت العتيق، حتى إذا صدق عزمه وقوي يقينه؛ عندها تكون أول وقفة لنا مع الحاج إلى بيت الله الحرام.

إذا عقدت الحج إلى بيت الله الحرام كانت أول وقفة حينما تشد الرحال، وتعزم على المسير إلى الكبير المتعال.

فتقف على الباب لكي تنظر إلى الابن والبنت، لكي تنظر إلى الأخ والأخت، لكي تنظر بدمعة تسح على الخد لفراقهم، حتى إذا أصابت سويداء قلبك تلك الحسرة على فراقهم، إذا بنداء من الأعماق يذكرك بيوم عظيم، يذكرك بساعة للفراق وأي ساعة فراق! تناديك نفسك: يا عبد الله! اليوم تودعهم، وأنت قادر على الوداع بكلمات رقيقات؛ فكيف إذا انقطع الأثر وخسف البصر ونفذ القدر.

كيف بك إذا أصبحت أسيراً للمسير إلى الله؟ فلذلك تتحرك في النفس ذكر الآخرة، تتحرك في سويداء القلب تلك العظة البالغة، اليوم تودعهم وغداً يودعونك، واليوم تنظر إليهم وغداً ينظرونك، اليوم تبادلهم الكلمات فمن لك إذا انقطع لسانك، ووجل جنانك، ولم تستطع أن تبيح بما في النفس من حسراتها.

فهذه أول وقفة، ومن هذه الوقفة إلى ختام الحج تنتقل من مرحلة إلى مرحلة تذكر بالآخرة؛ فتجيش في النفس عبرتها؛ وتحرك في القلوب خشوعها.