رسالة إلى تاجر


الحلقة مفرغة

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي المؤمنين والمؤمنات، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، الذي أرسله بالآيات البينات، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.

أما بعد:

الحمد لله الذي جمعنا في هذه الساعة الطيبة المباركة من هذا الشهر المبارك الكريم، أحمده سبحانه وتعالى وأشكره، وأسأله بمنه وكرمه كما أكرمنا بهذا الاجتماع في هذه الدار، أن يجمعنا في دار كرامته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.

بادئ ذي بدء أشكر من كان له الفضل -بعد الله عز وجل- في هذا اللقاء، وشكر الله لكم مسعاكم، وقرن بطيب الجنة ممشاكم؛ حيث أقبلتم على هذه الروضة من رياض العلم، التي نتدارس فيها ما ينبغي على المسلم في تجارته مع الله عز وجل وتجارته مع الناس.

أيها الأحبة في الله: التجارة نعمة من نعم الله عز وجل، وهي مهنة شريفة كريمة، ولو لم يكن في شرفها إلا أن نبي الأمة صلى الله عليه وسلم عمل بها يوماً من الأيام، فقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه تاجر في مال خديجة رضي الله عنها وأرضاها.

هذه التجارة تولاها الأخيار على مر القرون والأعصار من صحب النبي الأخيار رضي الله عنهم وأرضاهم، تولاها أبو بكر صديق هذه الأمة، وكان تاجراً ونعم التاجر، وكذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كـعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عن الجميع.

وكان عبد الرحمن له في التجارة ثلاثة مواقف عظيمة جليلة:

أولها: أنه قدم إلى المدينة -وهو من أهل الهجرتين رضي الله عنه وأرضاه- فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع، فقال له سعد : يا عبد الرحمن ! هذا مالي، أشاطرك هذا المال نصفه لك ونصفه لي، ولي زوجتان انظر إلى أجملهما وأحسنهما أطلقها وتنكحها من بعدي . فقال عبد الرحمن رضي الله عنه وأرضاه : بارك الله لك في مالك، دلني على السوق.

كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لهم همة عالية، ونفوس طاهرة زاكية، فاستغنى عبد الرحمن بالله ففتح الله له أبواب الغنى، أقبل على السوق فتعب ونصب، وكان تاجراً أميناً صادقاً وفياً براً في تجارته ومعاملته؛ ففتح الله له أبواب الرحمة؛ فكان له من الخير ما كان.

الموقف الثاني الذي كان له: أنه كان ممن يجهز جيش النبي صلى الله عليه وسلم في الغزوات، فصدق فيه قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (نعم المال الصالح عند الرجل الصالح) .

أما الموقف الثالث: فهو أن إحدى أمهات المؤمنين خشعت بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وذكرت وفاته صلوات الله وسلامه عليه؛ فقال عليه الصلاة والسلام: (يحفظكن من بعدي الصادقون) فكان عبد الرحمن رضي الله عنه وفياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أزواجه من بعده، فكان يتحمل نفقاتهن ويكثر الإحسان إليهن، فيا لها من تجارة عادت عليه بخيري الدنيا والآخرة!

التجارة نعمة من الله وشرف للإنسان، وأي شرف أن يأكل من كد يديه وعرق جبينه! الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم، حينما سُئل عن أطيب الكسب؟ فقال: (عمل الرجل بيده) .

الإسلام دين عمل، ودين جد واجتهاد، ودين سعي وتحصيل، وليس بدين خمول ولا كسل، فشحذ الهمم إلى هذا العمل المبارك، يصون الإنسان به وجهه عن ذل السؤال وشدة الحال، ولذلك كان من أعظم الأمور بلية على العبد أن يتعلق أو تتعلق حوائجه بالناس.

ذكروا عن إبراهيم بن أدهم -عابد من العباد، ورجل من الأخيار الصالحين من سلف هذه الأمة رحمة الله عليهم أجمعين- أنه كان في سفينة فتحركت الرياح وكادت السفينة أن تغرق، فسلم الله ولطف، فلما نجوا من الكربة قال قائلهم: يا إبراهيم ! ألم تر إلى هذه الشدة؟ قال: لا والله، إنما الشدة الحاجة إلى الناس.

الشدة حاجة الإنسان إلى الناس فإنه يريق بها ماء وجهه، ويذهب بها كرامته، وينال بها شدة الحياة وقسوتها، فإذا فتح الله على العبد أبواب رحمته، ويسر له من عظيم منته ونعمته، فوجد كسباً طيباً يريق به عرقه لكي يحصل به طيب رزقه؛ فهي نعمة من الله عظيمة.

وقد بين الله عز وجل أن هذه التجارة تنقسم إلى قسمين: تجارة مباحة، وتجارة محرمة.

أما التجارة المباحة: فقد أشار الله عز وجل إليها بقوله: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [البقرة:275].

وأما التجارة المحرمة: فقد أشار إليها باختصار في قوله: وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275].

قال بعض العلماء: إن الذي أحل الله من البيع أكثر من الذي حرم.

ولذلك لما أراد أن يبين سبحانه الحلال قال: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [البقرة:275] ما فرق بين بيع وآخر، ولم يقل: أحل الله بيع البيوت ولا بيع الدواب ولا بيع الأطعمة، ولا الأكسية ولا الأغذية، ولكن قال: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [البقرة:275]؛ حتى يعلم المسلم أن الأصل في البيوع أنها حلال ومباحة، حتى يدل الدليل من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم على حرمتها.

فعمم الله -جل وعلا- في الحلال، لكن لما أراد أن يحرم قال: وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275]، قال بعض العلماء: في هذا دليل على سماحة الإسلام ورحمة الله بالعباد؛ حيث جعل الحلال أكثر من الحرام.

والذي حرمه الله إما لضرر على الإنسان أو ضرر على الناس، أو ضرر على الاثنين، أو لمقصد شرعي يعلمه الله: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة:216].

لقد أجمع العلماء على أن التجارة المحرمة أصولها تعود إلى أربعة أمور:

أولها: أن يكون الشيء محرماً بذاته.

وثانيها: أن يكون محرماً لوجود الربا.

وثالثها: أن يكون محرماً من أجل الغرر.

ورابعها: أن يتضمن شروطاً فيها الربا أو الغرر أو هما معاً.

قواعد فرعية تتعلق بتحريم البيع

فهذه أربعة قواعد للتجارة المحرمة، وقد يرد التحريم لأمر يتعلق بالوقت أو بالزمان، أو بصفة تتعلق بالبائع أو بالمشتري، فيحرم الله من أجل الوقت كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9] فحرم الله البيع في هذا الوقت؛ لأن الوقت مستحق لما هو أهم وأجل، وإذا تعارضت تجارة الدنيا وتجارة الآخرة فتجارة الآخرة مقدمة؛ لأن الله خلق الخلق من أجل هذه التجارة وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58].

فإذا تعارضت تجارة الدنيا وتجارة الآخرة؛ قدمت تجارة الآخرة على تجارة الدنيا؛ فحرم البيع؛ لكن لا لذاته وإنما لعارض يعرض على ذلك البيع، وقد يحرم الله التجارة بسبب قطع أواصر الأخوة والمحبة، وتشتيت المجتمع وتفريقه، وإيجاد الشحناء والبغضاء.

ومن هنا نعلم ترابط الشرع، أنه يربط بين العبادة والمعاملة، فكما أن المسلم يكون في مسجده عابداً لربه كذلك في دكانه وتجارته.

أما المثال على تحريم المنع بالتجارة؛ بسبب كونها تفسد أواصر الأخوة وتقطعها؛ وتكون سبباً في إيجاد الضرر: فتحريم الله لبيع النجش.

وبيع النجش: أن يزيد الإنسان في السلعة وهو لا يريد شراءها؛ فإنه إذا فعل ذلك خدع أخاه وخذله وآذاه، وجعل تجارته وسيلة للإغرار؛ فخرجت عن المقصود الأسمى والأسنى وهو نفع الناس؛ صارت التجارة حرباً وأذية وبلاء فقال الشرع: لا. لماذا؟ لأن هذا النجش يفضي إلى الأذية بالغير، والإسلام يريد من المسلم أن يكون على محبة وصفاء ونقاء لإخوانه المسلمين؛ فحرم الله النجش.

حرم الله بيع المسلم على بيع أخيه؛ حتى لا يقطع أواصر المحبة: (ولا يبع بعضكم على بيع بعض) لأنه إذا قال المسلم: هي بعشرة. قال الآخر: عندي سلعة أجود منها أو مثلها بتسعة أو بثمانية. فكان في ذلك حنقاً للبائع، كيف يدخل بينه وبين من يريد منه تجارته أو بيعه، فحرم الله بيع المسلم على بيع أخيه؛ لأن التجارة أصبحت قاطعة لأواصر الأخوة؛ ممزقة لمعاني المحبة.

فقد يحرم الله عز وجل البيوع والمعاملات لأمر خارج، أما القواعد الأربع التي ذكرناها فهي لذات البيع ولأصل البيع، فإذا وجدت في البيع هذه الأربعة كانت محرمة، والقواعد الأربع هي:

- تحريم عين المبيع.

- الربا.

- الغرر.

- الشروط المتضمنة للربا أو للغرر أو لهما معاً.

تحريم البيع لحرمة عين المبيع

أما تحريم عين المبيع فإن الله له حكمه سبحانه وتعالى، يقول هذا حلال وهذا حرام، يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [الرعد:41]، ملك العباد وما ملكوا، فقد يحرم الشيء لذاته، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا النوع من البيوع المحرمة في خطبته حينما فتح مكة -صلوات الله وسلامه عليه- في يوم أعز الله جنده، ونصر فيه عبده وصدق فيه وعده -سبحانه وتعالى- فدخل عليه الصلاة والسلام إلى مكة متواضعاً متخشعاً متذللاً لربه سبحانه وتعالى.

ولما كان اليوم الثاني -وكان اليوم الأول الناس هم في الحر، ودخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وفتحها- قام خطيباً صلوات الله وسلامه عليه، وعليه عمامته السوداء ممسكاً بعضادتي الباب، فقال في خطبته: (إن الله ورسوله حرما بيع الميتة والخمر والخنزير والأصنام) .

أربعة أمور ذكرها: الميتة، والخمر، والخنزير، والأصنام.

هذا النوع من التحريم في الشريعة راجع إلى ذات الشيء المبيع، بمعنى أن المبيع لا يصلح أن تدفع الثمن بمقابله.

الميتة: أكلها ضرر وأذية، ولا يمكن أن ينتفع بأجزائها، وهي نجسة؛ ولذلك حرم الله بيعها، فلا تباع بذاتها ولا بأعضائها وأجزائها، إلا ما استثنى الشرع منها وهو جلد الميتة إذا دبغ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (أيما إهاب دبغ فقط طهر) .

من أمثلة هذا النوع الموجود الآن ويخفى على الكثير: تحريم بعض الدواب الميتة، قد يُؤخذ مثلاً ثعبان ويحنط، وهو ميت فيباع، إذا نظرت إلى هذا البيع فإنه يصدق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم بيع الميتة)، إذا تأملت ونظرت وتدبرت وتفكرت هذا الثعبان إذا حنط ودُفعت فيه المبالغ الباهظة والكثيرة، التي تسد الرمق، ويكون فيها الخير لو أنفقها الإنسان في مجالات أخرى، أي مصلحة في دفع هذا المال الكثير لحيوان يحنط ويجسم؟!

فإذاً تحريم الشرع فيه الحكمة البالغة لمثل هذا، لكن لو أن الحيوان ذُكي وحنط فلا حرج؛ لأنه أصبح طاهراً، وفي هذه الحالة يزول معنى النجاسة الموجودة فيه، وإن كان بعض العلماء يعده ممنوعاً من جهة المصلحة؛ لعدم وجود المصلحة في بقائه.

إن الله ورسوله حرم بيع الميتة والخمر؛ فالله حرم الخمر لكونه يفسد العقول ومقاصد الشريعة والأديان السماوية حفظت على الناس دينهم وأنفسهم وعقولهم وأموالهم، فأي شيء يمس هذه الأمور الخمسة فإنه يعتبر في هذه الحالة محرماً، فالخمر تمس العقل الذي يكون الإنسان مرتقياً به عن مرتبة البهيمة؛ فحرم الله بيعها.

ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه فتح الطائف، وكان له صديق في الجاهلية، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم قد أنعم الله عليه بفتح الطائف فجاءه بهدية، وكانت الهدية عبارة عن قربتين من خمر، فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بهديته -وكان صلى الله عليه وسلم حكيماً حليماً رحيماً، لا يعنف ولا يقهر الإنسان في وجهه، بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه!- نظر إليه وقال: أما علمت أن الله حرم الخمر -يعني تعطيني هذه من باب الهدية، أما عندك علم أنها حرام-؟! قال: لا. فقام رجل -وكان جالساً- فسارَّ صاحب الهدية -بمعنى كلمه سراً في أذنه-، فقال صلى الله عليه وسلم: بم ساررته -ما الذي قلت؟- قال: أمرته أن يبيعها -ما دام النبي صلى الله عليه وسلم لا يريدها، وهي محرمة في الشرع- فقال صلى الله عليه وسلم: إن الذي حرم شربها حرم ثمنها -وفي رواية: بيعها-) .

تبيعها؟! فمن الذي يأخذها؟ ومن الذي يستفيد منها؟ فحرم الله مثل هذا البيع لهذا.

تحريم البيع لوجود الغرر والخداع

هناك نوع ثالث من المحرمات في التجارة، فمن أسباب تحريم التجارة: الغرر.

الغرر باختصار -والكلام فيه يطول-: هو المخادعة، يقال: غره إذا خدعه، بمعنى أن البيع يتضمن شيئاً من المخاتلة التي يخدع فيها المشتري، مثلاً: يعطيه شيئاً يحتمل أن يقع ويحتمل ألا يقع، مثل: (سحب الأرقام)، يعطيه أرقاماً معينة، يقول له: اسحب منها رقماً، فإن كان رخيصاً فهو لك، وإن كان غالياً فهو لك. لكن الإسلام يقول: هذا البيع محرم؛ لأن الإنسان قد يدفع ماله، ويظن أنه يحصل على الغالي، فإذا به قد حصل على الرخيص؛ فيندم ويتألم ويغبن في حقه، ويكون ذريعة لأكل الأموال بالباطل، والشريعة تريد من المشتري إذا جاء يشتري ومن البائع إذا جاء يبيع أن كلاً منهما يكون على بينة وعلم، لا تريد الغش ولا تريد الخداع؛ لأن هذا يفسد القلوب.

ولذلك قال: إذا كان المبيع مجهولاً أو كان الثمن مجهولاً لا يصح البيع، مثلاً: قال له: بعني هذه السيارة. قال: بعتك. قال: بكم؟ قال: نتفق فيما بعد، فهذا لا يجوز، لابد أن يحدد بكم يكون البيع؛ لأنه ربما أخذتها منك على أننا نتفق، وقيمتها في ظني عشرة، فتقول: هي باثني عشر أو ثلاثة عشر أو أربعة عشر؛ فتتقطع أواصر الأخوة؛ وتحصل النزاعات والخلافات بين المتبايعين.

إذن: الشريعة لا تتدخل إلا إذا وجد الضرر أو وجد موجب الفساد.

وبيوع الغرر كثيرة جداً، وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الملامسة، وبيع المنابذة، وبيع الحصاة، فما معنى بيع الملابسة والمنابذة والحصاة؟

فمن صور بيع الملامسة: في الجاهلية لم يكن هناك أماكن، ورفوف لعرض البضائع وإنما كانوا يفرشون بضاعتهم على الأرض، فيأتي المشتري والبائع يعرض -مثلاً- ثوباً، ويريد المشتري أن يقلب الثوب، فيقول له البائع: لا تقلب الثوب، أبيعك على أن يقوم لمسك مقام نظرك، فحرم النبي صلى الله عليه وسلم هذا النوع من البيع؛ لأنه قد يكون العيب موجوداً داخل المبيع؛ فإذاً لا يريد الشرع أن يدفع المشتري شيئاً دون أن يكون على بينة من أمره.

فنخرج من هذا كله: إلى أن الشريعة حرمت البيع إذا كان هناك ضرر، أما إذا لم يكن هناك ضرر، ولم يكن هناك ما يوجب تحريم البيع؛ فالأصل حل البيع وجوازه.

فهذه أربعة قواعد للتجارة المحرمة، وقد يرد التحريم لأمر يتعلق بالوقت أو بالزمان، أو بصفة تتعلق بالبائع أو بالمشتري، فيحرم الله من أجل الوقت كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9] فحرم الله البيع في هذا الوقت؛ لأن الوقت مستحق لما هو أهم وأجل، وإذا تعارضت تجارة الدنيا وتجارة الآخرة فتجارة الآخرة مقدمة؛ لأن الله خلق الخلق من أجل هذه التجارة وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58].

فإذا تعارضت تجارة الدنيا وتجارة الآخرة؛ قدمت تجارة الآخرة على تجارة الدنيا؛ فحرم البيع؛ لكن لا لذاته وإنما لعارض يعرض على ذلك البيع، وقد يحرم الله التجارة بسبب قطع أواصر الأخوة والمحبة، وتشتيت المجتمع وتفريقه، وإيجاد الشحناء والبغضاء.

ومن هنا نعلم ترابط الشرع، أنه يربط بين العبادة والمعاملة، فكما أن المسلم يكون في مسجده عابداً لربه كذلك في دكانه وتجارته.

أما المثال على تحريم المنع بالتجارة؛ بسبب كونها تفسد أواصر الأخوة وتقطعها؛ وتكون سبباً في إيجاد الضرر: فتحريم الله لبيع النجش.

وبيع النجش: أن يزيد الإنسان في السلعة وهو لا يريد شراءها؛ فإنه إذا فعل ذلك خدع أخاه وخذله وآذاه، وجعل تجارته وسيلة للإغرار؛ فخرجت عن المقصود الأسمى والأسنى وهو نفع الناس؛ صارت التجارة حرباً وأذية وبلاء فقال الشرع: لا. لماذا؟ لأن هذا النجش يفضي إلى الأذية بالغير، والإسلام يريد من المسلم أن يكون على محبة وصفاء ونقاء لإخوانه المسلمين؛ فحرم الله النجش.

حرم الله بيع المسلم على بيع أخيه؛ حتى لا يقطع أواصر المحبة: (ولا يبع بعضكم على بيع بعض) لأنه إذا قال المسلم: هي بعشرة. قال الآخر: عندي سلعة أجود منها أو مثلها بتسعة أو بثمانية. فكان في ذلك حنقاً للبائع، كيف يدخل بينه وبين من يريد منه تجارته أو بيعه، فحرم الله بيع المسلم على بيع أخيه؛ لأن التجارة أصبحت قاطعة لأواصر الأخوة؛ ممزقة لمعاني المحبة.

فقد يحرم الله عز وجل البيوع والمعاملات لأمر خارج، أما القواعد الأربع التي ذكرناها فهي لذات البيع ولأصل البيع، فإذا وجدت في البيع هذه الأربعة كانت محرمة، والقواعد الأربع هي:

- تحريم عين المبيع.

- الربا.

- الغرر.

- الشروط المتضمنة للربا أو للغرر أو لهما معاً.

أما تحريم عين المبيع فإن الله له حكمه سبحانه وتعالى، يقول هذا حلال وهذا حرام، يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [الرعد:41]، ملك العباد وما ملكوا، فقد يحرم الشيء لذاته، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا النوع من البيوع المحرمة في خطبته حينما فتح مكة -صلوات الله وسلامه عليه- في يوم أعز الله جنده، ونصر فيه عبده وصدق فيه وعده -سبحانه وتعالى- فدخل عليه الصلاة والسلام إلى مكة متواضعاً متخشعاً متذللاً لربه سبحانه وتعالى.

ولما كان اليوم الثاني -وكان اليوم الأول الناس هم في الحر، ودخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وفتحها- قام خطيباً صلوات الله وسلامه عليه، وعليه عمامته السوداء ممسكاً بعضادتي الباب، فقال في خطبته: (إن الله ورسوله حرما بيع الميتة والخمر والخنزير والأصنام) .

أربعة أمور ذكرها: الميتة، والخمر، والخنزير، والأصنام.

هذا النوع من التحريم في الشريعة راجع إلى ذات الشيء المبيع، بمعنى أن المبيع لا يصلح أن تدفع الثمن بمقابله.

الميتة: أكلها ضرر وأذية، ولا يمكن أن ينتفع بأجزائها، وهي نجسة؛ ولذلك حرم الله بيعها، فلا تباع بذاتها ولا بأعضائها وأجزائها، إلا ما استثنى الشرع منها وهو جلد الميتة إذا دبغ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (أيما إهاب دبغ فقط طهر) .

من أمثلة هذا النوع الموجود الآن ويخفى على الكثير: تحريم بعض الدواب الميتة، قد يُؤخذ مثلاً ثعبان ويحنط، وهو ميت فيباع، إذا نظرت إلى هذا البيع فإنه يصدق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم بيع الميتة)، إذا تأملت ونظرت وتدبرت وتفكرت هذا الثعبان إذا حنط ودُفعت فيه المبالغ الباهظة والكثيرة، التي تسد الرمق، ويكون فيها الخير لو أنفقها الإنسان في مجالات أخرى، أي مصلحة في دفع هذا المال الكثير لحيوان يحنط ويجسم؟!

فإذاً تحريم الشرع فيه الحكمة البالغة لمثل هذا، لكن لو أن الحيوان ذُكي وحنط فلا حرج؛ لأنه أصبح طاهراً، وفي هذه الحالة يزول معنى النجاسة الموجودة فيه، وإن كان بعض العلماء يعده ممنوعاً من جهة المصلحة؛ لعدم وجود المصلحة في بقائه.

إن الله ورسوله حرم بيع الميتة والخمر؛ فالله حرم الخمر لكونه يفسد العقول ومقاصد الشريعة والأديان السماوية حفظت على الناس دينهم وأنفسهم وعقولهم وأموالهم، فأي شيء يمس هذه الأمور الخمسة فإنه يعتبر في هذه الحالة محرماً، فالخمر تمس العقل الذي يكون الإنسان مرتقياً به عن مرتبة البهيمة؛ فحرم الله بيعها.

ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه فتح الطائف، وكان له صديق في الجاهلية، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم قد أنعم الله عليه بفتح الطائف فجاءه بهدية، وكانت الهدية عبارة عن قربتين من خمر، فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بهديته -وكان صلى الله عليه وسلم حكيماً حليماً رحيماً، لا يعنف ولا يقهر الإنسان في وجهه، بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه!- نظر إليه وقال: أما علمت أن الله حرم الخمر -يعني تعطيني هذه من باب الهدية، أما عندك علم أنها حرام-؟! قال: لا. فقام رجل -وكان جالساً- فسارَّ صاحب الهدية -بمعنى كلمه سراً في أذنه-، فقال صلى الله عليه وسلم: بم ساررته -ما الذي قلت؟- قال: أمرته أن يبيعها -ما دام النبي صلى الله عليه وسلم لا يريدها، وهي محرمة في الشرع- فقال صلى الله عليه وسلم: إن الذي حرم شربها حرم ثمنها -وفي رواية: بيعها-) .

تبيعها؟! فمن الذي يأخذها؟ ومن الذي يستفيد منها؟ فحرم الله مثل هذا البيع لهذا.

هناك نوع ثالث من المحرمات في التجارة، فمن أسباب تحريم التجارة: الغرر.

الغرر باختصار -والكلام فيه يطول-: هو المخادعة، يقال: غره إذا خدعه، بمعنى أن البيع يتضمن شيئاً من المخاتلة التي يخدع فيها المشتري، مثلاً: يعطيه شيئاً يحتمل أن يقع ويحتمل ألا يقع، مثل: (سحب الأرقام)، يعطيه أرقاماً معينة، يقول له: اسحب منها رقماً، فإن كان رخيصاً فهو لك، وإن كان غالياً فهو لك. لكن الإسلام يقول: هذا البيع محرم؛ لأن الإنسان قد يدفع ماله، ويظن أنه يحصل على الغالي، فإذا به قد حصل على الرخيص؛ فيندم ويتألم ويغبن في حقه، ويكون ذريعة لأكل الأموال بالباطل، والشريعة تريد من المشتري إذا جاء يشتري ومن البائع إذا جاء يبيع أن كلاً منهما يكون على بينة وعلم، لا تريد الغش ولا تريد الخداع؛ لأن هذا يفسد القلوب.

ولذلك قال: إذا كان المبيع مجهولاً أو كان الثمن مجهولاً لا يصح البيع، مثلاً: قال له: بعني هذه السيارة. قال: بعتك. قال: بكم؟ قال: نتفق فيما بعد، فهذا لا يجوز، لابد أن يحدد بكم يكون البيع؛ لأنه ربما أخذتها منك على أننا نتفق، وقيمتها في ظني عشرة، فتقول: هي باثني عشر أو ثلاثة عشر أو أربعة عشر؛ فتتقطع أواصر الأخوة؛ وتحصل النزاعات والخلافات بين المتبايعين.

إذن: الشريعة لا تتدخل إلا إذا وجد الضرر أو وجد موجب الفساد.

وبيوع الغرر كثيرة جداً، وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الملامسة، وبيع المنابذة، وبيع الحصاة، فما معنى بيع الملابسة والمنابذة والحصاة؟

فمن صور بيع الملامسة: في الجاهلية لم يكن هناك أماكن، ورفوف لعرض البضائع وإنما كانوا يفرشون بضاعتهم على الأرض، فيأتي المشتري والبائع يعرض -مثلاً- ثوباً، ويريد المشتري أن يقلب الثوب، فيقول له البائع: لا تقلب الثوب، أبيعك على أن يقوم لمسك مقام نظرك، فحرم النبي صلى الله عليه وسلم هذا النوع من البيع؛ لأنه قد يكون العيب موجوداً داخل المبيع؛ فإذاً لا يريد الشرع أن يدفع المشتري شيئاً دون أن يكون على بينة من أمره.

فنخرج من هذا كله: إلى أن الشريعة حرمت البيع إذا كان هناك ضرر، أما إذا لم يكن هناك ضرر، ولم يكن هناك ما يوجب تحريم البيع؛ فالأصل حل البيع وجوازه.

التجارة نعمة من الله، وإذا صارت في طريقها المحمود فهي خير عاجل، خير من الله لعبده، وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم التجارة في كلمتين هما أساس الخير حيث قال: (نعم المال الصالح عند الرجل الصالح) أما قوله: (نعم المال الصالح) أي: نعم ما يكون من مال إذا صلح ذلك المال من الخبث وهو الحرام، ولن نستطيع أن نعرف صالح الأموال من فاسدها إلا بالرجوع إلى العلماء، والاهتداء بهدي كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

لذلك: أوصي إخواني التجار، بل نتواصى جميعاً أن نقف عند حدود الله، فإذا قال العالم: لا يجوز؛ فقل: سمعنا وأطعنا. وإذا قال: يجوز؛ فقل: الحمد لله الذي أحل لنا الطيبات وحرم علينا الخبائث.

فالمال الصالح يتوقف على حكم من الله بصلاحه، وقد بينا المحرمات.

والجملة الثانية في قوله: (عند الرجل الصالح)، والرجل الصالح المراد به: من أصلح الله سريرته وأصلح الله علانيته، فإن الرجل إذا باع بيعه واتقى الله في بيعه، فهي شهادة من النبي صلى الله عليه وسلم بصلاحه، وهذا خير للتاجر الصالح: أن يظفر بتزكية النبي صلى الله عليه وسلم له بكونه صالحاً، (عند الرجل الصالح) فالرجل الصالح هو الذي يسلم من الدخل في قلبه، فإذا جاء إلى دكانه أو إلى بقالته أو إلى متجره أو إلى محل عمله دخل وقلبه نقياً للمسلمين، يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، فإن بلغ ذلك فقد نصح لله ورسوله ولعباده المؤمنين.

أن يدخل بنية صافية، وقلب نقي زاكٍ، يحب لإخوانه ما يحب لنفسه.

فهذا جرير اشترى فرساً، وأعجبه هذا الفرس، فكانت قيمة الفرس بالمال، فجاء إلى بائع الفرس وزاده في المال، ثم ذهب وركب الفرس فأعجبه، فرجع ثانية وزاده في المال، ثم ركب مرة ثالثة فأعجبه فجاء إلى الرجل وزاده، فنظر إليه الرجل -كأنه يظن أن جريراً به شيء في عقله- فقال جرير رضي الله عنه: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة والنصيحة لكل مسلم) فلن أغشك، رأيت أن فرسك هذا يستحق أكثر فلذلك زدتك.

فهذه الوصية الأولى: أن يكون الإنسان صالحاً في قلبه وباذلاً النصيحة للمسلمين.

الوصية الثانية: الصدق في وصف المبيع، في الثمن الذي تدفعه، عدم المبالغة، عدم الكذب، عدم الحلف الكاذب الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يذهب البركة، قال صلى الله عليه وسلم: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما) .

فكل بيع تبتاع أو تبيعه للغير فأنت بين أمرين: بين قوله عليه الصلاة والسلام (فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما -وقوله-: وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما) .

فنسأل الله العظيم أن يجعلنا ممن صدق وبر، ولذلك دعا النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة لمن وفق لهذه السماحة، فقال عليه الصلاة والسلام: (رحم الله امرأً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى) .

قال بعض العلماء: السماحة في البيع أن ترضى بالقليل من الربح، لا تبالغ، ولذلك ذكر عن عبد الرحمن بن عوف أنه قيل له: كيف أصبحت غنياً وقد قدمت المدينة فقيراً؟ فذكر كلمة يقول عنها بعض العلماء: هي كنز في التجارة، فقال رضي الله عنه: (كنت إذا أعطيت أقل الربح رضيته؛ فبارك الله لي). يقول بعض العلماء: هذا كنز التجارة. وتوضيح لذلك قالوا: لأنه إذا رضي بأقل الربح رغب الناس في بيعه؛ فيقبلون على بضاعته؛ لأن ربحه قليل، فيشتهر بين من يشتري منه.

كذلك أيضاً: إذا اشترى الناس منه نفدت منه السلع، فصار يشتري من غيره، فيحبه من يأخذ منه لكثرة أخذه ممن يبتاع إليه، فأصبح محبوباً بين من يبيع له وبين من يشتري منه، فلذلك يقولون: هي كنز من كنوز التجارة.

الأمر الثاني قالوا: إنه إذا رضي بقليل الربح وقعت البركة، ولذلك الإسلام لا يحرج عليك أن تبيع الذي اشتريته بعشرة بألف، فلا يحرج عليك، وأما ما يقوله بعض المتأخرين -هداهم الله وأصلحهم-: من أنه لا يجوز المبالغة في الربح، ليس هناك دليل على تحديد نسبة معينة في الأرباح، هذا في أصل الشرع؛ لكن أجاز العلماء لولي الأمر أن يتدخل في التسعير عند وجود المصلحة، إذا وجدت المصلحة فله أن يسعر ولا حرج، لكن نحن نقول: كون الشخص يشتري بعشرة ويبيع بمائة، فهذا مباح: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [البقرة:275] ما دام أن نفسك طابت أن تشتري بمائة فلا حرج.

وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لـعروة البارقي -أحد الصحابة رضي الله عنه- يوماً من الأيام: (خذ ديناراً واشتر لنا من هذا الجلب شاة. فأخذ عروة الدينار، فذهب إلى الجلب فوجد شاة بنصف دينار، فاشترى شاتين بدينار، ثم باع إحدى الشاتين بدينار، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم بدينار وشاة، فقال: يا رسول الله! هذه شاتكم وهذا ديناركم. فقال صلى الله عليه وسلم : اللهم بارك له في صفقة يمينه) فكان لو اشترى تراباً ربح فيه رضي الله عنه، وهذه من معجزاته عليه الصلاة والسلام.

الشاهد أنه اشترى بنصف دينار وباعه بدينار، وهذا يدل على جواز ربح المائة بالمائة. لكن يقول العلماء: السماحة والبركة والخير في عدم التضييق على الناس، فالله عز وجل قد ينعم على الإنسان ويأخذ الأرباح الباهظة، لكن لا يأمن أن يسلط الله على ماله بلاءً، ولا يأمن أن يسلط الله عز وجل على ماله نقمة، ولكن إذا اتقى الله عز وجل ورضي بقليل الربح؛ فتح الله له أبواب البركة؛ فأصبح ربح الواحد كالعشرة. فليس المهم أن يأخذ الإنسان المائة ولا الألف ولا الألفين، ولكن المهم البركة، والبركة تكون في الأموال، وتكون في الأولاد، وتكون في الأرزاق والأقوات، ولذلك قالوا: ربما أن الإنسان يكون له ولد واحد يضع الله فيه البركة عن عشرة وعن عشرين، وربما يكون له عشرة من الولد ليس فيهم بركة نسأل الله السلامة، حتى يتمنى أنه ما ولد له ولد -نسأل الله السلامة والعافية-.

فالمهم البركة، فقد تأخذ العشرة ويضع الله فيها بركة الألف، وقد تأخذ العشرة فيصلح بها دين العبد ودنياه وأخراه، يتصدق منها، ويصل الرحم، ويغنم منها في أمور بيعه وتجارته.

فالمقصود: أن هذه من دعائم الخير: الصدق في المعاملة، النقاء في القلوب، الرضا بالقليل كما أثر عن هذا الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه.

كذلك هناك أمور ينبغي أن ينبه إليها، وهي: أن البيع منه الحلال ومنه الحرام ومنه المشتبه، وهو الذي يقع الإنسان به في الشبهة ولا يدري أحلال هو أو حرام؟! فإذا وقفت أمام الشبهات فاحتط لدينك، واستبرئ لدينك؛ يسلم لك دينك؛ وتسلم لك آخرتك،؛ ويعوضك الله خيراً مما فقدت، ولذلك قالوا في الحكمة -وتروى مرفوعة، ولكن الصحيح عدم ثبوتها-: (ما ترك عبد شيئاً لله إلا عوضه الله خيراً منه) .

فقد تقف أمام بيع أو تجارة أو معاملة، ولكن فيها شبهة، والنفس غير مطمئنة، وتسأل العلماء فتجد هذا يحلل وهذا يحرم؛ فتقع في لبس من أمرك؛ فحينئذ الأتقى لربك، والأنقى لصدرك، والأعظم لأجرك أن تدعها لله، فإن تركت باباً فتح الله عليك أبواباً، وإن تورعت عن شيء فتح الله لك غيره، فما عامل أحد الله عز وجل فخاب.