عدة الداعية


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وأشهدُ أن لا إله الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهدُ أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المصطفى الأمين، صلى الله عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى جميع أصحابه الغر الميامين، وعلى من اهتدى بهديهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين.

أما بعد:

أيها الأحبة في الله! أيُ شيءٍ أعظم وأجل وأكرم من رضوان الله على عبده؟ هذا الرضوان الذي شهد الله جل جلاله أنه أكبر من كل شيء، فقال سبحانه: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة:72] وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا: (أن أهل الجنة إذا نزلوا في منازل الجنة، ورأوا نعيمها، وذاقوا لذتها وسرورها، وقالوا: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن، إن ربنا لغفورٌ شكور، قال الله جل وعلا: ألا أزيدكم؟ فيقولون: ربنا أعطيتنا وأعطيتنا، فيقول الله جل جلاله: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً).

إذا رضي الله على عبده أرضاه وسدده ووفقه، وجعل السعادة بين عينيه، ولذلك كتب الله لأوليائه بسعادة الدنيا والآخرة.

وأحب العباد إلى الله وأكرمهم عليه -سبحانه- من تمسك بدينه والتزم بشريعته، الذي أحب الله من كل قلبه وظهرت آثار هذه المحبة في جوارحه.

أسعد الناس بالله، من عرف الله؛ فهابه واتقاه، والتزم حدوده جل في علاه، ولقد اصطفى الله جل وعلا لهذه السعادة أحب الخلق إليه، وأكرمهم عليه، وهم الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

اصطفى الله الأنبياء والرسل، فجعل من دلائل حبه لهم أن حمّلهم الأمانة، وقلّدهم المسئولية، فجعلهم أمناء على وحيه ودينه: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165].

لقد حمل رسل الله أمانة الله إلى عباده، على نورٍ من الله، يرجون رحمته، فأدوا رسالته، وبلغوا أمانته، وقرت عيونهم برضوان الله عليهم، ثم اصطفى الله جل جلاله لختم هذه الصفوة -خير خلقه وأفضل رسله وأكرمهم عنده سبحانه- نبينا صلى الله عليه وسلم.

اختاره الله جل جلاله خاتماً للأنبياء والمرسلين، وهدىً لعباده المتقين، ما ترك باب خيرٍ إلا دلنا عليه، ولا سبيل رشدٍ إلا هدانا إليه، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة، وكشف -بإذن الله- عن العباد الغمة، ووقف أمام الأمة يوم حجة الوداع، فأشهد الله من فوق سبع سماوات أنه بلغ رسالته، وأدى أمانته، ورجع إلى طيبة الطيبة، ففاضت روحه ولقي الله جل جلاله، حمل هذه الأمانة من بعده الصحابة الكرام، الأئمة الأعلام، الذين هم القدوة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حملوا هموم الدعوة، هموم الدعوة إلى الله، وتبليغ رسالة الله جل جلاله، وأحس كل صحابي أنه مسئولٌ أمام الله عما سمعته أذنه وأبصرته عيناه ووعاه قلبه، فنشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم السنن والآثار، وحدثوا بالسيرة والأخبار، ففتح الله بها قلوباً غلفاً وأذانٌ صماً وأعيناً عمياً، وقادوا إلى صراطٍ مستقيم.

حمل الصحابة رضوان الله عليهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم للأمة، وبلغوا الرسالة، فكانوا خير قدوةٍ بعد النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله.

كان أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم -في علمه وحلمه وعمله ودعوته- هم الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وما زالت الأمة تحمل هذه الأمانة وهذه المسئولية، جيلاً بعد جيل، ورعيلاً بعد رعيل، ووقفنا -أيها الأحبة في الله- في هذا الزمان، بعد أن مضت قرونٌ عديدة وأزمنةٌ مديدة بيننا وبين رسول الأمة صلى الله عليه وسلم. وقفنا أمام هذه الشريعة الغراء، بعد أن ذاق من شاء الله رحمته، ذاق لذة الهداية وطعم العبودية لله والولاية، فأخذ يتساءل: كيف أبث هذا الخير، وأدعو الناس إلى الإحسان والبر، فما من مسلم يهديه الله إلى صراطه المستقيم ويذوق لذة هذا الدين إلا تمنى أن الأمة كلها تشاركه في هذا الخير الكثير.. من ذاق حلاوة الإيمان ولذة العبودية للرحمن تمنى أن هذه الأمة كلها تشاركه هذا الخير، ولذلك يرد السؤال: كيف السبيل؟ ما هو الطريق الأمثل للدعوة إلى الله وتبليغ رسالته؟

على الداعية إلى الله أن يعلم علم اليقين أن أول ما يجب عليه، أن يخلص لله جل جلاله، ما كان لله دام واتصل، وما من داعية إلى الله يخلص في قلبه إلا أظهر الله له التوفيق والسداد في جوارحه وأعماله، وفتح الله أبواب الخير أمام دعوته وكلماته ومواعظه؛ لأن الله سبحانه يحب ما كان خالصاً لوجهه، ولا يرضى من الأقوال والأعمال إلا ما أريد به وجهه.

من كان لله كان الله له، ومن وطئت قدماه سبيل الدعوة إلى الله، مفرغ القلب من كل شيءٍ سواه، ملأ الله قلبه بالحكمة والنور والتوفيق والسداد، وجعل الله البركة والخير في قوله وعمله.

فقبل كل شيء: أن يخلص الإنسان، فإذا تكلم سأل نفسه: لمن يتكلم؟ وإذا خطب أو وعظ أو ذكّر: هل هذا الكلام لله، أو لأحدٍ سواه؟

فالوقفة الأولى: أن يخلص الداعية في عمله لله:

إن الله سبحانه مطلعٌ على القلوب والضمائر، مطلع على من يريد وجهه ومن يريد حظوظ الدنيا، ومن أراد الإخلاص لله، فليعلم أن التجارة مع الله رابحة، وأنه إذا سلك سبيل الإخلاص، فلم يتكلم بكلمة إلا خطها الملك الأمين الحافظ؛ لكي يراها العبد أمام عينيه يوم القيامة حجةٌ له لا عليه.

من أراد أن يدعو إلى الله، فليعلم أن هذا الدين لله وليس لأحدٍ سواه، لا يدعو للدنيا ولا يدعو رياءً، لا يدعو ليمدح أو يثنى عليه، ولكن لله جل جلاله، فلا يقف أمام الناس إلا وقلبه معمورٌ بالله، فطوبى لقلوبٍ آمنت وأسلمت وأخلصت، فنظر الله إليها -يوم تكلمت ووعظت وقالت- أنها تريد وجهه، وتريد أجره ورضوانه ورحمته، وما ضرتنا إلا حظوظ من الدنيا ساقتنا عن سبيل الله إلى سبيل من سواه.. قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص:86].

الداعية الموفق نظر إلى ما عند الله، فعلم أنه باقٍ وما عند سواه فانٍ زائل.. مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [النحل:96].

الوقفة الثانية: الدعوة إلى الله على بصيرة وحكمة يهتدي به الداعية ويهدي به من وراءه.

العلم الذي به يستنير قلب الداعية، وينال به البصيرة قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي [الأنعام:57] فمن كان على بينةٍ من الله اتضح له الحق، فأحبه والتزمه ودعا إليه، ومن كان جاهلاً بالله وبشرعه ضل وأضل، ومن علامات الساعة وأمارتها: (أن يتخذ الناس رءوساً جهالاً، سئلوا فأفتوا بغير علمٍ فضلوا وأضلوا).

فأول ما ينبغي على الداعية: العلم إن على كل داعية أن يبتدئ دعوته بمجالس العلم ورياض الجنة ويسير في طريق طلب العلم، ويحب العلماء يتزود منهم وينتفع بهم، ويلتمس رحمة الله جل جلاله، فالعالمُ الرباني إمامٌ للداعية يهتدي به بعد كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

إذاً: لا بد للداعية من وقفة مع طلب العلم، ينتهل فيها من المعين الصافي؛ من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا تعلم وعلم واستنار قلبه، أمكنه أن يهتدي في نفسه وأن يهدي غيره.

لا دعوة بالجهل، والداعية إذا كان جاهلاً ضل وأضل وراءه؛ فيهلك وتهلك به أمم، فيحاسبه الله جل وعلا عليها.

فحريٌ بطالب العلم والداعية إلى الله، أن يجد ويجتهد في طلب العلم، وليعلم أن سبيل الدعوة والتذكير بالله والهداية إليه تحتاج إلى سلاح ونورٍ وبصيرة، لا يمكن أخذ ذلك كله إلا عن طريق العلماء الأمناء الثقات الأثبات.

إذا جلس الداعية في مجالس العلم وأحب العلماء والتزم بسبيلهم وحرص على الاستفادة منهم، وتأدب ورأى حرمتهم؛ فإن الله يوفي له كما وفى لعلمائه الذين ائتمنهم على دينه.

ما من داعيةٍ إلى الله يحب أهل العلم ويلتزم بحلقهم وينتفع بعلومهم؛ إلا وجدت آثار ذلك كله في دعوته؛ فيقيض الله له من يأخذ من علمه وينتفع به ويتأدب معه كما كان حاله مع العلماء.

العلم لابد منه، وقد قال بعض العلماء في قوله تعالى: قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي [الأنعام:57] قالوا: لا يجوز لأحدٍ أن يدعو الناس ويدلهم على الدين إلا بعد البصيرة والبينة من رب العالمين.

قال بعض العلماء: قل إني على بينة، أي: حجةٌ ومحجة، حجة: يعرف بها الحق من الباطل والهدى من الضلال، ومحجة يسير عليها حتى تنتهي به إلى الجنة.

الوقفة الثالثة: لابد للداعية إلى الله أن يوطن نفسه من بداية دعوته على العمل، فالدعوة إذا كانت نابعة من إنسان ذاق حلاوة العمل بالعلم، وذاق لذة المعاملة مع الله، أمكنه إذا ذكّر الناس ووعظهم أن يذكرهم بشيءٍ ذاق حلاوته ولذته، أما فاقد الشيء لا يعطيه.

الداعية إلى الله الذي قرن علمه بالعمل يضع الله له البركة في قوله وعمله، فإن الناس تنظر إلى قول كل قائل وعمله، فإذا وافق القول العمل أحبه الناس وتأثروا بكلامه.. إذا وقف أمام الناس يحدثهم ويعظهم وضع الله عز وجل لمواعظه أثراً نافعاً في قلوب الخلق فوق ما يرجو ويؤمل.

إذا تحدث عن الإخلاص لله كان أخلصهم لله، وإذا تحدث عن الطاعات والقربات كان أسبقهم إليها، وأحبهم لها، وأكثرهم مداومةً عليها، وفاقد الشيء لا يعطيه، ولذلك عاتب الله من قبلنا، أنهم حملوا التوراة ثم لم يحملوها فكانوا كمثل الحمار يحمل أسفاراً، فمقتهم الله جل جلاله حينما قالوا بما لم يعملوا.

قال بعض السلف: (كونوا دعاةً وأنتم صامتون، قالوا: وكيف ندعو ونحن صامتون؟ قال: ادعوا الناس بأخلاقكم وأقوالكم وأعمالكم قبل أن تدعوهم بتذكيركم).

فالذي يدعو الناس بأخلاقه وأقواله وآدابه وشمائله؛ تتأثر الناس بدعوته، ولن يكون ذلك إلا بالعمل، لن يكون ذلك إلا إذا رأى الناس آثار السنة وأخلاق الإسلام في الداعية إلى الله، سواءً كان خطيباً أو واعظاً أو مذكراً أو معلماً، ونسأل الله العظيم أن يوفقنا إلى القول والعمل، فإنها من أعظم نعم الله عز وجل على عبده، حتى قال بعض العلماء: لن يكون العبد هادياً مهدياً إلا إذا قرن العلم بالعمل.

الوقفة الرابعة: الدعوة إلى الله تحتاج إلى تأسٍ برسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن أعظم ما ينبغي أن يتحلى به المسلم أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه الأخلاق التي إذا نظرها المسلم في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم العطرة، وشمائله الجليلة النضرة، هذه الأخلاق التي نراها في أكمل صورها وأجمل حللها في هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ في عسره ويسره، وفي منشطه ومكرهه.

طلاقة الوجه وسلامة الصدر

خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم داعيةً إلى الله.. خرج إلى الناس طليق الوجه، دائم البشر والسرور صلى الله عليه وسلم، ما كان يلقى الناس مكفهر الوجه أو عابساً أو محتقراً لهم، بل كان يلقاهم صلوات الله وسلامه عليه بالوجه الطليق والقول الرقيق، قال جرير بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه: (ما لقيت النبي صلى الله عليه وسلم إلا تبسمَ في وجهي).

فالداعية إلى الله، يتحلى بمثل هذا الأدب النبوي الكريم.

كان يخرج صلى الله عليه وسلم لأصحابه نقي السريرة والقلب، ليس في قلبه غل ولا حسد ولا بغضاء على المسلمين، إنما كان يخرج لهم بالمحبة والصفاء والمودة والإخاء صلوات الله وسلامه عليه.

لن نستطيع أن نهدي الناس إلا إذا سلمت صدورنا من آفات القلوب، لن نستطيع أن نأخذ بمجامع قلوب الناس إلا إذا سلمت سرائرنا وضمائرنا من الحقد على عباد الله، وسوء الظن بهم، ولن يكون الداعية كما ينبغي أن يكون عليه الداعية إلا بمجاهدة القلب، فإذا خرج إلى المسلمين أحب لهم ما يحب لنفسه، وكره لهم ما يكره لنفسه؛ لعلمه أن الله يحب منه ذلك.

إذا لم يسلم صدرك ولم يكن نقياً لإخوانك المسلمين، أظهر الله ما في قلبك في فلتات لسانك وزلات جوارحك وأركانك، وقد قال بعض العلماء: ما أسر عبدٌ في قلبه سريرة إلا أظهرها الله في فلتات لسانه، أو في جوارحه وأركانه.

فالذي يريد أن يدعو إلى الله ينبغي له أن يجعل في صدره السريرة النقية للناس التي تتمنى لهم الخير، فإذا قوي هذا الباعث في القلب دعاه إلى أن يبذل كل ما يستطيع لهدايتهم ودلالتهم على الخير وتحبيبهم في طاعة الله جل جلاله.

التواضع

ومن الأمور التي كان يتحلى بها عليه الصلاة والسلام: التواضع، فلا يرى الداعية نفسه أنه فوق الناس، وإنما يتواضع لهم، يتواضع للصغير والكبير والجليل والحقير، والناس عنده في كفةٍ واحدة، من حيث التواضع وتوطئة الكنف، وقد ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأقربكم مني مجلساً يوم القيامة؟ أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذين يَألفون ويؤلفون).

ما أجمل الدعوة إذا جمل الله الداعية بالأخلاق والتواضع والحلم وتوطئة الكنف! إن كريم الأصل كالغصن؛ كلما ازداد من خيرٍ تواضع وانحنى.

كان صلى الله عليه وسلم يقف لصغار المسلمين وكبارهم وشبابهم، لن يستطيع الداعية أن يكون موفقاً في دعوته إلا إذا حرص على أخلاق الإسلام وآداب النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت مع الصحب الكرام.

وإذا وفق الله الداعية لهذه الأخلاق والآداب أحبه الناس، فإذا كانت أخلاق الداعية وآدابه وشمائله وتصرفاته تدل على حبه للناس وتوطئته للكنف أحبه الناس.

إنما يتواضع الداعية ويكون قريباً من الناس؛ لأن حوائجهم عنده، فالضال ينتظر منه الهداية بإذن الله عز وجل، والمهموم والمغموم ينتظر منه الكلمة التي تبدد -بإذن الله- الهم والغم، والحائر والتائه ينتظر منه التوجيه والإرشاد حتى تذهب الحيرة ويذهب التيه، فإذا به يلتزم بدين الله عز وجل.

فإذا جاء هذا الحائر أو التائه إلى الداعية ووقف أمامه، فرأى من آدابه وشمائله وتواضعه وحبه الخير للناس ما يشجعه على الاقتراب اقترب ودنا وأنصت وأحب، وتمنى أنه معه وعلى سبيله ونهجه الذي يسير فيه على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

سعة الصدر

ومن الأمور التي ينبغي للداعية أن يحرص عليها وأن يكون محافظاً عليها: سعة الصدر.

فالداعية تواجهه مواقف حرجة، يأتيه السفيه بسفهه، والطائش بطيشه والغاوي بغوايته، فيتسع صدره للناس حتى يستطيع أن يسع الناس بهذا الحلم، قال صلى الله عليه وسلم: (إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن سعوهم بأخلاقكم).

فالداعية إلى الله إذا كان واسع الصدر لزلات أهل الزلل وخطيئات أهل الخلل؛ أحبه الناس وتأثروا بدعوته، وأصدق شاهدٍ على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الحديث الصحيح: (أنه عندما قسم غنائم حنين، وجاءه ذو الخويصرة فجذبه وقال له: يا محمد! اعدل، فقال صلى الله عليه وسلم: ويحك، من يعدل إذا لم أعدل!) ما تذمر عليه الصلاة والسلام، ولا أمر بقتله ولا سبه أو شتمه، فما كان عليه الصلاة والسلام سباباً ولا شتاماً ولا لعاناً، ولكن كان رحمةً للعالمين، صلوات الله وسلامه عليه.

خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم داعيةً إلى الله.. خرج إلى الناس طليق الوجه، دائم البشر والسرور صلى الله عليه وسلم، ما كان يلقى الناس مكفهر الوجه أو عابساً أو محتقراً لهم، بل كان يلقاهم صلوات الله وسلامه عليه بالوجه الطليق والقول الرقيق، قال جرير بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه: (ما لقيت النبي صلى الله عليه وسلم إلا تبسمَ في وجهي).

فالداعية إلى الله، يتحلى بمثل هذا الأدب النبوي الكريم.

كان يخرج صلى الله عليه وسلم لأصحابه نقي السريرة والقلب، ليس في قلبه غل ولا حسد ولا بغضاء على المسلمين، إنما كان يخرج لهم بالمحبة والصفاء والمودة والإخاء صلوات الله وسلامه عليه.

لن نستطيع أن نهدي الناس إلا إذا سلمت صدورنا من آفات القلوب، لن نستطيع أن نأخذ بمجامع قلوب الناس إلا إذا سلمت سرائرنا وضمائرنا من الحقد على عباد الله، وسوء الظن بهم، ولن يكون الداعية كما ينبغي أن يكون عليه الداعية إلا بمجاهدة القلب، فإذا خرج إلى المسلمين أحب لهم ما يحب لنفسه، وكره لهم ما يكره لنفسه؛ لعلمه أن الله يحب منه ذلك.

إذا لم يسلم صدرك ولم يكن نقياً لإخوانك المسلمين، أظهر الله ما في قلبك في فلتات لسانك وزلات جوارحك وأركانك، وقد قال بعض العلماء: ما أسر عبدٌ في قلبه سريرة إلا أظهرها الله في فلتات لسانه، أو في جوارحه وأركانه.

فالذي يريد أن يدعو إلى الله ينبغي له أن يجعل في صدره السريرة النقية للناس التي تتمنى لهم الخير، فإذا قوي هذا الباعث في القلب دعاه إلى أن يبذل كل ما يستطيع لهدايتهم ودلالتهم على الخير وتحبيبهم في طاعة الله جل جلاله.

ومن الأمور التي كان يتحلى بها عليه الصلاة والسلام: التواضع، فلا يرى الداعية نفسه أنه فوق الناس، وإنما يتواضع لهم، يتواضع للصغير والكبير والجليل والحقير، والناس عنده في كفةٍ واحدة، من حيث التواضع وتوطئة الكنف، وقد ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأقربكم مني مجلساً يوم القيامة؟ أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذين يَألفون ويؤلفون).

ما أجمل الدعوة إذا جمل الله الداعية بالأخلاق والتواضع والحلم وتوطئة الكنف! إن كريم الأصل كالغصن؛ كلما ازداد من خيرٍ تواضع وانحنى.

كان صلى الله عليه وسلم يقف لصغار المسلمين وكبارهم وشبابهم، لن يستطيع الداعية أن يكون موفقاً في دعوته إلا إذا حرص على أخلاق الإسلام وآداب النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت مع الصحب الكرام.

وإذا وفق الله الداعية لهذه الأخلاق والآداب أحبه الناس، فإذا كانت أخلاق الداعية وآدابه وشمائله وتصرفاته تدل على حبه للناس وتوطئته للكنف أحبه الناس.

إنما يتواضع الداعية ويكون قريباً من الناس؛ لأن حوائجهم عنده، فالضال ينتظر منه الهداية بإذن الله عز وجل، والمهموم والمغموم ينتظر منه الكلمة التي تبدد -بإذن الله- الهم والغم، والحائر والتائه ينتظر منه التوجيه والإرشاد حتى تذهب الحيرة ويذهب التيه، فإذا به يلتزم بدين الله عز وجل.

فإذا جاء هذا الحائر أو التائه إلى الداعية ووقف أمامه، فرأى من آدابه وشمائله وتواضعه وحبه الخير للناس ما يشجعه على الاقتراب اقترب ودنا وأنصت وأحب، وتمنى أنه معه وعلى سبيله ونهجه الذي يسير فيه على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

ومن الأمور التي ينبغي للداعية أن يحرص عليها وأن يكون محافظاً عليها: سعة الصدر.

فالداعية تواجهه مواقف حرجة، يأتيه السفيه بسفهه، والطائش بطيشه والغاوي بغوايته، فيتسع صدره للناس حتى يستطيع أن يسع الناس بهذا الحلم، قال صلى الله عليه وسلم: (إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن سعوهم بأخلاقكم).

فالداعية إلى الله إذا كان واسع الصدر لزلات أهل الزلل وخطيئات أهل الخلل؛ أحبه الناس وتأثروا بدعوته، وأصدق شاهدٍ على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الحديث الصحيح: (أنه عندما قسم غنائم حنين، وجاءه ذو الخويصرة فجذبه وقال له: يا محمد! اعدل، فقال صلى الله عليه وسلم: ويحك، من يعدل إذا لم أعدل!) ما تذمر عليه الصلاة والسلام، ولا أمر بقتله ولا سبه أو شتمه، فما كان عليه الصلاة والسلام سباباً ولا شتاماً ولا لعاناً، ولكن كان رحمةً للعالمين، صلوات الله وسلامه عليه.

من الأمور المهمة التي ينبغي للداعية أن يحرص عليها في دعوته: التضحية والصبر والتحمل.

إن الدعوة إلى الله تحتاج من الداعية أن يصبر، ولن يستطيع أن يصبر إلا إذا صبره الله عز وجل، فالصبر من أجل النعم التي يمتن بها الله عز وجل على عباده، قال عمر رضي الله عنه وأرضاه: (وجدنا ألذ عيشنا بالصبر)، وقال صلى الله عليه وسلم: (ما أعطي عبدٌ عطاءً أفضل من الصبر).

يصبر الداعية في تبليغ رسالة الله، وقد يفاجأ بما يوجب السآمة والملل، فيصبر ويحتسب الأجر عند الله، ولا يقتصر هذا الأمر على الداعية في مسجده أو الخطيب في جمعته، بل إنه يشملك وأنت أمام الابن أو البنت أو الزوجة أو أمام القريب، إذا رأيت منه الصدود والإعراض، أو رأيت منه السخرية والتهكم، تعلم أن هذا البلاء الذي ابتلاك الله به قد يكون لحكمةٍ منه سبحانه وتعالى، فتصبر ولا تتضجر أو تمل أو تسأم، ولكن وطن نفسك على الصبر، فلعل الله -لحكمة- أن يؤخر عنك هداية الأخ أو الأخت أو القريب... إلخ، حتى يكون ذلك أصدق شاهدٍ على صبرك على طاعة الله.

قال تعالى: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران:179]، فهناك من هو أطيب الطيبين في صبره وتحمله، وهناك من هو دون ذلك، فلا تسأم، بل كرر الدعوة، واقرع القلوب مرةً بعد مرة، واعلم أن هذه الكلمات والنصائح والتوجيهات في ميزان حسناتك، فلو عدت المرة بعد المرة لم تسأم ولم تمل؛ لعلمك أن الله يرضى عنك عند تكرارها، ولعلمك أن الله يحب منك الصبر والتحمل، فتصبر وتصابر وترابط على طاعة الله جل جلاله، تتحمل مهما سمعت ومهما رأيت، فسيأتي اليوم الذي تقر فيه عينك على الصبر الذي صبرك الله، ولن تقف موقف ابتلاءٍ فتهان فيه من أجل الله إلا أقامك الله مقاماً أعز منه وأكرم، فمن أهين في الله جل جلاله -كأن يسخر منه أهله أو أقاربه- فإن الله يعزه ويكرمه، ويأتي اليوم الذي تقر فيه عينه، فيرى فيه بشائر صبره، وحسن عاقبة مرابطته في طاعة ربه.

لقد صبر أهل الدنيا على الدنيا وما ملوا، وصبر أهل الباطل على باطلهم فما سئموا ولا تضجروا، وأنت على الصراط المبين، والسبيل المستبين، وفي رحمة أرحم الراحمين، فأنت أحق بالصبر منهم.

ألا ترى إلى التاجر كم يصبر ويتحمل ويجد من الجهد والتعب وأذية الناس! وهو في تجارته يتحمل، ويتحمل لعلمه بالأرباح التي تكون في الأخير، فتعامل الله جل جلاله، لئن سمعت سخريةً من ساخر، فاحمد الله جل جلاله أن تغيب عليك شمس ذلك اليوم وقد أهنت في ذات الله سبحانه وتعالى، وإذا سبك أو عابك أو شتمك غويٌ أو ضال، فاعلم أن هذا الشتم والسب مكتوب في صحيفة عملك، فلا يزيدك إلا صبراً وتحملاً واحتساباً عند الله وثواباً وأجراً، والله جل وعلا لا يضيع أجر من أحسن عملاً.

ومن أعظم الإحسان: أن تصبر في ذات الله جل جلاله، فلقد ضحى أهل الباطل، فترى النصراني يدعو إلى نصرانيته وهو في الأدغال فلا يستوحش أو يسأم، ولا يمل أو يتكدر، وأنت على صراط الله، وفي سبيلٍ يحبه الله، فأنت أولى بالصبر منه.

فهذه أمور ينبغي أن يجعلها الداعية نصب عينيه، واعلم رحمك الله أن الصبر يختلف، فلا تتوقع من الله عز وجل أن يبتليك بشيءٍ تألفه، لا، بل قد يأتيك الابتلاء بشيءٍ لا تألفه، فأنت في دعوتك إذا كنت في بيتك أو في خطبتك أو موعظتك أو درسك وتعليمك، قد يسلط الله عليك من الابتلاء ما يوجب السآمة والضجر بما لم يكن في حسبانك، فما عليك إلا أن تعلم أن الله رقيب وحسيب، وتعلم أن الله معك عندما صبرت لوجهه واحتسبت الأجر عنده سبحانه وتعالى.

لقد نعمت وقرت عيون الصابرين حينما سمعوا قول الله: وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران:146] فمن علم أن الله يحبه إذا صبر وثبت على صبره ازداد صبراً وثباتاً، وتكمل محبة الله لعبده على قدر كمال صبره، فعندما كمل صبر النبي صلى الله عليه وسلم كملت محبة الله جل جلاله له.

لقد أوذي عليه الصلاة والسلام فانطلق إلى الطائف يريد دعوتهم وهدايتهم إلى سبيل الله، فأغروا به السفهاء، وقد وقف أمامهم يدعوهم بدعوة الله ويهديهم إلى صراطه، فقال له القائل: أما وجد الله رسولاً غيرك؟ وقال الآخر: أنا أمزق ثيابي إن كان الله بعثك، ثم أغروا به السفهاء -صلوات الله وسلامه عليه- فانطلقوا يرمون بالحجارة خير خلق الله، وأحب عباد الله إلى الله! فانطلق وهم وراءه يرمونه بالحجارة حتى آوى -عليه الصلاة والسلام- إلى الظل من شدة التعب والنصب.

نعم أوذي عليه الصلاة والسلام، وسمي: الساحر والكاهن، والأبتر، والصابئ، والأفاك، ومات وهو سيد الأولين والآخرين، صلى الله عليه وسلم.

مضت تلك الأيام وما مضى ثوابها، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.

فيا من يريد الدعوة إلى الله! اجعل نصب عينيك مواقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم شج في وجهه، وكسرت رباعيته، وسالت دماؤه على وجهه، ويقول: (كيف يفلح قومٌ شجوا وجه نبيهم) والله لا تضجر، ولا سئم، بل زاده ذلك ثباتاً على دين الله وتمسكاً بصراطه حتى أتاه الموت وقد رضي الله عنه وأرضاه، فما من إنسانٍ يصبر لله إلا أقر الله عينه بحسن العاقبة، فلن تجد داعية يبتلى ويصبر إلا وجد الثمار اليانعة والعواقب الحميدة.

على الداعية إلى الله أن يعلم أن توجيه الناس ودلالتهم إلى الخير مقام شريف، واعلم أنك إذا وقفت أمام الناس واعظاً أو مذكراً أو هادياً، فأنت تقف في موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليكن أول ما يكون منك أن تحمد الله جل جلاله، وأن تقول: يا رب! من أنا حتى تجعلني مذكراً وهادياً ودليلاً إلى سبيلك؟! فلتحمد الله على نعمته وتشكره على فضله.

ثانياً: أن تعلم علم اليقين، أنه إذا أراد الله أن يرضى عنك في دعوتك جعل أتباعك كثيرين، قال صلى الله عليه وسلم: (إني لأرجو أن أكون يوم القيامة أكثرهم تابعاً) فالداعية الموفق يحرص على أن يكون أكثر الناس أتباعاً، وهذا يحتاج منه أن يبحث عن الأسباب والوسائل التي تحبب الناس في دعوته، وترضي الناس عن قوله وعمله، فيرضي الله أولاً، ثم يرضي عباد الله بعد ذلك.


استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
المشكلات الزوجية وعلاجها 3461 استماع
رسالة إلى الدعاة 3435 استماع
وصية نبوية 3327 استماع
أهم الحقوق 3305 استماع
توجيه الدعاة إلى الله تعالى 3215 استماع
كيف نواجه الفتن؟ 3166 استماع
حقيقة الالتزام 3144 استماع
وصايا للصائمين والقائمين 3086 استماع
الوصايا الذهبية 3040 استماع
مناقشة لرسالة الدكتوراه (2) 3008 استماع